كانت قوات سوريا الديمقراطية قد أعلنت، في الحادي والعشرين من آذار الماضي، عن إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش في مناطق سيطرتها في الجزيرة السورية شمال وشرق نهر الفرات، وهو الإعلان الذي جاء على لسان مظلوم كوباني القائد العسكري لهذه القوات، ووليام روباك نائب المبعوث الأميركي الخاص لدى التحالف الدولي، وذلك خلال احتفال في حقل العمر النفطي، القاعدة الأكبر للتحالف الدولي للحرب على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة. كما أن القيادة العسكرية الروسية في سوريا أعلنت أكثر من مرة على لسان قادتها وناطقين باسمها تحقيق الانتصار على التنظيم في مناطق غرب وجنوب نهر الفرات، حيث تسيطر القوات الروسية مع قوات من نظام الأسد والمليشيات الإيرانية.
لكن إعلانات النصر هذه تبدو كلّها حبراً على ورق اليوم، وذلك في ظل استمرار وجود مجموعات للتنظيم في مناطق متعددة من البلاد، واستمرار عملياتها على جانبي نهر الفرات. ففي الجزيرة السورية، حيث مناطق سيطرة قسد، تستمر العمليات الأمنية لهذه القوات بدعم من التحالف الدولي، من أجل ملاحقة خلايا تابعة للتنظيم والقضاء عليها، ولا يكاد يمر يوم دون أن تشهد المنطقة مداهمات مدعومة بطائرات الأباتشي الأميركية، بِدءاً من مدينة البصيرة وقرى الطيانة والزر حيث داهمت القوات الأميركية مؤخراً أحد الخلايا ما أدى لمقتل أحد قادة التنظيم، مروراً بمدينة الشحيل والقرى التابعة لها، وصولاً إلى قرى الشعيطات (أبو حمام والكشكية وغرانيج)، وجميعها مناطق تقع على الضفة الشمالية لنهر الفرات في ريف دير الزور.
وتأتي معظم هذه المداهمات والعمليات الأمنية بعد هجمات تستهدف قادة أو مجموعات تابعة لقسد، إذ لا يكاد يمر أسبوعٌ دون الإعلان عن مقتل قادة أو عناصر تابعين لهذه القوات. كذلك تحولت منطقة جنوب شرق مدينة الحسكة، وخاصة أتوستراد الخرافي، إلى ساحة مفضلة للتنظيم لشن هجماته على قوافل قسد والتحالف الدولي، عن طريق الكمائن والعبوات الناسفة التي أدت مؤخراً إلى مقتل عدد من عناصر قسد وتدمير عدد من الآليات.
وتتسبب هذه الهجمات بحالة من التخبط الأمني داخل قوات سوريا الديمقراطية، تظهر بوضوح من خلال طبيعة مداهماتها والكثافة النارية التي تستخدمها، والتي أدت إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وهو ما زاد من حالة الغضب الشعبي في مناطق العمليات. ويقترن التخبط الأمني الناجم عن عمليات داعش بتخبط من نوع آخر، يعكسه توتر العلاقة المستمر بين المكونين العربي والكردي في قوات سوريا الديمقراطية، والذي يظهر واضحاً في الاغتيالات التي طالت قادة من المكون العربي في قسد، كانوا سابقاً قادة في فضائل الجيش الحر، مثل الملازم المنشق عن قوات النظام إسماعيل العبد الله، الشهير بـ أبو إسحاق الأحوازي، وبعده ياسر الفياض الشهير بـ ياسر الدحلة، الذي اغتيل بعبوة ناسفة أواخر الشهر الماضي، وتتحدث تقارير كثيرة عن أنه كان أصلاً يتعرض للتضييق من قبل قيادة قسد. ولأن هؤلاء القادة هم من أبرز قادة المكون العسكري العربي في قسد، وتتردد أسماؤهم دوماً باعتبارهم شخصيات قد تلعب دوراً في إدارة المنطقة على حساب القيادة الكردية في قسد، فإن ثمة اتهامات متواترة تحمل هذه القيادة مسؤولية اغتيالهم، وهو الأمر الذي يشير بوضوح إلى عمق أزمة انعدام الثقة، التي لا يغير منها نفي قيادة قسد المتكرر لمسؤوليتها عن اغتيالهم، وتزيد منها عمليات داعش المتكررة التي يبدو واضحاً أن تستغل هذه الأجواء المتوترة التي يشوبها انعدام الثقة.
أما على الضفة الجنوبية لنهر الفرات، فقد دخلت المليشيات الإيرانية، مدعومة بالقوات الروسية وقوات نظام الأسد، إلى مدينة البوكمال منتصف العام 2018 معلنة انتهاء التنظيم هناك، لكن هذا لم يكن كافياً لإنهاء التنظيم الذي لا يزال عناصره ينتشرون من البادية السورية الممتدة على طول الحدود العراقية السورية والأردنية السورية، وصولاً إلى السويداء ودرعا في الجنوب، وإلى أطراف مدينة السخنة شرق حمص.
وتشكل هذه المجموعات والخلايا المتناثرة خطراً كبيراً على أرتال النظام والمليشيات الإيرانية التي تعبر البادية، وذلك من خلال الكمائن التي تنصبها لاصطياد تلك الأرتال ومهاجمتها. وقد ازدادت تلك الهجمات عدداً وضراوة بعد الانتهاء من معركة الباغوز بين التنظيم وقسد شمال نهر الفرات، حيث انسحب عدد كبير من مقاتلي التنظيم إلى البادية السورية على الجانب الآخر من النهر، وانضموا للخلايا الموجودة فيها ما زاد من قوتها وتسليحها، حتى أنه لا يكاد يمضي يوم دون أن تشن عناصر التنظيم غارة على أحد المواقع الممتدة من السخنة شرق حمص إلى منطقة البغيلية غرب دير الزور، على طول طريق دمشق دير الزور مروراً بحقل التيم جنوب غرب مطار دير الزور العسكري حيث توجد المحطة الكهربائية التي تغذي مدينة دير الزور ومحيطها بالكهرباء، الذي تمت مهاجمته مؤخراً بعدة قذائف هاون.
لكن النشاط الأبرز لخلايا التنظيم يظهر في باديتي الميادين والبوكمال، حيث يشن عناصر التنظيم، وبشكل شبه يومي، هجمات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة على مواقع النظام والمليشيات الإيرانية على أطراف البادية وصولاً إلى جنوب مدينة البوكمال. ويعود ازدياد فاعلية خلايا التنظيم في تلك المنطقة إلى قربها من الحدود العراقية السورية، إذ تتلقى الدعم اللوجستي من الجانب العراقي من الحدود، حيث لا تزال تنشط مجموعات للتنظيم وتسيطر على بعض المناطق.
ويزداد نشاط التنظيم ليلاً، حيث يعتمد عناصره في تنقلاتهم على الدراجات النارية الأسهل حركة والأصعب اكتشافاً من قبل طيران الاستطلاع، كما يعتمدون على معرفتهم بطبيعة وجغرافية المنطقة ما يسهل تنقلاتهم ويساعدهم على نصب الكمائن، إذ أوقع التنظيم عدة أرتال من الفرقة 17 في قوات نظام الأسد في كمائن خلال الأشهر القليلة الماضية، وقتل العشرات من عناصرها. وقد تمكنّا من التواصل مع أحد مقاتلي مليشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام في منطقة الميادين، الذي يقول إنهم لا يستطيعون النوم ليلاً جراء هجمات التنظيم اليومية، وجراء القنابل المضيئة التي تطلقها قوات النظام كل ليلة على الخط الواصل بين الميادين والبوكمال، وهي الطريقة الوحيدة لمحاولة كشف المتسللين.
وتشكل هجمات التنظيم في البادية تحدياً كبيراً يواجه المشروع الإيراني الهادف إلى ربط العراق بسوريا برياً، وهو المشروع الذي يواجه عقبات أخرى كبيرة، أبرزها عدم الرضى الأميركي والإسرائيلي، الذي يظهر من خلال استهداف طائرات التحالف أرتالاً للمليشيات الإيرانية والعراقية الموالية لها عدة مرات، وكذلك استهداف سلاح الجو الإسرائيلي مواقع عدة للمليشيا في البادية السورية أكثر من مرة، بالإضافة إلى إبقاء التحالف الدولي على حضوره في قاعدة التنف على الحدود السورية العراقية، ليكون هذا عامل ضغط إضافي على المشروع الإيراني.
على الرغم من انتشار عناصر التنظيم في مناطق متفرقة محاصرة من كل الجهات، من التحالف الدولي وقوات مدعومة منه من جهة، ومن روسيا وإيران وقوات مدعومة منهما من جهة أخرى، إلا أن حرية الحركة التي يتمتع بها عناصره تدل على غياب التعاون بين الطرفين كلياً، بما فيه التعاون على صعيد الاستخبارات وتبادل المعلومات، كما أنها تشكل دليلاً إضافياً على أن كلّاً من الطرفين يستفيد من نشاط خلايا التنظيم في منطقة نفوذ الآخر.
يستفيد التنظيم الإجرامي إذن من صراع القوى الإقليمية والدولية التي يقاتلها في الشرق السوري، وهو يمر اليوم بمرحلة كمون جزئي ينتهج فيها أسلوب الكمائن والتفجيرات، بانتظار ظروف مواتية تسمح له بالعودة إلى السيطرة الجغرافية، ويبدو واضحاً أن اعتماد المقاربة الأمنية كوسيلة وحيدة للتعامل مع التنظيم لن يؤدي إلى إلحاق هزيمة نهائية به، إذ طالما تغيب المقاربات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تخلق الأرضية لصنع سلام دائم في المنطقة، فإن داعش سيجد ثغرات للعودة منها بأشكال وصور متعددة بالغة الوحشية.