قدمت أخيراً شركة الإنتاج المرئي والت ديزني إصدارها الضخم والجديد من فيلمها الشهير الملك الأسد (The Lion King)، الذي هو نسخة طبق الأصل عن الفيلم الكرتوني واسع الشهرة (العام 1994)، الذي حمل الاسم ذاته، وشكَّلَ جزءاً من وعي كثير من الأطفال في التسعينات، حيث تتيح ديزني اليوم للأطفال، ولذاك الجيل أيضاً، مشاهدة الفيلم مجدداً بكثير من النوستالجيا، مع إمكانيات بصرية وصوتية هائلة هذه المرة، ومع استخدام صور حقيقية للممثلين الحيوانات بدل النسخة الكرتونية السابقة.
youtube://v/7TavVZMewpY
يحكي الفيلم قصة الأسد سيمبا ابن الملك موفاسا، ملك سهول السافانا، والعم السيء سكار، الذي يخطط مع قطيع الضباع لقتل شقيقه الملك والاستيلاء على عرشه. يقدم الفيلم صورة العائلة الحاكمة السعيدة، حيث الأم اللبوة الجميلة تتركز مهمتها على الاهتمام بالأبناء ذوي المظهر المحبب والتربية الحسنة، في المملكة السعيدة التي يحكمها ملك ذكر حكيم وقوي وحليم. ثم ينهار هذا العالم كله فجأة بعد تآمر العم سكار مع الضباع، وقتلهم الملك في فخّ محكم، واستلام سكار مقاليد الحكم واعتماده على الضباع لمساعدته، حيث تختفي باقي الحيوانات وتتحول المملكة إلى مكان شاحب أسود يشبه المكان الذي جاء منه الضباع. يهرب ولي العهد الشبل سيمبا من المملكة، ويكبر بعيداً مع إحساس عميق بالذنب، لاعتقاده بأنه تسبب بمقتل والده عند محاولة الأخير إنقاذه. ثم تأتي ضرورة عودة سيمبا إلى السافانا، لانتشالها من الأزمة العميقة التي حلّت بها، وإعادة الحياة الرائعة والطبيعية إلى سهول السافانا بعد استرداد عرشه من عمّه وقطيع الضباع. كذلك تشغل العلاقة الأبوية بين الملك موفاسا وابنه سيمبا حيزاً مهماً من الانطباع العاطفي العميق الذي يتركه الفيلم لدى مشاهديه، والذي ساهم إلى حد بعيد في شهرته كجزء حميم ودافئ من القصة الكاملة.
اتهامات بالفاشية والعنصرية والتمييز ضد المرأة ومثليي الجنس
لم يُتَح بعد وقتٌ كافٍ للحكم على مدى نجاح الفيلم جماهيرياً وعالمياً كما في نسخته الكرتونية السابقة خارقة الشهرة، ولكن بخلاف توقيت الإصدار السابق من الفيلم قبل ربع قرن، في ظرف عالمي مختلف وإمكانيات ضيقة لنقاش مفتوح وفعّال، أثارت النسخة الجديدة نقاشاً واسعاً في الميديا الغربية حول مضمون الفيلم ورسالته الحقيقية ومعاني شخصياته.
يرى منتقدو الفيلم أنه لا يقدم شيئاً عن الحيوانات أو عن أفريقيا حيث العوالم المفترضة للأحداث، بل تتركز رسالته بشكل واضح وفقط حول البشر وعالمهم. وهو يقدم صورة عن هذا العالم وطبقاته وتموضع السلطة فيه. يرى بروفيسور المرئيات والميديا في جامعة أوترخت، دان هاسلر فورست، أن الأسود وعموم الحيوانات والضباع في الفيلم يراد لها أن تعكس صورة ما عن المجتمعات البشرية، حيث طبقة السلطة وعموم الشعب و(الدخلاء). وتتركز الفكرة الفاشية في الفيلم، بحسب فورست، في أن السلطة ذات طبيعة بيولوجية، وهي حكر على الشبل ولي العهد سيمبا الذي يرمز بحسبه للذكر القوي، في حين أن الضباع تمثّل الفئات الدنيا غير المُنتِجة من المجتمع، حيث أن مهمة طبقة الأسود بالدرجة الأولى هي إبعاد الضباع عن السلطة والمجتمع.
ولأنه لا فاشية بلا عنصرية، فإن الفيلم يقدم أيضاً الأسد سيمبا كصاحب أحقية طبيعية في السلطة في مقابل الفئات المهمشة والدخيلة (الضباع)، التي يراها فورست كتمثيل عن اليهود أو المسلمين أو السود أو المهاجرين، الذين ينظر إليهم ويتم تمثيلهم عموماً في الخطاب اليميني المتطرف بالجرذان أو الفئران. وربما أن فورست حين أشعل النقاش في مقالته في الواشنطن بوست، لم يكُ يلحظ بعد النمط الذي يستخدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في كلامه، وإحالته إلى هذه الفئات الاجتماعية نفسها مستخدماً كلمة Infested بشكل متكرر في سياق حديثه عن أحياء المهاجرين والسود، الكلمة التي تحيل هنا إلى اجتياح للجرذان أو الصراصير. وسيكون من الواضح لدى الفاشية أن هذه الفئات لا تنتمي إلى المجتمع البشري الذي تراه مجتمعاً مثالياً. كانت هذه الفئة الدخيلة هي اليهود بالنسبة للنازيين، وهي لدى اليمين المتطرف الأوروبي والأميركي اليوم عموم المهاجرين في المجتمعات الغربية، من مسلمين ولاتينيين وأفارقة.
تدعم هذا الطرح ملاحظة أن الضباع ذات أشكال قبيحة وبشرة داكنة في الفيلم، تتحدث الانكليزية بلحن واضح مطعّم بلكنة لاتينية أو إنكليزية شوارعية، وتعيش في مكان خطر يظهر في الفيلم معتماً وشاحباً على أطراف سهول السافانا الرائعة والملونة حيث تعيش الأسود وباقي الحيوانات التي تدين بالطاعة لعائلة موفاسا في الفيلم، والتي هي عملياً فرائس مفترضة للأسود في عالم الحيوانات الحقيقي.
يذهب فورست أبعد من ذلك، ليشير أيضاً إلى أن العم سكار، الذي يظهر بدون لبوة شريكة أو عائلة وادعة كما أخاه الملك موفاسا على الرغم من تقدمه في السن، يحتمل أيضاً أن يكون مثلي الجنس. ويرمز بدوره لقوى يسارية تحررية تريد مجتمعاً متنوعاً يضم «الضباع» أيضاً. ثم أنه يظهر في الفيلم قبيح المظهر، داكن العينين والبشرة، خفيف اللبدة (الشعر حول العنق)، ما يمنحه مظهراً أقل هيبة وجمالاً من أخيه الأسد الملك.
ولا تتوقف الرمزيات في الفيلم عند هذا الحد، بل تظهر اللبوات في الفيلم، بخلاف اللبوات الحقيقيات في عالم الحيوان، في مكانهن فوق الصخرة التي تمثل المنزل، وهنَّ أيضاً بحاجة لزوجهنَّ القوي، ولا يستطعنَ مقاومة الملك السيء قبل عودة الأسد الذكر صاحب الهيبة والقوة والزئير العالي.
ينتهي الفيلم بمشهد وقوف الأسد البالغ سيمبا منتصراً فوق صخرة عالية مُصدراً زئيراً قوياً، في حين تمتلىء السهول أسفل الصخرة (الشرفة) بباقي الحيوانات التي تقدم له البيعة والطاعة. وتعود عدسة الكاميرا في لقطة Zoom out أشمل لكل السهول، حيث تنقشع الغيوم ومعها السواد الذي خيم على البلاد في غياب سيمبا ووالده، وتنحسر الحرائق وترسل السماء ضوء الشمس القوي في إشارة أيضاً، ربما، إلى رضا الله على ما انتهت إليه الأحداث، لتعود الخضرة والحياة فتطبع المشهد العام للمكان. مشهدٌ يزعم النقاد أنه يشبه إلى حد كبير صور هتلر في خطاباته أمام الجماهير الغفيرة، ويسهب النقاد أيضاً في الحديث عن إعجاب هتلر منقطع النظير بمنتجات ديزني المحافظة جداً في عهده، حيث الحنين إلى أوروبا صافية لا يعكر الدخلاء صفو حياة مجتمعاتها.
هاملت – شكسبير
يقول المدافعون عن الفيلم أن منتقديه يحمّلونه ما لا يحتمل، وأن الفيلم هو قصةٌ لطيفةٌ للأطفال لا تمت للدعاية اليمينية المتطرفة في الغرب بصلة. وفي حين أن أحداً من المدافعين عن الفيلم لم يحاور حتى الآن في تفاصيل الرمزيات أعلاه، فإنهم يحيلون في مرافعاتهم إلى كلاسيكيات المسرح العالمي والإنجيل، حيث يرون فيه مقاربةً لقصة مسرحية هاملت لشكسبير، ومقاربةً لنصوص مختلفة من الكتاب المقدس. لكن بالمقارنة بين الفيلم ومسرحية هاملت، فإنه لن يتبقى الكثير بعد أن تُسقَطَ جانباً قصة ولي العهد الذي ينتقم من عمه قاتل والده الملك، إذ لا نجد في هاملت تلك الإحالة إلى فئات الجرذان والضباع الاجتماعية التي تستولي على السلطة بعد قتل الملك، ولا الحاجة إلى الذكر القوي الذي يعيد الحياة والمجتمع إلى طبيعتهما (المثالية) بعد طرد هذه الفئات خارج البلاد.
عالم ديزني الخطير
يثير كثيرٌ من إنتاج ديزني للأطفال حفيظة تيارات سياسية وفكرية واجتماعية في الغرب، تدافع عن التنوع في المجتمع وتدين الخطاب اليميني الفاشي. وتعتبر هذه التيارات ديزني شكلاً لإنتاج الثقافة والإيديولوجيا التوجيهية التي تقدم صورة بديعة للمجموعة التي تمتلك السلطة والقوة، حيث دأبت ديزني على إنتاج هذا النوع من مسلسلات وأفلام الأطفال التي تظهر نوعاً من الأبطال يقدمون عالماً مثالياً يكون كل شيء فيه على ما يرام، طالما أن الأمور على ما هي عليه ولا يشوبها أي تغيير ممكن. وفي حين يرى البروفيسور فورست أن دور الفن هو توسعة العالم وتقديم نماذج وأعمال تعكس صورة أرحب له وتدفع بالأفراد إلى محاكاة الوصول والانتماء إلى هذا العالم، ربما بشيء من اليوتوبيا أيضاً، فهو يرى أن منتجي ثقافة ديزني يفعلون العكس تماماً، بتقديمهم لثقافة محافظة ترى أن العالم بحال جيدة، وأنه سوف يبقى كذلك طالما أن لا تغيير يطال شكله وآليات إنتاج السلطة والنفوذ فيه، حيث يعيش الناس البيض سعداء ويُبقون «الدخلاء» خارجاً.
ولكن ديزني تعيش اليوم أطواراً مختلفة جداً، فهي بدأت تنتج أيضاً أفلاماً أكثر ليبراليةً وانفتاحاً على قيم العالم الجديدة، وهي أصلاً بدأت بالتحول من الإنتاج المقتصر على الأطفال إلى الإنتاج الشامل، لتبدأ أيضاً بمنافسة شبكات من قبيل نتفلكس وHBO مثلاً، اللتين تنتميان إلى تيار فكري شديد الليبرالية والانفتاح.
باختصار، يمكن أن يكون هذا النقاش بمجمله دعوةً لمشاهدة هذا النوع من الأعمال البصرية بعين شديدة النقد، والسؤال عن العالم الذي يريد العمل المعني تقديمه. ذهبتُ بالأمس إلى دار السينما مع ابني البالغ من العمر تسع سنوات لمشاهدة The Lion King بتقنية ثلاثية الأبعاد، واستمتعتُ معه للغاية بالصورة والصوت والتقنية العالية، وبدا لي شديد التأثر بعلاقة الوالد والابن في الفيلم، وبلغ الأمر به أن احتضنني وبكى في مشهد موت الأب موفاسا وحزن الصغير سيمبا عليه. كنتُ سعيداً أيضاً بتمكني من مشاركة ابني جزءاً من ذاكرتي في الطفولة، لكنني شعرتُ أيضاً فور خروجنا من السينما بضرورة فتح نقاش لاحق معه حول أحداث الفيلم، لأجعله أكثر تصالحاً مع (الضباع) من سكان ضواحي السافانا، وأقلَّ انبهاراً واقتناعاً بعائلة الأسود وأحقيتهم في السلطة وامتلاك السهول. لا أزال أبحث عن لغة وطريقة مناسبة لخوض هذا النقاش معه، فمن الصعب منافسة ديزني على عقول وقلوب الأطفال. وربما يكون الحديث معه عن سوريا وأسودها وضباعها مدخلاً جيداً هنا، إذ سيكون لديَّ بالتأكيد ما يكفي من الإسقاطات التي تعجز عنها ديزني ونقادها.