لا يسعُ المتابع لمسار الثورة المصرية، منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى هزيمتها الراهنة، إلا أن يتساءل: لماذا لم يفرز هذا المسار حزبًا، أو أحزابًا، يسارية قوية على الرغم من احتلال «العدالة الاجتماعية» مكانة متميزة بين شعارات الثورة، وتصدّي نشطاء يساريين قدامى وجدد لأدوار محورية في معاركها السياسية والميدانية؟ ولماذا لم يتمكن هؤلاء النشطاء من إنجاز تلك المهمة على الرغم من انتفاء العوائق الأمنية مؤقتًا عقب خلع مبارك، وهي العوائق التي حالت طويلًا بين المثقفين اليساريين وحاضنتهم الاجتماعية المُفترضة؟ هل السبب في جمود عقائدي، أو اغتراب ثقافي، مُمَيِّز لتلك الجماعات منذ نشأتها الباكرة في بداية القرن العشرين؟ أم السبب في قصر نظر تكتيكي حكم على خياراتها بالتخبط عشية وغداة يناير؟ أم أن الأمر متعلق بتراجع جاذبية الأفكار اليسارية عالميًا وفي مصر بطبيعة الحال؟ وربما يكمن السبب في تراجع جاذبية فكرة الحزب نفسها كشكل من أشكال التنظيم السياسي، وأن طريق النضال من أجل القيم والأفكار التي بشّر بها مثقفو اليسار يمرّ الآن عبر أشكال مختلفة من التنظيم؟
عادةً ما تأتي الإجابات على الأسئلة السابقة متجاهلةً للسياق ومُصاغة في شكل أحكام قيمة نهائية ومطلقة، بطريقة تحجب إمكانية التحليل والتفسير. بالمقابل، أدّعي أنَّ الفهم الدقيق لمعضلة الفشل التنظيمي لليسار المصري يبدأ بوضع تجربته، كظاهرة سياسية، في سياقها التاريخي الاجتماعي الأوسع والمعقد، بعيدًا عن الاختزالات الثقافوية أو الإرادوية، ثم محاولة فهم الكيفية التي طبع بها هذا السياق تجربة اليسار المصري بطابعه. هكذا فقط يمكن تفسير أخطاء اليسار ووضعها في حجمها الطبيعي.
السطور المقبلة هي محاولة أولى ومختصرة للتصدي لتلك المهمة. أستند في سردي هنا لموقع مزدوج: كأكاديمي وباحث في العلوم السياسية، من جانب؛ وكناشط في الحركة اليسارية الماركسية المصرية منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن. التالي ليس دراسة منضبطة، بقدر ما هو مجموعة من الملاحظات تقتصر على منظمات اليسار الماركسي، أو المتأثرة بالماركسية، ولا تتجاوزها إلى اليسار القومي/ الناصري مثلًا، وقد تفتح المجال للمزيد من التنقيب والتوثيق والبحث الميداني للوصول لنتائج وخلاصات أكثر دقة وإحكامًا.
أخذًا في الاعتبار هذا التوضيح، يمكن الاستهلال بأن الملاحظات الواردة هنا تدور حول أطروحة مركزية، وهي أن أزمة العزوف الجماهيري عن الأحزاب اليسارية، من جانب، وفشل المنظمات اليسارية في بناء مؤسسات قابلة للحياة وقادرة على التواصل مع جمهورها عبر التجنيد والتعبئة، من جانب آخر، هي أحد الأعراض الجانبية لنمط متميز من الحكم والهيمنه تشكل بدءاً من يوليو 1952، وليست محض ترجمة لميل عالمي عازف عن الأحزاب، ولا تعبيرًا عن أزمة اغتراب ثقافي يفصل المثقف اليساري تلقائيًا عن محيطه الاجتماعي، ولا هي محصلة غباء وقصر نظر تكتيكيين أو جمود عقائدي مفترض.
لا نشير بالحديث عن «نمط بعينه للحكم والهيمنة» إلى البناء القانوني السلطوي والممارسات الأمنية التي تحاصر كل محاولات التنظيم الجماهيري المستقل فحسب، ولكن نتحدث بالأساس عن منهج متكامل من مصادرة الدولة وخصخصتها لصالح حلف طبقي ضيق قائم على التزاوج ما بين أقسام رأسمالية بعينها وقمم بيروقراطية عسكرية وأمنية ومدنية، على النحو الذي يحوِّلُ جهاز الدولة، المفترض به، في الأدبيات السائدة، تمثيل الصالح العام، إلى مُلكٍ خاص لا يعيد إنتاج نفسه إلا بنزع كافة أدوات الفاعلية السياسية من يد الغالبية الساحقة من السكان. بعبارة أخرى، يعيش هذا التحالف على تحطيم كافة الأدوات التي تسمح لجمهور المنتجين المُستغَّلَين والمُهمَّشين بتنظيم مشتركهم المادي والثقافي والمعنوي وتدبّر مستقبله باستقلالية كاملة، بما يحيلهم لكمٍّ مذررٍّ عاجز عن التفكير في حياته كشأن مشترك من الأصل.
وينتج عن هذه المصادرة والخصخصة، بقدر ما يغذيها، خيال سياسي متميز تتولى الأنتلجنسيا الوطنية المهيمنة على مجال الاستهلاك الجماهيري للأفكار في الصحف والمدارس وقاعات المحاكم، وغيرها من ساحات التواصل الاجتماعي، تعميمه وترسيخه. يتذيل هذا الخيالُ الدولةَ ويرى في بيروقراطيتها ونخبها التي خلعت على نفسها صفة «الحداثة» ممثلًا طبيعيًا للمجتمع باعتبارها الوحيدة التي تحوز من أسباب القوة ما يمكّنها من التفكير في «العام» الذي يستحيل تصوره من خارج الحلقة القابضة على سلطة الدولة. يدرك هذا الخيال أزمة خصخصة الدولة بوصفها خروجًا عن نص تحديثي مفترض، ويرى في المجتمع كلًّا متجانسًا لا تخترقه أي انقسامات ذات شأن، وأن هذه الانقاسامات، إن وجدت، فهي صنيعة طغمة فاسدة، أو ثقافة رجعية، متحكمة في جهاز الدولة المفترض به الرشادة والكفاءة والتعالي على المصالح الخاصة بحكم التعريف. وبالتالي، فالمخرج هو في تحرير جهاز الدولة من أسره المفترض، وتحرير الشعب من خموله في الوقت نفسه، بضربة مزدوجة يسددها المثقف الوطني عبر جبهة وطنية واسعة ثم ينصرف لحاله في حين تستأنف بعدها النخب نفسها قيادة عملية التحديث المفترضة.
هذا الخيال العام، بتجلياته المختلفة المستكينة أو «المعارضة»، يعد في ظني مسئولًا بشكل رئيسي عن فشل اليسار التنظيمي، إذ يضاف للعوائق الأمنية كحائل إيديولوجي بين اليسار الماركسي وحاضنته الاجتماعية المفترضة، والمحرومة من أدوات تنظيمها الذاتي، كما يخترق في كثيرٍ من الأحيان خطاب وتكتيكات المنظمات اليسارية نفسها على مستويات عدّة. في هذا السياق مثلًا، تتراجع جاذبية الحزب بشكل تلقائي كمؤسسة تفترض مجالًا عامًا مستقلًا عن جهاز الدولة ولا توجد تاريخيًا إلا لبلورة وتجميع وتركيب مصالح ورؤى مختلفة في مشاريع سياسية تستهدف الاستيلاء على هذا الجهاز وإدخال تعديلات جوهرية على عمله، أو تصفيته في حالة اليسار الماركسي، وليس تسليم المجتمع كأمانة لهذا الجهاز بعد إحلال قيادته بقيادة وطنية، أو ديمقراطية، أو شريفة، أو متدينة. وفي هذا السياق كذلك، بدلًا من أن تتحول تجربة الانتماء للمنظمات اليسارية لتجربة فارقة في حياة الانتلجنسيا تأخذها بعيدًا ولو قليلًا عن خيالها الوطني أو الديمقراطي المجرد وتصوراتها عن التغيير المتمحورة حول جهاز الدولة وصراعات نخبه، تجرّ هذه الانتلجنسيا في كثيرٍ من الأحيان المنظمات اليسارية إلى فلك هواجسها وتصوراتها الضيقة المعادية للحزبية. وأدّعي أن هذا هو ما حدث بعد يناير 2011.
كيف تشكل هذا النمط من الحكم والهيمنة؟ وكيف أثّرَ على خطابات الانتلجنسيا؟ وكيف تفاعل معه اليسار وتأثر به؟ وكيف يفيدنا هذا التاريخ في فهم معضلة الفشل التنظيمي لليسار والأحزاب المدنية عمومًا؟ هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها بالترتيب.
سنوات الناصرية: تأميم السياسة كمقدمة لخصخصة الدولة
يوليو 1952 هو نقطة بدايتنا.. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وربما قبل ذلك بقليل، أصبح واضحًا أن هيمنة طبقة كبار ملاك الأرض، أو الأعيان، وقناعتها بموقعها التابع والهامشي في السوق الرأسمالي العالمي، تقف عائقًا أمام تحرير قوى الإنتاج في الريف، أو إعادة تدوير الفائض المتراكم بعيدًا عن مخزنه الجامد في ملكية الأرض، وما يترتب على ذلك من تراجع معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أما تجارب التصنيع المحدودة، فخرجت بالأساس من رحم الأعيان، ولم تنجح في إدخال تعديلات جوهرية على علاقات الإنتاج الاجتماعية أو أنماط الاستغلال الراسخة.
أدرك المتعلمون (الأفندية) -المهيمنون على مجال تدوير الأفكار واستهلاكها الجماهيري في مساحات كالمدارس العمومية والصحف وقاعات المحاكم وغيرها- هذه الأزمة من خلال عدسة خطاب «النهضة والإحياء» الموروث منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث الفعل السياسي يتسم بملامح مثالية بوصفه فعل استيقاظ أو استعادة وعي يتعرف به المجتمع على ذاته، ويتجاوز تناقضاته المصطنعة ويتصل بماضيه الفرعوني أو العربي أو الإسلامي أو كل ذلك معًا. لم يكن شيوع هذا التصور غريبًا، أخذًا في الاعتبار المسار التاريخي لنشأة الأفندي المصري، ابن الفلاحين، في المدارس المدنية الجديدة، والذي أوكلت إليه مهمة الترويج للحيز الوطني المصري المخترع الذي تمارس فيه الطبقات الجديدة من أعيان وبيروقراطيات عسكرية ومدنية سلطتها وتراكم رأسمالها بعيدًا عن السلطة العثمانية. كان الأفندي منذ البداية يستحوذ في مواجهة مجتمعه التقليدي على سلطة معرفية وأخلاقية هائلة بوصفه أمينًا على صورة الأمة الحديثة المخترعة، وكانت مكانة الأفندي الاجتماعية مرتبطة بشكل عضوي بترسيخ هذا التصور المثالي عن الأمة وعملية إحيائها. ومع التوسع في التعليم في العقد التالي للاستقلال الاسمي عن الإنجليز في 1922، وتركز الثروة بشكل خرافي في يد الأعيان، وتراجع معدلات التنمية في الوقت ذاته، بدا واضحًا أن سعي الأفندي للترقي الاجتماعي يصطدم بتراتبيات اجتماعية عتيقة (أمراء وباشوات وبكوات من كل لون) في حين لا يمكنه التمتع بشبكات التضامن الأولية التي يتيحها المجتمع الريفي أو مجتمع الطبقة العاملة الحضرية. أما المجال السياسي –ساحة استعراض مهارات الأفندي الكتابية والخطابية والتنظيمية– فقد تجمد تمامًا تحت وطأة صراع ثلاثي متبدّل المواقع بين القصر وأحزاب الأقلية، وحزب الوفد، والإنجليز، وأصبح عاجزًا عن إفراز أي حكومة تستقر لشهور. أزمة الأفندية بهذا المعنى مع طبقة كبار الملاك تم إدراكها كخيانة من قبل هذه الطبقة للعهد الوطني القديم مع تابعيها الذين حملوهم على الأعناق وناوئوا بهم الملك والاستعمار، والمخرج كان في استئناف مشروع النهضة أو الإحياء الوطني من خلال حلف جديد.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الساحة تعجّ بمنظمات جديدة، من أول مصر الفتاة وحتى الإخوان المسلمين، قوامها الرئيسي من الأفندية الساخطين وأقسام واسعة من البرجوازية الصغيرة، وتجتمع على عدائها للمجال السياسي القائم برمته، والأحزاب بشكل خاص. الجفوة مع المجال السياسي كانت تتزايد بقدر ما يتزايد الرهان الدائم على جهاز الدولة المفترض به الحياد. جهاز الدولة كان طريق نفاذ الأفندي لعالم الأعيان، الذين يمقتهم بقدر ما يشعر بالانسحاق أمامهم، بعيدًا عن الحياة الحزبية التي تلطخت سمعتها تماماً.
ولكن سخط الأفندية ظل مفتقراً لسبل القوة المادية اللازمة لتحقيق رؤيته، فلعب دورًا في خلخلة الأمر الواقع وإلهام العسكريين للقفز على السلطة الشائخة ثم الانفراد بها. فضرب ضباط يوليو في البداية يميناً ويسارًا ووجهوا قمعهم للجميع، خصوصًا الحركة العمالية الوليدة، بهدف مركزة القرار بشكل حصري في يد حفنة قليلة منهم تسمح بتنفيذ إصلاحاتهم المنشودة. كانت ملامح الحكم الجديد تتضح بالتدريج، حتى لضباط يوليو أنفسهم، وترتسم كلها حول هدف دمج عموم السكان في هياكل واحدة شديدة المركزية والهرمية تتولى مهمة التفاوض المباشر مع مواقع القرار الحقيقية الجديدة: مؤسسة الرئاسة، وبدرجة أقلّ أجهزة الأمن. وبالتوازي، أتيحت سلطة واسعة للقمم البيروقراطية، المتحكمة في القرار الاقتصادي، لهندسة التحول الرأسمالي المنشود، والذي تم بقدر غير قليل من العشوائية وسوء التخطيط وبهدف سد التطلعات الاستهلاكية المباشرة لسكان المدن بالأساس. قرارات حلّ الأحزاب وتعليق العمل بالدستور والاحتكام بشكل دائم لدساتير «مؤقتة»، كانت خطوات أولى في هذا الاتجاه. ثم أُنشئت مؤسسات مدنية هرمية لا تعترف بالتعدد خارجها كالاتحاد العام للعمال واتحادات الطلاب واتحادات الجمعيات الأهلية واتحادات التعاونيات الزراعية. حتى المؤسسات الدينية التاريخية – الأزهر والكنيسة المصرية – شهدت خطة ممنهجة للعصف باستقلالها، ومركزة قرارها عبر سلسلة من القوانين تضمن تبعيتها المباشرة لرئيس الجمهورية، في مقابل إطلاق يدها للتحكّم في الخطاب الديني الموجَّه لرعاياها واعتباره، دون غيره، الخطاب الأولى بالرعاية من قبل الدولة الجديدة. وأتى تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي كتتويج للسياق الإدماجي، أو كساحة للتوسط بين هذه الجهات جميعاً بشكل غير صراعي، وعبر الإحالة الدائمة لرأس السلطة التنفيذية بوصفه المُتحكِّمَ الوحيد بالقرار في النهاية.
الاتحاد الاشتراكي بهذا المعنى لم يكن حزبًا، ولم يدّعِ ذلك، بل قدَّمَ نفسه، عن حق، كتنظيم سياسي أوحد. هو تنظيم سياسي من حيث أنه يسمح لجماعات مختلفة أن تشارك في عملية التفاوض حول شروط إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية القائمة، ولكنه ليس حزبًا إذ لا يقوم بمهمة مَفصَلَة مصالح ومطالب تلك الجماعات في برامج ومشاريع ينافس بها على السلطة. الاتحاد الاشتراكي –وهو هنا يختلف مثلًا عن حالة حزب البعث في الفترة نفسها– هو صنيعة المجموعة القابضة على سلطة الدولة للتواصل مع هياكلها الإدماجية والتوسط بينها، ولكنه لا يلعب دورًا يُعتد به في عملية صناعة القرار. في هذا السياق من مصادرة السياسة وتحويلها من شأن عام لامتياز حصري تقتصر ممارسته على مجموعة كانت تضيق يوميًا، اندمجت أقسام وفئات رأسمالية جديدة، أفادت من شراكتها مع القطاع العام من الباطن، مع فئات برجوازية متوسطة، خصوصًا في الريف من المستفيدين من تفتيت الملكيات الزراعية الكبرى، وكبار البيروقراطية المدنية الجديدة، مع بقايا الأعيان من ملاك الأرض الكبار، ليتشكل قوام الحلف الطبقي الرأسمالي الذي تحكم في مصير البلد حتى ثورة 2011.
بالعودة لليسار المصري في تلك الفترة نسأل: كيف أثّرت تلك التحولات على أوضاعه التنظيمية، وماذا تُنبئُنا عن أزماته التالية؟ لا حياة حزبية بدون مجال سياسي شفّاف ومستقل نسبيًا عن سلطة الدولة، ولا أحزاب يسارية على وجه الخصوص يمكن أن تنشأ في سياق من استتباع المنظمات المدنية العامة لجهاز الدولة بهذا الشكل. الأحزاب اليسارية، سواء قامت على عضويات هائلة من اتحادات عمالية مرتبطة بها عضويًا، كأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في بداية القرن الماضي في ألمانيا، أو كانت أحزاب صغيرة الحجم تتشكل من أنتلجنسيا منظمة كالأحزاب الثورية الروسية في الفترة ذاتها، تفترض بداهةً وجود حاضن اجتماعي لأنشطتها يتمثل في اتحادات عمالية قوية ومستقلة وتحظى بتقاليد تنظيمية تؤمن لها التمويل والتأييد. مصر نفسها لم تكن استثناءًا بطبيعة الحال. الفترة الوحيدة في التاريخ المصري الحديث التي شهدت تجارب تنظيمية لليسار الماركسي بالمعنى الحزبي المتعارف عليه كانت الفترة منذ بداية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف الخمسينيات، أي فترة تحلّل سلطة الأعيان ومجالهم السياسي. في هذه المرحلة، وبسبب ضعف الآلة القمعية والإدماجية للدولة، انفتح المجال لمحاولات الطبقة العاملة والشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة امتلاك أدوات تنظيمها الذاتي المستقل. دخول تلك الشرائح والفئات مسرح الحياة المدنية بإشكاليات وتحديات جديدة، كان كفيلًا بخلخلة اللغة السياسية المهيمنة على جدالات الانتلجنسيا وإحداث شروخ قوية فيها تسمح بانفتاحها على مفاهيم أخرى للتاريخ والمجتمع والسياسة بعيدًا عن ثنائيات العلمانية والإحياء الديني المهيمنة منذ نهاية القرن التاسع عشر. هذا بالضبط هو ما حدث مع الحركة الشيوعية خلال تلك الفترة، المتعارف على تسميتها بالحركة الشيوعية الثانية تمييزًا لها عن تجربة الحزب الشيوعي المصري قصيرة العمر عقب ثورة 1919. فبعد نشأة منعزلة في أوساط الأقليات اليهودية والأوروبية المعادية للفاشيّة، تجاوز مثقفو تلك الحركة هذه الشرنقة وفي ظرف بضع سنوات فقط تكوّن جيل من المثقفين المصريين المرتبطين بالتراث الماركسي والاشتراكي والمنفتحين على الحركة العمالية الصاعدة، وغيرها من الحركات الاجتماعية، ولم يأتِ انقلاب يوليو إلا وهناك عدد من المنظمات الشيوعية الفاعلة على الأرض، والتي طوّر بعضها برامج ومشاريع سياسية متميزة. ولكن قطعت مصادرة الدولة الطريق على هذا التطور بشكل كامل.
إلا أن الحركة الشيوعية الثانية نفسها ساهمت بتأثرها البالغ بعدد من الأحزاب الشيوعية الأوروبية (تحديدًا الحزب الشيوعي الإيطالي والفرنسي في حالة «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني- حدتو») أو الخط السوفيتي القحّ (في حالة عدد من المنشقين عن حدتو) في تغذية الأوهام حول طبيعة الإجراءات الناصرية باعتبارها مرحلة ضرورية لثورة وطنية ديمقراطية يجب أن تنجز استقلالًا وطنيًا تامًا وتنمية ناجزة تسبق التفكير في التحويل الاشتراكي للمجتمع. لم تكن تبعية الحركة الشيوعية لموسكو أو باريس أو روما أمرًا غريبًا في منطقة تنفض عن نفسها غبار حقب استعمارية طويلة وتلتحم باتجاهات فكرية جديدة ببطء وارتباك. أضف إلى ذلك أن الفترة من يوليو 1952 وحتى قرار الوحدة مع سوريا كانت مزيجًا دائمًا من القمع المنفلت ضد الشيوعيين والتحول يسارًا في الوقت نفسه. بينما كان قسم معتبر من الشيوعيين في سجون أبو زعبل، وبعضهم في السجن الحربي، كان عبد الناصر يسلّم رئاسة تحرير إحدى أوسع الصحف اليومية انتشارًا للضابط خالد محيي الدين، العضو السابق في حدتو وعضو مجلس قيادة الثورة؛ ويفتح قناة اتصال عبر أنور السادات مع العناصر الرافضة أو المتحفظة على سياسة عبد الكريم قاسم وخصوصًا موقفه من مسألة الوحدة المصرية- السورية. وبينما كان أعضاء المنظمات الرئيسية في سجن الواحات كان عبد الناصر يعلن قراراته «الاشتراكية» التي أممت تقريبًا كافة الصناعات الكبيرة والمتوسطة في 1961، وتبع ذلك إعلان ميثاق العمل الوطني في 1962 الذي اعتبَرَ بناء الاشتراكية هدفًا رئيسًا لسلطته. قراءة هذه الخطوات المتضاربة كان يتطلب تفاعلًا يوميًا مع منظمات جماهيرية وجمعًا دقيقًا لمشاهدات على الأرض ونفاذًا للمعلومات والبيانات، وهي أمور لم يتوفر أيٌّ منها في هذا الوقت.
ولكن جذور الخطأ لم تقتصر على العزلة الفكرية وسوء التقديرات فقط. الحقيقة أن قضايا الديمقراطية ودعم التحرر الذاتي للطبقة العاملة لم تحتل المكانة المركزية على جدول أعمال الحركة الشيوعية نفسها في هذا الزمن مقارنة بمسألة التحرّر الفوري من الاستعمار وبناء دولة وطنية ناجزة. فاعتبرت حدتو، وبدرجة أقل باقي المنظمات، الهياكل الإدماجية السابق التعرض لها، بما في ذلك الاتحاد الاشتراكي العربي، هياكلَ تمثيلية حقيقية طال انتظارها تعبّرُ عن وحدة الحلف الطبقي الجديد المعادي للاستعمار، وأن التحدي الوحيد هو دمقرطتها من الداخل لإتاحة الفرصة للطبقات الشعبية لفرض صوتها. وسقط من حسابات تلك المنظمات، أن نَفَسَ السلطة الجديدة في معاداة الاستعمار سيكون أقصر بكثير مما تظن، وأن هدفها الحقيقي هو إعادة اللحاق بالسوق الرأسمالي العالمي بعد أن تنهي مهمتها في مصادرة الدولة بشكل كامل ووأد استقلال تلك الطبقات الشعبية عبر الهياكل نفسها. وبالتالي، فمن داخل المعتقلات نفسها، التي فتحت أبوابها لكوادر ورموز المنظمات الشيوعية، خرجت التحليلات السطحية الفجّة التي ترى مجموعة اشتراكية في السلطة ينبغي دعمها لإنجاز تحوّل «لارأسمالي» –على قول المنظرين السوفييت- عبر التحالف معها في حزب/ جبهة وطنية متحدة. واتخذت أغلب قيادات حدتو والمنظمات الأخرى قرارها الشهير بحلّ نفسها والانخراط كأفراد في الاتحاد الاشتراكي العربي، والتنظيم الطليعي (السري) المنبثق عنه تحت قيادة وزير داخلية عبد الناصر، في مقابل إتاحة منبر شبه صحفي، مجلة الطليعة، وحضور قوي في عدد من المؤسسات الثقافية لعدد من تلك الكوادر اليسارية!
الحركة الشيوعية الثالثة: استفاقة بعد فوات الآوان
مع هزيمة 1967 بدأ التحول الحثيث والمحتوم يمينًا على يد عبد الناصر نفسه، عبر التساهل مع القطاع الخاص والانفتاح على مبادرات السلام الأميركية، وبدأ صوت الدعاية الاشتراكية، أو الموالية للسوفييت، في الخفوت. كان التحالف الطبقي الجديد يسعى لتجاوز «آثار العدوان» حتى يتفرغ لتحصين مكاسبه ومعانقة ربيبه الإمبريالي دون عوائق تذكر. وجاءت وفاة عبد الناصر وتنصيب السادات خلفًا له لتسهل من المهمة. ثم كانت حرب أكتوبر مناسبة إضافية للتحول يمينًا حيث تلى الحرب الخاطفة إعلان ما عرف باسم «ورقة أكتوبر» 1974 التي تتبنى سياسة الباب المفتوح صراحة والتمهيد للتحول للتعددية الحزبية المقيدة. هذان الجناحان (الانفتاح الاقتصادي والتعددية المقيدة) كانا محركا الانتقال من مرحلة تأميم السياسة لمرحلة الخصخصة الكاملة للدولة والشأن العام. سياسة الباب المفتوح، من جانب، سمحت للتحالف الطبقي الجديد بالتمتع بكافة مزايا إغلاق المجال العام من هندسة للتشريعات لخدمة مصالحه أو فرض قواعده الإدارية وصولًا للفساد المباشر، ومن جهة أخرى كان التحول للتعددية المقيدة مع عام 1976 إيذانًا بتحلل النخبة السياسية الجديدة من أي التزام قطعته على نفسها يومًا للطبقات الشعبية خلال نزوتها الناصرية قصيرة العمر.
المنابر الثلاثة التي أُعلن عن تدشينها داخل الاتحاد الاشتراكي العربي – ومن ضمنها منبر لليسار «الوطني» أوكل عبء تنظيمه لخالد محيي الدين كذلك، وورث كافة العناصر التي تعاونت مع النظام الناصري في «الطليعة» وغيرها من المؤسسات – كانت في الحقيقة تصفية لصيغة التنظيم السياسي الأوحد دون أن تحل محلها أحزاب حقيقية مستقلة. إنهاء تجربة المنابر سريعًا وإقرار قانون جديد يلغي الحظر على الحياة الحزبية، ثم تزعم السادات للحزب الوطني الديمقراطي منذ العام 1978، لم يكن إيذانًا بتقديم وريث متطور للاتحاد الاشتراكي في صيغة حزب حاكم يعبر عن مصالح متبلورة، بقدر ما كان تأسيسًا لنادي مصالح يستند إلى قاعدة اجتماعية أضيق بكثير، وبخضوع أكثر مباشرة وفجاجة للرئاسة والأجهزة الأمنية. ناهيك عن أن التحول للتعددية الحزبية اقترن بتشديد القبضة الأمنية والتسلط التشريعي على باقي مكونات المجتمع المدني. الاتحادات العمالية والنقابات المهنية الرسمية كان يجري تدجينها وإخضاعها للإشراف المباشر للمكاتب الأمنية، وكذا اتحادات الطلاب، وفي المقابل كان الحزب الوطني الديمقراطي جاهزًا لاستيعاب بعض العناصر المنتقاة للعمل كتابعين صغار للتحالف الطبقي الجديد. والهدف المعلن لم يكن تسييد اتجاه بعينه داخل تلك الهياكل، بقدر ما كان إخصاءها تمامًا وتفريغها من الداخل. وهنا أدّعي أن أحد خصوصيات النظام المصري التي تميزه عن غيره من السلطويات تكمن تحديدًا في سعيه التخريبي الدائم لأي فعالية مدنية مستقلة من حيث المبدأ، لا مجرد السيطرة عليها.
وبالتالي، فإذا كانت الناصرية قد جردت الغالبية العظمى من المصريين من أدوات تنظيمهم الذاتي المستقل، فإن سنوات السادات قد أتت لتخلق تذريرًا وخواءًا موحشًا بين هذه الغالبية، ولتسيد خطابًا يائسًا بأن النخبة الأمنية الحاكمة هي الممثل الطبيعي والوحيد للشعب المصري، وهي الوحيدة القادرة على المناورة مع باقي أقسام الطبقة الحاكمة «الفاسدة». ومن هنا، فموجة الاحتجاجات الشعبية والعمالية الواسعة التي بدأت مع العام 1975 ووصلت ذروتها مع انتفاضة الخبز 1977 نشأت مفتقرة بشكل مريع للتنظيم الذاتي وبعشوائية في الحركة على الرغم من بسالتها، واقتصر أُفُقها على مخاطبة رئيس الجمهورية والحكومة للقيام بهذا الإجراء أو إلغاء ذاك القرار.
بالتوازي، عاد التيار الإسلامي، بالأساس في طبعته الإخوانية، بفكرته الراسخة عن التغيير التدريجي من الفرد وحتى «أستاذية العالم» ليشكل تيار المعارضة الرئيسي. تبلور منهج الإخوان حول هدف ملء الفراغ الذي تخلّفه الطبقة الحاكمة في حركتها يمينًا، واستغلاله في إعادة بناء الهوية الفردية والجماعية وفقًا لنموذج إسلامي مثالي مفترض. فهيمن الإسلاميون على مساحة معتبرة من المجال الديني وكذلك الساحة الجامعية وساحة العمل النقابي المهني التي تركتها الطبقة الجديدة فارغة دون اهتمام بتنظيمها، إذ أن الكلمة الأخيرة هي لأجهزة الأمن في كل الأحوال. تسامحت الأجهزة مع حركة الإسلاميين طالما أنها لم تتجاوز حدود الدعوة الإيديولوجية والحشد الانتخابي. وفي الواقع، كان الخطاب المهيمن على عموم التيار الإسلامي يتناقض أصلًا مع هدف بناء منظمات ديمقراطية، إذ لم يرَ في متعاطفيه إلا موضوعًا للدعوة والإصلاح والتهذيب والحشد، ولم يشذّ عمله النقابي والبرلماني عن الأسقف الخدمية المنخفضة. تمخضت العودة الثانية للإخوان إلى المجال العام عن بناء طوائف وأخويات مغلقة تزداد تمركزًا وسلطوية، تسعى لانتقاء عضويتها ولا يعلم المتعاطف معها ماذا يفعل على وجه التحديد للانضمام لها. كما لم تقدم هذه الأخويات أطروحات فكرية يُعتَدُّ بها يمكن أن تجتذب فئات أوسع في مجتمع ضخم يتحول بعمق بعيدًا عن النموذج المثالي المتصور للفرد المسلم، ناهيك عن وجود كتلة قبطية معتبرة تضرب هذا المجتمع رأسيًا ولا يمكن أن تتقبل دعاية التيار الإسلامي الطائفية الصريحة. فانتهى الحال إلى تأييد سلبي تتمتع به جماعة الإخوان ولا تعرف ماذا تفعل به على وجه التحديد، فتوظفه في لعبة مساومات تافهة انتظارًا لاستدعائها من قبل الطبقة الحاكمة نفسها للشراكة معها من موقع طرفي. أما من انشق على الإخوان، أو نشأ على يسارهم، فإما بالغ في الجمود والعزلة، كما في حالة عدد من الجماعات السلفية، أو انخرط في موجة عنف عدمي ضد الدولة والمجتمع، كما في حالة الموجة الجهادية الأولى.
في هذا السياق، تشكلت الحلقات الشيوعية الثالثة كردّ فعل على هزيمة المشروع الناصري، وهزيمة الحركة الشيوعية الثانية معه. بعد 1967، استوعبت بعض العناصر اللامعة دروس الهزيمة بشكل سريع وخرجت تنظيرات شديدة التعقيد تضع يدها على مَواطن الخلل في التجربة الناصرية وفي تجربة الحركة الشيوعية الثانية، وتسمّي الأمور بمسمياتها. على سبيل المثال، تظهر الناصرية في أدبيات التنظيم الشيوعي المصري (لاحقًا حزب العمال الشيوعي المصري) كتجربة في رأسمالية الدولة تشرف عليها سلطة البورجوازية البيروقراطية. وتحاول بعض الأصوات التي رفضت حلّ المنظمات الشيوعية الرئيسية إعادة تأسيس نفسها مرة أخرى بعد مراجعة أطروحاتها بشأن الطريق اللارأسمالي للتنمية والتنبيه للدور المحافظ، وحتى الرجعي، للبرجوازية الصغيرة في التجربة الناصرية (مجموعة «شروق»، الحزب الشيوعي المصري- 8 يناير، ومجموعات أخرى أقل شأنًا)، وتتحدث الحلقة التروتسكية الوحيدة عن طابع بونابرتي لسلطة عبد الناصر شكّل مقدمة موضوعية لإعادة الاستحواذ على سلطة الدولة من قبل البرجوازية ككل. في المقابل، استمرت حدتو (سواء في الحزب الشيوعي المصري الجديد أو عبر الكثير من كوادرها في حزب «التجمع» وريث منبر اليسار) على تصوراتها عن المجموعة الاشتراكية، أو الوطنية، في السلطة، وإن رأت أنها هُمشت. بالتوازي، بدأ يظهر ما يُعرَف باليسار الناصري، الذي يرى في انقلاب السادات يمينًا ردّة كاملة عن المسار الناصري وليس تحققًا لبذور كامنة فيه، ومهمة هذا «اليسار» والحال كذلك هي وقف هذا التدهور عبر التحالف مع أحد أجنحة الوطنية في السلطة.
ولكن بقدر ما كانت تتبلور رؤى بعض المنظمات الماركسية الجديدة باتجاه محورية قضية الديمقراطية والتحرر الذاتي لجماهير العاملين، إلى حد رفع شعار الجمهورية الديمقراطية كشعار مركزي لحزب العمال الشيوعي عقب حرب أكتوبر 1973، وبقدر تباعدها عن التحليلات السوفيتية، والشيوعية الأوروبية، وقطع الصلة مع الإرث الناصري بدرجات مختلفة، كان تدهور الأحوال التنظيمية وهيمنة خطابات التعلّق الذيلي بالدولة في صفوف جمهورها وتصاعد التأييد السلبي للإسلاميين، يسير بوتيرة أسرع بكثير من قدرتها على التكيّف والتطور. كذلك فالعضوية شبه الحصرية من الطلاب، لم تسمح بترجمة التصورات المركبة لقضية الديمقراطية إلى عمل جماهيري على الأرض، بل ظلّت ذهنية العمل الجامعي التحريضي مهيمنة على حساب العمل القاعدي طويل النَفَس الذي يبدأ بعملية طويلة من بناء الثقة مع الجمهور المتشكك قبل الدخول في التحريض والتعبئة. عزَّزَ من هذا الميل التحريضي قراءة متفائلة لواقع الحركة الجماهيرية، خصوصًا بعد إضرابات 1975 وانتفاضة 1977، افترضت، على عكس الواقع، أن الحركة الجماهيرية في حالة صعود مستمر ولا ينقصها إلا بناء المنظمات الماركسية. وكذلك فالتطوّر على صعيد الرؤية النظرية لم يواكبه تطور على صعيد الرؤية التنظيمية التي ظلت تسير حرفيًا على النهج اللينيني المركزي، الأمر الذي فتح الباب واسعًا لظاهرة الانشقاقات المتوالية بما نال من قدراتها بشكل كبير مع بداية عصر مبارك. ما تركته الحركة الثالثة كان إرثًا نظريًا بالغ الأهمية والتقدم، ولكن مع تجربة جماهيرية محدودة لا تقارن بأي حال من الأحوال بتجربة الحركة الشيوعية الثانية، وتجربة تنظيمية محبطة في البناء الحزبي الداخلي. وانتهى الحال إلى بقاء التمثيل القانوني لليسار حكرًا على حزب «التجمع» بتركيبته وقيادته المشغولة بالتفتيش عن العناصر الوطنية أينما كانت لتستأنف تحالفها المتوهم، في مقابل تشتت باقي المنظمات الماركسية وانفضاض عضويتها.
زمن مبارك الطويل: معارضة سياسية جذرية معادية للحزبية
إذا كانت التجربة الناصرية حتى هزيمة 1967 هي مرحلة نزع أدوات التنظيم الذاتي والتفكير في الشأن العام من غالبية المواطنين؛ وكانت مرحلة السادات هي مرحلة خصخصة الدولة كنتيجة طبيعية لمصادرة السياسة من يد المحكومين بالتوازي مع تمدد التيار الإسلامي كتيار معارض رئيسي؛ فإن زمن مبارك شهد تبلور خطاب المعارضة المدنية (غير الإسلامية) الجذري لمسار هيمنة التحالف الطبقي الحاكم، وهو الخطاب الذي صبغ ثورة يناير بطابعه. ولهذا يجب التوقف عند هذا الخطاب لفهم معضلات التنظيم الحزبي الديمقراطي ككل، واليساري على وجه الخصوص، عقب سقوط مبارك.
كما كان الحال في السنوات التي مهدت لتجربة يوليو 1952، تشكل الخطاب الجديد من داخل الحاضن الاجتماعي نفسه، وهو الانتلجنسيا المدنية التي تهيمن على مجال استهلاك الخطابات الكبرى عن الوطنية والدولة منذ إلحاق مصر بالسوق الرأسمالي العالمي واستنبات دولتها الرأسمالية الحديثة. وكما هو متوقع، أتى هذا الخطاب مطبوعًا بلغة الانتلجنسيا الوطنية القديمة، من تصور مثالي عن مجتمع متناغم لا تتبلور أو تتناقض فيه المصالح، إلا في مواجهة نخبة مختطفة للدولة، وأدوار متضخمة للأفندية كأمناء طبيعيين على الوطنية المصرية الحديثة، ومركزية جهاز الدولة الرأسمالي الحديث وبيروقراطيته في إنجاز أي مشروع للتنمية أو النهضة. صحيح أن هذا الخطاب قد تحوّرَ بشكل جوهري نتيجة تحولات عميقة في تكوين تلك الانتلجنسيا، إلا أن تلك التحولات قد عززت من طابعه المعادي للحزبية ووصلت به لدرجات غير مسبوقة وليس العكس.
أولى الأقسام الجديدة في تركيب تلك الانتلجنسيا تشكل من مثقفي الفئات الوسطى المتعلمة التي نشأت نتيجة إصلاحات ناصر الاجتماعية من تعميم التعليم المجاني والتوسع في التوظيف الحكومي. هدد التحول اليميني للنظام مكاسب هذا القسم المحدودة، وترك أولاده فريسة لسوق جديد لا يسعفهم فيه ما تحصّلوا عليه من إمكانيات متواضعة في التعليم الحكومي. الانحدار إلى مصاف الطبقة العاملة والفئات المهمشة تحول سريعًا لكابوس لدى جيل لم يكد يتنفس هواء الصعود الطبقي، فأصبح حنينه لوعود التجربة الناصرية الأولى هو ملاذه الوحيد، وهو حنين يقترن بأمل بائس أن هناك من يمكنه التدخل لفرملة إيقاع التدهور الوطني العام، أي تدهورِهم هم. تطفح دراما الثمانينيات التلفزيونية والكثير من الأعمال السينمائية – وهي مجالات تركت مفتوحة لليسار الناصري والوطني المتعاون سابقًا مع الدولة الناصرية – بتلك الرؤية. والقصة هنا كلاسيكية: أسرة من «الطبقة المتوسطة» تتدهور أحوالها باستمرار في مقابل صعود لبرجوازية الانفتاح. ويأتي الخلاص دائمًا عبر تحالف مع ضابط شرطة أو بيروقراطي شريف وربما صحفي نزيه. يُسدل الستار على النهاية السعيدة المتمثلة في إلقاء القبض على فاسد أو رد الاعتبار للبطل أو البطلة وعودة الأمور إلى نصابها. وفي بعض الأحيان، تأتي النهاية التعيسة باستسلام إبن أو بنت الموظف المحترم لعجلة الفساد، أو في حالات متطرفة، ينتهي الموقف بالانتحار!
بالمقارنة بسينما ما قبل يوليو، حيث جهاز الدولة نفسه لا يحظى بالهالة الأسطورية نفسها، نرى بوضوح ما فعلته سنوات الناصرية بوعي الانتلجنسيا المتعلمة، حيث التضامن بين الطبقات المُستغَلَّة يصبح مستحيلًا إلا بتوسط رجل الأمن الشريف. نحن بصدد طبعة من خطاب وطني اجتماعي/محافظ تتناقض تلقائيًا مع التحزب سواء كان يسارًا أو يمينًا. فتحفل تلك الأعمال المذكورة بالسخرية المرة من نشطاء اليسار – لجهة تقعرهم أو التناقض بين أقوالهم وأفعالهم- كما تتشكك دائمًا في «الإسلامي» لجهة سلوكه الطائفي المنعزل عن المجتمع وتديّنه المتطرف المغاير لطبيعة تدين المصريين «السمحة».
القسم الثاني، وعلى النقيض، هو إبن إجراءات التحول اليميني ذاتها، ويشمل الفئات الجديدة من المهنيين والبرجوازية الصغيرة المشتغلة، أو الطامحة للعمل، بقطاعات اقتصادية مرتبطة برأس مال عالمي، سواء في النشاط البنكي أو تكنولوجيا المعلومات وغيرها، والمنفتحة على منتجات ثقافية آتية من المراكز الرأسمالية المتقدمة القديمة أو الجديدة. وُلِدت تلك الفئات متململةً بدورها من هيمنة التحالف الطبقي الحاكم. هنا تبدو المسيرة المهنية والحياتية واعدة بقدر ما أنها في مهب الريح دائمًا بحكم الفساد والهيمنة الأمنية/الأوليجاركية على مجمل النشاط الاقتصادي التي تفتئت على قواعد عمل السوق العقلاني الرشيد. يتحول السوق الرأسمالي في خطابات هذا القسم إلى محرك للتنمية ولا يحتاج إلا لتحرير فعله من عبء الهيمنة البيروقراطية وحلفائها «الفاسدين»، الهيمنة التي أصبحت توصف بأنها خارج التاريخ أو غير مواكبة للعصر. هنا أيضًا، المطلوب تغييرٌ بضربة واحدة، جراحي الطابع، يعيد النخب التحديثية لرشدها بقدر ما يجدد شبابها مرة أخرى. كشفت منتديات الانترنت، السلف الأول للمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي، عن هذا الوعي الجديد مع نهاية التسعينيات تقريبًا: وعي تشكل على مهل، وفي الظل، داخل المئات من مؤسسات التدريب على التنمية البشرية وجمعيات دعم رجال الأعمال الشباب والجامعات الخاصة. حفلت صفحات تلك المنتديات بأصوات جديدة لم تجد لها متنفسًا في عالم الدراما والسينما الخاضع لهيمنة النزعة الوطنية الاجتماعية المحافظة، ورسمت في الكثير منها لوحات معبرة عن هذا الوعي حيث المستقبل المثالي هو ذلك الذي يستأثر فيه الفنّيون بمقاعد الحكم، ويُترك فيه للمغامرين، المبادرين، المبدعين (وضِف ما شئت من صفات) في السوق، أمر تدبير شؤون المجتمع- نزعة ليبرالية جديدة تقابل نزعة وطنية اجتماعية وتتقاطع معها في التسفيه من السياسة والحط من شأن الأحزاب.
القسم الثالث، هو ما يمكن تسميته بمقتلَعي أو «خلعاء» الطبقة الوسطى، وفقًا لتعبير المؤرخ خالد فهمي (والترجمة لشريف يونس): قطاع متعاظم من الشباب الذي أبصر النور خلال عصر مبارك وكان ينشأ بلا أوهام عن مهمة تحديثية للدولة، إذ تخلّت الدولة نفسها عن نشر تلك الأوهام. وكما اختبر أسلافه قبل يوليو 1952 تفكك البنى الأولية للقرابة في المجتمع الريفي، اختبر هذا الجيل تخلخل العلاقات داخل الأسرة النووية، سواء بفعل الهجرة لبلاد النفط أو التوهان في دوامة العمل غير الرسمي. في هذا الجوّ المضطرب، يُطلب من الأبناء استبطان حساسيات جشعة تمجد الربح وتقدس المنافسة وتحط من شأن التضامن، ولكن كل ذلك يجري في إطار محافظ يحاول التحكم في جسد وجنسانية هؤلاء الشباب، ويتملق الصورة المحافظة/الإسلامية عن الفرد المنضبط والمهذب. هذه الازدواجية الهشة كانت تحاول التشبث بالحياة حتى ولو بالعنف المادي والمعنوي، مما دفع آلاف الشباب خارج بيوت الأسرة النووية، إما ماديًا أو افتراضيًا، مع التوسع غير المسبوق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. سمحت تلك الوسائط فور ظهورها، وقبل ذلك خلال مرحلة المنتديات المغلقة والمدونات، بتعرف عشرات الآلاف من هؤلاء المُقتلَعين على بعضهم بعضًا، واكتشاف المشترك من خبراتهم الانسانية، وبالتالي التجريب بشأن هويات بديلة يبتدعونها ابتداعًا ولكن كلها تتمحور حول كيفية تحويل المجال العام إلى مجال لممارسة الانعتاق الفردي من قيود الأسرة ورقابة المجتمع الأوسع.
أزمات الانتلجنسيا الجديدة، وإن تشابهت في خطوطها العامة مع أزمات «أفندية» ما قبل يوليو 1952، إلا أن نتائجها تفرعت، فأسفرت في حالة القسم الأول تماهيًا مع الدولة ككيان مثالي مجرد متعالٍ على التاريخ والمجتمع؛ وفي حالة القسم الثاني تماهيًا مع السوق كمؤسسة عقلانية بطبيعتها وقادرة على تصحيح أخطاء الدولة؛ وفي الحالة الثالثة أنتجت الأزمة خطابًا معاديًا للدولة والسوق والأُسرة والخطابات الدينية المهيمنة كنزعة تمرّد طازجة وخام تستعد لفهم جذور أزماتها ولكنها لا تستعد بالضرورة للتخلي عن فرديتها والانخراط في عملية شاقة من أجل بناء بديل.
تقاطعت تلك الروافد معًا، على تناقضها، حول اعتبار نظام مبارك استثناءًا من ميل تاريخي عالمي الطابع، يقتضي والحال كذلك تدخلًا طارئًا بدوره لا يسعه إلا أن يكون متعاليًا على الطبقات والانتماءات الحزبية والأيديولوجية الضيقة. عبّر عن هذه الرؤية بصفاء عبد الحليم قنديل، المتحدث الرسمي باسم حركة «كفاية» ذائعة الصيت، حين أعلن في أحد كتاباته أن «نظام مبارك هو نظام هارب من التاريخ». كذلك تبلورت المسألة الجيلية كنقطة تقاطع، إذ جرى إدراك أزمات الحكم القائم بشكل جزئي كأزمة شيخوخة أو تهميش للشباب كفئة اجتماعية متميزة تخترق الانتماءات الطبقية. أما الديمقراطية التمثيلية فقد احتلت مكانة مركزية بدورها، وإن كانت ديمقراطية منزوعة الدسم تمامًا: فهي إما طريق لاستعادة هوية وطنية محافظة واجتماعية بطبيعتها، أو طريق للحاق بالعالم المتقدم حيث الانتخابات الدورية والنزيهة هي «علامة جودة» تتحصّل بمقتضاها الأمم الواعدة على ثقة العالم، أو طريق يسمح للفرد المجرد بعيش حياته بسلام دون تدخل من المجتمع الأوسع. لا مكان في هذه الديمقراطية لصراعات ومصالح متناقضة، أو تضامن طبقي عابر للنزعة الفردية، بقدر ما هي أشبه بطاولة عشاء ضخمة يجلس عليها الملايين ليلًا يتسامرون ويختلفون في هدوء قبل الذهاب لأعمالهم في الصباح حيث لا مجال إلا للمعرفة المجردة، والعمل الدؤوب المتسامي عن الكلام النظري، والهادف للتحقّق الفردي الأناني.
ضغط ذلك المزاج العام على كافة التيارات السياسية وترك أثره عليها. تكيّف قطاع من التيار الإسلامي، على سبيل المثال، مع هذه النوازع، عبر ظاهرة الدُعاة الجدد، شبيهي الدعاة الإنجيليين بتركيزهم المفرط على بناء الذات القادرة على اقتحام السوق الرأسمالي. وهو ما حقق نجاحًا ضخمًا بالفعل ولكن، مرة أخرى، عجز التنظيم الإخواني المغلق عن استيعاب تلك الحساسيات الجديدة في صفوفه فظلت هائمة تنتظر تنظيمًا لا حزبيًا أو فوق حزبي وجدته في مؤسسات العمل الاجتماعي الخيري بالأساس. في المقابل، بدأت قطاعات أخرى من الإخوان في التماهي مع الصيغة الوطنية الاجتماعية المحافظة والتخفف من الحالة الإخوانية المغلقة إلى الحد الذي انتهى بهم إلى الإهمال التام للجوانب الدعوية والتركيز على الجوانب الحركية والسياسية. حزب العمل، بتصورات قياداته الغامضة عن «اليسار الإسلامي» كان إرهاصةً لهذا التوجه، ثم تلاه في مرحلة لاحقة حزب الوسط المنشق عن الإخوان. اليسار الناصري بدأ في التحول على طريقته عبر التشدد في الطابع الوطني الاجتماعي لخطابه، وتطعيمه بأبعاد ديمقراطية. فظهرت المجموعات الناصرية الجديدة ممثلة في ظاهرة حمدين صباحي وحزب الكرامة. حزب التجمع استمر في النزيف المستمر في الإمكانيات والعضوية والصلات الجماهيرية، واستسلم الخط الدعائي للحزب للمزاج الاجتماعي الوطني المذكور، مع التطرف في اللهجة العلمانية لمواجهة «التطرف الإسلامي».
من قلب هذه الحالة، تبلور تكتيك الجبهة الوطنية الجامعة للمرة الأولى تقريبًا منذ يوليو 1952. مع نهاية الثمانينات أصبح من المعتاد تشكيل جبهات للمعارضة تضم إلى جانب الأحزاب الرسمية كافة القوى المحجوبة عن الشرعية – على رأسها الإخوان بطبيعة الحال- وتبدأ في سرد المطالب وإصدار البيانات دون أن تمتلك أي من تلك الجبهات مصدرًا وحيدًا للقوة المادية يسمح لها بمناوءة هذا النظام في الشارع، ومرة أخرى اكتفت تلك الجبهات بالنداءات الغامضة للشرفاء والديمقراطيين والوطنيين في السلطة، في تعبير واضح عن خيال أعم لا يرى في نفسه أهلًا لمناطحة هذه الدولة بقدر ما يرى في عناصر بيروقراطيتها ممثله الطبيعي وملاذه الوحيد.
ثم مع تجربة «لجنة الدفاع عن الديمقراطية» في نهاية التسعينيات، أو ربما قبلها بقليل، تحولت الجبهات إلى «حركات». فانفتحت عضويتها لتشمل الأفراد والشخصيات العامة في واحدة من أغرب صيغ العمل السياسي الممكنة، حيث يتساوى مواطن واحد مع تنظيم كامل تُقدَّر عضويته بمئات الآلاف كتنظيم الإخوان، فقط لأن الطرفين عضوان في جبهة، وتتحول «الشخصية العامة»، سواء كانت مسؤولًا بيروقراطياً أو قاضٍ سابقًا منشقًا أو كاتبًا ذائع الصيت، إلى ظاهرة تصنع لنفسها خطًا سياسيًا قائمًا على قدم المساواة مع الأحزاب والمنظمات الجماهيرية. من يحتاج لأحزاب إذن إذا كان من الممكن التحول لشخصية عامة ببرنامج وخط سياسي ودعائي وتكتيك عمل، ولا ينقصها إلا لائحة داخلية؟! وإذا كان النشاط الممكن من داخل الأحزاب لا يختلف كثيرًا عن ذلك الممكن داخل «الجبهات» و «الحركات»، فلماذا يحمّل الناشط نفسه مثالب الالتزام والصراعات الداخلية والحوارات المضنية في الأحزاب؟! والانتقادات الموجهة لتلك الصيغة الغريبة كان مردودًا عليها سريعًا باتهامات السلطوية والماضوية.
أما من لم يقتنع بالجبهات الوطنية، أو بالأحزاب القائمة، فأمامه منظمات المجتمع المدني، التي تحولت بدورها لموقع يعاد من خلاله إنتاج الحالة المعادية للحزبية نفسها. منظمات المجتمع المدني، وإن كانت تسمح بدمقرطة أعمق للوعي بحكم الاطلاع الذي تتيحه للناشط على تجارب أكثر تنوعًا وثراءًا في العالم وما تتيحه من اكتساب مهارات ومعارف أعقد بكثير من تلك المتاحة في المجال السياسي المخنوق، إلا أنها تخلق حالة من الارتياح للعزلة عن الجماهير الأوسع، وتعفي الناشط من التفكير في تجاوزها عبر خلق مجال جاهز من التوافق الكامل بين الأعضاء أو العاملين على مجموعة من القيم دون عناء التبشير والدعوة والتفاوض ومَفصَلة المصالح. وبالطبع يكفي التمويل الأجنبي الناشط عناء بناء قاعدة من الممولين المحليين أو المتبرعين المرتبطين بالمنظمة بشكل عضوي؛ التمويل الأجنبي متاح لمنظمة المجتمع المدني بقدر احترافيتها، وهي ليست مسألة صعبة. والجمهور لدى منظمة المجتمع المدني هو إما «منتفعون» أو «أصحاب مصلحة»، ولا يُنتظر من منظمة المجتمع المدني، حقوقية كانت أو تنموية، أن تتحول علاقتها بجمهورها إلى علاقة تمثيل. وبالتالي، تحوّل الحال داخل المنظمات سريعًا إلى برامج تجرّ برامج، ومشاريع تسلم أخرى، وحملات لا يسمع بها أحد، ترضي ضمير القائمين عليها وتتوازى مع حالة الانهيار العام. تكيفت نخبة مبارك سريعًا مع هذه الحالة، مع شد وجذب لم يتطور أبدًا إلى صدام مفتوح أخذًا في الاعتبار حاجة هذا النظام للجهات المانحة الدولية التي كانت شريكة لبعض هذه المنظمات. هنا أيضًا كانت العديد من وجوه الحركة الشيوعية الثالثة حاضرة، بل مبادرة وقائدة، حيث وفرت المنظمات بيئة مريحة بعيدة عن ملل «الجبهات الوطنية» أو الأحزاب الرسمية، تتيح فرصة لمراجعة التصورات القديمة والإطلاع على ما يجري في تحولات في عالم ما بعد الحرب الباردة، ولكنها لا تقدم بديلًا بأي حال من الأحوال للمعضلة الأصلية، وهي عدم القدرة على التواصل مع حاضن جماهيري يُعتد به.
على هذه الخلفية الساخطة تشكّلت الكتلة الحرجة من النشطاء التي قادت الحراك المفضي للحظة يناير 2011. مع اشتداد وتيرة انغلاق الطغمة الحاكمة على نفسها، إلى الحد الذي سعت فيه رموزها إلى الدفع بجمال مبارك لوراثة أبيه، ظهرت سريعًا طبعة جديدة من تكتيك الجبهات الوطنية ممثلة في حركة «كفاية» وحركات أقل شأنًا، اعتمدت في مجملها على خزان متاح من المقتلَعين السابق الإشارة إليهم، أو أنصار منطق الرشادة والكفاءة الاقتصاديين. سمح الخطاب الوطني الاجتماعي الجامع لحركة كفاية – الذي خرج بالأساس من عناصر ناصرية وإسلامية منشقة عن الإخوان – بالمرونة الكافية لاستيعاب تلك الحساسيات المتناقضة. أما «حركة 6 أبريل»، التي حاولت النأي بنفسها عن النخب القديمة والاستثمار في المسألة الجيلية مستلهمة خبرات الثورات الملونة في أوروبا الشرقية، ومزاج شباب الطبقة الوسطى المحلّق بعيدًا عن نزعة الوطنية الاجتماعية المحافظة، فلم تخرج هي ذاتها عن خطاب «كفاية» نفسه المعادي للأحزاب، وعن رؤيتها للتغيير بوصفه عملية متعالية على الحزبية تحدث لمرة واحدة وتنتهي حتمًا بالانحياز لأحد أطراف الطبقة الحاكمة.
ولم تنجح موجة الاحتجاجات العمالية والاجتماعية المتفجرة منذ 2006 في خلخلة هذا الخطاب. فكما كان الحال مع مثيلاتها في منتصف السبعينيات، ولدت تلك الموجة مفتقرة للتنظيم والتمويل، وتحركت في أفق بالغ المحدودية يقتصر على إمطار المسؤولين الرسميين بالمطالب دون قدرة على انتزاع تنظيم ذاتي مستقل أو طرح بديل للسياسات المالية والاقتصادية القائمة. حتى تجربة «النقابات المستقلة» التي تشكلت خارج الاتحاد العام للنقابات العمالية، فقد انتهت إلى مجرد كيانات تسعى لاعتراف الاتحاد الرسمي وانخرط أغلبها بشكل طوعي في هياكله بعد بضع سنوات قليلة. في المقابل، لم تولِ الجبهات المعارضة الجديدة أو الحركات الشبابية اهتمامًا يذكر لخصوصية هذه الموجة الاحتجاجية البازغة. على العكس، تحولت هذه الموجة في خطابات هؤلاء النشطاء لمجرد هامش إضافي على متن رئيسي يدور حول ضرورة الإطاحة بمبارك وولده وتسليم سلطة الدولة لجناح وطني شريف يستطيع التعامل مع تلك الاحتجاجات بعدالة وإنصاف. لا يجب أن ننسى أن هذه الخطابات الوطنية والديمقراطية الجديدة قد تشكلت على وقع هاجس الانحدار الطبقي لصفوف الطبقات الأدنى، أو التمسك بطبعة فجّة من فردية خام أنانية لا تستطيع التأمل خارج حدود ذاتها. ومن ثم فمن الطبيعي أن تأتي رؤيتها لتلك الاحتجاجات على هذا القدر من الضبابية والتعالي.
في هذا السياق، ظهرت أخيرًا «الجمعية الوطنية للتغيير» المجتمعة حول هدف الدفع بالدكتور محمد البرادعي مرشحًا لرئاسة الجمهورية. والأخيرة كانت الأكثر نجاحًا بطبيعة الحال من بين الجبهات الوطنية أخذًا في الاعتبار دورها المحوري في إسقاط مبارك، ولكنها كانت كذلك الأكثر تعبيرًا عن مثالب وغرائب تكتيك الجبهة الوطنية، حيث ضمت ممثلًا لتنظيم الإخوان المسلمين بجوار أديب كعلاء الأسواني مثلًا؛ وصحفي مشهور كإبراهيم عيسى، والجميع يتحدث على قدم المساواة ويقدم تكتيكًا مختلفًا. ونقطة تجمع «الجمعية» نفسها كانت بيروقراطيًا مصريًا سابقًا خدم طويلًا في الأمم المتحدة ولم يترك مناسبة إلا وعبّر فيها بكل الصيغ الممكنة عن ضيقه بالأحزاب واعتبارها كيانات تجاوزها الزمن. والمسكوت عنه في خطاب البرادعي كان انتظاره أن تبادر أحد الأطراف المتململة من صعود جمال مبارك – الجيش بوضوح – إلى استدعائه شخصيًا على رأس حكومة وفاق وطني لقيادة مرحلة تحول ديمقراطي وفقًا لكتالوج المنظمات الدولية… هكذا كان يفكر ويتحدث رجل رأى فيه البعض إمكانية قيادة ثورة سياسية ولا أقل!
يسار جديد يبحث عن دور
بالعودة لليسار.. حاول اليسار الالتحام بتلك التجارب الجبهوية الجديدة مع محاولة نقدها من داخلها. للأمانة التاريخية، كان اليسار في هذا الوقت متقدمًا في رؤيته بمراحل على القوى المشكلة للكتلة الساعية للتغيير، وإن كان الأضعف تنظيميًا وماليًا. اتخذت تلك المحاولات اليسارية هنا ثلاثة مسارات يمكن المغامرة بجمعها تحت عنوان الموجة الرابعة من الحركة اليسارية، أو اليسار الجديد لأغراض التبسيط. وتشكلت في مجملها ممن تبقى من عناصر الحركة الشيوعية الثالثة مع جيل جديد من المثقفين من مواليد نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بالأساس.
يميز هذا الجيل الجديد قطيعته الكاملة مع الناصرية التي لم يعش فترة إنجازاتها وما جرّته من ارتباكات في الرؤية لدى أسلافه. ويميزه كذلك تقديرٌ عميق لموقع الديمقراطية التمثيلية في أي برنامج نضالي جماهيري، كلحظة لا غنى عنها، قد تخضع للنقد ولكن لا يمكن التضحية بها أو المساومة عليها. ويميزه خلافٌ جذري مع خطابات معارضة مبارك المدنية من حيث استيعابه للتمايز الحتمي في صفوف الكتلة الغامضة المسماة بالشعب، والدور المحوري الذي يلعبه جهاز الدولة في إعادة إنتاج التفاوتات بينها، وأن أي تغيير ديمقراطي حقيقي لن يحدث من خلال ضربة واحدة ولكن عبر موجات من تبلور المصالح وتمايزها، وأن دور الدولة في هذا السياق لن يكون محايدًا بأي حال من الأحوال. ويميزه، أخيرًا، فهمٌ مرنٌ لتركيب معسكره الطبقي نفسه، وأنه يتمايز داخليًا على خطوط تماس دينية ونوعية لا يجوز التعاطي معها بخفّة، إذ أن هذه التمايزات نفسها تحول دون بناء هذا المعسكر كقوة اجتماعية قادرة على التأثير في عملية التحول الديمقراطي المنشودة.
إلا أن هذا الجيل كان يتحرك في سياق تهيمن عليه نزعة كارهة للحزبية، وكان لزامًا عليه التفاعل معها. بدا الأمر وكأن اليسار يسير فكريًا وتنظيميًا في اتجاه معاكس تمامًا لحركة الانتلجنسيا المصرية، وأنه يحاول في الوقت نفسه اللحاق بتلك الحركة، نتيجة انسداد سبل التواصل المباشر مع جمهوره المفترض، واحتياجه الدائم إلى «مُحلّل» أقوى. لم تكن المشكلة إذن في جمود اليسار الفكري. بالعكس، شهدت الفترة منذ نهاية التسعينيات وحتى ثورة يناير تطورًا نظريًا بالغ الدلالة وإسهامات فكرية ذات شأن. إلا أن المعضلة كانت في التفاوت الهائل بين رؤى اليسار وإمكانياته، واحتياجه الدائم للعمل من خلال جبهات وائتلافات الانتلجنسيا الغاضبة، وفي كيفية إدارته للعلاقة القلقة معها.
للتدليل على ذلك يمكن التعريج سريعًا على التجمعات اليسارية الثلاثة التي تشكلت في تلك الفترة. أولى هذه التجمعات، وأقدمها، هي جماعة الاشتراكيون الثوريون. تشكلت الجماعة في أوائل التسعينيات من عدد من المثقفين الشباب في عدد محدود من الجامعات المصرية والأجنبية. تبنت الجماعة منذ اللحظة الأولى بشكل كامل خط حزب العمال الاشتراكي البريطاني، وأُمميته، التي تشكلّت كانشقاق عن الأممية الرابعة، كبرى الجماعات التروتسكية في العالم. تميَّزَ طرح تلك الجماعة في بريطانيا، وفي مصر، بنفيها صفة الاشتراكية عن الاتحاد السوفيتي، ووصمها التجربة الصينية بالتبعية، واعتبار الإثنين محض تجارب لرأسمالية الدولة محكوم عليها بالعودة سريعًا لأحضان الإمبريالية. واقترن بهذا النقد المركب، تحليلٌ متطور للطور الليبرالي الجديد من النظام الرأسمالي، ونقدٌ لاذع كذلك لاجتهادات مدرسة التبعية التي كان لها حظ من الانتشار في مصر والمنطقة العربية، على اعتبار أن «فك الارتباط» مع السوق الرأسمالي العالمي يُعَدُّ من المستحيلات في ظل التشابك العميق بين البرجوازيات المحلية والأجنبية. يمكن اعتبار هذا الموقف استئنافًا لتراث الحركة الشيوعية الثالثة في التباعد الكامل والمبرم عن الهيمنة السوفيتية، والناصرية، وتبقى هذه الرؤى محلًا لجدال نظري معمق حول دقتها ومنهجيتها، ولكن يحسب لها تقدمها بخطوة أو خطوتين على السائد في مصر والمنطقة العربية من تحليلات في ذاك الوقت.
إلا أن هذا التطور الفكري لم يصاحبه أي تجديد على المستوى التنظيمي، بل بالغت الحركة في الالتزام النصوصي بالوصايا اللينينية في بناء التنظيم من حيث الهرمية والمركزية الديمقراطية ومنع التكتل أو التواصل الأفقي بين الأعضاء؛ كانت الحركة ترى أن مهمتها هي إعادة بناء التراث الماركسي في مصر من نقطة الصفر تقريبًا، ولم ينعكس انفتاحها للعمل الجماهيري على تمكين الكوادر الجديدة من المواقع القيادية، إذ يتطلب ذلك تشبعًا بـ «قوانين الإيمان» كاملة غير منقوصة. وبالتالي كانت الحركة تمر بدورات من التوسع والانكماش، ومع كل انكماش كان هناك انشقاق جديد. كان الانشقاق الأكبر قبل عامين فقط من ثورة يناير، عام 2009، وترتب عليه خروج كتلة كبيرة من النشطاء لتأسيس ما عرف وقتها بتيار التجديد الاشتراكي، الحامل للخطّ النظري نفسه للجماعة الأم. دار الخلاف، كالمعتاد، حول الموقف من الديمقراطية الداخلية والانغلاق التنظيمي الخانق الذي يعرقل الانفتاح على الحركة الجماهيرية. واتخذ المنشقون خطوة جريئة بتبني خيار العلنية بعد عقود من اضطرار اليسار، أو راحته، للعمل السري.
بالتوازي، ومع بداية الألفية، بدأت بعض وجوه الحركة الشيوعية الثالثة التي كانت ناشطة بالأساس في بعض منظمات المجتمع المدني الحقوقي، أو في المستويات الدنيا من حزب التجمع، في التلاقي مع عدد من المثقفين الماركسيين حديثي التخرج بحثًا عن إعادة تأسيس لتجربتها الشيوعية السابقة. سريعًا اكتشفت تلك العناصر معًا أن ما تتصدى له ليس استئنافًا لما مضى بقدر ما هو تجربة جديدة في ظروف وملابسات مختلفة، واستنتجت كذلك أن أي تجربة تسعى لانتزاع موطئ قدم لها في الطيف العريض المناهض لمبارك لا يسعها إلا أن تكون علنية، مفتوحة العضوية، بما يستدعيه ذلك من قواعد مؤسسية شفافة وديمقراطية. فتأسس «المركز المصري الديمقراطي الاجتماعي» في عام 2003 غداة سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين، واختيار صيغة «المركز» هنا كان للتحايل على العائق القانوني ليس إلا. ومن اللحظة الأولى أعلن المركز في بياناته نقدًا حادًا لهيمنة النزعة الوطنية المثالية والحس الشعبوي على الحركة المناهضة لمبارك. تكامل هذا النقد مع اجتهادات مجموعة أخرى أسست دورية البوصلة، والتي وصفتها في العنوان الفرعي للإصدار «كصوت ديمقراطي جذري». ومنذ العام 2005 ظلت العلاقة بين المركز الديمقراطي الاجتماعي والبوصلة عميقة إلى الحد الذي دفع البعض للاعتقاد أن البوصلة هي الذراع النظري للمركز.
حفلت صفحات البوصلة، وبيانات ومواقف المركز، بالدعوة لخيار العلنية والديمقراطية التنظيمية والتحرر الكامل من إرث الناصرية في الرؤية والعمل بما يستدعيه ذلك من التوجه المباشر للطبقة العاملة وغيرها من الشرائح والفئات الخاسرة من سياسات الليبرالية الجديدة ومحاولة تعبئتها بشكل مستقل تمامًا عن الحواضن الإدماجية التي دجّنتها طويلًا، وكذلك بعيدًا عن وصاية الجبهات الوطنية للمعارضة. كذلك، بدأت تنفتح تلك المجموعة على روافد فكرية جديدة من خارج الجوّ الماركسي، وعلى رأسها بالطبع الحركة النِسوية. استطاعت التجربتان التواصل مع عدد من الناشطات النِسويات الجدد القادمات بالأساس من داخل منظمات المجتمع المدني أو النشاط الطلابي دون خبرة سابقة تذكر في المنظمات الماركسية. كما انفتحت المجموعة على اتجاهات غير ماركسية في سعيها لتأصيل نقدها لتراث اليسار المصري. ما بعد البنيوية، والديمقراطية التشاركية، أو الديمقراطية التدبرية، وحتى الفوضوية، كانت كلها تقاليد نظرية تنهل منها المجموعة دون تفضيل وبشكل انتقائي ومرن، ودون التقيد بتفسيرات جامدة بعينها للكثير من القضايا والإشكاليات.
أطلق رموز المجموعة، في المركز والبوصلة، على أنفسهم تسمية «اليسار الديمقراطي»، كتمييز لهم عن اليسار السلطوي سواء كان ناصريًا أو ماركسيًا، ولم يكن المعني بالتسمية هو مدلول الاشتراكية الديمقراطية التاريخي بأي حال من الأحوال. بالعكس، كانت صفحات البوصلة تفيض بنقد مركب لمسئولية الاشتراكية الديمقراطية عن هيمنة الوعي الدولتي في صفوف اليسار أخذًا في الاعتبار اعتمادها الحصري على جهاز الدولة في إنجاز تصوراتها. كان تعبير اليسار الديمقراطي أكثر جذرية مما يبدو عليه ومما التصق به من انتقادات. المهم، أن المجموعة، وعلى ما أنجزته من نقلات فكرية مهمة وتجارب عمل جماهيري ذات دلالة، وقعت ضحية مرونتها الفكرية المبالغ فيها أحيانًا فلم تتمكن من أن تخلق جماعة متماسكة يجمعها برنامج محدد وخط سياسي معلن وواضح. تعثرت الجماعة سريعًا في كل محاولة لإنجاز تلك المهمة، وبدا أن الرغبة في التجريب سواء على الصعيد الفكري أو الحركي، تتجاوز الرغبة في التأسيس. ومن ثم، فعلى الرغم من إسهامها الفكري الكبير، كان نصيبها من المساهمة في الفعاليات السياسية في هذا الوقت محدودًا.
يأتي بعد تلك المجموعتين، إسهامات أقل تأثيرًا، وإن لم تكن أقل دلالة. على سبيل المثال، تشكلت كتلة معارضة صلبة داخل حزب التجمع – ضمت بدورها نشطاء من الحركة الثالثة ووافدين جدد – ترفض مواقف الأمين العام للحزب، ورئيسه في مرحلة لاحقة، وهو الدكتور رفعت السعيد، الأمين التاريخي على ميراث حركة حدتو في السياسة المصرية. بالنسبة لتلك الكتلة، كانت مواقف السعيد مهادنة للنظام ومفتقرة للديمقراطية الداخلية ومسئولة عن تراجع حضور الحزب في المجال العام. إلا أن هؤلاء النشطاء لم يقدموا على مراجعات فكرية ذات شأن شبيهة بتلك التي كانت شائعة في صفوف «الاشتراكيين الثوريين» أو «اليسار الديمقراطي».
الغرض من هذا الإسهاب الطويل هو التشديد على ما ذكرناه من ضرورة التخلي عن الصورة الذهنية الشائعة عن يسار متكلس جامد التفكير يراوح في مكانه. بالعكس، كانت تلك المرحلة هي الأغنى والأكثر حيوية ربما منذ عقود طويلة في مسار اليسار المصري، استشرف فيها اليسار ثورة يناير وحذر من الكثير من المزالق التي انساقت إليها القوى المدنية الديمقراطية الأخرى. خلال هذه الفترة على سبيل المثال، انفردت الأصوات اليسارية داخل حركة كفاية بإضافة «لا» ثالثة للاءتيّ كفاية الشهيرتين (لا للتمديد، لا للتوريث)، وهي «لا لحكم العسكر». هذا الشعار رُفع في عدد من التظاهرات بدءًا من عام 2004 على خلفية مطالبة المتحدث الرسمي لكفاية لرئيس مخابرات مبارك، اللواء عمر سليمان، بالتدخل لإجهاض سيناريو التوريث.
يناير ومابعدها: غرام سريع ونفعي مع الأحزاب
كما هلل أفندية ما قبل يوليو 1952 لانقلاب الضباط الأحرار، رحب أفندية ما قبل 2011 بإزاحة الجيش لمبارك. وأخذًا في الاعتبار التشابه النسبي بين خطابات الانتلجنسيا في كلتا اللحظتين، فلم يكن مستغربًا قبول الغالبية الساحقة من القوى التي تصدت لمحاولة قيادة الثورة وتشكيل أفق لها بانفراد الجيش بالسلطة بعد تنحي مبارك. حتى الأصوات القليلة التي اعترضت من البداية على انفراد المجلس العسكري بإدارة المرحلة الانتقالية، كالبرادعي مثلًا، لم يكن اعتراضها نابعًا عن تصور عن اختلاف حتمي وانقسام في المعسكر العريض للثورة يقتضي والحال كذلك إدارة مدنية منتخبة، بقدر ما كان اعتراضها مدفوعًا بالقلق من هيمنة الإخوان، شركاء جبهاتهم الوطنية السابقة، على ترتيبات المرحلة الانتقالية. وكان ذلك يقتضي، من وجهة نظر تلك الأصوات، تسليم إدارة المرحلة لمجموعة منتقاة بعناية من الشخصيات النزيهة غير الحزبية وغير المنتخبة بدورها.
في الحقيقة، هذا القلق من هيمنة التيار الإسلامي سيصبغ التجارب الحزبية منذ ثورة يناير بطابعه، ولم تنج التجارب الحزبية اليسارية من هذا التأثير. فكرة الجبهة الوطنية التي هيمنت على خيال المعارضة المدنية لعقدين تقريبًا من الزمن لم تكن مؤهلة للتعامل مع احتمال صعود أحد أطرافها منفردًا للسلطة. أشرنا مرارًا في الأجزاء السابقة أن تصور التغيير الممكن من داخل هذا الخيال يتمحور حول تمكين أحد أجنحة النخبة التحديثية من سلطة الدولة لتستأنف مهامها التاريخية بمساعدة الانتلجنسيا المدنية نفسها، ولكن أن يؤدي التغيير لتمكن النخبة الإسلامية من هذه السلطة فكان يعد خيانة لفكرة الجبهة الوطنية نفسها وتهديدًا لمكاسب التحديث المحدودة التي أنجزتها الدولة الوطنية. على الجانب الآخر، قرأت جماعة الإخوان المسلمين ما حدث في يناير بوصفه تصديقًا تاريخيًا طال انتظاره لمنهجها في التغيير، أي بناء هوية منتسبيها وفرضها لسياق اجتماعي وثقافي على الأرض يحمل الطغمة الحاكمة على تسليمها شطرًا معتبرًا من سلطة الدولة. وبالتالي، اعتبر الإخوان ما حدث في يناير بمثابة رخصة للتحلل من صيغة الجبهات الوطنية التي بخست الجماعة ما تراه حقها بحكم الحجم والتاريخ. هنا أيضًا لم يكن الإخوان في وارد التفكير خارج إطار التحالف مع الجيش باعتباره صاحب السلطة الفعلي. وفي النهاية تلاعب الجيش بهواجس ومخاوف الطرفين لصالحه كما هو معلوم.
فرضت الاستحقاقات الانتخابية التي طرحها المجلس العسكري على عجل خيار القوائم الانتخابية ثم التحزب على القوى المدنية لوقف الصعود الإسلامي. والأكثر إثارة في الأمر، هو أن تباعد الجيش المؤقت عن نخبة مبارك، ومن ورائها وجوه الرأسمالية الداعمة، دفع الأخيرة بدورها إلى الدخول للمعترك الانتخابي ثم الحزبي؛ والهدف في هذه الحالة كان مشاكسة المجلس العسكري وإجباره على العودة إلى التحالف الطبيعي القديم دون شراكة الإخوان المزعجة. لم تكن تلك الطغمة الرأسمالية، بحكم طابعها الأوليجاركي المغلق وخصخصتها لسلطة الدولة، في وارد القبول بشراكة مع أي قوة تتحصل على نفوذها من الشارع متقلب الأهواء. حتى الجماعات السلفية البعيدة عن المعترك السياسي دخلت لعالم الحياة الحزبية من بوابة الجزع من الإخوان والخوف من انفرادهم بقيادة الصف الإسلامي وتهميش باقي القوى. وأخيرًا كان هناك الرقم القبطي الصعب. فئات وشرائح الطبقة الوسطى القبطية كذلك أحسّت بالخطر بعد عقود من الركون إلى معادلة مجحفة -ولكنها وفرت جدارًا عازلًا بينها وبين الإسلاميين على الأقل- قوامها التسليم الكامل بسيطرة الطغمة الحاكمة، واعتبار الكنيسة ممثلًا شرعيًا ووحيدًا لها في عالم الدولة المُخصخصة، مقابل حماية أمنية عرجاء واعتراف جزئي بقدر من الحقوق المدنية والسياسية والقبول بوجوه برجوازيتها كأعضاء كاملي الأهلية في نادي الطغمة.
باختصار، اندفع الجميع لخيار التحزب على مضض وعجل وبهدف إفساد تحالف الجيش والإسلاميين بالأساس، وليس بهدف بناء قاعدة اجتماعية تمتلك أسباب الحياة. دخلت تلك القوى المعترك الحزبي وهي تعد الأيام والليالي التي ستقضيها قبل الخروج السريع منه. فكانت أحزاب الرأسماليين والمحاسيب القدامى (المصريين الأحرار، المؤتمر، الحرية، ثم الحركة الوطنية في مرحلة لاحقة) مجرد لافتات تحظى بتمويل سخي وتعول على من تبقى من رموز الحزب الوطني للترشح على قوائمها الانتخابية. ونجح حزب «المصريين الأحرار» على وجه الخصوص، وبالإفادة من تزعم رجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس له وعلاقته المعقولة مع قيادات الكنيسة في هذا الوقت، في الاستحواذ على نصيب كبير من التأييد القبطي عضويةً وتصويتًا. أما أحزاب القوى الديمقراطية القديمة (الوفد والتجمع والناصري) فقد أعادت موضعة نفسها لتلتحق بركب التعبئة ضد القوى الإسلامية وضمت على قوائمها كذلك ما تيسر من نخبة الحزب الوطني القديمة، ولم تستغل الفرصة لا في تجديد دمائها ولا في تطوير بناها التنظيمية. وعلى الهامش تشكل عدد أقل من الأحزاب التي سمت نفسها ليبرالية (كحزب العدل وحزب مصر الحرية وفي مرحلة لاحقة حزب الدستور) ضمّت الكتلة الأكبر من الشباب أسير خطاب الكفاءة والرشادة، والذي رأى في العمل الحزبي صنوًا لعمل الشركات الكبرى، فكان الاهتمام البالغ بـ «البراندنج» أو العلامة التجارية، والدعاية الديمقراطية المجردة، على حساب بناء القواعد وضمان الاستمرارية المؤسسية والوضوح البرامجي. وتشكل على عجل كذلك «حزب النور» السلفي كمعبر عن كبرى الجماعات السلفية المنظمة وهي جماعة الدعوة السلفية السكندرية، ثم حزب «البناء والتنمية» كواجهة للجماعة الإسلامية التي تركت السلاح منذ نهاية التسعينيات.
اليسار في متاهة «الحزب الجماهيري الواسع»
كانت جماعات اليسار وحدها تقريبًا، وبدرجة أقل القوى الناصرية خارج الحزب الناصري، وجماعات من المنشقين عن الإخوان الذين راعتهم الانتهازية الفجة لقيادة الجماعة وأغلبية كوادرها، هي القوى التي تعاملت مع التنظيم الحزبي غداة تنحي مبارك بالجدية الكافية. لم تكن الجماعات اليسارية في هذا الوقت بمنأى عن حالة الفزع العام من الصعود الإسلامي، ولكنها سعت إلى وضع هذا الصعود في مكانه الصحيح بوصفه التفافًا على مسار الثورة الذي كان سيفضي حال تجذره إلى مواجهة شاملة مع أجنحة الطغمة الحاكمة مجتمعة. رأت أغلبية الجماعات اليسارية في الإسلاميين عدوًا للثورة، لا عدوًا للدولة. ومن ثم كان تحزّبها ذو هدف مزدوج: وقف الزحف الإسلامي وتدشين عملية طويلة من تنظيم الجمهور بشكل ديمقراطي لاستكمال مهمة استعادة المجال العام الشاقة. ولكن من نافل القول كذلك التشديد على أن الجماعات اليسارية التي قررت التحزب كانت الأفقر ضمن الطيف المندفع للحزبية، والأقل عددًا، والأضعف تنظيمًا، ناهيك عن أن جمهور عضويتها المستهدف من الشباب الثوري لم يكن يشاركها رؤيتها المعقدة.
طُرحت في مارس 2011 مبادرة تأسيس «حزب علني جماهيري واسع» يضم الجماعات اليسارية المختلفة (اليسار الديمقراطي والاشتراكيين الثوريين وتيار التجديد الاشتراكي ومعارضة حزب التجمع التي انشقت عن حزبها فور تنحي مبارك). تصدى لهذه المهمة عدد من القيادات التاريخية لليسار التي تحظى باحترام من كل هذه الأطراف. وأعادت الدعوة لتدشين هذا الحزب التذكير بالهدف المزدوج سابق الإشارة إليه: وقف الصعود الإسلامي واستكمال مسار الثورة.
لاقت الدعوة قبولًا حسنًا في البداية من تلك المجموعات قبل أن تتفرع سريعًا لتجارب ثلاث. سبب التفرع هو الاختلاف على كيفية التعاطي مع جمهور الثورة نفسه الذي يعادي الإيديولوجيا والحزبية وتهيمن عليه فكرة الجبهة الوطنية الجامعة. رأت جماعة من المناضلين الذين لبوا النداء أن حالة هذا الجمهور لا تسمح بالانضواء في حزب يساري قحّ – حتى ولو لم يكن حزبًا عقائديًا مركزيًا – بقدر ما أن المطلوب هو تأسيس حزب ليسار الوسط يجمع كتلة حرجة من هذا الجمهور وتشكيل منبر، أو كتلة، يسارية جذرية من داخله. في المقابل، انحازت رؤية أخرى لفكرة الحزب اليساري «الصافي»، أو الاشتراكي، على اعتبار أن الانفتاح الذي تلى تنحي مبارك قد يسمح لمثل هذه التجربة بالنمو. انحاز قسم من نشطاء «اليسار الديمقراطي»، وقلة من المنشقين عن حزب التجمع، للفكرة الأولى، في حين انحاز تيار التجديد الاشتراكي، والغالبية العظمى من منشقي التجمع، وقسم آخر من نشطاء «اليسار الديمقراطي» للفكرة الثانية. أما منظمة الاشتراكيين الثوريين، وبرغم انحيازها للفكرة الثانية، إلا أنها رأت في نفسها هي دون غيرها، نواة هذا الحزب الجماهيري ومن ثم فلا داعي للانضمام لآخرين قد يشوشون على خطها الفكري والسياسي. أسست الجماعة الأولى «الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي»، في حين أسست الجماعة الثانية حزب «التحالف الشعبي الاشتراكي»، وأخيرًا، قدمت جماعة الاشتراكيون الثوريون الدعم لعدد من الكوادر النقابية المستقلة التي طمحت لتأسيس ما عرف باسم حزب العمال الديمقراطي.
كانت تجربة الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي هي الأكبر من حيث العدد والتمويل. فقد استطاعت المجموعة الداعية لتأسيسه اجتذاب عناصر من البورجوازية المتوسطة لفكرتها، وسحبتها بعيدًا عن أحزاب الرأسمالية القحّة. وكذلك نجحت بفضل علاقات وثيقة لبعض المثقفين الديمقراطيين الأقباط في بناء علاقة جيدة مع عدد من التجمعات القبطية الشابة وبعض قيادات الكنائس المحلية، خصوصًا في صعيد مصر. وأخيرًا نجحت في اجتذاب قطاع من الكوادر الشابة الناشطة في التعبئة الجماهيرية التي أفضت للحظة يناير، وإن كان بدرجة أقل من الأحزاب الليبرالية.
يمكن القول، مع المغامرة بكثير من الاختزال والتبسيط، أن المجموعة التي قررت تأسيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي، قد وقعت هي نفسها أسيرة لمزاج الجمهور الذي سعت لاجتذابه بدلًا من التأثير في هذا الجمهور وجذبه لأرضيتها. ويعود ذلك بالطبع لقلة إمكانياتها الحركية والمالية والتنظيمية إذا ما قورنت بالكتل التي وفدت عليها. منذ البداية هيمن هاجس وقف الإخوان بأي ثمن على هاجس استكمال الثورة، وهو ما قاد الحزب إلى تحالفات مع القوى نفسها التي تظهر في تحليلات مؤسسيه كمعادين أو خصوم لجمهور ثورة يناير. تحالف الحزب مثلًا مع حزب المصريين الأحرار في خضم السباق الانتخابي لأول برلمان بعد تنحي مبارك في نهاية 2011. وكان لهذا التحالف، الذي عرف بتحالف «الكتلة المصرية»، وضمَّ عددًا من الأحزاب الأصغر، أثرٌ سلبيٌّ في صورة الحزب التي تم اختزالها لمجرد حزب ليبرالي علماني، وتاهت في ثنايا هذه الصورة التحليلات المعقدة لمؤسسيه. وانعكس ذلك بدوره على برامج الحزب الانتخابية والسياسية التي خرجت غائمة مفتقرة للتحديد المطلوب والضروري. كذلك كان نشاطه التثقيفي والتكويني محدودًا للغاية، أخذًا في الاعتبار التمايزات الكبيرة بين منتسبيه.
انتهى الأمر بخروج القسم الأكبر من عضوية الحزب، وانفضاضها تقريبًا عن السياسة، بمجرد عزل الجيش لمحمد مرسي وحكومته. كان يبدو للقسم الأكبر من العضوية أن الهدف قد تحقق ومن ثم فلا حاجة للعمل الحزبي بعد الآن. انفضت الوحدات الحزبية سريعًا كما تشكلت سريعًا، وانسحب الممولون، على قلتهم من الأصل، تاركين الحزب يحاول البقاء على قيد الحياة في بيئة تزداد اختناقًا يومًا بعد يوم ولا يملك في مواجهتها إلا رخصة قانونية انتزعها في ظروف الانفتاح الاستثنائية. كان يمكن لتجربة التجميع تلك أن تتمخض عن شيء كبير وقابل للاستمرارية لو توافر سياق مستقر من الانفتاح، ولو لم يهيمن الهاجس الإخواني بهذا الشكل. تصوُّرُ إمكانية بناء حزب يسار وسط واسع من العدم تقريبًا في هذه الظروف الاستقطابية كان تصورًا خاطئًا منذ البداية، من وجهة نظري، وقاد للمأزق الحالي الذي يعاني منه الحزب. يسار الوسط ظهر تاريخيًا كنتيجة للصراعات الاستقطابية ولم يكن في أي وقت نقطة بداية، ولا يمكن اختراع «الوسط» كنقطة بداية على أي حال.
حزب التحالف الشعبي الاشتراكي وقع أسير جمهوره المفترض هو الآخر، وإن بطريقة مختلفة. اجتذبت الدعاية الجذرية للحزب عددًا من الشباب الثوري المعجب بشعار «استكمال أهداف الثورة»، الذي رفعه الحزب في الانتخابات البرلمانية الأولى بعد تشكيله لقائمة «الثورة مستمرة». كما نجح الحزب في ضم عدد من الكوادر النقابية العمالية والمهنية، وبدا أنه يسير بخطى معقولة على طريق تحقيق هدفه المزدوج. إلا أن الحزب تمزّقَ سريعًا بين ميلين: الهاجس الإخواني الذي يقود إلى التحالف مع أيٍ كان لوقف هذا الصعود، ومن جانب آخر حالة شعبوية/ شبابية الطابع تربط بين إنجاز أهداف الثورة والاحتجاج الجماهيري المتواصل حتى ولو قادها ذلك للتحالف مع قطاعات إسلامية في بعض الأحيان. وجاءت انتخابات الرئاسة لعام 2012 لتفجّر هذا الخلاف وتعجل بنهاية التجربة. فبينما انحاز القطاع الخارج من تجربة حزب التجمع، الأكبر سنًا والأبعد عن أجواء شباب يناير، إلى طرح مرشح دعائي لهذه الانتخابات (النقابي أبو العز الحريري)، انحاز قطاع كبير من العضوية الشابة لخيارات مختلفة كانتخاب عبد المنعم أبو الفتوح المنشق عن الإخوان، أو القيادي الناصري حمدين صباحي، أو حتى المرشح الدعائي بدوره المحامي خالد علي. وفي جولة الإعادة بين رئيس وزراء مبارك الأخير أحمد شفيق وممثل جماعة الإخوان محمد مرسي، انحازت الغالبية لخيار المقاطعة، بينما قررت أقلية كبيرة – على رأسها مجموعة التجديد الاشتراكي – المشاركة وانتخاب محمد مرسي باعتباره أهون الضررين. فجّرَ ذلك الخلاف جدلًا طويلًا ومتشعبًا حول طبيعة التجربة ككل: هل يمكن الخروج مثلًا على الالتزام الحزبي علنًا أم أن القرار الديمقراطي الداخلي هو نهاية أي خلاف ويجب على العضو الالتزام العلني بقرار الحزب؟ ثم هل تعتبر آلية اتخاذ القرارات قبل انعقاد المؤتمر العام الأول آلية ديمقراطية بشكل كامل، أو على الأقل ممثلة لكافة الحساسيات الموجودة داخل الحزب، أم أن قدرًا إضافيًا من المرونة يجب توافره في تلك المرحلة الأولى على الأقل؟
هذه الأسئلة كانت أسئلة جديدة وفريدة في نوعها على تيار خرج من حالة اللاشرعية، أو النصف شرعية، إلى العلنية الكاملة في ظرف شهور وفي سياق ثوري لا يهدأ، ولم تتوفر له الأطر التنظيمية أو التقاليد السياسية الضرورية لبناء الثقة والوصول لتوافقات وحلول وسط. كان كل خلاف يستدعي مناقشة سياسية من البداية حول طبيعة القوى الإسلامية أو الليبرالية أو الدولة… إلخ. وفي قلب تلك الصراعات الدائمة، وفي ظل غياب المرجعية أو القواعد التنظيمية، تسود الشخصنة وتُخرِجُ الذوات المتضخمة أسوأ ما فيها.
المهم، مع انتخابات اللجنة المركزية الأولى، ولجوء جماعة منشقي التجمع لاستبعاد تيار التجديد الاشتراكي وكل المنحازين لرؤيته، حدث الخروج الأول لعدد معتبر من كوادر الحزب في منتصف2013. ومع أحداث يونيو في العام نفسه وما تلاها من عزل محمد مرسي، اتسعت الهوة تمامًا بين الحساسيتين، أو الهاجسين: مواجهة الإسلاميين مهما كان الثمن واعتبار أن المعركة معهم لم تنتهِ بعزل مرسي، أو استكمال مهمات الثورة، وهو الهدف الذي ازداد غموضًا وضبابية مع الواقع السلطوي الجديد. كانت الحساسية الأولى واضحة وتعرف تمامًا ما تريد ولديها تكتيك واضح وهو الرهان على الحكومة المدنية التي كلفها الجيش حتى الخلاص النهائي من الإخوان؛ في حين أن الحساسية الثانية لم تكن تعرف ما تريد وتطرح فكرة عامة تجر أسئلة إضافية أكثر مما تقدم إجابات. إدارة الحساسيتين كان مستحيلًا، ومرة أخرى لم يكن هناك نقطة مرجعية كوثيقة أو خط سياسي أو برنامج واضح يمكن الارتكان لها لحسم تلك الخلافات أو تقريب وجهات النظر على الأقل. كانت اللجنة المركزية والمكتب السياسي في حالة انقسام دائم خلال الشهور التالية، وكانت منافذ الحركة الجماهيرية تُغلق سريعًا. تجمد الموقف وبدا واضحًا للجميع أن لاشئ يبرر هذه الجدالات الدائمة، ولا التنازلات الممكنة، إذ يغيب الحافز من الأصل وهو وجود تعبئة جماهيرية تبرر هذا التنازل. فكان الخروج الثاني الأكبر والذي كتب عمليًا نهاية التجربة. مع نهاية 2013 تقدم تقريبًا ثلث اللجنة المركزية وحوالي 40٪ من المكتب السياسي باستقالاتهم من الحزب. ضمت المجموعة المستقيلة كل من تبقى من عناصر «اليسار الديمقراطي» وعددًا ضخمًا من المنضمين حديثًا من «شباب الثورة»، لتقتصر عضوية الحزب عمليًا على المنشقين القدامى عن حزب التجمع والكوادر المرتبطة بهم، متمسكين بالرخصة القانونية بدورهم.
تجمعت العناصر المستقيلة من التحالف الشعبي، وفي القلب منها المحامي الحقوقي اليساري والمرشح الرئاسي الأسبق خالد علي، وتنادت لتأسيس حزب يساري جديد في نوفمبر 2013 يستأنف تجربة التحالف الشعبي. تضمنت الدعوة لتأسيس الحزب إعادة التأكيد على الضرورة الملحّة لحزب علني ديمقراطي لليسار الجديد، وشمل تقريره السياسي الأول ووثيقته المعنونة «الهوية والمهام» تحليلًا أكثر تماسكًا لمأزق ثورة يناير، والثورات العربية بشكل عام، وتحديدًا واقعيًا لمهمات الحزب المنتظرة في هذا السياق الجديد وحصرها في العمل النشط لتنظيم جماهير المصريين في منظمات ديمقراطية مدنية طوعية تشكل حواضن لنهضة اليسار المنتظرة. ولا داعي للإسهاب في مدى صعوبة هذه المهمة في ظروف شديدة القمعية.
على أن معضلة «العيش والحرية» الأساسية لم تقتصر على تعقيد المهمة التي طرحها كوادره على أنفسهم – فهذا التعقيد يواجه الجميع على أية حال – بقدر ما أن الحزب الناشئ يواجه معضلة إضافية تتمثل في صعوبة إدارة العلاقة بين الكوادر اليسارية القديمة (نعم، أصبح المثقفون اليساريون من مواليد الثمانينيات كوادر قديمة!) وبين الوافدين الجدد- المعضلة نفسها التي واجهت الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي ولكن مع اختلاف طبيعة هؤلاء الوافدين. فبينما اغترف «الديمقراطي الاجتماعي» من الجماعة القبطية المتوترة وشباب «الكفاءة والرشادة» وبعض وجوه البرجوازية المتوسطة والصغيرة في الريف، لتشكيل قوام عضويته؛ كانت عضوية العيش والحرية تقتصر بشكل حصري تقريبًا على شباب المقتلعين الساعي لاستكمال «مهمات ثورة يناير» والمستبطن إحساسًا عميقًا بخيانة الجميع من إسلاميين وقوى سياسية مدنية، وقبلهم «مجتمع رجعي» حملوه مسؤولية خيانة كل الأطراف السياسية. وانعكس ذلك في ميل نشاطوي يعلي من شأن العمل الحركي، المقتصر بدوره على التظاهر أو التحريض، على ما سواه من عمل مرهق لبناء قاعدة اجتماعية أو بناء مؤسسات قابلة للحياة، أو تثقيف معمّق يمكّن العضوية الجديدة من استيعاب مجمل التراث النظري الغني لليسار في مصر والعالم، وكذلك استيعاب طبائع العصر الرأسمالي الجديد. هذا الانكشاف وعدم الجهوزية عرَّضَ الحزب الناشئ لضربات أمنية متتالية استنفذت، أو كادت، طاقة مؤسسيه.
كذلك، عرّضت هذه التركيبة القلقة الحزب لأسئلة غير اعتيادية لم تواجهها المنظمات اليسارية السابقة. فيضم الحزب في عضويته الشابة، مثلًا، نشطاء من حركة 6 أبريل ذوي الميول الشعبوية الجارفة، مع ناشطات وناشطين نِسويين أو قريبين من تجمعات المثليين أو الكويريين، ويقف بينهم حفنة من المثقفين الماركسيين الذين يحاولون جمع الحساسيتين في مشروع واحد. على سبيل المثال، تم إلقاء القبض على إحدى عضوات الحزب في سياق حملة اعتقالات واسعة شملت العديد من المنتمين إلى الجماعات الكويرية على خلفية حفل لفرقة مشروع ليلى اللبنانية في سبتمبر 2017. تحرك مكتب طلاب الحزب سريعًا لإصدار بيان يدين الاعتقال ويطالب بالإفراج الفوري عن الناشطة، فما كان من عدد آخر من الأعضاء خارج القاهرة إلا إدانة البيان على اعتبار أن هذه القضية خاسرة وستؤدي لعزل الحزب تلقائيًا عن قواعده المفترضة. المشكلة نفسها تفجّرت على نطاق أوسع مع اتهامات التحرش الجنسي التي طالت وكيل مؤسسي الحزب في خضم حملته للترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية في يناير 2018. خرجت هذه الاتهامات بمجرد البدء في حملة جمع توكيلات الترشيح وفوجئ ممثلو الحزب في الحملة بها، ليكتشفوا أن الحزب لم يخطر على باله أن يضع قواعد لائحية مفصلة للتحقيق في هذه الاتهامات من الأصل، إلا اللهمّ إشارات عامة في أحد المواد أثبتت التجربة أنها لم تكن كافية للتحرك بخفّة وسرعة. غياب هذه القواعد فتح الباب سريعًا لمجموعة شديدة التناقض من المواقف بعد الانسحاب من السباق الرئاسي نتيجة التضييق الأمني المتوقع. فارتفعت أصوات البعض تطالب لجنة الحزب التحضيرية بعقاب علني لوكيل مؤسسي الحزب بل والاعتذار عن ترشيحه من الأساس، في حين ارتفعت أصوات أخرى تطالب بدعم وكيل مؤسسي الحزب الذي يتعرض لحملة مغرضة تستهدف تلطيخ سمعته. وبين الطرفين وقفت مجموعة قليلة العدد تسعى لإقرار قواعد تنظيمية قبل الاندفاع لمواقف متسرعة في أي اتجاه، إلا أن الميل العام المستخفّ بالالتزام الحزبي وما يقتضيه من نَفَس طويل تمخّضَ عن موجة استقالات محدودة، ولكن مؤثرة، إذ شملت وكيل المؤسسين نفسه. وكشفت الأزمة بالمجمل عن أن النوايا الطيبة والالتزام المبدئي بقضايا بعينها لا يكفيان لبناء آليات تضمن ترسيخ الوعي النِسوى والجندري في مؤسسات الحزب وبين عضويته.
أما جماعة الاشتراكيون الثوريون فبقيت على حالها مع نزيف لا يتوقف في عضويتها. لم ينفع الجماعة استنكافها عن التفاعل مع دعاوى تأسيس أحزاب يسارية واسعة، فانزوت تجربة «حزب العمال الديمقراطي» بشكل سريع بعد شهور من تنحي مبارك. وزاد الطين بلّة تحول أهم رموز الحركة، والدينامو الفاعل وراء تجربتها الحزبية قصيرة العمر، إلى صفوف الدعاية المحمومة المناهضة للإخوان بأي ثمن ولو بالدعوة لانقلاب عسكري جديد، وانتهى الأمر بخروجه المتوقع من المنظمة. ومع المزيد من التضييق الأمني، والضربات الموجهة ضد عدد محدود ومؤثر من كوادرها، تراجعت إسهامات المنظمة الفكرية والتحليلية بشكل ملحوظ، خصوصًا مع إغلاق واجهتها العلنية الوحيدة «مركز الدراسات الاشتراكية».
كشف حساب ختامي…
لم يكن الغرض من العرض السابق لمسار تجربة اليسار المصري الطويلة تقديم صورة لجماعة من البشر لا تملك من أمرها شيئًا، تتحالف ضدها الأقدار بشكل يهوّن من أخطائها السياسية. بالعكس، كان غرض هذا العرض هو وضع خيارات تلك الجماعة في سياقها التاريخي والاجتماعي بما يكشف الحجم الواقعي لأخطائها دون تهوين أو تهويل. ما حاولنا التدليل عليه أن مسار خصخصة الدولة وما ترتب عليه من نزع أدوات الفاعلية السياسية من أيدي الغالبية العظمى من السكان وتعميم خطاب ذيلي بين نخبهم تجاه تلك الدولة لا يتصور تغييرًا إلا عبر نخبها البيروقراطية العسكرية والأمنية، قد شكّل الأفق التاريخي الذي يتحرك بداخله اليسار ويحدد طيف خياراته. وعلى أساس هذا الفهم يمكن تقييم مدى نجاعة تلك الخيارات، لا على أساس الإحالة إلى تصور نظري مكتمل محمول من سياقات أخرى أو مستخرج من بين صفحات الكتب حول ما كان ينبغي على اليسار فعله.
في هذا السياق مثلًا، تتجلى الخطيئة الأصلية، إن جاز التعبير، في انحياز غالبية قيادات الحركة الشيوعية الثانية للناصرية والقبول برؤيتها عن العصف بالديمقراطية كطريق وحيد لتنمية «لارأسمالية» مزعومة، وما ترتب على هذه القراءة الخاطئة من حلّ طوعي لمنظمات الحركة وانقطاع بينها وبين الوافدين الجدد للفكر والسياسة اليسارية بشكل جعل الأخيرين يبدأون من نقطة الصفر تقريبًا. وفي هذا السياق أيضًا، يمكن فهم أخطاء الحركة الشيوعية الثالثة التي استطاعت أن تقطع نهائيًا مع التجربة الناصرية على الصعيد النظري بينما لم تنعكس قراءتها المتطورة للواقع على تجربتها التنظيمية والجماهيرية. فبالغت في تقدير مستوى تطور الحركة الجماهيرية، وبالتبعية في تقدير نجاعة تكتيك التحريض المباشر من خلال مطبوعات المنظمات، على حساب الانغراس في صفوف حاضنها الاجتماعي المفترض وبناء منظمات علنية مفتوحة تسهم في دعم إمكانيات هذا الحاضن الذاتية. كما ظلت تلك الحركة أسيرة تصورات شديدة المركزية والجمود في التنظيم الداخلي، أدت لسلسلة انشقاقات لا متناهية لم تعكس خلافات ذات شأن، بقدر ما جسدت العجز عن إدارة أبسط الخلافات.
وأخيرًا، يمكن القول الآن إن الجماعات اليسارية التي شاركت في التجهيز التاريخي لثورة يناير وفي كل فعالياتها، لم تدرك على الوجه الصحيح مكامن قوتها وضعفها ولا مكامن الضعف القاتلة في الحركة الجماهيرية التي تتحرك في إطارها، فانتهت فريسة لتناقضات خيال وخطابات الانتلجنسيا الغاضبة. وقعت هذه الجماعات أسيرة عنفوان اللحظة الثورية وتخيلت أن الظروف مواتية للاندفاع لتأسيس أحزاب وتحالفات واسعة – تضم مكونات متناقضة في كثيرٍ من الأحيان- على الرغم مما أظهرته الملابسات التالية لتنحي مبارك من قِصر نَفَس متوقع للحركة الجماهيرية بعد عقود خمسة من الإخصاء السياسي والتنظيمي، وعلى الرغم من حداثة عهد تلك الجماعات اليسارية نفسها بالعمل العلني والضعف البالغ في مواردها المادية وقلة عدد الكوادر المؤهلة للعب دور محوري في تنظيم تلك الحركة ناهيك عن قيادتها.
لم يكن المطلوب هو التمسك بالتراث التنظيمي الخانق للحركة الشيوعية الثالثة. العكس تمامًا هو الصحيح؛ كان الأفضل هو أن ندع مائة زهرة تتفتح. فبناء منظمات يسارية تتمتع بدرجة معقولة من الاتفاق الفكري والسياسي اللازم للحركة لا يقتضي بناءًا تنظيميًا لينينيًا كلاسيكيًا، ولكنه كذلك لا يقتضي أحزابًا واسعة تفتقر للحد الأدنى من المرجعيات التي عادة ما تترسخ عبر تجربة تاريخية طويلة. أما المكاسب الشحيحة التي تحققت من المحاولات المتسرّعة لتوحيد الجهود فكان يمكن تحقيقها في كل الأحوال من خلال جبهات أو تحالفات انتخابية وسياسية بين تلك المنظمات اليسارية الناشئة، دون إهدار كل هذا الوقت وكل هذه الطاقة في صراعات داخلية لم تعد بالنفع لا على اليسار ولا على الحركة الجماهيرية. ربما لو لم تندفع تلك التجمعات الصغيرة الناشئة لتجارب التوسع والتوحيد، لكانت استطاعت البناء على رؤاها المتقدمة، وتجاربها الجماهيرية الملفتة، على محدوديتها، والتي اختمرت لبناتها الأولى خلال نهايات عصر مبارك، ولَتركت إرثًا للجيل الأصغر يستطيع الاستناد عليه في معركته القادمة لا محالة. ويبدو لي، بدون أوهام، أن هذا هو أقصى ما يمكن أن يقدمه اليسار اليوم في ظل ظروف السلطوية الرهيبة والجزر غير المسبوق في الحركة الجماهيرية.