إن أي ظاهرة نضع قبلها كلمة «أزمة»، يُمكننا أن ننطلق بعدها ونتحدّث لساعاتٍ دون أن يبدو للقارئ أن المسألة غير ملحّة: أزمة الثقافة، أزمة البيئة، أزمة العلوم الاجتماعية… لذلك، علينا أن نحدّد أولاً «الأزمة» التي تمرّ بها كلمة «أزمة». أمرٌ يبدأ من تحديدنا لتلك المرحلة التي لم تكن فيها الظواهر في «أزمة». إن في هذا التعبير الأخير طاقة نوستالجيّة عالية (أكثر ممّا يحتمله المنهج العلمي) وإن بدا تعبيراً صارماً.
تنبثقُ حركةٌ جديدةٌ في التاريخ نتيجة شعورٍ عميق بـ«أزمة» تُشغّلها، ونتيجة «حُلم» لقذف حركة التاريخ إلى نقطة أبعد منها؛ حلم يستند على الإرادة. وبهذا المعنى لا تبدو الأزمات إلّا محض «مشاكل»؛ مكوّنٌ طبيعي وغير طارئ لتحفيز الجديد، بمعزلٍ عن شعور الأفراد بها لحظتها، تماماً مثلما نتعامل مع الحروب؛ فبسبب رغبتنا في تجنب الحروب، فإنّنا ننشغل بالاستعداد الدائم لها.
يواجهُ طرحُ المشكلة، دائماً، ضغطا شعبياً وحزبياً؛ إذ يصطدم أيّ تحديدٍ مُستغرقٍ للمشكلة بالسؤال عن «الحلّ». ويظهرُ «الحل»، هنا، كفزاعةِ ابتزازٍ للتفكير أكثر من كونه رغبةً في إيجاد «الحل» فعلاً. إذا كان «الحل» في الحالة الشعبية ممزوجاً بقنوطٍ صادق، فهو في حالة الحزبيّ مناكفة، وفي كلتا الحالتين «سلطة» لا تريد للحلّ الجيد أن يظهر. يبدو الأمر كما لو أنّنا، على الدوام، نرزح تحت ضغط «مشكلات» تمّت صياغتها بطريقة عصيّة على الحل، ويعرّض كل تفكير بها نفسَه لمخاطر الاتهام بالشرود والغرق في التنظير.
إن القدرة على تحديد «المشكلة» قدرةٌ سياسيّة، أكثر من كونها فلسفية متصلة تماماً بسؤالنا الدائم عن الفاعلية والإخفاق؛ ولأنّها كذلك، فإنّ عليها أن تُثابر على صياغة المشكلة، لأن «البشرية لا تطرح على نفسها إلا المشكلات التي تستطيع حلّها» بتعبير ماركس. هي قدرةٌ تساعد على اختفاء المشكلات الزائفة، ولا يعني هذا الأمر الاسترخاءَ في التأمّل النظري الذي يطرح اللذة الذهنية بديلاً دائماً عن الحلّ، إذ أنّ الحلّ هو المهمّ في النهاية، وهذا أمرٌ يجب ألّا نحيد عنه. لكنّ للمشكلة، دائماً، الحلَّ الذي تستحقّه تبعاً للطريقة التي تنطرح بها، وبهذا المعنى فإن تاريخ الناس، سواء لجهة النظرية أو لجهة الممارسة، هو تكوين المشكلات. هنا بالذات يصنعون تاريخهم، ووعي هذا النشاط ما هو إلا انتزاعُ الحقّ في أن نكون «كائنات سياسية تحرّرية»مع تحوير بسيط لمداخلة جيل دولوز عن برغسون. انظر كتاب البرغسونية، جيل دولوز، صـ9..
لا يطال شكلُ «الأزمة» في فلسطين الحزبيّةَ كشكلٍ من التنظيم السياسي فحسب، بل يمتد إلى شكل «السياسيّ» الذي ساهمت الأحزاب في خلقه، وساهم هو لاحقاً في خنق ممكناتها. إنه في النهاية «إرثنا الذي آل إلينا بدون وصية». يبدو الفلسطينيّون اليوم، نتيجةَ هذه «السياسة»، كجُزرٍ معزولة: يخوضون حروباً محليّة حول النجاة في حدودها الدنيا (الضفّة، غزة، الداخل، اللاجئون، كلٌّ حسب جغرافيته)، دونَ تمثيلٍ سياسيّ جامع يحمل شرعيةَ التحدّث باسمهم، أو تَحدّثهم من خلاله.
إنّها لحظةٌ عليها ألّا تفاجئ أحداً (مع أنها تفعلُ ذلك دائماً)، لأنّ مُقدّماتها مزروعةٌ في التاريخ، بينما نُعيد نحن إنتاج شروطها بعد كلّ مواجهةٍ في السياسة. تُطرَحُ المشاكلُ دائماً من المنتصف، ويُراد لحلولها أن تكون كاملة، وذلك منذ انطلقت رغبتنا المحمومة في التشبّه بالأنظمة العربية (الرغبة في الدولانيّة) التي أطاحت بـ«التحرّر» بيدٍ، وأطاحت بالدولة نفسها باليد الثانية، وهي لم تفعل ذلك من دون أن تفرض الهيبة النظرية على مناقشتها من جذورها.
النقاشُ الأكاديمي، بدوره، مهووسٌ حدّ المرض بنقاشات القاموس «الدولانيّ»، ويفكّر في الحلول من داخله، ولا يقوى حتى ذهنياً على تجاوزه (دولة، دولتان..)، مع أن «إسرائيل» لم تسأل أحداً. هي حرفياً لم تسأل أحداً، ولا تكترث لأحد، وهي تعيش بالفعل دولتها الواحدة فوقنا جميعاً. إنّ سيارة «جيب» عسكريّة تَشعُرُ بالضجر يمكنها أن تضع حدّاً لكلّ هذه النقاشات في وسط رام الله.
والسائدُ في هذه النقاشات كلّها هو «نسيان الهدف»، فإذا كان «التحرير» هو ما نريده، فإنه لا يمثّل مشكلة تحتاج إلى «حل»، بل حلماً يحتاج إلى تحقيق؛ إزالةُ الاحتلال هو حلّه الذي تقترحه الإرادة. وتبعاً لهذا التحديد يُصبح النقاش جدّياً لاحقاً، ويمكن اشتقاق المشكلات منه عوضاً عن كونه محض «تخريجاتٍ» لفظية. ثمّة ثقةٌ «غيبيّة» بـ«الدولانيّة» كحلّ سحريّ لكلّ المشاكل: حلّ الاحتلال يكمن في أن نصبح دولة، وحل الفقر في أن نصبح دولة، الحلّ لعودة اللاجئين يكمن في أن نصبح دولة، والحلّ لبقاء المقاومة في أن تُصبح دولة، والحلّ للمجتمع الذي نريده في أن يصبح تحت ظلّ دولة. ما حدث، في المقابل، هو أنّنا خسرنا كلّ أهدافنا التحرّرية، ولم نصبح دولة. إنّها رغبة غير مشبعة، ولا تكفّ عن منع المُمكنات من الظهور، بل تتكفّل بإفساد جميع الرغبات. إنّها تدميرية بالمعنى الذي يعطيه سيغموند فرويد لغريزة الموت. السؤال الذي يُطرح هنا: كيف نشأت هذه «الرغبة الدولانيّة»؟
في البدء كانت «فتح»
وُلِدَت حركة فتح من الشعور العميق بـ«أزمة». لم تكن نكسة 1967 تعبيراً عن أزمة النظام العربي فقط، بلّ تعبيراً عن أزمة الفلسطينيين أيضاً بعد أن أدركوا أن حدث النكبة سيصبح تأسيسيّاً، وأن عليهم من اليوم فصاعداً أن يخلعوا شوكهم بأيديهم؛ بهذا المعنى كانت فتح حدثاً سياسياً أكثر من كونها حدثاً تنظيماً، وكانت تعبيراً عن اللحظة التي شعر فيها الفلسطيني، فجأة، بأنه وحيد، وأنّ عليه إعادة تعريف هذه الوحدة كمكوّن لقوّته وشخصيته. كان على الفلسطيني ساعتها أن يصوغ هويّته الوطنية، وأن يمنعها من الذوبان في محيط الفشل حوله. للمفارقة، كان الردّ على فشل الأنظمة العربية في تقليد هذه الأنظمة.
فكّرت فتح في نفسها كحركةٍ جماهيريّة لا كتنظيم، ورأت في «الإخوان المسلمين»كان الكثير من مؤسّسي فتح منحدرين من الإخوان المسلمين انظر من صفحة 144-145 من كتاب يزيد الصايغ الحركة الوطنية الفلسطينية: 1949-1993 الكفاح المسلح والبحث عن الدولة. نموذجاً للعمل، ونفرت من الأشكال الحزبية العربية رغم استفادتها منها. وبدأت فتح في صياغة «السياسيّ» المتّصل بجهدها في تكوين الهويّة الفلسطينية، وتراوحت داخله بين مُرَكّبَين على درجةٍ من التناقض: «التحرير الكامل بقوّة الإرادة والسلاح» و«الدولانيّة» كمنطقٍ لاشتغال السياسيّكانت فتح قد طرحت قبل عام 1967، فكرة الكيان الفلسطيني في «الأراضي» عبر مجلة فلسطيننا. وفي منشورات من السبعينيات أيضاً، أصدرها مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت، التابع لمنظمة تحرير فلسطين، كتبت عن المؤامرة الصهيونية الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية!. كان أبو عمّار يهجسُ مبكّراً: «لست الحاج أمين الحسيني… لا بدّ أن أنجز شيئاً». تدريجياً، بدأت الأطر الأقدم والأطر المتكلسة يجذبها هذا الجديد، وانسلّ كثيرٌ من الفلسطينيين من الأحزاب العربية ليلتحقوا بـفتح التي عزّزت معركةُ الكرامة حضورها. كانت الدولانيّة ترتَبك وتُربِك حين تعمل في دول؛ وهو التناقض الذي حدث فعلاً في الأردنالقصد هنا: أحداث أيلول، وقد ظهرت العديد من الشهادات الفردية لمن عاصروا هذه الأحداث، ويمكن أخذ فكرة عن بعض الشهادات التي ظهرت في حلقة أيلول الأسود من البرنامج الوثائقي حكاية ثورة، ومن أراد الاستزادة يمكنه الاطلاع على كتابات نزيه أبو نضال ومعين الطاهر وأكرم زعيتر وغيرهم.. لذلك، كانت الأنظمةُ العربيةُ (أنظمة ما بعد الاستقلال) تُثير مخيال فتح بالطريقة نفسها التي ألهمتها ثورات التحرر في الجزائر وفيتنام. كان الدولانيّ يسكنُ بالقرب من التحرّريّ، دون أن يشعرا بتناقض. هذا هو ابتكار فتح الأساسي؛ ابتكارٌ «سيعضّ» الحركة الوطنية بمجملها.
انصاعت حركة القوميين العرب مثلاً لهذا الجديد، وأسست تنظيماً فلسطينياً سيشكل واجهة اليسار الفلسطيني؛ هو الجبهة الشعبية كانت النقاشات في بدايتها تدور حول تأسيس فرع، لا تنظيم مستقل. انظر يزيد الصايغ، المرجع السابق.. وكانت أسباب انتشار التنظيم الوليد قابعة في مفارقته للخطاب الدولاني، وليس في برنامجه الفكري والاجتماعي؛ أي في قدرته على تقديم نسخة راديكالية أكثر صلابة في تخيل العدو، فالمركّب الإيديولوجي هو أقلّ ما كان يميّز الجبهة الشعبيةحين تراجع اليسار عربياً في نهاية السبعينات (ضرب الحزب الشيوعي العراقي والسوداني كمثال) ظل اليسار الفلسطيني يحقق تقدماً طيلة السبعينات. انظر دراسة عزمي بشارة، اليسار واليسار الفلسطيني، ولذلك انتشر أدباؤها وفنّانوها، في حين لم يكن لديها مفكّرون.
والغريب أنّ فكرة إقامة كيان قبل إنجاز التحرير، وهو ما نطلق عليه في هذه المقالة «الرغبة الدولانيّة»، لم تكن رغبةً فتحاوية خالصة، بل جاءت من اليسار أيضاً؛ من الجبهة الديمقراطية تحديداً، والتي لم تكلّف نفسها بشرح كيف يمكن لهذه الفكرة الكيانيّة أن تخدم مهمّة استكمال التحرير؟
كانت فتح تعمل على «محو الإحساس بالتناقض»، لا على محو التناقض نفسه: التناقض القائم بين الدولانيّ والتحرريّ، فيما شارك اليسار في التنظير له (كما في حالة الجبهة الديمقراطية)، أو في إدانته من دون التورّط (في حالة الجبهة الشعبية). وبذلك، حصلت فتح على المُركّب الضروري لكي تكون «أمّ الجماهير»، وأصبح الإجماع الوطني يمرّ عبرها. لقد اكتسبت فتح ثقة المؤسّس، فيما بدأت الأحزاب الفلسطينية، لاحقاً، تُمارِس السياسة إما بالحفاظ على اتّصال وثيق بقاموس فتح ومنطقها، أو على عداء معه، ولكن دائماً على أرضيته. ومن أطرف التعليقات على ذلك ما ذكره جورج حبش في وصف هذه العلاقة: «إنّنا نختلف مع أبو عمار، لكنّنا لا نختلف عليه». كانت «الوحدة الوطنية»، لاحقاً، تعبيراً عن مركزية التمثيل الذي تحظى به فتح؛ تمثيلها للجماعة الفلسطينية.
تفترض «الكيانيّة»طرح الميثاق القوميّ الفلسطينيّ، عام 1964، استعادة فلسطين كاملة، وما إن مرّت أربع سنوات حتى جرى التعديل الأوّل تحت شعار «الدولة الفلسطينيّة الديمقراطيّة التي يتعايش فيها العرب واليهود». يبدأ الميثاق القوميّ الفلسطينيّ ذو النزعة التحرّريّة في التآكل من أطرافه، ليصبح، عبر السنوات، محض سلطة فلسطينيّة تبنّت شعار «الدولة الفلسطينيّة المستقلة» عام 1983. وقد طُرحت، بالتزامن، إمكانيّة التواصل مع من أسمتهم، وقتها، «القوى اليهوديّة التقدّميّة». كان التآكل آخذاً في الازدياد، حتّى أعلن عن نفسه في ميثاق مؤتمر الجزائر عام 1988، الذي قَبِلَ بدولة فلسطينيّة مستقلّة في حدود الرابع من يونيو/حزيران، والاعتراف بدولة إسرائيل وحلّ النزاع بالطرق السلميّة. ووُضعت آخر اللمسات في التعديل على الميثاق الفلسطينيّ عام 1998، بحضور الرئيس الأميركيّ بيل كلينتون. انظر: قضايا فلسطينية: السياسة والثقافة والهوية، فيصل دراج. نسيان العدو والتصرّف وكأنه غير موجود، ولا تقتصر المسألة على «نسيان مواجهته»، بل نسيان أنه موجود وذو طبيعة مستقرّة. إنّ إسرائيل هي برنامج وجودي لملاقاة الآخرين ودحرهم إلى ما لا نهاية؛ إنّها تستمدّ ماهيتها من إرادة حرب أصليّة في فهمها لنفسها انظر من يهودية الدولة حتى شارون، عزمي بشارة.، ومجموع أفعالها وقوّتها هما اللذان سيحدّدان شكل الدائرة انظر: نقد العقل السياسي، ريجيس دوبري.، وشكل البقعة التي سنستقّر عليها، تحديداً حين تذهب الدولانية لتحقيق نفسها في ظروف ضدها، كالظروف التي رافقت توقيع أوسلورافق توقيع أوسلو حرب الخليج وخسارة منظمة التحرير لجغرافيا الاشتباك ووقف التمويل وحصار دفعها لتخيل أن الكيانية هي طوق النجاة الأخير..
حين جاء اتفاق أوسلو أتاح لفكرة الدولانية والمجتمع أن يتفاعلا، لأول مرّة، بين الإطار السياسي لمنظمة التحرير والقاعدة الاجتماعية الاقتصادية الجغرافية المحددة في الضفة الغربية وغزة انظر يزيد الصايغ، المرجع السابق.، وكان الانقسام الأول الذي حدث هو إخراج القضايا التي تقف عائقاً أمام الدولانية من حقل السياسي: خرج الداخل الفلسطينيوكان تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي تعبيراً عن هذا الخروج، ودخولاً في منطقه بالطريقة نفسها. واللاجئون وملفات أخرى كان يجري تأجيلها، ولاحقاً موتها، لصالح صيانة الدولانيّ من هشاشته.
خوارج الدولانية وضحاياها
الخروج عن هذا الخيار المخصوص للدولانية كما خطت تجربة حركة فتح كان يعني التعرض للملاحقة. لم يشارك الإسلاميون ممثلين بحركة حماس في انتخابات العام 1996، ورأى المسار الدولاني فيهم خوارج عنه، فوضعهم في السجون، واستمرت حماس بالعمل العسكري ليصبح لدينا عمليات للمقاومة تتحرك بمعزل عن المسار الذي خطّته أوسلو لنفسها، ولكن بالمحصلة، كان الذي نشأ لدينا هو «عمليات سياسية» و«عمليات مقاومة» دون أي اتصال يربط بينهما.
انتشرت حماس ليس فقط استجابةً للمد الإسلامي الذي شهدته المنطقة، بل أيضاً تعبيراً عن أزمة داخلية. لقد كانت السياسة، دوماً، على اتصال وثيق وحيوي بما هو مصيري بالنسبة للفلسطينيين، وكان رفض الإسلاميين لسقف الدولانية يثير مخيال التحرر لدى قطاعات واسعة وجدت في الخيار المرحلي نسياناً لمهام التحرير، فاكتسبت شعبيتها من مصادر شعبية اليسار نفسها.
أغلقت عملية المفاوضات على الدولانيّ بشكل نهائي في كامب ديفيد عام 2000، فاشتعلت الانتفاضة الثانية التي لعبت فيها الأحزاب دوراً مركزياً. وبدا أن العمل العسكري هو الميدان الخصب لاشتغال الأحزاب، وهي الأكثر قدرة على تنظيمه، ولكن ليس من خلال رفده بكوادرها، بل من خلال ترتيب الطاقات الفردية من خلالهفي دراسة لمحمد عرمان، نظرة للمقاومة من الداخل، يقول إن أكثر من 90٪ من عمليات الانتفاضة كانت فردية التنظيم، وأنها لاحقاً وجدت طرقاً للاتصال بالتنظيم المركزي لتبني العمل..
بعد خروجنا من الانتفاضة الثانية، كانت الأحزاب قد تعرضت لاجتثاث رهيب في عملية السور الواقي، ما جعل قيادات، من الصف الأول حتى الرابع، تختفي بين القتل والاعتقال.
والطريقة التي تصرفت بها السياسة الفلسطينية بعد الانتفاضة كانت تنبئ عن إصابتنا جميعاً بنوعٍ مما يمكن أن نسميه «موت الخيال السياسي». بدت كل التضحيات بلا توقيع تحرريّ يخصها، وبدا كما لو أن الصندوق الانتخابي في 2006 كان سيحلّ مثل هذه الأمور.
حتى بعد أن أدركت السياسة الفلسطينية أن المسار الدولانيّ قد توقف مع كامب ديفيد، فقد عادت له. انتخابات 2006 كانت تصويتاً على عودة الدولاني كخيار عقلاني وحيد لممارسة السياسة، والسؤال المراوغ الذي انطلق وقتها: «هل يمكن الجمع بين السياسة والمقاومة؟» كان في الحقيقة ينطلق من عدم فهم كليهما. وما لم تدركه حماس هو أن بنية السلطة تُشتَقّ من وظيفتها، وليس من تطلعاتها، وبالتالي فإنّ «الوظيفة» هي التي تفسر البنية لا العكس، وإن الأشكال هنا شأنها في الأمكنة الأخرى نتائج عمل من أعمال القوةانظر ريجيس دوبريه، المرجع السابق. ، وهذا ما جعل الشكل الدولاني يقيد كل ممكناتها لاحقاً، بل ويجعلها تحاصر نفسها فيه. كان الانقسام صراعاً بين تصورٍ ثبتَ فشله وتصورٍ آخر «لم يُنجز تصوره بعد»، وبين جهةٍ تخلت عن التحرير لصالح ما تيسر من الحكم الذاتي، وأخرى تورطت بحكم ذاتي لا تعرف كيف سيوصل للتحرير. كانت حماس راغبة في التحرير دون أن يكون لديها أدنى فكرة عن الطريق الموصلة إليه.
وكانت الانتخابات مناسبة عنيفة لظهور السيادة المنقوصة بشكلها العاري، إذ سرعان ما قاطع قادة العالم نتائجها، وحاصروها، واستنتجنا بشكلٍ فج أننا لا نملك من الدولة غير بساطها الأحمر وأجهزتها الأمنية، وهو مصير كان سيواجهه أي فصيل آخر لا يوافق على شروط الرباعية. ابتزاز الناس بين إطعام أبنائهم أو تطلعاتهم السياسية هو الشكل الذي اتخذته القوى في تدريب الفلسطيني على الاختيار، وكانت الدولانية المنقوصة بحكم تعريفها تمده بكل أسباب ضعفنا.
حماس التي كانت تحمل مزاجاً أممياً، بدأت تقترب شيئاً فشيئاً من «الدولانيّ»، متصورةً أن السياسة لا تحمل إلا شكلاً مخصوصاً من التقارب مع تجربة فتح. الدخول في النظام الدولاني كان يعني إتقان لغته، والتجادل من داخلها، والتصرف من بيروقراطيتها، وفهم إدارة شؤون الناس من خلالها، ولذلك أرهقت حماس نفسها بجيش من الموظفين، وحين صاغت ميثاقها الجديد كانت تفكر في كل ذلكانظر: ميثاق “حماس”: ما الذي نتعلّمه من تاريخ “التعديلات”؟. لم يكن لدى حماس تصورٌ آخر، وكانت «راديكالية» بدون تصور مخصوص عن نفسها، وهكذا وُجدت مرهقةً في غزة تقاتل في سبيل رفع الحصار، وتعاني داخلياً من ذلك التساكن القديم الذي أنجزته فتح؛ حيث يسكن المناضل المسلّح والبرلماني في بيت واحد، دون أن يفيد أحدهما الآخر، ودون أن يشعرا بالتناقض. كانت حماس خروجاً عن الدولانيّ، لكن دون إتمام الدخول في «التحرري».
انسحبت إسرائيل من غزة تحت ضربات المقاومة، واجتاحت الضفة تحت ضربات المقاومة أيضاً، وحين انسحبت من المكانين، أخذت الجغرافيتان قصتين مختلفتين. وبالتالي لم تكن نتائج الانتخابات في 2006 هي سبب الخلاف، بل مناسبةً لظهوره، ولم يكن الخلاف على نتائج الديمقراطية، بل كانت الديمقراطية فرصة لمأسسته. حدث الانقسام تحت سقف أوسلو، حيث كانت الضفة وغزّة قطعتين جغرافيتين من بقايا السيادة المنقوصة، ولم يكن تحت سقف منظمة التحرير الجامع للكلّ الفلسطينيجرى تجميد منظمة التحرير كجسم تمثيل، ووضعت في الثلاجة، ليتم إخراجها في كل فرصة مناكفة، وبذلك أضاع الفلسطينيون جسماً تمثيلياً مهماً كان قد اكتسب شرعية معقولة، والأهم أنه يتيح للاجئين ممارسة السياسة.، وولد لدينا منطقان: واحد يرفض أوسلو ويعمل تحت سقفها، وواحد يشرف عليها ويعرف أن العدو لم يلتزم بها.
خاتمة
التقت التغريبة الحزبية في فلسطين مع لحظة عالمية يشعر فيها الحزب بتقادم أسلوبه في العمل، تحديداً مع ولادة شكل جديد من السياسة يتيح للأفراد المشاركة فيها دون المرور عبر الحزبية، ومن حيث الجوهر فإن السياسي غيرَ الحزبي لم يكن رداً على الحزبية، بل رداً على استحالة الحزبي إلى محض سياسة برلمانية، وبذلك فهو يحمل داخله بذوراً لتجاوز الدائرة المغلقة للدولانيّ، وهو شكل من الانتماءات المُوزّعة على قضايا متفرقة، يُتيح للأفراد خفة وسرعة في التعاطي مع قضايا الشأن العام.
المشكلة هي أنه بالنسبة، تحديداً، لشعوب لم تنجز تحررها، تبدو صياغة القضية الجامعة ضرورة وجودية، تجعل من مجمل نشاطات القضايا المتفرقة تُراكمُ على نفسها كإنجاز سياسي عام. لقد خسرت الأحزاب أهم مكوناتها؛ وهي القدرة على صياغة «الرؤية الكلية للصراع»، وذلك بسبب المسار الطويل من تكريس الدولانية في تصورها السياسي.
وبما أن الأحزاب لم تعد قادرة على صياغة هذا «الجامع»، وهو من المفترض قدرتها الأخص، فإنها مفتونة اليوم بتقليد «النشاط غير الحزبي» في حين أنها تزدريه، وهذا ما يفسر ميول الأحزاب الفلسطينية إلى محاكاة الكثير من الهيئات ومجموعات العمل غير الحزبية، تحديداً خارج فلسطين، بطريقة تمنع تطوّر الشكلين من العمل معاً.