رغم الارتياح الذي ظهرَ على وجوه الناس بعد سماعهم لأنباء سريان وقف إطلاق النار منذ صباح السبت الماضي، إلا أن شوارع وأزقة بلدة حاس لا تزال شبه خالية من المارّة، فالتجربة مع الهدن السابقة لم تكن مشجعة للأهالي الذين فقدوا ثقتهم بالضمانات واتفاقيات وقف إطلاق النار المتكررة، خاصة بعد أن رجع قسمٌ من النازحين إلى البلدة في أعقاب الهدنة التي تم إعلانها مطلع آب الماضي، ليفاجؤوا أن قوات النظام قد نقضت الهدنة بعد ساعات قليلة من إعلانها. لم يكد بعض الأهالي يصلون إلى البلدة وقتها حتى عاد الطيران يجوب السماء، فيما توقف آخرون في منتصف الطريق وعادوا أدراجهم بعد أن سمعوا عن طريق الأجهزة اللاسلكية بأنه قد تم خرق الهدنة.
تقع بلدة حاس في ريف إدلب الجنوبي، إلى الشرق من مدينة كفرنبل، وكان يقطنها قبل الحملة العسكرية الأخيرة التي بدأها النظام وحلفاؤه في أواخر نيسان الماضي نحو ثلاثين ألف نسمة، منهم ثمانية آلاف نازح ومهجّر جاؤوها من مناطق سورية عدة. وقد تسببت موجات القصف الجوي والصاروخي بتدمير كثيرٍ من بيوتها واستشهاد العديد من أبنائها، وإرغام معظم سكانها على النزوح باتجاه الشمال.
وليست هذه أول موجات النزوح التي تشهدها البلدة، بل تكررت فيها مشاهد النزوح والموت مع كل حملة عسكرية للنظام وحلفائه، ومن أكبرها حركة النزوح الضخمة التي شهدتها البلدة في تشرين الأول من عام 2016، عندما ارتكبت طائرات النظام مذبحة كبيرة فيها يسميها أهل البلدة «مجزرة الأقلام»، إذ استهدفت بصواريخها عدة مدارس في البلدة ما أسفر عن أربعين شهيداً من التلاميذ والمدرّسين والمسعفين.
وبعد كل موجة نزوح كان معظم الأهالي يعودون لترميم حياتهم ومواصلتها في بلدتهم، لكن موجة النزوح الحالية هي الأكبر، ويبدو أنها ستكون الأطول. وقد توجهت دفعات النازحين الأولى إلى مخيمات شمال إدلب المكتظة أصلاً، حيث سكن كثيرون مع أقربائهم في الخيام، وفي حالات كثيرة أقامت ثلاث عائلات في خيمة واحدة.
ونظراً للأوضاع الكارثية وضخامة أعداد النازحين، قامت فعاليات البلدة بتشكيل لجنة طوارئ، وقد تحدث إلينا عبد الكريم الزيدان، أحد أعضاء هذه اللجنة: «قمنا باستئجار أرض زراعية قرب سرمدا بريف إدلب الشمالي، وذلك لإنشاء مخيم بهدف إيواء المُهجّرين الأكثر فقراً والذين لا تتوفر لديهم موارد كافية، وليس لديهم أقارب يمكن أن يستضيفوهم في بيوتهم وخيامهم. يقطن في هذا المخيم الآن ما يقارب 400 عائلة، ونحن في طور التوسعة حيث تم استئجار أرض أخرى قريبة منه بعد تزايد أعداد المهجّرين من البلدة».
يتابع الزيدان: «كذلك توجه قسم من المهجرين الذين سمحت لهم ظروفهم المادية نحو شراء مساحات صغيرة من الأرض قرب مخيم دير حسّان، وقامت كل عائلة بإنشاء غرفة ومنافعها مع تغطية السقف بالبلاستيك، ويبلغ عدد هذه العائلات نحو 150 عائلة. كما توزعت عشرات العائلات من أبناء البلدة على مدن حارم وسلقين وكفر تخاريم، ويعيش أغلبها في شقق غير مجهزة بشكل كامل».
أما عن أعداد الباقين في البلدة اليوم، فقد تحدثنا إلى حسن الأحمد من مكتب الخدمات في مجلس حاس المحلي، الذي قال إن نحو مئة عائلة من أبناء البلدة وثلاثين عائلة من النازحين إليها لا يزالون فيها حتى الآن، وقد بقي هؤلاء لأسباب عديدة منها الفقر وغياب البدائل، كما أن بعض الشبان قد ظلّوا في البلدة لحماية بيوتها من السرقة، وذلك بعد أن أودعوا عوائلهم في مناطق أخرى.
بلدة حاس من البلدات الزراعية أساساً، وتمرّ فيها هذه الأيام مواسم التين والعنب، وقد تسببت الحملة بعدم قدرة كثيرين على جني محاصيلهم. ولا تكاد تُسمع جلبة في المدينة إلا في فترة الصباح الباكر، حين يتوجه بعض الناس إلى كروم التين والعنب، ويتوجه آخرون على مساكب الخضار الصيفية لجمع العجوّر والبندورة، ثم يقومون بالتوجه إلى ساحة البلدة لبيع محاصيلهم لتجار الجملة، ويبادرون بعدها إلى التواري خلف أبواب بيوتهم قبل أن تبدأ موجات القصف الصاروخي أو طلعات الطيران الحربي الرشاش المعتادة. أما في الليل فتهدأ الحركة تماماً، إلا من بعض الماشين على الأقدام، أو على الدراجات النارية دون استخدام الأنوار خشية استهداف الطيران، وهو ما تسبب بالعديد من الحوادث. ولم تتغير هذه الأوضاع كثيراً بعد سريان وقف إطلاق النار، لمعرفة الجميع بأن النظام قد يخرقه في أي لحظة ودون سابق إنذار.
وقد اكتفى بعض الباقين في البلدة بزراعة الخضار في حدائق منازلهم، ويقوم بعضهم بفتح بيوت جيرانهم النازحين لسقاية المزروعات الموجودة في فنائها، كما يقوم بعضهم بوضع سطول من الماء لتشرب منها القطط والطيور. وحتى قبل أن يدخل وقف النار حيّز التنفيذ، كان بعض النازحين يعودون في الصباح الباكر لنقل أثاث بيوتهم، تحسباً لفترة النزوح الطويلة المحتملة، أو لاحتمال تقدم قوات النظام وسيطرتها على البلدة.
ومن هؤلاء أبو يوسف، الرجل الستيني الذي عاد قبل بضعة أيام يحمل في يده قارصاً من حديد ومطرقة وإزميلاً، وراح يقوم بفكّ نوافذ وأبواب منزله فيما كانت حبّات العرق تجري على تجاعيد وجهه لتجعله يبدو أكثر حزناً وأسى. توقف أبو يوسف فجأة عن العمل وجلس على الأرض، وقال دون أن ينظر إليّ: «شوف… إذا أطبقت السماء على الأرض لن أقبل بالعيش مجدداً تحت حكم الأسد، ولو أني أستطيع أن أحمل حجار البيت معي لحملتها. لن أترك لهم شيئاً».
هو مشهدٌ بالغ القسوة أن ترى جيرانك يضعون في صندوق السيارة أمتعتهم وقطة البيت أو سطل الحبق، إلى جانب الأطفال وألعابهم وحاجياتهم، ثم يمضون شمالاً وكأنهم لا يفكرون بالعودة قريباً.
ولم يستطع كثيرون النزوح رغم احتمال الموت الماثل في كل لحظة، ومنهم شابٌ رأيته قبل أيام يجلس على حجر صغير قرب باب بيته، يحمل بيده عوداً يرسم به على الأرض بعض الخطوط، وكأنه يحاول أن يشغل نفسه بأي شيء عن صوت الطائرات الحربية في السماء. بعد أن سلّمت عليه قال لي: «أبي وأمي واقعين بالأرض “عاجزين”، وين بدي روح فيهن ما بعرف…!».
ويعمل بعض الباقين في البلدة في تربية الماشية، وهم يقولون إن سبب بقائهم هو صعوبة العثور على مكان مناسب لهم ولعائلاتهم وللماشية التي هي مصدر رزقهم الوحيد، كما أن تأمين الأعلاف للماشية خارج حاس سيكون أمراً بالغ الصعوية، ولذلك اختاروا البقاء مُسلّمين أمرهم لله.
تنتشر القطط بكثافة في أزقة البلدة شبه الخالية من المارّة، وتموء خلف كل عابر سبيل باحثةً عمّن يطعمها، ويحاول بعض الباقين في البلدة أن لا يتركوا القطط للجوع، ومنهم أبو خالد ابن الخمسين عاماً، الذي يحاول تأمين بعض اللبن يومياً كي يطعم سبع قطط تعيش في فناء بيته.
يعيش الباقون في حاس في ظروف من غياب الخدمات التام، إذ كان الطيران الروسي قد دمّر مستشفى البلدة، ونزح معظم أطبائها وصيادلتها، وتوقف فرنها عن العمل، وبات العاملون فيه يجلبون الخبز من أفراد في بلدات ومدن أخرى لتوزيعها على السكان. حتى دكاكين الخضار القليلة الباقية، لم تعد تفتح أبوابها إلّا في ساعات الصباح الباكر. ومع توقف مولدات الكهرباء، اضطر الباقون في البلدة لاستخدام ألواح الطاقة الشمسية للإنارة وشحن الهواتف، فيما توقفت عندهم جميع الأجهزة الكهربائية المنزلية، ولم يعد ثمة مصدر لمياه الشرب سوى صهريج واحد يأتي بالمياه من ينابيع في الجبال القريبة.
وقد زادت هذه الظروف القاسية من مظاهر التآلف بين سكان البلدة، وقلّما تجد من يجلس وحيداً في بيته، بل يجتمع الناس في بعض الملاجئ والأماكن التي ربما تكون أكثر أمناً، وكأنهم يتعاونون على حمل الهموم معاً. وعندما تتعرض البلدة للقصف، يخاطرون بحياتهم رغم تأكدهم أن طيران النظام وروسيا قد يعاود قصف المكان نفسه، ويتجهون سريعاً لانتشال جثامين الضحايا وإسعاف المصابين ريثما تصل فرق الدفاع المدني إلى المكان.
رغم سريان وقف إطلاق النار، وتراجع حدة القصف على معظم مناطق إدلب، إلا أن خبرة الأهالي مع الهدن السابقة، ورشقات الصواريخ التي يطلقها النظام على مناطق قريبة من حاس بين الفينة والأخرى، تجعل جميع الباقين فيها يعيشون صراعاً بين خيار الرحيل القاسي الذي قد يعني عدم عودتهم إلى بلدتهم قريباً، وبين الخيار الآخر الذي قد يعني الموت، خيار البقاء في بلدتهم التي قدموا تضحيات كبيرة في سبيل طرد النظام منها، والتي اعتادوا أن يطلقوا عليها في لافتات تظاهراتهم ضد النظام اسم «حاس الصمود».