لا أكشف سراً إن قلت بأن العالم الموازي للقهر الذي يجري في مدينة إدلب وريفها يبدو متناقضاً بشكل صارخ مع العالم الذي يحدث هنا، حيث من المفترض أن العالمين يقعان على جغرافيا القهر نفسها، مع اختلاف الناس والزمان والمكان، إلا أن هذه طبيعة الأمور في زمن الحروب والثورات. وإن كانت المأساة التي تجري في الشمال تفترض أن يتمدد تأثير مجرياتها على مختلف فئات الشعب السوري، إلا أن هذا ليس ما يحصل بطبيعة الحال، وهكذا باتت الأمور مذ أخذت الحرب السورية تتمدد زمانياً ومكانياً، لتفيض آلامها في جانب، بينما تنحسر عذاباتها نسبياً في جانب آخر.

*****

قال السائق  للسيدات والصبايا المتكدسات في السرفيس: حاولنَ أن ترفعنَ أصواتكنَّ مع الأغنية، اقتربنا من الحاجز، وفي لحظة واحدة رفع السائق صوت الأغنية لتصرخ الحناجر مع التصفيق على إيقاع الأغنية: «بدي غازل سوريا.. هواها وشمسا وفيّا»؛ كان ذلك على حاجز دوار تدمر، وكان اليوم هو الأول من آب، عيد الجيش السوري، حيث كانت السيدات القادمات من بلاد المغترب لقضاء زيارة قصيرة إلى سوريا، في رحلة استجمام مدتها يوم واحد إلى إحدى المزارع، وهي العادة التي أصبحت منتشرة جداً، المتمثلة باستئجار مزرعة من الصباح إلى المساء بمبلغ يتراوح من 25 إلى 50 ألف ليرة سورية، كنوع من الترفيه المستعجل، لا سيما لأولئك القادمين والقادمات من بلاد الغربة في إجازة صغيرة.

تشهد حمص حالياً، كما العديد من المدن السورية الخاضعة لسيطرة النظام، عودة كثير من الأسر المسافرة إليها إما للزيارة أو الاستقرار، بالذات أولئك الذين لا مشاكل أمنية عليهم، وأولئك الذين يملكون بيوتاً وعقارات لم تتضرر وتتدمر كثيراً، وذلك إمّا للعودة والسكن فيها أو للقيام ببعض الإجراءات التي تؤكد ملكيتهم لها، لا سيما بعد القرارات التي صدرت مؤخراً، والتي تطلب إثبات مليكتهم وإلا فإن الدولة ستضع يدها عليه في النهاية. وتوحي عودة المغتربين للمدينة بغرض الزيارة أو السكن بدلالات شتى، منها عودة الاستقرار شبه التام إلى المدينة، إضافة لندرة الحوادث التي تعرّض لها العائدون للمدينة، كذلك سهولة إجراءات الدخول بعد أخذ القادمين إليها كل الاحتياطات اللازمة، وأولها القيام بـ«التفييش» المسبق، أي التأكد من أن الشخص العائد ليس مطلوباً لأي من أفرع النظام الأمنية، وهو الأمر الذي تتراوح كلفته ما بين 7 إلى 11 ألف ليرة سورية، أو حتى أكثر بحسب من يقوم بذلك.

تقول سمر، التي جاءت هي وأطفالها من ألمانيا لزيارة أسرتها بعد غياب أربع سنوات عنهم، إنها لم تتوقع أنها ستدخل بهذه السهولة، علماً أنها سافرت إلى ألمانيا بطريقة غير شرعية وأخذت «اللجوء هناك وهي الآن بانتظار الجنسية». وفي معرض كلامها عن طريق العودة من مطار دمشق إلى المدينة، تحدثت أن السائق كان يضع على يمينه كدسة أوراق من فئة المئتي ليرة سوريا، يدفع منها لكل حاجز يمر من عنده، بحيث لم يفتح أحد منهم حقائبها الكثيرة، بل إن أحدهم لعب بشعر طفلتها الصغيرة كنوع من التودّد.

بعث لي أحد الأصدقاء رسالة تقول إنه قادم إلى سورية بعد يومين، وسأل فيها عن الوضع في المدينة؛ لم ينتظر الإجابة مني، واكتفى بأن طلب الدعاء. عندما وصل إلى باب بيته بعد غياب سنوات عنه، كان حاجز للأمن العسكري بانتظاره، وبالكاد صدق أنه أنزل حقائبه وأدخلها إلى منزل أسرته أمام أعين عناصر الحاجز القريب ودون تدخل منهم، حتى باغته بعد ساعات اتصال من أحد عناصر الحاجز يطلب منه زيارة الحاجز في الغد الباكر «لشرب فنجان قهوة». ذرفت والدته دموعاً مضاعفة عن تلك التي ذرفتها لحظة لقائه به، وأخذ والده قراراً بتهريبه سراً إلى بيت أقاربه ريثما يفهمون ماذا يريد الأمن العسكري من ابنه الذي دفع بدل الخدمة العسكرية، والذي لم يتخذ قراره بالعودة إلى سوريا إلا بعد أن تم تفييش اسمه عدة مرات في مختلف الفروع الأمنية بما فيها فرع الهجرة والجوازات. بعد عدة أيام من الرعب والهلع، ذهب الشاب فعلاً إلى الحاجز الملاصق لبيتهم، وهناك تم سؤاله عدة أسئلة روتينية ثم قاموا بتوديع بعضهم مع القبل والسلامات، ليعود الشاب إلى منزله أخيراً وهو يشعر بما يشبه الانتصار والطمأنينة.

تذكر لي إحدى الصديقات، التي جاء أخوها من السعودية لزيارة المدينة لمدة شهر ونصف، أن هذه هي المرة الثانية التي يأتي أخوها فيها لزيارة المدينة خلال أقل من سنتين، وتقول إن إجراءات السفر مرت بسلاسة ويُسر جعلته يفكر بالقدوم والاستقرار هنا، لا سيما أنه تجاوز سن الخدمة العسكرية الاحتياطية بعامين، إضافة إلى أن وضع السوريين في السعودية صعبٌ للغاية، وهو بالكاد يتحمل مصروفه ومصروف أسرته. قالت إيضاً إنه يفكر في إرسال زوجته وأطفاله نهائياً إلى هنا، ثم اللحاق بهم بعد إنهاء أمور عمله مع الكفيل، والاستقرار في بيت العائلة في حي القصور بعد ترميمه، لأن ذلك يبدو أفضل له من البقاء في مكان بالكاد يوفر له مبيته وأكله وشربه هو وعائلته الصغيرة.

كراجات المشنططين

كتب أحد الشبان على صفحة كراجات المشنططين على فيسبوك أنه يريد العودة من تركيا لزيارة أهله، لا سيما أنه موجود فيها بشكل نظامي منذ سنوات بغرض الدراسة، وأنه يحق له العودة  لسوريا لمدة شهر ونصف من دون أن تسأل عنه شعبة التجنيد، مضيفاً أن هناك من أخبره بأنه لا يحق لأي جهة أن تحقق معه في المطار أو تأخذه ولو كان مطلوباً للاحتياط. وأضاف الشاب أنه يطلب النصيحة حول عودته من عدمها، لا سيما أنه لم يرَ أسرته منذ سنوات، وأن والده توفي في غيابه.

وقد جاءت التعليقات بمعظمها مليئة بالسخرية والاستهزاء من الشاب «الأحمق»، الذي يفكر بهذه المجازفة، إضافة إلى أن كثيرين كالوا له الاتهامات بأن زيارته فيها نوع من التطبيع مع القتلة. يبدو هذا الحدث البسيط مثالاً صغيراً لرأي كثيرين بأولئك الذين يعودون إلى سورية بغرض الزيارة أو الاستقرار، علماً أن لدى كثيرين ممن يعودون أسباباً عائلية أو إنسانية قاهرة تدفعهم للعودة، أو لأنهم ببساطة لم يحتملوا العيش في الغربة، ولا يريدون العيش في الشمال السوري الذي يعلم الجميع أوضاعه.

لكن الذي يدعو للتفكير حقاً هم أولئك المهجرون الذين يعودون من الغربة وهم يعرفون أنهم مطلوبون للاحتياط، أو حتى مطلوبون لأحد الأفرع الأمنية، حتى أن بعضهم من المنشقين الذين يلجؤون للقيام بتسوية، مختارين الذهاب للجيش بدل البقاء في حياة اللجوء، بل إن بعضهم قد يذهب للجيش تطوعاً، كحال زوج إحدى السيدات النازحات التي اختار زوجها العودة من لبنان حيث لم يعد يحتمل ضيق العيش هناك لينضمّ للجيش مباشرة بعد قيامه بتسوية؛ تقول الزوجة بأن ذلك أفضل له ولها ولأطفالهم من أن يبقى زوجها بعيداً عنهم، إضافة إلى أنه يحق له زيارتهم لعدة أيام كلّ شهر، وأحياناً لأسبوع، كما أنه من مواليد 1982، أي أنه قد يصدر في أي لحظة قرار بتسريحه، كما تحلم الزوجة.

ناصيف زيتون في نادي المهندسين

اتصلت بي إحدى الصديقات القادمات من قَطَر إلى سورية في زيارة، وقالت بأنها سمعت أن هناك حفلة لناصيف زيتون في دوار المهندسين الذي تم افتتاحه حديثاً، حيث تكلفة البطاقة 35000 ليرة سورية، وقالت إنها مستعدة للذهاب في حال أني رافقتها، وأضافت مازحة بأننا نحن، الذين نسكن في الداخل، «عايشين» في حال أفضل من الذين يسكنون في الخارج، وأنها لم تكن تتوقع أن يكون الحال هكذا هنا. بالمقابل، وفي مشهد آخر للعائدات إلى هنا بغرض السياحة، رنَّ جوال إحدى السيدات القادمات من ألمانيا مُصدراً صوت الأذان، قالت إنها حمّلت تطبيق الأذان منذ سكنت في ألمانيا لكي يسمع أطفالها صوته في كل وقت صلاة فلا ينسونه، حيث لا جوامع هناك.

لكنَّ ما يجمع معظم العائدين والعائدات للسياحة أو الاستقرار، من التائبين والتائبات، ولاسيما التائبات اللواتي التقيتُ بهنَّ شخصياً، هو عزوفهنّ عن سماع الأخبار المتعلقة بالجانب الآخر من الخريطة السورية، باعتبار أنّ الأزمة انتهت، وبأن كل شيء يعود كما السابق. ويعزز ذلك رفضهنّ الذهاب أو حتى الاقتراب من الأحياء الإثنين والعشرين المهدمة في مدينة حمص، رغم أن بيوت بعضهنّ هناك، مُفسّراتٍ ذلك بأنهنَّ لا يُردنَ أن يشعرَن بالضيق، ولا يردَن أن يفتحنَ باباً موصداً للذكريات.

وبالحديث عن مزيج الرغبة بالاحتفال وتجاهل الألم، فإنه يمكن للناظر إلى مقاهي حي الملعب، وهو واحد من أرقى أحياء حمص، أن يرى كمّ الناس الذين يشغلون المقاهي، حيث يمكن تمييز أن كثيرين منهم من خارج المدينة، نظراً لطريقة لباسهم المختلفة، أو لهجاتهم الغريبة عن اللهجة الحمصية، أو حتى أسماء عائلاتهم التي تختلف عن أسماء عائلات أهل المدينة، التي كنّا قد بدأنا نشعر فيها أننا نحفظ بعضنا بعضاً، وكأننا في ضيعة صغيرة، بسبب النقص الكبير في عدد السكان المستقرّين خلال السنوات القليلة الأخيرة.

البوطي مُحاضِراً

بعد قدوم أحد معارفي القدامى إلى سورية بشهرين، تجرأتُ وبعثتُ له رسالة اطمئنان عن وضعه هو وأسرته في المدينة بعد استقراره فيها، وقد ذكرَ أنه في إحدى الصباحات حين كان يسعى للبحث عن عمل، سمعَ محاضرة صوتية للبوطي يضعها أحد الباعة في دكانه، مع العلم أن عدداً ليس قليلاً من سكان حمص اتخذ سابقاً موقفاً مناوئاً بشدّة للشيخ المتوفّى بسبب موقفه المعروف من الثورة، لكن صوت البوطي الذي كان يصدح في الصباح ذكّره بوالده الذي اعتاد قبل الثورة الاستماع إلى محاضراته عن طريق «شرطان الكاسيت». وأضاف الرجل بأنه رأى على جدار مجاور للدكان عبارة مذيّلة بتوقع عناصر الأمن العسكري تقول: «لا تخرّبوا كي لا نعود»، وشعر أنها مثل الصفعة على وجهه، إذ بدا له أن كل هذه التفاصيل توحي بدلالات محبطة عن حال المدينة ومعاش أهلها فيها، ومع ذلك علّق قائلاً إن الأمور بالعموم جيدة ويمكن التأقلم معها مع بعض السعي والتغافل عمّا كان، وبأن وضعه لا بأس به، لكنه متفاجئ من وضع المدينة الاقتصادي التعس وركود العمل فيها.

يقول إنه يعمل في مجال مطلوب جداً في الخارج، وبأنه توقع أن تتسابق الشركات هنا لقبوله، لكنه وجد نفسه في لحظة ما مرفوضاً تماماً هو وشهاداته العديدة. لم أستطع سؤاله فيما إذا كان نادماً على العودة لسوريا والاستقرار بها، واكتفيتُ بأن أسمعه وهو يتحدث عن الانحدار في أخلاقيات كثير من الذين كان يعتبرهم مثل أصدقائه، وعن تعلّقهم  بلعبة ببجي وذهابهم إلى أماكن لا تليق «بأخلاقنا وديننا» حسب تعبيره، وبأنه فجأة وجد نفسه وحيداً وأن زياراته باتت محدودة جداً إلى بيت أسرته وأسرة زوجته فقط، وأن كل ما يريده هو إيجاد عمل يتناسب مع ما يحمله من شهادات.

العيشة سامبو

تحدثت إحدى الصديقات العائدات طويلاً عن ألمانيا وشعب ألمانيا وفتيات ألمانيا، وعن ما يفعله الشبان والشابات السوريون هناك، حيث أن بعضهم ورغم انحداره من عوائل سنيّة محافظة في المدينة، إلا أنهم يعيشون «سامبو» مع فتاة أجنبية، كما أن بعضهم أو بعضهنّ «تخلى عن دينه وهويته» تماماً وفق تعبيرها. وبالمقابل، تقول إن هناك بعضاً ممن كانوا غير ملتزمين بالدين أبداً، وأصبح عندهم ردة فعل معاكسة فالتزموا بالصلاة والعبادة، والآن يبحثون عن فتاة محجبة للزواج. كنّا نستمع لها مذهولين، ورغم أننا كنّا نقرأ عن أشياء مشابهة في صفحات فيسبوك، لكن بدا لنا أن سماع هذه القصص من فم من عايشها أكثر دراميةً من مجرد القراءة عنها عن بعد.

صراع الكيملك

بينما يعاني كثيرٌ من السوريين المقيمين في تركيا من تهديد الترحيل إلى إدلب مؤخراً، إلا أنه يوجد في المقابل بعض الذين استقروا  في تركيا وحصلوا على الجنسية هناك، أو بعضٌ من الميسورين الذين استقروا منذ سنوات في تركيا بشكل نظامي، حيث يجدّدون جوازاتهم كل سنة، ويعمدون إلى لقاء أسرهم في لبنان، أو حتى في سورية.

تعبّر إحدى السيدات التي جاءت من تركيا إلى سوريا بشكل نظامي مروراً السعودية ثم لبنان، أنها تشعر بسعادة بالغة بزيارة المدينة ولقاء الأهل أخيراً، لكنها متفاجئة من عدد المتسولين في طرقات المدينة، بعد أن كان من الأحاديث الشائعة عن مدينة حمص أنها من المدن القليلة في العالم الخالية تقريباً من المتسولين، وذلك نتيجة مبادرة قامت بها قبل سنوات إحدى الجمعيات الخيرية لاحتواء الأطفال المشردين والمتسولين، ثم عجزت عن الاستمرار فيها بسبب ظروف الحرب.

تقول السيدة إن منظر المتسولين أزعجها، وإن الوجوه الغريبة في شوارع المدينة تجعلها غير مرتاحة في التجوال في شوارعها غير المدمّرة القليلة المتبقية، لكن ذلك لن يمنعها في حال من الأحوال من تنظيم حفل ضخم لابنتها في مطعم جنة حمص، وذلك وفق العادة التي تزايد شيوعها مؤخراً أيضاً، أن يتم استئجار أحد المطاعم لإقامة الزيارات أو الحفلات فيه، تجنباً لفوضى العزائم في البيوت، بينما في عالم موازٍ للسوريين المقيمين في تركيا والهاربين من جحيم القتل والاعتقال، هناك من يعيش هلَعاً مختلفاً يرميه بعيداً عن جو الاحتفالات والزيارات ورحلات الاستجمام.

*****

إذا كان صحيحاً أنه ليس من الإنصاف التعميمُ في هذا المقام، إلا أن ذلك لا يمكن أن ينفي أننا نعيش تمزقات واهتراءات اجتماعية سيمتدّ أثرها لسنوات طويلة قادمة. ولا توجد إحصائيات عن عدد «الزوار» أو «السيّاح» القادمين من الخارج إلى سوريا، ولا توجد أرقام دقيقة عن عدد الأسر التي عادت للاستقرار فيها، ومع أنه لا يمكن القول بالفم الملآن أن هناك هجرة عكسية إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، إلا أنه لا يمكن نكران أن هناك من يقوم بذلك فعلاً، دون أن ينفي هذا الحوادث المأساوية التي طالت بعض العائدين «التائبين»، مثل قصة السيدة الحامل التي تم اقتيادها مباشرة من المطار إلى السجن، والتي تعددت الأقوال عن أسباب احتجازها. وإذا كانت حسابات العقل والتعقّل والمنطق أبعد من أن تكون حاضرة في زمن الحروب، إلا أن هناك تغيرات بطيئة وملحوظة تجري على مهل بين أوساط السوريين المهجّرين واللاجئين إلى خارج البلاد، وهي لا تبشر بالخير الكثير.