تقف الكاميرا على سطح بناء في الغوطة الشرقية؛ تنهال الصواريخ على الأفق الواسع واحداً تلو الآخر رافعة سحب الدخان واللهب. مشهدٌ رهيبٌ يجفل لأجله المتابعون في صالة العرض، آملين أن تتوقف الصواريخ عن السقوط وطحن الأبنية، لكن الصواريخ تستمر. لا شيء يوقف هذا الجحيم سوى نزول الكاميرا إلى تحت الأرض.
هنا تحت الأرض، ثمة ملامح لمدينة أخرى، فيها مشفى ميداني وأنفاق مُعتمة ومتشابكة وملاجئ ومدينة ملاهي للأطفال كي يلعبوا بعيداً الطرقات المستهدفة بغارات النظام والطيران الروسي. تحت الأرض أيضاً ثمة كادر طبي تديره طبيبة اسمها أماني، تركض بعد كل غارة إلى مدخل المشفى الذي يتوافد إليه الهالعون يحملون مصابين على النقالات الدامية.
بعد فيلمه آخر الرجال في حلب، يقدّم فراس فياض فيلمه الجديد، الكهف، الذي كان عرضه الأول في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي في كندا، وحاز فيه على جائزة الجمهور لأفضل فيلم وثائقي، كما أنه فاز أيضاً بجائزتي الجمهور والتحكيم في مهرجان كامدن السينمائي الدولي. ويسلط الفيلم الضوء على قصة الطبيبة أماني وكفاحها أثناء الحملة العسكرية الأخيرة على الغوطة الشرقية، حيث ساهمت بكل جهدها في إنقاذ المرضى والمصابين، وفي محاربة الأفكار الذكورية التي تنتقد عملها ووجودها في الفضاء العام.
تخوض أماني معارك عدة في مشفاها، وقد انتُخبت من قبل الكادر كمديرة لهذا المكان. في المعركة الأولى، تحاول بأنفاسها المتسارعة معالجة المصابين المتزايدين، وهي لأجل هذا تحتاج إلى الضمادات والأدوية وأدوات تجبير الكسور. لكنها في المعركة الثانية، التي ترى أنها لا تقبل التأجيل، تواجه الأفكار الذكورية التي تدعوها إلى الزواج و«الستر» والتنحي عن ميدان العمل العام، وتجد نفسها هنا مضطرة للتحطيم بدل الجبر؛ تحطيم جميع الأفكار التي تؤمن أن للمرأة نطاقاً معيناً لا يجب أن تتجاوزه: أماني تتجاوزه بجسارة، وهي تتعب من الأصوات المؤنّبة بقدر ما تتعب من القنابل.
تحاول الطبيبة أماني كسر حصار مركّب؛ الطائرات الروسية ترسم دوائر في السماء لإخبار المحاصرين أنهم عالقون وأنه لا منجى لهم؛ القذائف تبقيها تحت الأرض؛ الكيماوي لا تنفع معه الحصون والمتاريس؛ وفوق كل ذلك، يأتي رجالٌ إليها حاملين سيوف الأخلاق والفضيلة، داعين إياها إلى «لزوم المنزل» لأنهم «يريدون رجلاً ليتفاهموا معه». أماني تحاول نسف ذلك لأنه قائم على منطق هشّ، والقضاء على هذه الحجّة عبر إزالة لُبّها الفاسد.
فيلم الكهف من إنتاج شركة الأفلام الدنماركية وناشيونال جيوغرافيك، وتم تنفيذه بدعم جهات أخرى من عدة بلدان أيضاً، وعُرض في اليوم الافتتاحي لمهرجان تورنتو السينمائي في الخامس من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، وقد استمر العمل عليه لما يقارب عامين ونصف بالتعاون مع مجموعة من المصورين، بالإضافة إلى بعض المواد التي كان فراس فياض قد صورها بنفسه حسب قوله. والفيلم هو استعادة لفترة الحصار الأخيرة التي انتهت بتهجير مئات الآلاف من الغوطة الشرقية إلى الشمال السوري، وذلك بعد حملة عسكرية عنيفة شنّها النظام السوري مدعوماً بالقوات الروسية في الأشهر الأولى من العام 2018.
تدور معظم المشاهد في المشفى – الكهف، الذي يعمل أفراد طاقمه بكل إمكاناتهم وسط تزايد المصابين وشحّ الأدوية وتفاقم العجز؛ هذا العجز الذي يبلغ ذروته ويُترجَم دموعاً تذرفها أماني وزملاؤها بعد وصولهم إلى مرحلة الإنهاك القصوى، التي كانت انعكاساً لعنف النظام المنفلت مع الضربة الكيماوية الأخيرة التي سبقت اتفاق التهجير، وملأت المشافي بالأطفال الذين يصارعون لالتقاط أنفاسهم.
وقد كان حضور قضية التهجير سريعاً في الفيلم، وقد توجهنا بسؤال عن سبب ذلك لفراس فيّاض، الذي أجاب في حديث للجمهورية بأن «الفيلم يتحدث عن قصة الطبيبة أماني وصراعها الخاص مع المحيط المحافظ، ولم يكن الهدف منه سرد كافة تفاصيل القضية السورية. قضية التهجير تحتاج فيلماً منفصلاً بسبب أهميتها وكثافتها. فيلمي السابق آخر الرجال في حلب عالج قضية البقاء والخروج، ولم أشأ في هذا الفيلم التركيز على هذا الجانب تفادياً للتكرار».
وأَضاف فياض أن الفيلم بالأساس «هو محاولة للإشارة إلى الذكورية القامعة للمرأة في مجتمعنا، وإلى قرار أماني بمواجهتها في معركة دون خوف من العواقب»؛ متابعاً: «كان هذا أكثر الأفلام التي تعلمتُ منها أشياء جديدة على الصعيد الوجداني والقيمي، وأثَّرَ فيَّ للغاية. لقد سلطت أماني الضوء على كثيرٍ من مواطن الخلل في تفكيرنا وثقافتنا. أماني تقوم بعمل نِسوي في غاية الأهمية، وهي لا تقوم بذلك كردة فعل تفتقر إلى الصبر والرؤية، وإنما تمتلك شخصية ثورية وهادئة تظهر مثلاً في حركتها المتزنة في المكان، وفي جوابها للطفل الذي يتقدم ليتحدث عن شقيقته بالقول: دع أُختك تتكلم».
وأشار فياض إلى أن «وجود أماني كمديرة لهذا المكان أعطاه مساحة أرحب من الحرية، كان بالإمكان ملاحظة انعكاسها بوضوح على الممرضات اللواتي استطعن التحرك دون قيود في المكان، والطبيب الذي يتمكن من سماع الموسيقى أثناء إجراء العمليات الجراحية. هذه المساحة كان يمكن أن لا تتوافر تحت إدارة رجل محافظ».
هذا الفيلم هو واحدٌ من الأفلام السورية التي تصعد بشكل متزايد إلى منصات المهرجانات العالمية خلال الأعوام الأخيرة، تحاول سرد حكايا السوريين التي لم تبرز في التغطية الخبرية اليومية أثناء سخونة الحدث، وتفتح مساحات متجددة للنقاش حول الزوايا التي تنظر منها إلى الواقع، الواقع الذي سار على النحو الذي لا يريده معظمنا. بانتظار معرفة المزيد عن الصدى الذي سيُحدثه هذا الفيلم، والنقاشات التي يُمكن أن تُخاض حول مضمونه.