في ختام حديثه ضمن المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع أردوغان وروحاني يوم أمس الاثنين، استشهد فلاديمير بوتين بآيات من القرآن مرتين، مرة عند حديثه عن أن الطريقة المثلى لحل النزاع في اليمن هي الحوار، مستخدماً الآية التي تتحدث عن تأليف قلوب من كانوا أعداءً ليصبحوا إخوة بعدها، ومرة عند حديثه عن الهجمات التي تعرضت لها مصافي نفط سعودية، مستخدماً الآيات التي تقول بعدم جواز استخدام القوة إلا دفاعاً عن النفس، مؤكداً أن روسيا مستعدة لمساعدة السعودية في هذا المجال عبر بيعها منظومات دفاع جوي.
كانت ملامح تهنئة النفس والاعتداد بها تبدو واضحةً على وجه بوتين وهو يقول كلماته تلك، فيما راح كل من روحاني وأردوغان يضحكان على النكتة السمجة، يشاركهما في حبورهما هذا بعض الحضور في القاعة، ومن بينهم مسؤول إيراني لا أعرف اسمه، كان يجلس في الصف الأول، وقد بدت على وجهه ملامح البهجة منذ جاء بوتين على ذكر القرآن للمرة الأولى في حديثه.
كان المشهد برمته هزلياً إلى حد بعيد، فالرؤساء الثلاثة كانوا قد اجتمعوا أساساً من أجل التباحث في المسألة السورية، وفي الأوضاع الكارثية التي تعيشها إدلب على وجه الخصوص، لكن أياً منهم لم يقل كلاماً واضحاً بهذا الشأن، حتى أن قضية إدلب احتلت مساحة صغيرة في مجمل كلامهم للصحفيين، كما احتلت مساحة أصغر في البيان الختامي للقمة، لينتهي الاجتماع دون التلميح حتى إلى نتائج المباحثات التي دارت في الغرف المغلقة، باستثناء عبارات عمومية تخفي أكثر مما تكشف، وترسم علامات استفهام أكثر مما تقدّم إجابات.
كان الأهل في إدلب ينتظرون هذه القمة بفارغ الصبر، آملين أن تأتي باتفاق جديد على غرار اتفاق سوتشي في العام الماضي، ينهي ولو مؤقتاً جولة التدمير والمذابح الهائلة هذه، أو يرسم أي مسار يمكن توقعه للأحداث، لكن هذا لم يحصل، بل خرج الزعماء الثلاثة دون أن يقولوا شيئاً تقريباً بهذا الخصوص، فيما لا تزال مدفعية النظام وصواريخه تستهدف مناطق في ريف إدلب الجنوبي وسهل الغاب، ولا يزال مئات آلاف النازحين يفترشون بساتين الزيتون قرب الحدود السورية التركية.
وقد تضمَّنَ المؤتمر الصحفي والبيان الختامي للقمة الثلاثية الكلام العام الممجوج نفسه، عن مكافحة الإرهاب وسلامة الأراضي السورية، وعن رفض التدخلات الخارجية في الشأن السوري وضرورة حماية المدنيين، وعن أن الحل للمسألة السورية ينبغي أن يكون سياسياً بقيادة سورية، وأن مسار أستانا أثبت أنه المسار الوحيد الفعّال. ذلك بالإضافة إلى الإعلان بنبرة احتفالية عن أن اللجنة الدستورية باتت جاهزة تقريباً، وأنها قد تبدأ أعمالها قريباً، وبالإضافة إلى التركيز التركي على فكرة المنطقة الآمنة التي تريد السيطرة عليها لتوطين اللاجئين السوريين فيها شرق الفرات.
ولكن ما الذي يعنيه كل هذا الهراء الإنشائي على أرض الواقع؟ وهل اجتمع الثلاثة كي يعيدوا ما سبق أن قالوه مراراً وتكراراً؟ ليس لدينا إجابات قاطعة، كما أننا لا نستطيع أن نعرف على وجه اليقين ما الذي اتفقوا عليه في الغرف المغلقة، ولا ما هي الإجراءات الجدية التي تحدَّثَ عنها أردوغان بخصوص الوضع في إدلب، غير أن الوقائع المعلنة تكفي لاستنتاج الأهداف العامة لهذا اللقاء الثلاثي، التي هي الأهداف نفسها التي جمعت الدول الثلاث في أستانا أول مرة.
تريد روسيا وإيران من تركيا مزيداً من المساعدة في تصفية القضية السورية سياسياً، عبر الدفع بها بعيداً عن بيان جنيف وعن مسألة الانتقال السياسي، وعبر مواصلة إجبار المعارضة السورية على الاشتراك في مهازل أستانا وخفض التصعيد، وفي مماحكات اللجنة الدستورية المستمرة. بالمقابل، تريد تركيا من روسيا وإيران مزيداً من الدعم في مواجهة الولايات المتحدة بخصوص ملف شرق الفرات، وبخصوص صراعها مع حزب العمال الكردستاني.
وقد نجحت قمة أنقرة في تحقيق هذا الهدف، ذلك أن تركيا قدّمت ما يقع على عاتقها عندما احتفت باللجنة الدستورية وعندما أكدت أن مسار أستانا هو المسار الصحيح، كما أن كلاً من روسيا وإيران قدّمتا ما يقع على عاتقهما من خلال التأكيد على حق تركيا في ضمان أمنها. أما بقية التفاصيل التي يدفع السوريون ثمنها من دمائهم ومستقبلهم وعمرانهم، فهي ليست أكثر من تفاصيل قد يتفق الثلاثة عليها هنا ويختلفون هناك، وثمة دماء سورية جاهزة دائماً ليتم سفكها على مذبح تسوية «الخلافات الصغيرة».
تبحث روسيا عن ترجمة بربريتها العسكرية إلى انتصار سياسي في المسألة السورية، وهذا ما لا يمكنها فعله دون مساعدة تركيا، وتبحث تركيا عمّا تضغط به على الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية، وهذا ما لا يمكنها تأمينه دون مساعدة روسيا وإيران، وبانتظار أن تنتهي حاجة كل من هذه الأطراف لبعضها بعضاً، فإننا سنكون على موعد متجدد مع مزيد من هذه الاستعراضات الكلامية المثيرة للأسى، وعلى موعد مع مزيد من المجهول الذي تنفتح عليه حياة ملايين السوريين.
ربما تكون قمة أنقرة قد فشلت بخصوص تقرير المستقبل القريب لإدلب، وربما تكون قد نجحت، هذا ما سيبقى طيَّ الغيب حتى تكشف عنه الأيام القادمة؛ كذلك ربما تحتفظ العلاقة الثلاثية التبادلية بين رعاة أستانا بأهميتها لأشهر طويلة قادمة، وربما تفقد صلاحيتها في أي وقت لصالح اصطفافات وصراعات جديدة؛ لكن مسار أستانا الذي ما كان له أن يولد لولا التخلي الدولي الكامل عن المجتمع السوري في معركته مع السلالة الأسدية المتوحشة، سيبقى علامة على فساد النظام العالمي المتصاعد، وعلى كيفية تواطئ القوى الدولية والإقليمة مع المذبحة ومرتكبيها المعروفين.