تقول مؤشرات كثيرة إن الولايات المتحدة وإيران تقتربان من العودة إلى التفاوض، وفي الوقت نفسه تقول مؤشرات غيرها إن احتمالات التصعيد لا تزال حاضرة بقوة، وبنتيجة هذه التقلبات والاحتمالات، تهتزّ وتضطرب شبكة معقدة من المصالح المتقاطعة في منطقة تساهم بشكل أساسي في تحديد أسعار الطاقة حول العالم؛ هذا هو حال الاقتصاد العالمي اليوم، الذي يتأهب القائمون عليه لاحتمالات تصاعد أزمة كبرى غير مسبوقة منذ عقود.
كانت صواريخ وطائرات مسيّرة قد استهدفت، فجر السبت الماضي الرابع عشر من أيلول، منشآت نفطية تابعة لشركة أرامكو المملوكة للدولة السعودية، التي تُعتبر أكبر مُصدّر للنفط في العالم، وذلك في هجوم يأتي تتويجاً لسلسلة هجمات سابقة شنها المتمردون الحوثيون ضد المملكة بالطائرات المسيرة، واستهدفت مطارات ومنشآت حيوية. وقد أدى هذا الهجوم إلى تراجع إنتاج النفط السعودي إلى حوالي النصف، لترتفع أسعار النفط العالمية بنسبة 20 بالمئة مع حلول يوم الإثنين السادس عشر من أيلول، ويتجاوز خام برنت 71.00 دولاراً للبرميل الواحد، وهي أكبر نسبة ارتفاع خلال ثلاثة عقود تقريباً.
وقالت صحفٌ إن آخر مرة قفزت فيها الأسعار مثلما حدث يوم الإثنين، كانت أثناء الغزو العراقي للكويت عام 1990، وذلك بسبب تراجع الإنتاج بمعدل 5.7 مليون برميل يومياً، أو ما يعادل أكثر من خمسة بالمئة من المعروض العالمي من الخام، فيما قالت صحيفة ذا صن إن ارتفاع أسعار النفط يوم الإثنين فاق ارتفاعها أثناء هجمات 11 سبتمبر.
وانخفض إنتاج النفط السعودي من 9.8 مليون برميل يومياً إلى 4.1 مليون برميل، فيما تنبأت مجموعة غولد غولدمان ساكس للخدمات المالية بأن الإنتاج قد يتوقف لمدة تتجاوز ستة أسابيع، ما قد يجعل سعر خام برنت يتجاوز 75 دولاراً للبرميل، رغم أن مدى تأثير الهجوم لم يكن قد تحدَّدَ بعد. لكن التقارير المطمئنة حول قرب عودة الأمور إلى طبيعتها بدأت تصدر سريعاً بعدها، ما ساهم في تخفيف المخاوف من أزمة عالمية، وجعل الأسعار تعاود الهبوط تدريجياً.
وكانت السعودية قد أعلنت بعد الضربة المفاجئة أن إنتاجها النفطي سيتراجع، وأنها ستؤجل تسليم الشحنات النفطية المستقبلية، لكن بعد أيام من ذلك، بدأت التصريحات الرسمية تشير إلى أن فجوة نقص الإنتاج التي سببها الاستهداف سيتم تجاوزها خلال أسبوعين أو ثلاثة، أو بحلول الشهر القادم، ما سبب ارتياحاً في السوق بعد التخبط الذي أحدثه ارتفاع الأسعار المفاجئ.
رسم بياني يظهر تغير أسعار النفط من الإثنين 16 أيلول وحتى الجمعة 20 أيلول 2019
لكن امتصاص آثار الصدمة اقتصادياً جاء متوازياً مع لهجة تصعيدية من السعودية وواشنطن، اللتين وجهتا الاتهام لإيران بالضلوع في الهجوم، الذي كان الحوثيون قد أعلنوا مسؤوليتهم عنه مؤكدين أن مصدره الأراضي اليمنية. وقد عرضَ المتحدث باسم وزارة الدفاع السعودية في مؤتمر صحفي حطام الصواريخ والطائرات المسيّرة التي استهدفت المنشآت النفطية، مؤكداً أن تطور الصواريخ والمسيّرات المستخدمة يؤكد مسؤولية إيران عن الهجوم، ومؤكداً أيضاً أن الهجوم جاء من الشمال وليس من الجنوب، نافياً بشكل قاطع أن يكون مصدره هو الأراضي اليمنية.
وكانت الولايات المتحدة، قبل هذا الهجوم، قد بدأت بإرسال إشارات تفيد برغبتها التفاوض مع إيران، وبأنها يمكن أن تغيّر استراتيجية «الضغط الأقصى» التي تبنتها ضد طهران خلال الفترة السابقة. وقد جاءت إقالة المستشار جون بولتون، المتشدد ضد إيران والذي كان مهندس هذه السياسية، كخطوة دالة على تغير المزاج الأمريكي نتيجة انغلاق الآفاق في هذه الاستراتيجية، التي يبدو أنها جرّدت إيرن مما يمكن أن تخسره أو تخاف عليه، ما دفعها إلى تبني سياسة هدم المعبد على رؤوس الجميع، والمبادرة في التصعيد.
لكن واشنطن عادت لتبنّي لهجة حادّة ضد إيران بعد هذه الهجمات، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن الهجوم الإيراني على أرامكو هو «فعل حرب»، فيما أمر ترامب بفرض مزيد من العقوبات على طهران، مشيراً إلى أن «الحرب هي الخيار الأخير» الذي قد تلجأ بلاده إليه. وبالمقابل، بينما ترفض طهران جميع الاتهامات الموجهة لها بالمسؤولية عن هجوم أرامكو، فإنها تصّعد من لهجتها أيضاً في الوقت نفسه، حيث قال وزير الخارجي الإيراني يوم أمس الخميس إن أي هجوم على أهداف داخل إيران سيكون الرد عليه «حرباً شاملة».
وفي الواقع، سواء كان الحوثيون هم الطرف الذي قام بتنفيذ الهجوم أم لا، فإن مما لا شك فيه أنه يأتي في سياق صراع إيران وحلفائها مع السعودية والولايات المتحدة؛ ويثير تنفيذ هذا الهجوم بعد أيام قليلة من إقالة بولتون إشارات استفهام كبيرة حول الموقف الإيراني، ذلك أن إقالة بولتون كانت رسالة واضحة تشير إلى استعداد واشنطن للتراجع عن بعض سياساتها المتشددة، غير أن طهران ردّت على هذه الرسالة بتصعيد غير مسبوق على الأرض، وهو ما يعني رسالة تفيد بأن إيران لن تقبل العودة إلى المفاوضات ما لم يكن ذلك على أرضية على العودة إلى الاتفاق النووي الذي تخلت عنه واشنطن.
كذلك كانت السعودية ستطرح شركة أرامكو للاكتتاب العام قبل نهاية هذه السنة، وذلك ضمن خطة محمد بن سلمان لتمويل مشروع رؤية 2030، لكنها قررت تأجيل الموعد نتيجة هذا الهجوم. وتشرح هذه الواقعة كيف أن الهجوم جاء ضربة مباشرة وقوية للاقتصاد السعودي، ورداً من إيران على العقوبات التي أنهكت اقتصادها، ذلك أنها أعلنت من خلاله قدرتها على تعطيل تصدير النفط السعودي رداً على منعها من تصدير نفطها عبر العقوبات، وقدمت نموذجاً عمّا يمكنها فعله لتعطيل تصدير النفط من الخليج في حال تصعيد المواجهة.
وستكون الأسواق الأوروبية على وجه الخصوص هي الأكثر تأثراً في حال حدوث أزمة مديدة في توريد النفط من الخليج، وذلك بسبب الانكماش الذي تشهده الاقتصادات الأوروبية الكبرى أصلاً، واعتماد السوق الأوروبية بشكلٍ أساسي على إمدادات النفط الخليجي؛ ومن شأن توقّف التوريدات النفطية أو تهديد انتظامها، وبالتالي ارتفاع أسعار النفط العالمية، أن يفاقم من أزمة الاقتصاد الأوروبي، ذلك ما لم يكن هناك بدائل لا يبدو أنه يمكن توفيرها بسهولة.
ليس واضحاً بعد شكل الرد السعودي الأميركي المُحتمل على هجوم أرامكو، وليست واضحة الخطوة التالية التي يمكن للولايات المتحدة وحلفائها القيام بها لإجبار إيران على تقديم تنازلات، لكن التأثير الواسع لهجوم أرامكو على الاقتصاد العالمي، الذي جاء نموذجاً مصغراً جداً عمّا يمكن أن تتسبب به حرب شاملة في الخليج، قد يدفع سريعاً إلى صفقة جديدة بين الولايات المتحدة وإيران، صفقة لا بديل عنها سوى أن يستعد الاقتصاد العالمي للتعايش مع أزمة مستمرة ومواجهات مديدة في الخليج، يمكن أن تنقلب حرباً شاملة في أي لحظة.