ليس بشار الأسد هو الذي قال «إحنا فقرا أوي»، فهذا كلام نظيره المصري عبد الفتاح السيسي عن حال مصر وأهلها، والحال أنّ هذا الفقر لم يمنع السيسي من صرف مبالغ طائلة على قصورٍ وفنادق، عوض التخفيف بها عن الفقراء والمُحتاجين الذين باتوا يشكلون ثلث الشعب المصري، بحسب إحصاءات حكومة السيسي نفسه. وقد أفضى عبث السيسي بالمال العام بعد فضحه في فيديوهات المقاول والممثل محمد علي، الذي استخدم مراراً، وبتهكّم، جملة السيسي «إحنا فقرا أوي»، إلى اندلاع احتجاجاتٍ شعبيةٍ في عددٍ من المدن المصرية، حيث لامس حديث محمد علي عن الفساد ولقمة العيش قلوب المصريين الحانقين على أوضاعهم الاقتصادية المزرية، لا سيما أنه جاء بلغةٍ يألفونها في حياتهم العامة، وهو ما أعطى أثراً على الأرض عجز عنه الحديث عن القمع والحريات والاستبداد وسلب السلطة منذ سنوات.
أما سوريا، فهي لا تشبه دولةً غيرها كما قال بشار الأسد قبيل انتفاضة السوريين عام 2011، ونحن بدورنا سنكون على قدرٍ عالٍ من البلاهة إن اعتقدنا أنّ لقمة المواطن السوري تعني رئيس الأبد، فقد انشغل عنها بالمقاومة والممانعة ومحاربة الإرهاب، وترك الحديث فيها لإعلامه الوطني ومحلليه؛ ليُفهمونا على نحوٍ متواصل أنّ البلاد التي سحقها الجيش السوري وحلفاؤه ما زالت قوية، وقد أثبت اقتصادها، الذي ما يزال متماسكاً رغم الحرب الكونية، أنّه مبنيٌّ على أُسسٍ قويمة. وهو، أي الاقتصاد، إنْ أوهنته عقوبات الدول الشريرة وضربات الميليشيات الإرهابية، فقد دخل طور التعافي، وها هي دمشق قد استقبلت 1700 شركة أجنبية من 38 دولة في معرضها الدولي، وقد تسابق أهالي العاصمة لزيارة المعرض بوصفه مناسبة للتسوّق لا يسع المواطن تفويتها، كما يخبرنا عنوانٌ لافتٌ لصحيفة تشرين الرسمية.
ولكن، هل اشترى «المواطنون» شيئاً من المعرض؟ هل وضعوا ضمن مخططاتهم شراء سلعٍ نالت استحسانهم بين معروضات الفعالية الاقتصادية العملاقة؟ هل أصابتهم حيرة الاختيار بين تمر جنوب العراق وجنوب إيران؟ أيهما سيكون أشهى على مائدة السوريين؟ لا شكّ أنّ طرح أسئلةٍ كهذه على أيّ سوريٍّ ستكون مدخلاً إلى نوبة ضحكٍ عدمية، فالمعرض <سيران المُفلسين>، كما يقول جابر الأحمد (اسم مستعار)، الذي أكمل عامه الثاني في دمشق نازحاً إليها من ريف ديرالزور.
فقراء المعرض
امتلأت وسائل الإعلام الموالية للنظام بتغطياتٍ مصوّرةٍ لمعرض دمشق الدولي، وقد تابعنا العشرات منها بحثاً عن أكياسٍ يحملها الناس تدلُّ على أنهم قد زاروه بغرض التسوّق فعلاً، لكنّ هؤلاء المُتبضّعين كانوا قلةً قليلةً جداً، ولا تُرى إلا بعد جهد، بينما الغالبية العظمى قد وصلت أرض المعارض بفضل الباصات المجانية، وهم يتسكعون فيها من أجل شمّ الهواء والترويح عن الصغار، حاملين معهم فنجان قهوةٍ كرتوني وسيگارة. ويقول مذيعٌ في صفحة دمشق الآن واصفاً الطوابير الطويلة للمنتظرين أمام الشركات التي توزّع مشروباتٍ مجانية أو قطعة طعامٍ صغيرة ليتذوّقها الناس على سبيل الدعاية: إنه لو وقف فيها فلن يحصل على شيءٍ قبل حلول اليوم التالي. فهل مردُّ ذلك يعود إلى كون السوريين «فقرا أوي»، من دون أن يدري النظام وإعلامه بذلك!
كثيرةٌ الإحصائيات والأرقام التي تتحدّث عن معدلاتٍ مهولةٍ لمستويات الفقر في سوريا، ومن بينها التقرير الصادر عن الأمم المتحدة في شهر آذار(مارس) من العام الجاري، والذي قال إنّ قرابة 83 بالمئة من السوريين يقبعون تحت خط الفقر. لكنّ هذه الإحصائيات لا تقول شيئاً عن كيف يعيش هؤلاء الفقراء الذين باتوا ينفقون 90 بالمئة من مدخولهم الشهري من أجل تأمين الطعام لا غير. فكيف لأسرةٍ سورية تحتاج في المتوسط لـ 150 ألف ليرة سورية شهرياً (بحسب أرقام حكومة النظام) لتأمين متطلبات المعيشة، أن تؤمّن قوتها، في حين لا يتجاوز متوسط الرواتب الحكومية 40 ألف ليرة. بكلماتٍ أُخرى: كيف يستطيع ربـ/ة الأسرة المُوظف/ة، أو الذين هم من أصحاب الدخل المحدود، تأمين احتياجات أسرته/ا وفقاً لهذه المعادلة؟ ليس ثمة إجابة واحدة، فلكلٍّ قصته التي يرويها كأنه يبثّ همّاً أثقل صدره، ويزيد عليها بمقارناتٍ مع أناسٍ يعرفهم، ليقول لنا أو ليقنع نفسه ربّما أنه بخيرٍ ونعمة إذا ما قارن حاله وحال أسرته بمن يعيشون ظروفاً أكثر سوءاً. وللمفارقة، فإننا لم نسمع من الذين تحدّثنا إليهم جملة «ساترها ربك»، التي تعوّد السوريون الإجابة بها عن أسئلة المعيشة، فالحال لم تعد مستورةً أبداً.
أكثر من عمل
يقول حسان البكري (اسم مستعار) الذي يعمل مستخدماً في مؤسسةٍ حكومية: «راتبي وصل إلى 37 ألف بعد 31 سنة في الخدمة، وقد تهجّرت مع زوجتي وأطفالي من منطقة التل بريف دمشق نحو مركز إيواءٍ في مساكن برزة، ومن ثمّ أُخرجت من مركز الإيواء واستأجرت بيتاً على الهيكل في منطقة القزاز، وإيجار بيتي اليوم 15 ألف ليرة شهرياً. قبل العام 2011، كنت أقدّم خلال عملي كمستخدم خدماتٍ مأجورة للموظفين؛ كأن أجلب لهم الخضار واللحمة والخبز أثناء ساعات الدوام، كما كان بعضهم يعطيني مبالغ شهرية على سبيل الصدقة، وهذا ساعدني زمناً في توفير الخبز والطعام لأولادي. أما اليوم، فذلك لم يعد كافياً، فقد كبر أولادي وصرت مُهجّراً، كما بات عليّ دفع إيجار البيت. لذا فأنا أعمل حالياً بعد دوامي كأجير على بسطة لبيع أغراض العصرونية، وذلك منذ الساعة الخامسة مساءً وحتى العاشرة ليلاً، وأحصل مقابل ذلك على يومية مقطوعة من صاحب البسطة، بمقدار ألف ليرة، وهي الضمان الوحيد لي ولعائلتي حتى لا ننام جائعين».
أما بالنسبة إلى أحمد الجابر (اسم مستعار)، الذي يعمل موظفاً من الفئة الأولى في وزارة التربية، فيصل راتبه إلى 43 ألفاً، وهو يملك بيتاً يعيش فيه مع عائلته، لكنه يقول إن راتبه لا يكفيه، سيّما أنّ أولاده كبروا وصاروا في الجامعات، لذا فهو يعمل سائق تكسي منذ الساعة السادسة مساءً وحتى منتصف الليل، ويحصل من صاحب السيارة على مبلغ 3500 ليرة يومياً.
حال سارة العبدالله (اسم مستعار) أسوأ من ذلك، فهي قد فقدت زوجها خلال «الحرب»، بينما لجأ ولداها إلى ألمانيا خوفاً من الخدمة العسكرية، وهي تعيش اليوم في منطقة جرمانا مع بناتها، وتعمل مستخدمةً تشطف أدراج البنايات وتنظّف المدارس، وما يساعدها على تأمين إيجار بيتها وطعامها وطعام بناتها هو ورود حوالة من أولادها بمقدار 100 دولار أميركي كلّ شهرين، غير أنّ مكتب الحوالات يعطيها قيمة الحوالة وفق تسعيرة المصرف المركزي، أي 435 ليرة مقابل الدولار الواحد. تشعر أم موفق بالقهر نتيجةً لذلك، وتقول: «إنّ الدولة أخذت زوجي وهرّبتْ أولادي، وها هي تسرقني»، وبالطبع هي دائماً ما تستلف من تاجر بقالة في حارتها لتسدد ديونها حين ورود الحوالة.
وترى ليلى علوش (اسم مستعار) التي تراقب الحال المعيشي للناس في دمشق، أنّ إحصائيات الفقر ليست ذات أهمية، وملامح هذا الفقر أوضح من جميع الأرقام، فقد ازدادت أعداد المتسوّلين وبائعي القمامة إلى حدّ كبير، كما تزايدت الأعمال العشوائية التي لا تعود إلا بدخلٍ بسيطٍ جداً؛ كالبسطات وبيع القهوة والشاي والطوابع وما شابه ذلك.
الحل في أن ترتشي
أما حسين السعود (اسم مستعار) الذي يعيش في منطقة المربع الأمني الذي مازال خاضعاً لسلطة النظام في الحسكة، فيعتبر أنّ الدولة العاجزة عن رفع رواتب وأجور موظفيها وجدت الحل في أن تغضّ الطرف عنهم، فهي لم تعد تحاسبهم أو تُدقّق في فسادهم، بل باتت الرشوة مسموحةً وعلنية. يقول حسين: «موظف المالية يعرض على التجار تخفيض الرسوم المفروضة عليهم من 15 ألف ليرة إلى خمسة آلاف، وذلك مقابل أن يعطوه ثلاثة آلاف ليرة كرشوة». ولا يختلف أمر الرشاوى والتعيّش على ابتزاز التجار كثيراً بالنسبة للموظفين في حلب، حيث يقول التاجر راضي الأشقر (اسم مستعار) للجمهورية: «نحن الآن إزاء موضة البيان الجمركي، إذ لا يملك أيّ تاجر بياناتٍ جمركية لكل البضائع التي يحتويها متجره، والحل الوحيد هو دفع رشاوى للمفتشين، فمعادلة هؤلاء هي إما أن نضرّك أو أن تدفع لنا».
آجار الطريق يلتهم الرواتب
يعمل وائل ثابت (اسم مستعار) موظفاً في إحدى شركات القطاع الخاص باللاذقية منذ 23 عاماً، وهو أعزبٌ يسكن في جبلة، ويبلغ راتبه حالياً 55 ألف ليرة. يقول وائل: «إن مصرف التسليف الشعبي يقتطع من راتبي 11 ألف ليرة كقسطٍ شهري بعد أن نجحت بالحصول على قرض، وأنا أحتاج يومياً إلى 250 ليرة أجرةً للطريق بين مسكني وعملي، كما أحتاج 350 ليرة قيمة دخان. حصيلة ذلك، بعد اقتطاع مصاريف هاتفي المحمول، هي أنّ يتبقى لدي 20 ألفاً لآكل بها، غير أنّ هذا ليس هو الحال على أرض الواقع؛ إذ أنّ سعر فنجان القهوة على الرصيف 50 ليرة، وأجرة أي تاكسي اضطراري لا تقل عن 300 ليرة».
يضيف وائل أنّ «هنالك أشخاص يُعتبرون من أصحاب الملايين على الورق، ولكن أموالهم عبارة عن أملاك عقارية، ونتيجة الركود العقاري الذي تشهده اللاذقية منذ أكثر من سنة، فهم فقراء لا يختلف حالهم عن حال أولئك الذين لا يملكون سوى رواتبهم، والجميع في النهاية مضطرٌ للعمل في أكثر من مكان وأكثر من مهنة، أو أن يصبح مُرتشياً. صديقي يعمل يومياً من الساعة السابعة صباحاً حتى الثانية عشرة ليلاً لتأمين مصروف أسرة مكونة من أربعة أفراد، وبالرغم من ذلك فهو بحاجة المساعدة التي يقدمها له أهله».
مشكلة الأستاذ سمير الحافظ (اسم مستعار) مع مصروف الطرقات لا تختلف عن مشكلة وائل، فهو مدرّس نزح من ديرالزور التي فقد فيها منزله ومتجره نحو مدينة حلب، حيث قدّم له صديقه منزلاً هناك يعيش فيه ريثما تتبدّل أحواله، لكنه ما يزال مضطرّاً للذهاب إلى ديرالزور مرةً أو أكثر كل شهر من أجل تسجيل حضوره. يقول سمير: «أنا أُنفق كلّ راتبي في هذه الرحلة، فآجار طريق الذهاب والعودة يبلغ 24 ألف ليرة، وراتبي 50 ألف ليرة، وفي كلّ مرة أُضطر لجلب زعتر أو صابون حلبي أو هدية أخرى لمدير المدرسة مقابل تغاضيه عن غيابي. كلّ ذلك في سبيل أن تنقضي الشهور القليلة القادمة حتى أتمكن من التقاعد. أما بالنسبة لمصروف البيت، فأولادي الثلاثة، الذين يُفترض أنهم طلاب، يعملون لسدّ احتياجات الأسرة، ونقتصر في حياتنا على الأساسيات. لقد انتهى زمن الرفاهية، وأفضل صورها اليوم هي أن تشتري القليل من البزر وتذهب مع صغارك إلى ساحة سعدالله الجابري أو حديقة السبيل».
الطوابير والمزابل
حسين الراغب (اسم مستعار) تاجرٌ من الحسكة، يقول للجمهورية إنه ذبح كبشاً في أول أيام عيد الأضحى الفائت، ليجد أنّ «أمة الثقلين» صارت على باب بيته. يضيف حسين: «طلبت مني امرأةٌ حصةً لها، حتى لو كانت (مراميط) أو عظماً عَلِقَ به بعض اللحم. تقول إنها لم تأكل اللحم منذ سنة. هذا ليس غريباً، فسعر كيلو اللحم ستة آلاف ليرة. السمن النباتي والزيت صارا بديلين عن اللحم بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس».
ويتابع حسين: «سابقاً كانت المقالي طعام الفقراء، أما اليوم لم تعد كذلك. اليوم، حين تقرر إحدى الأسر أن تطبخ طبخةً محترمةً فإنّ ذلك يعني العجة، فهي المعادلة الأنسب: 200 ليرة بقدونس و400 ليرة بيض و400 ليرة خبز. يخبرني أحدهم كيف صار يخجل من أولاده حين يعود حاملاً بيده كيس البقدونس. أوضاع الناس صعبة إلى درجة أنّه ما عاد بمقدور الكثيرين أن يقولوا لك تفضل اشرب كأس شاي، حتى لو كان ذلك على سبيل المجاملة».
خلال حديثنا إلى محمود السليمان (اسم مستعار)، وهو تاجرٌ يعمل في الحسكة أيضاً، قال: «السلل الغذائية التي تقدمها بعض الجهات بين الحين والآخر تساعد الناس، رغم أنّ الذلّ بات شرطاً للحصول عليها. تجد أمام مركز الهلال الأحمر في حي الناصرة بالحسكة طوابيراً ليس لها أولٌ ولا آخر، كما أن جميع الناس باتوا باحثين عن عمل. علّقتُ في إحدى المرات ورقةً على باب محلي أطلب فيها آنسةً للعمل، في ذلك اليوم واليوم التالي جاءتني أكثر من مئة صبية. أيضاً يدخل يومياً عشرات الشحادين إلى محلي كل يوم، وللوهلة الأولى أظنهم زبائن، فليس عليهم معالم التسول التي كنا نعرفها سابقاً. لقد صار اعتيادياً أن تخرج أمٌّ من عيادة الطبيب لتشحد قيمة الوصفة الطبية، فلا سبيل لشرائها سوى هكذا».
ويكمل محمود: «علاوةً على ذلك، فإن بعض الأمهات والآباء لم يعودوا يدققون على أولادهم وبناتهم حين يجلبون أشياء وحاجيات وملابس إلى البيت دون أن يكون لديهم مورد مالي. بالطبع مصدر هذه الأشياء ليس سليماً، وقد تكون سرقات أو ما شابه، لكن طالما أنّ الأهل عاجزون عن تقديم أيّ شيءٍ لأبنائهم؛ فهم يكتفون بالسكوت، بينما الحسرة والقهر يلتهمان صدورهم».
أمّا أحمد اليوسف (اسم مستعار)، الذي يسكن في الحسكة أيضاً، فيقول: «إنّه مشهدٌ سريالي حين تقرأ عن فضائح المسؤولين الأخيرة التي تقول إنهم سرقوا مليارات الليرات، بينما أنت تشاهد أمامك كيف يأكل نساءٌ وأطفال من المزابل!» ويشرح أحمد كيف مرّ قبل يومين في حيّ المشيرفة بالحسكة، حيث رأى أكثر من مئة امرأة يعملن في محامص البزر. يتابع: «إنهنّ يقمن بفرز البزر وغسله وغربلته منذ الثامنة صباحاً وحتى الثالثة ظهراً مقابل ألف ليرة. الأمر نفسه تجده أمام قاطرات الفحم، فعشرات النساء يعملن على فرزه بين ما هو صالح للشوي أو الأراكيل مقابل ذات المبلغ. التجار باتوا يفضّلون اليد العاملة النسائية لرخصها، كما أنّها كثيرةٌ ومتوفرة، ومما يزيد حاجة الاعتماد عليها اليوم هو أنّ الشباب بين سن الثامنة عشر والرابعة والثلاثين باتوا حبيسي البيوت، فقد بدأت قوات سوريا الديمقراطية حملةً للتجنيد الإجباري قبل أيام، وقيل إنها ستستمرّ مدّة شهرٍ كامل».
إدلب مختلفةٌ في فقرها أيضاً
ضريبة الفقر في إدلب مختلفة عن باقي المحافظات السورية هذه الآونة، فهي في المقام الأول عجزٌ عن النزوح الذي لا يدري أوانه ساكنو ما تبقى منها تحت سيطرة المعارضة، حين يقرر النظام وحلفاؤه شنّ عملية عسكرية واسعة شبيهة بما حصل في ريف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي. يقول إبراهيم السالم (اسم مستعار) من سراقب: «الناس لا يهتمون اليوم بجوعهم بالقدر الذي أضحى فيه البقاء في البيت هاجساً، إذ لم يعد في أيديهم أموالٌ تُعينهم على النزوح، لا سيما أنّ إيجار أيّ بيت في مناطق الشمال الآمنة لا يقلّ عن 150 إلى 200 دولار شهرياً، والغارات المُتكرّرة في الشهور الماضية عطلت الأسواق ونالت من أرزاق الناس؛ إذ أنّ غارةً واحدةً تستهدف السوق تعني عودته شهراً إلى الوراء، وبعدها لن يستردّ عافيته وتتحرك فيه الأعمال إلا بعد مرور وقتٍ كافٍ لتطمين الناس إلى أنّهم لن يكونوا ضحايا غارةٍ جوية تستهدف السوق مجدداً».
أما عبد اللطيف يحيى (اسم مستعار)، الذي يعيش هو الآخر في سراقب، فيروي حال أحد أصدقائه ليوضح مدى الفقر الذي وصل إليه سوادٌ كبير ٌمن أهل إدلب والنازحين إليها. يقول عبداللطيف: «الناس في إدلب يتلوّون من الجوع والفقر، لكنّهم يكابرون على أنفسهم ويسكتون. أخشى أن نعضّ أكتاف بعضنا البعض في الشتاء المقبل، فقد كنّا متأملين بصيفٍ تتحسن فيه الأوضاع وتشهد الأسواق تحركاً. خلال فصل الشتاء الماضي شهدت المنطقة درجات حرارةٍ شديدة الانخفاض، وفي أحد الأيام جاءني صديقٌ لي، وكان مغموماً، لكنّه لم يفصح عن دواعي غمّته. بعد ذلك بأسبوع عاد ليخبرني أنّه عاش المنخفض الجوي مع زوجته وأولاده الأربعة دون أن يكون في البيت ليتر مازوت واحد. وفضلاً عن ذلك لم يكن في بيته سوى ثلاثة أرغفة من الخبز. يقول الرجل: اختلقت خلافاً مع زوجتي، وبدأت أصرخ متظاهراً بالغضب، وذهبت للنوم دون عشاء. أردت بذلك فقط أن أترك الخبز وقليل الطعام المتبقي في المنزل لعشاء أولادي دون أن أشعرهم أنه ليس بإمكاني أن أشتري غيره في تلك الليلة». يتابع عبداللطيف متنهداً: «يوجد على غرار مثال صديقي ما لا يتّسع إحصاؤه».
أما أحمد السلطان (رفض التصريح عن اسمه الحقيقي لأسباب أمنية)، الناشط من ريف إدلب، فيعزو جزءاً من معاناة الناس إلى ممارسات هيئة تحرير الشام وحكومتها. يتساءل أحمد: «ألا تكفينا غارات النظام وروسيا من السماء حتى تنغّص الهيئة ومجاهدوها عيشتنا على الأرض! الكثير من الأسر في إدلب تعتمد على المساعدات الإغاثية التي توزّعها المنظمات، غير أنّ الهيئة وحكومة الإنقاذ يسرقون منها الكثير قبل وصولها إلى مستحقيها. تبدأ عملية السرقة بدءاً من معبر باب الهوى؛ حيث توجد ‘هيئة المنظمات’ التابعة للإنقاذ، وصولاً إلى أمراء القطاعات التي ستُوزّع فيها الإغاثة. في سراقب مثلاً، نعرف أنّ 1350 سلة غذائية يُفترض أن تصل شهرياً، غير أنّ المدينة لا يصلها أكثر من 350 سلة، وحين تسأل أين ذهبت باقي السلال؟ يجيبونك: هي حصة المجاهدين والعمال.. هؤلاء أليسوا فقراء، أليسوا سوريين! لا بل فوق ذلك هم مجاهدون!».
ولا يوفّر أحمد في نقده المنظمات نفسها، يقول: «إنّ سياسة التخصيص والمُخصّصات باتت أكثر من مزعجة. بات لديّ انطباعٌ بأنّ المنظمات تتلذّذ باستثارة حنق الناس؛ ماذا يعني أن يكون الناس جوعى وبحاجة كيلو رز في هذه الأيام العصبية، فتقوم إحدى المنظمات بتنفيذ مشروع لإنارة طرقات سراقب بألواح الطاقة الشمسية! ألا يرى هؤلاء صور الناس الذين ينامون تحت شجر الزيتون في الريف الجنوبي لإدلب؟ ألا يعلمون بجوعهم! ألا يعلمون أنّ نساءً وأطفالاً يتغوطون في العراء وصاروا يحلمون بما هو أقل من الطعام أو الخيمة؛ هم يريدون فقط قضاء الحاجة مستورين. أمّا النازحون، فلا أدري كيف يعيش هؤلاء، وإذا سألتهم هم أنفسهم فلن يجيبوك، نعم… هم أيضاً لا يعرفون كيف ومن أين يعيشون».
نعود إلى عبداللطيف يحيى من سراقب لنسأله مرةً أخرى؛ من أين تأكل الناس يا أبا شادي؟ يقول: «إنّ ربّ الأسرة صار يشحد ‘بأدب’ من الذين هم حوله، فإذا يئس منهم طلب من المغتربين. الكثير من الأسر صارت تستدين المال لكي تبعث بولدٍ أو أكثر للعمل في تركيا، وذلك على الرغم من خطورة عبور الحدود، فلا حلّ سوى ذلك. يقول الأب لابنه: اذهب للعمل هناك وأرسل لنا المال؛ ذلك خيرٌ لنا ولك من أن نعوي جوعاً». يسألني عبداللطيف لماذا أسأله من أين يعيش الناس في إدلب؛ يمازحني بالقول: هل تريد توزيع مصاري على الناس؟ فأخبرته أننا سننشر مادةً عن الفقر في الجمهورية، فيوصيني أن أكتب أنّ العيش في إدلب يتطلب منك أن تكون سوبر مان، وصعبٌ أن تكون سوبر مان.
لكلّ سوريٍّ اليوم قصته الخاصة والمختلفة مع الفقر وأعباء الحياة وتكاليف المعيشة، ولا يسع المرء إلا أن يقف خجولاً وحائراً أمام قصص الناس التي يروونها عن يومياتهم وأزماتهم المعيشية وفقرهم وعوزهم. أتمنى لو كان بوسعي التخفيف عنهم، وتحاصرني الندامة على طرحي سؤالاً هو حديثهم اليومي؛ من أين تعيشون؟ أتمنى لو كان بمقدوري أن أعانق جميع الذين تحدّثت إليهم من خلف شاشة الجوال، أن أدخل معهم نوبة بكاءٍ تخفّف عني وعنهم. جُلّ السوريين اليوم فقراءٌ ويحتاجون المساعدة العاجلة، وهم أيضاً يستحقون دولةً ونظاماً يحترمان معاناتهم، ويتطلعون إلى نظام حكمٍ يكون مسؤولاً عن إزاحة شبح الفقر المدقع والمخيّم على كل تفاصيل حياتهم، لا أن يبدّد أموالهم في سبيل حروبه عليهم. والثابت أنّ هؤلاء الفقراء ليسوا بحاجة معارض «دولية»، إنما هم بحاجة سقف وجدران ولقمة كريمة. قد يبدو صعباً أن يخرج السوريون إلى الشوارع بسبب الفقر ونهب النظام لأموالهم، وذلك ليس لأنهم أقلّ شجاعةً من أقرانهم المصريين، بل لأنهم سُحقوا تماماً، كما لم يُسحق شعبٌ آخر. ولكن، من قال إنّ المسحوقين يصبرون كثيراً على ضيمهم!