لم أخبرك قبلاً كم أكره وجبة الإفطار، الإفطار يجعلني أشعر وكأنني دمية محشوة، وكأنني أتناول طعام الموتى، لا يعني ذلك أنني لا أستمتع به لكنني أمقت الشعور الذي يخلّفه في النفس. ولا أستطيع الجزم إن كان يخلّفه أم يوقظه. الأمر مرتبطٌ بصباحات طويلة من التضور وآلام المعدة الفارغة. يدخل الماضي والحاضر في عراك وينتصر الحاضر، لكن الماضي وهو يموت يطلق لعنته نحو المستقبل مثل شخصٍ أدرك تعرضه للخيانة. إن اللعنة التي يطلقها الموتى لا يعود ممكناً إبطالها فقد غادر أصحابها. أخبرك هذا بينما أنظر نحو الطريق من النافذة، فأرى الماضي في الأسفل يقف على الرصيف، ويبدو إنساناً نبيلاً شجاعاً قتله أصدقاؤه. أرى النظرة المريعة للإدراك في عينيه المحمرتين وأرى تحولها إلى مرارة، الشرايين الرقيقة في الأعين تتلون بالأسود. إن الجوع الطويل مثل أي نوع من العذابات الجسدية الأخرى يترك نوعاً من الالتباس، تبدأ الروح بالاعتقاد بأنها تقترب من أن تكون آلهة باستغناء جسدها عن الطعام، وحين يمدونها به وحين يعود الشبع  فإنها تمقته كما لو أنها تمقت عودتها لطبيعتها الفانية. إن الشخص الذي كنته قبل أعوام من مجيئي الى اسطنبول يظل حياً عبر هذا الشعور، عبر هذه اللعنة، وهكذا حين أتناول الإفطار أكون اثنتين. أنا ومن قتلني. وتتناوب أنفي رائحتان: واحدة حيّة، وواحدة ميتة.

الجمعة

أشتري أزهار المنثور والكستناء لكي يكون بوسعي أن أقول: اشتريت أزهار المنثور والكستناء. يستغرق ذلك ربع ساعة أقف فيها في ساحة غالاتسراي ليسيه. «الأزهار التي لها رائحة» طريقتي في اتخاذ القرار. تبتهج البائعة لقراري وتضحك تجاعيد وجهها الأسمر وأفكر أن هذا مماثل لما نقرأه في الروايات و يلتمع في فمها سن ذهبي، «آه أنت قرصانة أيضاً؟»، أقول لها ويسرني أنها لا تفهم كلمة مما أقوله. «هل انتبهت كيف تعصب النساء الكرديات رؤوسهن مثل القرصانات؟ ماذا عن ثيابهن؟ كل هذه الزركشة؟». أمد يدي إلى حزمة المنثور كما في كل مرة وأنقذها من غلاف النايلون وأنا أردد «للبيت للبيت» بالتركية. تضحك كما في كل مرة وتتحدث إليَّ بصوت عالٍ وتقول «ماشالله ماشاء الله .. غوزال غوزال».

إن كل كلمة نتبادلها أنا والأتراك نعيدها مرتين.

ينحدر الطريق نحو توب هانه، أتوقف أمام شجرة الجوز وفي رأسي صورة رأيتها بالأمس: تحت المطر صبي يحمل مظلة زرقاء لغزالة تنتظر الإشارة على رصيف شارع عام. سيكبر الفتى وسيكون بوسعه أن يقول هذا: «مرة حملت المظلة لغزالة تنتظر على الرصيف وقطعنا الشارع معاً». ستكون هذه الجملة ملكه وحده. أتوقف أمام شجرة الجوز الضخمة ولا أعلم لمَ أفعل هذا كل مرة. لن تصبح الشجرة أقصر ولن أصبح أطول كي أقول إنني قطفت جوزة توب هانه. وأفكر بالجمل التي أردتها و أفلتت مني.. أردت القول إنني أنقذت دراجة نارية مسجونة خلف واجهة متجر سيراميك ومغاسل، وقفت أمامها مثلما أقف أمام الجوزة وقلت في سري: انتظري سأكسر الزجاج ونخرج معاً وضممت قبضتي. لكن حجاري عادت إلي. وصارت جملتي: «غادرت عنتاب إلى اسطنبول وحدي وتركتها خلف الزجاج». لكن الجملة التي أردتها، الجملة التي أفلتت مني للأبد، كانت ما قاله أكرم عن الثعالب الحمراء التي رآها تتجول في الكنائس اليونانية المهجورة في إدلب: «كانت السماء غائمة، مطر نوفمبر الخفيف كان يسقط، وبينما أخطو داخل الكنيسة الرمادية رأيته بين الحجارة، كان لون فرائه أحمر شاحب. كان اسم الكنيسة باقرحا، وعلى بابها كتب بالسريانية بلونٍ أحمر مماثل للون الثعلب: (بسنة خمسمائة وتسعين وخمس، هذا هو الباب الذي صنعه الشماسان أوحسيب وحنانيا لخلاص نفسيهما). وكان ذلك أول لقاء لي بالثعالب».

يزداد انحدار الطريق بعد شجرة الجوز وأنحدرُ معه، أفتح ذراعي كالنوارس التي لا أصدق أنني كرهتها في لقائنا الأول. يستمر الانحدار إلى أن يتحول الى شارع «بوغازكيسين» وأعود أنا لهيئتي البشرية. وفي هذا الشارع تسكن القطة «توم توم» أسمن قطة في جيهانغير وتحمل اسم الحي بأكمله، تمضي توم توم نهارها متمددة على أقمشة مصنوعة من وبر الجمال غالية الثمن، ولديها حساب على انستغرام.

لا شيء ملفت لسهرة الويكند في متجر ليلى. أخبرتها أكثر من مرة أن تجعل التنورات أقصر دون فائدة. لكن ما يشفع لها حلاوة التنانير وثمنها مقارنةً بالأسعار غير البشرية لمتاجر جيهانغير. يعتقد صديقي أن مالكيها يعملون في غسيل الأموال: «انظري الى الواجهات. لا تتغير. جميع التماثيل واللوحات في مكانها». أفتح باب الخزانة وألقي بالفساتين والتنانير على السرير إلى أن أعثر على ضالتي: فستان أسود يظهر ساقي والتاتو في زاوية كتفي. ألقي النظرة الأخيرة على المرآة وألتقط ستوري للانستغرام. من كان ليصدق أن هذا سيحدث؟ أنا أبحث عن فستان للسهرة ولدي تاتو؟ وألتقط ستوري؟ أمضيت 9 أشهر في بيروت لم أخرج فيها لأسهر سوى مرتين، وسنتين في غازي عنتاب دون ولا ستوري واحدة.

– حليانة باسطنبول

 ترسل لي هلا «ريبلاي» على الستوري

– لا، هذه أنا، لكن لم أكن ألتقط الصور قبل أن آتي إلى اسطنبول.

– بطلتِ تروحي ع إدلب؟

تسخر هلا مني.

«حليانة ع اسطنبول» كم مرة سمعت هذه الجملة؟ سواء كنت في ثياب السهرة أو بالبكيني، وأجبت بالطريقة ذاتها؟ دون أن أعلم حقيقة، هل كنت أبدو هكذا دائماً أم أن شيئاً عجيباً حدث؟ لم أكن أشتري ثياب السهرة ولم يكن لدي بكيني ولم أكن أنظر إلى المرآة ولا أتذكر حتى شكل جسدي قبل أن آتي إلى اسطنبول. كنت أعتقد دائماً أن الشبان ينجذبون لشخصيتي الرائعة. كانت عيناي على الحدود السورية التركية لا على مؤخرتي.

أمد ذراعي للحارس على باب «كلاين كلوب». يطبع الختم على معصمي وأتجه نحو البار لتقتلع أسناني اللحم الحامض لليمونة وأغوص في مياه كلاين. تتموج التكيلا في ذراعي فترتفعان وترتفع عيناي نحو الأضواء الملونة وتنفذ الموسيقى الى مساماتي وتتحول إلى سعادة. لا يقاطعها أحد، لا حبيب يزعجني بذراعيه ولا أحلام تنتظر تحقيقها. طوال هذه السنوات وأنا أسمع الجميع يتحدثون بإصرار لعين عن سعادة تحقيق الأحلام لكنني لم أعرف السعادة حتى تخليت عن أحلامي، ومن حظي أن ذلك حدث في اسطنبول.

 يقترب مني فتىً ويتحدث إليَّ بالتركية فأجيبه بالإنكليزية:

– هل يمكنني أن أشتري لك مشروبا؟

– بالطبع عزيزي بإمكانك أن تشتري اثنين.

– وير آر يو فروم؟

– ماذا تقول لا أسمعك.

– وير آر يو فروم؟

– احزر

– إيران؟

– أضحك… لا من سوريا

– سوريا؟

– أجل سوريا

– لا تبدين من سوريا

– ولا أنت… لا تبدو من تركيا.

ويتحول الفتى من وسيم لأحمق.

شَتّ تكيلا آخر وأتوق لتناول الميديا. تطلَّبَ الأمر وقتاً طويلاً حتى كففت عن قول «محار» بدل «ميديا»، أو لأكون صادقة قللت من استخدامها، فانا لا أستطيع أن أكفّ. هناك لذة أحسها في حلقي حين أقول محارة، أما «ميديا» فتولد وتموت على الشفة دون أن تبلغ الحلق. أخرج من كلاين نحو جادة استقلال. سوق السمك لديه أفضل ميديا، وهنا فقط يبيعونها ساخنة. أما أنا فأظنها أفضل باردة لأن قوامها مماثل ل اليالانجي.

– مملكات نيراليسن؟ (من أين أنت؟)

– أنا من مملكة سوريا (لا يعلق ولا يستغرب)

– وأنت؟

– شرناق

– (بالطبع. هذا اللطف من جنوب شرق تركيا)..  ما اسمك؟

– حسن

 يفتح حسن المحارات ويطعمني بيده، يلتهم فمي الدلال المجاني دون اعتراض. أعبر ساحة غالاتا سراي، ساحة الخوازيق كما يسميها السوريون، نحو «كاسيت بار». وتقع عيناي على عربات مصفحة تقف في الساحة مكتوب عليها بالانكليزية: ( ت 16) و(ت24 ). أرقص حتى الثالثة، أخرج من «كاسيت» لأعود الى المنزل وأرى المصفحات مجدداً. أنظر حولي مرة واثنتان وثلاث وألاحظ أن لا أحد غيري ينظر إليها، كما لو أنها غير موجودة. أنحدر نحو توب هانه ثم أتوقف فجأة وأعود خطوتين إلى الوراء. صوت غيتار كهربائي، ثم ألتفت لصوت أغنية أعرفها: زكي موران!

قلبي ثمل تحت النجوم.. ما أحلى الحب تحتها.. لن أحترق حتى لو احترق قلبي

 حتى لو جاء أجلي ..حتى لو أغمضت عيني

 تحت النجوم …

أتمايل أمام العازف وأضع له النقود. يطلب مني الاقتراب فاقترب وأشكره. يخرج الموبايل ويريني حسابه على انستغرام، أكتب اسمي وأرسل لنفسي طلب صداقة. حسناً، ها نحن أصدقاء. وأطير نحو البيت. لا أعلم لم تصر ماما على إغلاقه بهذا الإحكام كما لو كان زنزانة. كلما انتقلنا لمكان أكثر أماناً ازدادت رغبة أمي بالمزيد من الأقفال.

السبت/السبت 700

أستيقظ على نشرة الأخبار الصباحية من قناة فرانس 24، عادتنا الأزلية باستثناء السنوات التي تدرّج فيها انقطاع الكهرباء إلى أن اختفت تماماً. تذكرني أصوات المذيعات بصباحات بعيدة قضيتها متمددة على السطح تحت دالية راقبتها وهي تتحول من البني للأخضر، أسمع مذيعات مونتي كارلو وأعض البطاريات. تسألني ماما وعيناها على الشاشة «رح ياخدوا عفرين؟» وأبتسم من القلق في صوتها.

لطالما أرادت أمي أن يأخذ أحدهم عفرين، فحين توفي والدي ترك أرضاً واسعة من الرمان والزيتون في ضيعة تسمى باسوطة، ولأن خالتي الشريرة استولت عليها بطريقة ما، ولأنني لم أرَ هذه الأرض العجيبة، كبرتُ وأنا أسمع ماما تصف الرمانات التي تتدلى من ثقلها الأغصان لتلامس الأرض، مثلما يصف الفلسطينيون لأبنائهم برتقال يافا. ثم صارت تتمنى أن تأخذ داعش عفرين نكاية بخالتي، لكنها ومنذ بدأت المعركة التركية الجديدة صارت تنظر الى شاشة التلفاز وتسألني: ماما معقول ياخدوا عفرين؟ وحين لا أجيب تقول: أردوغان لن يقدر على الأكراد، لا أحد يقدر عليهم. وهكذا دون أي إشارة أو ذكر لأرض بابا ولا رماناتها. هكذا إلى أن أخذوا عفرين.

آخذ ثيابي وأطلب من أمي إسدال الستارة، فتقول إن الوقت مبكر جداً ولا أحد يراني سوى النوارس. البناء قبالة شبابيك البيت كان ميتماً تديره راهبات فرنسيات: ميتم سانت جوزيف. كان الحي ممتلئاً بالـ ‘اليابانجي’- الأجنبي بالتركية- فيما مضى، مع فارق أن أحداً لم يكن لينعتهم باليابانجي ليس كما يفعلون اليوم، فرنسيون ويونانيون ويهود وإيرلنديون، تجار وسياسيون وبحّارة، كانت المنطقة بأكملها مثالاً عملياً على المخيال الكوزموبوليتي لاسطنبول القرنين 18 و19. ثم غادروا الحي، وتحول الميتم لمعهد تمثيل تجري فيه عروضٌ باهتة، ولو أنني أتسلى أحياناً بمراقبة التمارين. ورغم أن البناء يمتد على طول الشارع لكن بقية أجزاءه تحولت إلى مطاعم. يبدو أن أحداً لم يرغب بالسكن في ميتم.

أدخل إلى المطبخ لإحضار شيء ما فأرى رمانة على المجلى، حمراء ومكورة وبأذنين مثاليتين مثل عارضة أزياء الرمان، مثل الرمانات في الرسومات والقصائد الأرمنية، أقربها من فمي، أقبلها وأهمس في أذنها المثالية: رمانة قرّبيه مني ولا تجعلي ذكره حسرة في فمي. الفتى الذي يجلس بين أخوته وحيداً بعينيه الغامقتين. ويخطر لي أن أخبركِ: «انظري إلي. ها أنا آخذ السكين وأستبدل الدم بالفاكهة. لم أعد ألقي القرابين بل ألتهمها ويوماً ما سأنظر إلى المرآة ولا أرى لك أثراً على وجهي. شمسك التي أحرقتني ولم تلتفتي إلي سأزيلها من خدي بالليزر. هذه إحدى فضائل أن يكون المرء في اسطنبول عاصمة الليزر في العالم».

– كيف كانت سهرة البارحة؟ رقصتي مع شبان؟ لم لا تتزوجين شابا تركياً وتحصلي على الجنسية؟

– وافقت. سأعثر على عريس من الجندرمة وأنكّد عليه حياته.

– شربتي البارحة، اليوم لا تشربي، وإلا سيتعب كبدك، سيفرط مثل رمانة.

أبتسم لخيال كبدي «الرُماني»، أرفع ذراعي أمام صف من النوارس وأدعُ كل شيء ينساب.

يستغرق الوصول إلى تارلاباشي من استقلال عشر دقائق. يكفي أن أصعد إلى غالاتا سراي وأنحدر نحو الجهة الثانية من استقلال. ترفرف الأعلام المثلثة لحزب العدالة والتنمية فوق رأسي وأنا أصعد المنحدر، وتبدو مثل أعلام في قلعة.و تتراءى لي الحواجز المعدنية للبوليس. تزداد أعداد البوليس أيام السبت، يوم التجمع الأسبوعي لأمهات المعتقلين في ساحة غالاتا سراي.

أرفع عيني عن الموبايل:

عزيزي رجل/إمراة البوليس، لا حاجة لكل هذا التجهم، وأنت تخبرني بأن عليَّ العودة من حيث أتيت. كما ترى أنت لديك سلاح وأنا ليس لدي، لذا لا حاجة لكل هذا القدر من التعابير. هذه الإنفعالات ترافق شجار الحيوانات على الطعام أو المساحة، لكن فلنكن واضحين، أنت الحيوان وأنا أريد فقط أن أقطع الشارع وأجدك دائماً في وجهي. تثقب أنفي رائحة غاز أعرفه ويزداد الضجيج الآتي من الساحة. نساء ورجال يشبكون أياديهم ويجلسون متلاصقين على الأرض، يشدهم رجال/نساء البوليس محاولين فك أيديهم المتشابكة. تمسك اثنتان أماً في الستين وتشدانها من ذراعيها النحيلتين، ومع أنها لا تحاول الإفلات تبالغ أيديهما في إحكام القبضة، يتفتت عظم العضد الرقيق تحت الإبهام وتقع الصورة من يدها وتتبدل ملامحها لتصبح مثل طفلة صغيرة كُسرت لعبتها أجزاء. تعلو الأصوات ويندفع الخلق حول عربات (ت 16 ) و(ت 24 )، ويحجب الغاز الأبيض الساحة ولا يعود ممكناً الاستمرار بالفرجة.

أرفع عيني بانتظار أن يرمي لي صديقي المفتاح فأرى وجه الميدوزا ينظر إلي. كيف لم أنتبه له قبلاً؟ يستقبلني «بيسكت»، القطّ العراقي المصاب. لا يعلم أحد قصة بيسكت ولا كيف أصيب ولن نعرف أبداً. مُنعت مالكته الأجنبية من دخول تركيا لأسباب لا يعلمها سوى الله وأردوغان، وبات واحداً من اللاجئين. مأساة أردوغان طالت حتى القطط. أنظر أنا وبيسكت الى الغروب من نافذة الطابق الخامس إلى الحي المتهالك… «بيسكت لماذا تثير المنازل المتهالكة شعوراً بالثبات؟» وقبل أن يجيبني بيسكت، أرى العشرات من طيور السنونو تحلق بذيولها المثلومة مثل مقصاتٍ سوداء، وأرى السماء مصنوعة من الحرير الشفاف وأرى ذيولها السوداء تقص هذا الحرير، والحرير الذي تقصه يتحول إلى بللور، كسراتٍ من البللور ويفقد لونه السماوي وتدرجاته الغريفونية. فقط بكونه جزءاً منها يكون له لونها وتكون له طبيعتها. أما السماء فتبقى على حالها… لمَ؟

الآحاد

أقتربُ مع ماما من مكان جلوسنا المعتاد: بسطة الشاي والقهوة على الرصيف قبال البوسفور. يروقني مذاق هواء البحر الذي أحرقت أطرافه نار البسطة. يروقني كيف أن بسطة قهوة وشاي صغيرة بإمكانها تغيير أمر هائل مثل هواء البوسفور. لا يمر أسبوع دون أن نذهب إلى كاراكوي أو كاباتاش، إلى درجة بتُّ أشعر أنني لست سوى كرة تتردد بين جدارين. يسلّمُ عليَّ بائعو السمك والقهوة والشاي باليد ويسألونني عن حالي. أيد سمراء ومعروقة تلامس راحة يدي وتعيد إليّ شيئاً من كرامتي. في سوريا لم يكن لائقاً أن نصافح الرجال، لا ينبغي لمس العورة، والمرأة كلها عورة. يضع البائع لنا كرسيين وأسألهم لمن صوّتوا في الانتخابات البلدية؟ يلدريم أم أوغلو؟ لا لأني أريد أن أعرف فحسب، بل لأنني عثرت أخيراً على أمر أسألهم عنه بينما تطلب مني أمي أن أسكت «بلا ما يرحلونا». يقولون لي إمام أوغلو، «بالطبع أشخاص بروعتكم لن يصوتوا لأردوغان» وألمح ارتباكهم نظراً لموقف المعارضة التركية من «السوريين»، أبادر على الفور وأبدي إعجابي بإجابتهم، ويتلاشى الارتباك وتعود الابتسامة مع عبارات لا أفهمها لكنني أهز برأسي «أجل يا أصدقائي نحن معاً في هذا الأمر».

يغني إبراهيم تاتلس في الراديو عن فتاةٍ خائنة، وأرسل نظري مع صوته عبر البوسفور. تاتلس هو أول تركي عرفته في حياتي. مع أنني عشت جنوب سوريا وجدَ الرب طريقه إليَّ على شكل قريب يحضر معه السيديات من اسطنبول كما لو أنني في الشمال. فجأة أراد ابن خالتي تعلّمَ التركية وأتقنها وأرسلوه إلى اسطنبول وعاد ومعه تاتلس و أتاتورك واحتقار للأكراد سبَّبَ لي آلاماً لم أفهم مصدرها. وبعد فترة لم يعد يعني احتقاره شيئاً، ليس بعد أن سمعته يقول عن المتظاهرين «سرسرية عصابات زعران». في السيديات كان تاتلس يشرب العرق طوال الوقت ويبدو حزيناً وغاضباً ومرات كان ينتحر على السكة، دائماً بسبب فتاة. وكنت أراه يتجرع  الكؤوس وأحار بأمر هذا العيران الذي يجعله وسيماً لهذي الدرجة مثل ثورٍ سئمَ السهام. كنت في الثانية عشرة وأردت أن أعرف شعوره، أن أعرف كيف هي الالتماعة الفاتنة للغضب من الداخل؟ لم يخطر لي أبداً  أنني سأجد نفسي في اسطنبول أشرب العرق قبالة البوسفور  وأفكر «ما أسوأ مذاقه. هذا هو سبب غضبك إذن؟ محق يا صديقي… بصحتك».

أنظر في عيني الأميرة «الشاه ماران» لأن الخرافة تقول إن الضيف الخيّرَ ينظر إلى عينيها أولاً أما الشرير فينظر إلى جسدها،  تدعوني ابتسامة من خلف الزجاج للدخول. «كم سعرها؟» وتدفعني الإجابة بعيداً مثل موجة نحو واحدة أصغر. يسألني الوجه المتغضن: من أين أنا؟ أجيبه عفرين. فتعلو وجهه نظرة رقيقة ويأخذ يدي بكف ويربت عليها بكفٍ آخر كما لو أني أخبرته أنني مصابة بالسرطان، ويُنقِصُ سعر اللوحة.  آه حقا بإمكاني المتاجرة بالأمر؟

– هل تعرفين قصتها؟

– لا لا أعرف سوى أنها مخلوقة كردية (أكذب. أعرف جميع القصص. لكنني أحب أن يحكيها الناس)

يأتيني بكرسي ويحكي قصة أميرة الأفاعي الجميلة التي أنقذت بشرياً من الموت فوشى بها. «جمشب» رأى «شاه ماران» داخل بئر عسل عثر عليه أثناء تجوله مع رفاقه، وحين انتهوا من إفراغه من العسل رموه فيه طمعاً بحصة أكبر. أنقذته «شاه ماران» وأمضيا وقتاً طويلاً في البساتين السرية، وحين نفذت منها الحكايا أصابه الضجر وتذكر أهله فأخبرته قبل أن يغادر ألا يستحم أمام أحد، لأنه حالما يمس الماء جسده ستظهر على عليه بقع داكنة وهي دليل على أنه رأى «شاه ماران». ويمرض الملك بعد فترة  ويصفون له لحم «شاه ماران»، وكي يصلوا إليها يأمر الوزير جميع سكان المملكة بالنزول في البركة العامة، وحين تظهر البقع على جسد «جمشب» يلقي رجال الملك القبض عليه وعلى عائلته وتظهر له شاه ماران في المنام وتطلب منه إحضار الوزير ورجاله إلى مكانها. وحين يصل الرجال تقع معركة بين الأفاعي ورجال الملك، وبينما تلفظ الأميرة أنفاسها تقول: «من يأكل رأسي سيموت ومن يأكل جسدي يشفى من الأمراض أما من يأكل ذيلي فيمتلك الحكمة». يأخذ الملك جسد شاه ماران ويأخذ الوزير الذيل لنفسه ويأمر «جمشب» بأن يتناول رأس «شاه ماران»، فيفعل راغباً بالموت. يشفى الملك ويقع الوزير ميتاً،  أما «جمشب» فيتحول إلى «لقمان الحكيم». لهذا تجدين الأتراك يعلقون «شاه ماران» في منازلهم كي تحميهم من الأمراض.

– جميع الأتراك؟

– جزء كبير منهم

– والجنود الذين ذهبوا على عفرين.. هل يعلّقونها في منازلهم أيضاً؟

– أجل يعلّقونها

– هل يعرفون أنها كردية؟

– يعرفون

– ألا يحبونها؟

– بلى

– و«جمشب»؟ كان كردياً؟

– أجل

– والملك والوزير؟

– أجل

– والأفاعي المخلصة؟

– كانت كردية

– لهذا تنفث الأفاعي سمها في الحليب؟ ومرات ترمي فيه جسدها؟ لأنها غاضبة؟

– و«جمشب»؟ هل تعتقد أنه خائن؟

أغادرُ المتجر ومعي «شاه ماران». وتعود الدراجة إلى ذهني، «لم لم يخطر لي أن أشتريها؟ بدل تحطيم الزجاج؟ كنت سأقول: عثرت على دراجة نارية محبوسة خلف زجاج متجر مغاسل وحمامات فاشتريتها». أختبر الجملة في فمي، أغمس فيها طرف لساني مثل أفعى فأجد مذاقها ميتاً ولا أجد في نفسي رغبة بامتلاكها. أفتح ذراعي مثل النوارس وأنحدر نحو توب هانه: «لم أعد أريد الطيران يا رب. امنحني فقط ترف الاصطدام بالزجاج».