ليست القنصلية السورية في اسطنبول مكاناً لاستخراج جوازات السفر وتصديق الوثائق، هذه وظيفتها الرسمية فقط، لكنها بالنسبة لسوريي تركيا شيء آخر، هي مكانٌ لاستخراج أسوأ ما في ذاكرتهم عن مؤسسات الدولة، ومساحةٌ للتذكير بمعنى أن تمسك الدولة بخناقك عبر الوثائق الرسمية، ومسرحٌ لمزيج من التراجيديا والكوميديا، وعلامةٌ لا يمكن مسحها من الذاكرة الجمعية لعشرات آلاف، وربما مئات آلاف السوريين الذين يعيشون أو عاشوا فترة من تغريبتهم على الأراضي التركية.
تقع القنصلية السورية في اسطنبول في واحد من أرقى أحياء المدينة، حي نيشان تاشي الشهير التابع لبلدية شيشلي، وتحديداً في الطابق الثالث من بناء تعيس الحظ يحمل اسم «رالي»، يقع في آخر شارع ماشكا قريباً من جامع تشويقية القديم، أو تشفيقية باللفظ التركي. تخرج سارية صغيرة من شرفة في طابق البناء الثالث، تحمل علماً صغيراً للنظام السوري، كان قديماً مهلهل الأطراف عندما رأيته للمرة الأولى صيف 2015، لكن يبدو أنهم قاموا بتجديده لاحقاً.
قضيتُ أياماً متفرقة هناك بين عامي 2015 و2019، أنجزتُ فيها أنوعاً مختلفة من المعاملات القنصلية، أنفقتُ فيها مبالغ مالية كبيرة، والتقيتُ خلالها بعشرات السوريين والسوريات، سمعتُ بعض قصصهم، وتبادلتُ معهم لحظات من الضحك الممزوج برغبة عارمة في البكاء الجماعي. وعلى مدى هذه الأعوام، شهدتُ تحولات عديدة في أسلوب إدارة القنصلية لعملها، لكن الثابت الوحيد الذي لم يتغير، هو الشعور الغامر بالإهانة في كل مرة.
زيارة استطلاعية
يتطلب إنجاز معاملة في القنصلية السورية اليوم حجز موعد عبر موقعها الإلكتروني، لكن الأمر لم يكن هكذا دائماً، بل كان يتطلب في مراحل كثيرة أن يذهب الشخص باكراً كي يقف في الطوابير، وكلما وصل باكراً أكثر، كانت فرصته في الدخول أعلى. وكانت أزمة الزحام على باب القنصلية قد بدأت تتفاقم منذ مطلع العام 2014، مع تزايد السوريين في تركيا، واحتياج أعداد متزايدة منهم لتجديد جوازات سفرهم أو تصديق شهاداتهم العلمية أو تثبيت وقائع وفاة وولادة أو إجراء وكالات لذويهم داخل سوريا من أجل بيع وشراء العقارات وإنجاز معاملات الزواج وغيرها.
كان الهدف من زيارتي الأولى للقنصلية صيف 2015 هو السؤال عن كيفية إجراء واحدة من المعاملات. كان العشرات يحتشدون على الباب في جو من الفوضى العارمة، وعنصرٌ من الشرطة التركية يحاول إبعادهم عبثاً. وباستخدام الخبرة الجينية المتوارثة لدى السوريين في التدافع على الطوابير واختراق الحشود، تمكنتُ خلال بضع دقائق من الوصول إلى الباب حيث الشرطي الغاضب، ولمّا أصبحتُ أمامه وجهاً لوجه تذكرتُ أنني لا أعرف التركية، فطلبتُ من شاب سوري سمعته يبرطم غاضباً بمزيج من العربية والتركية أن يقول له إنني أريدُ أن أدخل لأسأل سؤالاً فقط، لكن الشرطي التركي فهمني وأجابني بعربية مكسّرة أن الدخول لتوجيه الأسئلة غير مسموح قبل الساعة الرابعة بعد الظهر؛ لقد تعلّمَ صديقنا كلمات عربية إذن، وصديقنا هذا اسمه بلال، بلال الذي يعرفه جميع السوريين الذي قادهم حظهم التعيس خلال السنوات الماضية إلى أبواب القنصلية، والذي تم استبداله خلال العام الجاري بشرطيّ آخر لم يسعفني الحظ بالتعرّف إليه بعد.
كانت الساعة العاشرة صباحاً، ولأنني كنتُ وقتها «فاضي أشغال» تقريباً، فضّلتُ رغم الحرّ الشديد أن أقضي الساعات التالية حتى الرابعة مع المحتشدين، الذين كان بلال يصرخ فيهم غاضباً كلّ ربع ساعة، فيتراجعون وينتظمون في طوابير لا تلبث أن تتبعثر وتتحول إلى ما يشبه المظاهرة. لم يكن هناك نظام لحجز المواعيد وقتها، وكان موظفو القنصلية يطلبون من بلال عبر جهاز اللاسلكي أن يُدخل أعداداً محددة كل ساعة، أو أقل من ساعة، أو أكثر؛ كانت المعاملات كلها تقريباً تتعلق بتجديد جوازات سفر أو تسجيل وقائع ولادة.
ارتفعت حرارة الجو عند الظهيرة، وبدأ الجميع يتصببون عرقاً، معظمهم رجال، لكن بينهم نساءً معهنّ أطفالٌ أيضاً. كان بينهم كثيرون من سكان ولايات تركية بعيدة، وهؤلاء على وجه الخصوص بدأوا يصبحون أكثر غضباً عند الساعة الواحدة ظهراً، ذلك أن فشلهم في الدخول اليوم سيعني مزيداً من مصاريف الإقامة في اسطنبول. هكذا تزايدت محاولات التدافع للدخول، وأوشك بلال أن يفقد السيطرة على الموقف، فاستدعى أحد موظفي القنصلية.
نزل رجلٌ نحيلٌ ببدلة رسمية وذقن حليقة بشدة، وشعر قصير ممشط وملتصق بقوة على جلدة رأسه. عم الهدوء عند نزوله، وراح يتحدث ببرود مثير للأعصاب عن ضرورة الالتزام بالدور والهدوء كي نعطي صورة حضارية عن شعبنا للأتراك، وتحدّثَ عن النظافة أيضاً، مبدياً امتعاضه من أعقاب السجائر المبعثرة على الرصيف، ومؤكداً أنه سيتم إيقاف العمل في القنصلية اليوم إذا لم تتوقف محاولات الاحتشاد ودخول المبنى.
كان المشهد برمته مدهشاً بالنسبة لي، فالنظام السوري تجلّى أمامي بكل قدرته اللامحدودة على احتقار السوريين وإهانتهم، النظام الذي يخلق المشكلات ثم يجعلنا ندفع ثمنها، ويغضب إذا لم ندفع الثمن المطلوب بهدوء واستكانة، ويجد في نفسه فوق ذلك الجرأة على الوعظ والإرشاد بخصوص المظاهر الحضارية وصورتنا أمام الآخرين.
عاد الناس إلى طوابيرهم التي كانت منظمة عن طريق حفظ كل شخص لمكانه والشخص الذي يقف أمامه أو خلفه، فيما كان بعض الحاضرين يطلقون شتائم غير مفهومة بأصوات منخفضة، ثم باتت بعض الأصوات أكثر وضوحاً، تحمل معها ذكراً متكرراً لبشار الأسد وسلالته كلها. كان الحاضرون يتبادلون الحديث عن تجاربهم بانطلاق نسبي، يتحدثون عن الهروب من الاعتقال والخدمة العسكرية والفقر والقصف، غالباً دون استخدام كلمات مباشرة تحمل الاتهام العلني للنظام أو بشار الأسد، لكن ذلك كان مفهوماً ضمنياً على أي حال.
أثناء وقوفنا سمعتُ شخصاً يوشوش صديقه طالباً منه الحذر لأن «بين الحاضرين مخبرون للنظام دون شك»، فسخر صديقه منه قائلاً إن النظام سيسقط قريباً، لكن الأول قال له مجدداً: «خراااس… إذا صرنا مطلوبين ما عاد يجددولنا جوازات السفر، بعدين بلكي اضطرينا نرجع عالبلد»، ليعود الثاني فيؤكد أن النظام يحتاج المال، ولذلك أصدر قراراً بإصدار جوازات السفر للجميع في الخارج حتى لو كانوا مطلوبين للأجهزة الأمنية. كان كلام الشاب الثاني صحيحاً، إذ كان بشار الأسد قد أصدر مرسوماً تشريعياً في نيسان/أبريل 2015، يسمح بموجبه بمنح جوازات السفر وتجديدها للجميع خارج البلاد، بمن فيهم من غادروها بشكل غير شرعي، و«بغضّ النظر عن الإجراءات» بحسب تعبير المرسوم. على أي حال، كان نظام الأسد مخيفاً حتى هنا، على رصيف في أحد أحياء إسطنبول.
عند الساعة الرابعة أعلن بلال أن القنصلية لن تأخذ مزيداً من المعاملات في ذلك اليوم، تعالت الشتائم والهمهمات غير المفهومة مجدداً، وتفرّقَ معظم الحاضرين، فيما جاء آخرون لاستلام معاملاتهم المُنجزة، وسمح لنا بلال بالدخول جميعاً نحو الساعة الرابعة والنصف. انتظرَ بعضهم دوراً على المصعد، فيما صعدتُ أنا مع آخرين مشياً على الدرج، لأجد في الأعلى طوابير من أشخاص يريدون استلام معاملاتهم الجاهزة، من جوازات سفر تم تمديدها وغيرها.
للشقة التي تشغلها القنصلية بابان، بابٌ للموظفين وبابٌ للمراجعين، ومع الدخول من باب المراجعين، نجد غرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها خمسة أمتار مربعة، يقف فيها المراجعون في طوابير أمام نوافذ صغيرة في حاجز زجاجي، خلف الحاجز الزجاجي ثلاثة مكاتب وموظفون، وعلى الجدار خلف أحد المكاتب، بعيداً عن قبضة أي من المراجعين، صورة لبشار الأسد. كانت ابتسامة بشار البلهاء تبدو من بعيد بالنسبة لي كما لو أنها ضحكة دموية تطلّ من عالم الجحيم على السوريين المقيمين في تركيا، تسخر من عذاباتهم وتهجيرهم، وتذكرهم أن حياتهم ستبقى رهينة لشياطين الموت طالما أنه قابعٌ في قصره في دمشق.
كنتُ وقتها خارجاً من مناطق سيطرة النظام السوري حديثاً، فلم تكن صور بشار المعلقة في دوائر رسمية غريبة عليّ، لكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة لشاب كان واقفاً إلى جواري، حدّقَ في تلك الصورة طويلاً، ثم قال بصوت منخفض منكسر: «رح يضلّ لاحقنا للقبر».
خرجتُ من هناك بعد أن حصلتُ على جواب لسؤالي، خرجتُ كما لو أنني كنتُ أهرب من سجن، مستنجداً برحابة المدينة المدهشة التي كنتُ وقتها لا أزال أراها بعين السائح المسحور، والتي كانت لا تزال أكثر بقاع الأرض احتضاناً للسوريين العابرين والمقيمين. كانت رحابة اسطنبول واتساعها نقيضاً للضيق الخانق في القنصلية، التي كانت تبدو قطعة من سوريا الأسد، تم زرعها في قلب اسطنبول.
النوم في القنصلية
عرفتُ بعدها بأسابيع قليلة أن القنصلية أطلقت نظاماً لحجز الدور عبر الإنترنت على موقعها الإلكتروني، لكن الأمر فشل لاحقاً، لأنه بعد نحو شهر من إطلاقه، وبسبب الأعداد الهائلة للسوريين في تركيا قياساً بعدد المعاملات التي تستطيع القنصلية إنجازها في اليوم، بات أقرب موعد لتجديد جواز سفر بعد شهرين، ثم ثلاثة أشهر، وأخيراً أكثر من سنة.
في صيف 2016، كانت مدة صلاحية جواز سفري على وشك أن تنتهي، وعرفتُ أن القنصلية ألغت نظام الدور الإلكتروني ليعود الأمر كما كان عليه، طوابيرٌ في طوابير. كان لا بد من زيارة استطلاعية أخرى، جاءت نتيجتها مخيبة للآمال. الأمر بالغ التعقيد، لكنني سأحاول شرحه قدر استطاعتي.
كان تنظيم الدور يتم عبر كتابة الأسماء على ورقة، وغالباً يقوم بهذه المهمة أول الواصلين من المراجعين، يخصص عموداً على الورقة لكل نوع من المعاملات، عموداً لجوازات السفر وعموداً لمعاملات الأحوال الشخصية وعموداً للوكالات وعموداً لسندات الإقامة اللازمة لتأجيل الخدمة العسكرية، وغيرها. وعندما يبدأ إدخال المراجعين نحو التاسعة صباحاً، يصطف الناس وفق الأسماء في طوابير طويلة على الرصيف قرب الباب، أو في ممر ضيق مجاور لمبنى القنصلية يقود إلى كراج للسيارات خلفه. والهدف من هذا أن لا يكون المراجعون مضطرين للوقوف متسمّرين طوال الوقت في الطوابير، لأن الدخول إلى القنصلية يتم على دفعات يفصل بين كل واحدة والأخرى أكثر من ساعة أحياناً.
كانت تلك وسيلة تنظيم ذاتية لتجنّب الشجار على الدور، ومن لا يسعفه الحظ بالدخول في اليوم نفسه، ينتقل دوره كما هو إلى اليوم التالي. وقد عرفتُ في زيارتي الاستطلاعية أن أصحاب معاملات تمديد جواز السفر لا يدخلون في اليوم نفسه غالباً إلا إذا وصلوا قبل الساعة السادسة صباحاً، ولهذا فضّلنا أنا وأحد أصدقائي أن نذهب في اليوم السابق عند الثانية عشرة ليلاً، كي نضمن أن يتم تمديد جوازاتنا في اليوم نفسه.
وصلنا عند الساعة الثانية عشرة فعلاً، وكان هناك نحو عشرين شخصاً قبلنا، لكن المعضلة كانت أن هناك ورقتين مختلفتين للدور مع شابين، وكان في كل من الورقتين نحو عشرة أسماء تسبقنا في العمود المخصص لتمديد واستخراج جوازات السفر، وكل واحد من الشابين يدّعي أن الآخر سمسارٌ يبيع الأدوار مقابل مبالغ مالية، ويؤكد أن بلال سيعتمد ورقته هو لا ورقة الآخر عندما يأتي صباحاً.
فراسة السوري المتمرّس أسعفتني مجدداً، فقد كان أحدهما أشبه برجال العصابات فعلاً، لذلك قررنا أنا وصديقي أن ندرج أسماءنا في ورقة الآخر، بعد أن وصل الأمر إلى حدّ أن من يسجل اسمه هنا لا يحق له تسجيل اسمه هناك، لينقسم الحاضرون إلى عُصبتين أو جماعتين متصارعتين. عند الثانية ليلاً كانت الأعداد قد تزايدت، وتطوعنا مع بضعة شبّان آخرين للمناوبة على تسجيل الأسماء الجديدة في ورقتنا، وعلى حراسة الورقة أيضاً، شارحين لكل من يأتي أبعاد المشكلة. نمنا ساعات متفرقة، بعضها على بلاط رخامي قرب مدخل بنك مجاور للقنصلية، وبعضها في مثلث عشبي صغير على أحد الأرصفة القريبة.
مع اقتراب موعد وصول بلال، تصاعد الغضب بين الفريقين، وبدا كما لو أننا سنتجه إلى عراك جماعي، وقد خامرنا شكٌّ أننا سنفشل عندما شعرنا أن صاحب الورقة الأخرى سمسارٌ فعلاً، ويقوم بعمله هذا بالاتفاق مع موظفي القنصلية، لكننا قررنا خوض المواجهة، التي بدت وشيكة عندما جاء أصدقاء للسمسار المفترض بسياراتين إلى جوار القنصلية.
في تلك اللحظات العصيبة، رحنا نُذكّر بعضنا أننا لسنا في سوريا الأسد، وأنهم لن يتجرأوا على العراك رغم الشرر الذي كان يتطاير من عيونهم. لقد كان هذا الشرر بالذات مطمئناً، لأنه يعني أنهم ليسوا واثقين من أن ورقتهم هي التي سيتم اعتمادها.
مع وصول بلال عمّت الفوضى، وحصلت مشادات كادت تؤدي إلى تبادل اللكمات، لكن بلال اتخذ قراره معتمداً ورقتنا نحن. شعرنا بنصر عظيم، وانسحب الآخر من المكان مع ورقته ومعه جميع من سجلّوا أسماءهم فيها. كان التعب والإرهاق يسحقنا ويسحقهم على حد سواء، ولكن لم يكن ثمة مجال للتعاطف، لأن العالم كله كان يتمحور بالنسبة لنا حول تمديد جوازات سفرنا في اليوم نفسه. وبالفعل، نحو الساعة الثانية عشرة ظهراً جاء دورنا، سلّمنا جوازاتنا ودفعنا رسوم التمديد البالغة 200 دولار أميركي في البنك المجاور، ثم استعدنا جوازاتنا عند الساعة الخامسة بعد الظهر، وعليها لصاقات تمديد لمدة سنتين. كان الحصول على جواز جديد خارج البلاد وقتها يكلف 400 دولار أميركي، وهو ما لم نكن بحاجته إذ كان في جوازاتنا متسعٌ لتمديدها بلصاقة.
كانت اسطنبول وقتها قد باتت أقل رحابة بعد فرض الفيزا على السوريين مطلع 2016، فيما كان التدخل العسكري الروسي الذي أوشك أن ينهي عامه الأول يرخي بظلاله علينا وعلى آمالنا بالعودة إلى البلاد، وعلى طوابير القنصلية أيضاً؛ كانت وجوه الناس أكثر يأساً، قلّما يتبادلون الأحاديث عن تجاربهم، فيما كانت الشتائم قد باتت أخفض صوتاً، وتطال موظفي القنصلية فقط دون ذكر لبشار الأسد من أي نوع، فيما تزايدت معاملات سندات الإقامة من أجل تأجيل الخدمة العسكرية، في دلالة على تراجع الآمال برحيل الأسد، والبدء بالبحث عن حلول للعودة إلى البلاد بطريقة ما.
العودة إلى حجز المواعيد إلكترونياً
بعدها بأشهر قليلة حدث تغيّران مهمان، الأول أن التمديد عبر اللصاقة تم إلغاؤه، وأصبح ضرورياً استخراج جواز سفر جديد في كل مرة، مدته سنتان فقط للمطلوبين أمنياً أو للخدمة العسكرية، وست سنوات لمن هم غير مطلوبين. وبات يمكن استخراج جواز سفر مستعجل في غضون أسبوع بكلفة 800 دولار أميركي، أما كلفة الجواز غير المستعجل، الذي قد تصل المدة اللازمة لإصداره إلى ثلاثة أشهر، فقد باتت 300 دولار.
التغيّر المهمّ الثاني هو العودة إلى حجز المواعيد إلكترونياً، فقد وجدوا حلاً عبقرياً للمشكلة التي واجهتهم أول مرة، وهي أن المواعيد المتاحة للحجز باتت تُفتَحُ لأسبوع قادم على الأكثر فقط، بحيث لا يمكن حجز مواعيد السنة كلها فوراً كما حدث في المرة الأولى. الموضوع معقدٌ جداً أيضاً مرة أخرى، لكنني سأحاول شرحه.
مثلاً، تُفتح مواعيد الحجز ليومي الإثنين والثلاثاء في الساعة الثانية عشرة ليلاً من مساء الجمعة، أو السبت. أما مواعيد الأربعاء والخميس، فتفتح في الثانية عشرة ليلاً من مساء الأحد، أو الاثنين. ليس هناك مواقيت منتظمة، وغالباً في الساعة الثانية عشرة ودقيقتين، سيخبرك الموقع الالكتروني أن المواعيد قد باتت محجوزة كلّها. وهكذا فعندما تفتح الموقع الالكتروني للقنصلية اليوم، ستجد أياماً ليست متاحة للحجز بعد، وأياماً أخرى قد حُجزت كل مواعيدها.
هناك سماسرة يستطيعون أن يحجزوا المواعيد بطريقة لا يعلمها أحد بالضبط، لكن الأمر يحدث دون شك بالتنسيق مع موظفي القنصلية المتحكمين بالموقع الإلكتروني، وتشهد على ذلك عشرات المحاولات الفاشلة التي قمتُ بها أنا وغيري للحجز بأنفسنا. وتختلف الأسعار من سمسار إلى آخر، ومن معاملة إلى أخرى، فموعدٌ لتصديق الوثائق سيكلّف ما بين 100 و300 ليرة تركية، أما الأغلى على الإطلاق فهو موعد تجديد أو استخراج جواز سفر، الذي تتراوح كلفته بين 200 و400 دولار أميركي.
ثمة معضلة أخرى، وهي أن الموعد يأتي على شكل ورقة مطبوعة يمكن تصميم نسخ مماثلة لها ببساطة، ولا يستطيع صاحب المعاملة أن يتأكد من صحة موعده إلا بعد أن ينتظر في الازدحام ساعات في الخارج ثم يدخل إلى الموظف المعني، الذي تكون لديه قائمة بالمواعيد المحجوزة. وكثيراً ما وقع أشخاصٌ في فخ المواعيد المزورة، ولذلك فإن القنصلية تقوم بواجبها تجاه مواطنيها، عبر تعليق أوراق تقول إن القنصلية لا تتعامل مع سماسرة، وإن أي استمارة موعد مزورة لن يتم قبولها أبداً.
شاهدتُ مرةً امرأة معها طفل، وقد حجزت موعدين لاستخراج جوازي سفر لها ولطفلها، لكنهما كانا مزورين، وكانت المرأة قادمة من مرسين. دخلت السيدة في دوامة هيستيرية من البكاء، فيما كان موظف القنصلية يلقي عليها موعظة حول أن الشعب هو الذي يساعد الفاسدين، وحول أن عليها أن تحجز المواعيد بنفسها. كان يتحدث إليها دون أي شفقة، لم أستطع السكوت، قلتُ له إن الجميع هنا حصلوا على مواعيدهم عبر سماسرة، فقال لي باحتقار شديد إن علينا أن نتعلم استخدام الكومبيوتر.
أي عقوبة يمكن أن تكون مناسبة لموظفي القنصلية، وللسمسار الذي خدع تلك المرأة، وللعالم كله الذي يربطنا من أعناقنا بالوثائق الرسمية؛ لا أعرف عدالة أرضية يمكن أن تفي بالغرض.
إذن فوق الإذلال والتعذيب النفسي في الطوابير، وفوق الرسوم المرتفعة لاستصدار جوازات السفر، تقوم عصابة القنصلية بعملية سطو محكمة عبر حجز المواعيد، ولكن ليس كل السماسرة سواء، فقد قادني الحظ الطيب إلى شخص بات موثوقاً عن تجربة، فلم يسبق أن حجز لي أو لأحد أصدقائي الذين وصلتهم به أي موعد مزور. وفوق هذا هو شخص سمح النفس، يقدّم النصيحة حول الطريق الأفضل لإنجاز معاملة ما وحول الأوراق المطلوبة لإنجازها بصدق، ودون مقابل، في مفارقة سورية سبق أن كتب عنها ياسين السويحة، حيث أن هناك «مهرّب ابن حلال» مثلاً، أو «سمسار مواعيد آدمي وموثوق».
أنجزتُ معاملات عديدة بعدها، تصديق وثائق وتجديد جواز سفري مرتين بسبب مدته القصيرة جداً، كما رافقتُ أصدقاء قادمين من ولايات تركية أخرى أيضاً مرات عدة، ولكن رغم مسألة المواعيد الإلكترونية، لم يتغير شيئٌ في الزحام والفوضى أمام باب القنصلية، ولا يزال ينبغي تنظيم الدور بالتوافق عبر تسجيل الأسماء على أوراق حسب موعد الوصول الفعلي إلى باب القنصلية، لأن المواعيد المحددة بدقة، باليوم والساعة والدقيقة، لا تعني شيئاً سوى أن للمُراجع الحق في دخول القنصلية.
عن بلال وأتراك آخرين
لم يكن مراجعو القنصلية يحبون بلال، فهو كان الشخص المكلّف بضبطهم، وكان كثيرَ الصراخ والغضب، ويتعامل معنا على نحو قليل التهذيب غالباً. كان بعض المراجعين يقولون إنه يتلقى مبالغ مالية مقابل إدخال الناس في غير أدوارهم، لكن الواقع أنني لم ألحظ شيئاً كهذا في أي وقت، وليس لدي قرينة على حدوثه، إلا أن كثيرين كانوا يدخلون في غير دورهم فعلاً، ولكن بناء على اتصالات وتعليمات ترده من موظفي القنصلية في الأعلى.
كان الفساد يبدأ من هناك طبعاً، من مكاتب القنصلية، التي كان جميع موظفيها الذين التقيتُ بهم في الداخل متعجرفين على نحو مُهين، يتعاملون مع الجميع باحتقار، باستثناء واحد فقط، شاب حليق الذقن والرأس تماماً، يرتدي نظارات طبية، يتعامل غالباً بلطف بالغ. أقول هذا لأن الأجواء التي كانت مفروضة على بلال ستجعله شخصاً عنيفاً وغاضباً وقليل الحساسية، فالمطلوب منه هو منع دخول الجموع المحتشدة بأي وسيلة، وتنظيم الدور وإدخال الناس وفق تعليمات موظفي القنصلية حصراً، وهو يجد نفسه في مواجهة موظفين يهينون أبناء بلدهم، ما كان يترك على وجهه ملامح من فقدان الاحترام للجميع، موظفين ومراجعين، في كل وقت.
ليس هذا دفاعاً عن بلال، لكنه مناسبةٌ للحديث عن «صورتنا أمام الآخرين» التي تحدث عنها أحد موظفي القنصلية في زيارتي الأولى. أثناء وقوفي في طوابير القنصلية، كثيراً ما كنت أتمنى أن أدخل في رؤوس المواطنين الأتراك الذين يعملون في مكاتب أخرى في البناء نفسه، أو في المحلات والمتاجر والبنوك القريبة، كي أعرف ما الذي يفكرون فيه بالضبط.
أحد المشاهد المتكررة كان اقتراب شخص تركي، رجل أو امرأة، باتجاه باب المبنى؛ كان معظم الحاضرين يصمتون ويضعون رؤوسهم في الأرض ويفسحون الطريق، وما أن يعبر الشخص إلى داخل المبنى، حتى يعود الجمع للاحتشاد والضجيج. هذا مشهدٌ مهينٌ على نحو لا يُنسى، وما هو مهينٌ أكثر معالم الغضب أو التبرّم، أو حتى القرف، التي كانت تظهر على وجوه بعض العابرين؛ كنتُ أتعمّدُ مراقبة تلك الوجوه، وقلّما شهدتُ معالم التعاطف أو حتى الاستغراب الحيادي على أيّ منها.
أحاول أن أمارس رياضة وضع نفسي في مكان الآخرين كثيراً، ولذلك كنتُ قادراً على أن أتخيل كيف يفكر هؤلاء العابرون، وبلال أيضاً؛ «سوريون مع بعضهم بعضاً، ما علاقتنا نحن؟»، هذا ما يقوله معظمهم دون شك، لكن هذا ليس صحيحاً، لسنا سوريين مع بعضنا بعضاً، هذا قول سخيفٌ إلى حد يصعب شرحه، لكنه قد يبدو صحيحاً عند النظر إلى الأمر من الخارج، في عالم ترتفع فيه الحدود بين البشر، ويتم تعريف المرء فيه من خلال وثائق رسمية ينبغي أن تُصادِقَ على صحتها مؤسسات الدولة التي ولد على أراضيها.
في فلسفة تصديق الوثائق
لا تقبل الحكومة التركية أي وثيقة رسمية سورية ما لم تكن مصدقة من القنصلية، يشمل ذلك الشهادات العلمية ووثائق الولادة والزواج وإخراجات قيد النفوس، وجوازات السفر نفسها. وقد بات دارجاً أن يستخرج السوريون في الخارج جوازات سفر جديدة من سوريا عبر ذويهم داخل البلاد، وهذه لا تقبلها السلطات التركية ما لم يتم تصديق صورة عنها من القنصلية؛ حتى أن بعض الجوازات الصادرة عن القنصلية نفسها تحتاج إلى تصديق.
يكون مكتوباً على جوازات السفر المستعجلة، بالعربية والإنكليزية، أن الجواز صادرٌ عن القنصلية السورية في إسطنبول، وهذه الجوازات لا تحتاج إلى تصديق. لكن لسبب عجائبي لا يعرفه إلا الراسخون في علم مؤسسات الدولة، تصدر جوازات السفر غير المستعجلة بعد ثلاثة أشهر من التقديم عليها، مكتوباً عليها أنها صادرة عن إدارة الهجرة، دون تحديد آخر. هذه الجوازات، لا تقبلها السلطات التركية ما لم يتم تصديق صورة عنها من القنصلية.
لا تقبلها السلطات التركية إذا أردتَ أن تستخدمها لتجديد إقامتك في تركيا دون أن تسافر إلى خارج البلاد وترجع، أما إذا كنت تستطيع الخروج والعودة بحيث تضع أختاماً على جوازك الجديد في المطار، فلا حاجة للتصديق، ويمكنك تجديد إقامتك بدونه. سنحتاج هنا إلى الراسخين في علم مؤسسات الدولة مجدداً، ذلك أن السلطات التي تعترف بجواز سفرك على المعابر الحدودية، لا تعترف هي نفسها به في معاملة تجديد الإقامة.
أما أنا كراسخ في علوم القنصلية السورية وتصديق الوثائق، فسأخبرك أنه إذا حصلتَ على جواز سفر غير مستعجل من القنصلية السورية في إسطنبول، ستحتاج أن تحجز موعداً آخر بعدها عبر سمسار مجدداً، موعداً لتصديقه هذه المرة.
تصديق الوثائق أمرٌ عجائبيٌ على كل حال، يحتاج توسعاً وتفصيلاً لا مكان له هنا، لكنه يبدو أحياناً حلقة مثيرة للضحك. في سوريا، يصادق مدير النفوس مثلاً على صحة إخراج القيد الذي استخرجته من عند أحد الموظفين في مديريته، ثم تصادق وزارة الخارجية السورية على صحة مصادقة إدارة النفوس، ثم تصادق القنصلية السورية في اسطنبول على صحة مصادقة وزارة الخارجية، ثم يصادق قائم المقام في أحد أحياء اسطنبول على صحة مصادقة القنصلية، ثم تترجمه إلى التركية عند مترجم محلّف، ثم يصادق كاتب العدل على صحة ختم وتوقيع المترجم المحلف، ويمكن لك أن تقوم بالعكس، أن تترجمه أولاً ثم تذهب إلى مكتب قائم المقام للمصادقة. على أي حال، بعد هذه اللفة العجيبة، مرحى، تستطيع الآن أن تستخدم إخراج القيد في البلديات التركية من أجل إجراء معاملة زواجك، لكن انتبه، الوقت محدود، والورقة صالحة لستة أشهر فقط من تاريخ صدورها.
بالمناسبة، لم يعد يمكن دفع رسوم المعاملات القنصلية في البنك، بل باتت مؤخراً تُدفع في القنصلية نفسها، ولكن القنصلية لسبب مجهول لا تقبل إلا ورقة المئة دولار من الإصدارات الحديثة، ويجب أن تكون خالية من أي علامات أو خدوش أو تشوهات مهما كانت بسيطة. وقد حدثَ مؤخراً أن كنتُ في القنصلية، وبعد نهار شاق ومؤلم، رفض أحد الموظفين استلام ورقة من فئة المئة دولار مني بسبب خط صغير عليها بطول ثلاثة مليمترات بالحبر الأزرق. تراجعتُ إلى الوراء كسيرَ النفس، فقال لي مراجعٌ كان قريباً مني بحيث سمع قصتي: «صدّقلوا ياها من وزارة المالية الأميركية». ضحكنا جميعاً بشكل هيستيري، الأمر الذي أعطاني دفعةً من الحماس بحيث ركضتُ إلى الخارج مبتسماً، باحثاً عن طريقة لاستبدالها.
بالمناسبة أيضاً، هناك صرّافٌ قريبٌ من القنصلية، بات يستبدل الأوراق المالية غير المقبولة بأخرى مقبولة مقابل عمولة بسيطة. يحق لنا أن نتخيل الأمر كله بوصفه مؤامرة من عقل القنصلية الشيطاني، كوسيلة أخرى للسطو على أموالنا.
متفرقات ضرورية
قبل الذهاب إلى القنصلية، عليك أن تطبع نسخاً عن كل شيء، عن الوثائق التي تريد تصديقها، نسختين لكل واحدة؛ عن صفحات دفتر خدمة العلم؛ عن أول صفحتين من جواز السفر وكل الصفحات التي تحتوي أختاماً، نسختين أيضاً. وموعدك يجب أن يكون مطبوعاً على ورقة أيضاً.
لا توجد مكتبات قريبة لنسخ الوثائق، ولكن لا بأس إذا نسيت، فسوريا الحنونة تجد لك حلولاً سهلة، وإن مكلفة. تدخل في الممر الذي يؤدي إلى كراج السيارات خلف المبنى، وفي إحدى زوايا فسحة وقوف السيارات، ثمة باب معدني صدئ يؤدي إلى ممر صغير ضيق تحت درج المبنى الخلفي، في آخره غرفة صغيرة بمساحة متر مربع، فيها آلة تصوير للوثائق يعمل عليها رجلٌ تركي. الضوء الخافت والجدران الكامدة ورائحة الرطوبة والعفن تذكر بشعب التجنيد في سوريا، كما أن الرجل يعرف عمله جيداً كما لو كان موظفاً سورياً، يعرف عدد النسخ المطلوبة والوثائق اللازمة لكل معاملة، لكنه يتقاضى مبلغاً أكبر من المعتاد لقاء القيام بهذه المهمة. وثمة ورقة معلقة على باب الغرفة الصغيرة، عليها رقم الواتس آب اللازم إذا كنت تريد سحب نسخ عن وثائق تحمل صورها على هاتفك الخلوي. إذا لم يكن معك إنترنت، لا بأس، هناك أيضاً على الورقة رمز البلوتوث الخاص بهاتف الرجل.
إذا كنتَ مدخّناً فعليك أن تتأكد من وجود فائض من السجائر لديك، لأنك ستدخّن أضعاف المعتاد خلال ساعات الانتظار اللعينة. تحمّل العطش ولا تشرب كثيراً من الماء، لأن غيابك لقضاء حاجتك في حمامات المسجد القريب، قد يؤدي إلى خسارتك لدورك الذي سيأتي فجأة دون القدرة على توقّعه، ما سيعني مزيداً من الانتظار. وقد تشعر أنك تحتاج فنجاناً من القهوة مثلاً، حسناً، هذا أيضاً ليس مرغوباً للسبب السابق نفسه، وأيضاً لأن القهوة في المقاهي القريبة غالية الثمن جداً. تذكر، أنت أمام عفونة النظام السوري، لكنك أيضاً في واحد من أرقى أحياء إسطنبول.
حاول أن تكون هادئاً طويل البال قليل الغضب، لأن الغضب لن يفيدك في شيء، وسيكون ممتعاً فتح الأحاديث مع الواقفين، لكن الأفضل هو تجنب السياسة وكل ما يمت بصلة للصراع الدائر في البلاد؛ ليس خوفاً، ولكن الآخرين قد يعتبرونك مخبراً تستدرجهم فينفرون منك ويحدّقون فيك بريبة. تزداد القناعة يوماً بعد يوم أن النظام السوري بات أقوى وتمتد أذرعه في كل مكان، وفي الوقت نفسه يعتقد كثيرون أيضاً أن للمعارضة مخبرين أيضاً، لذلك يندر أن تسمع أحداً يشتم النظام أو يمدحه؛ الكلّ خائفٌ من الكلّ.
لم يكن الأمر هكذا قبل سنتين أو ثلاث، كان الناس يتحدثون بتحفظّ أقلّ. كان هناك من يعلنون انحيازهم للثورة والمعارضة أكثر، وإذا كان صحيحاً أن الأمن السوري لن يطالك في تركيا، وأنه يحق لك استصدار جواز سفر حتى لو كنت قيادياً في المعارضة، لكن يبقى أن الموظفين إذا سمعوك قد لا ينجزون لك معاملتك، ولـ«تخبط رأسك في الحائط»، كما يبقى أن هناك احتمالاً مستقبلياً أن يتم طردك إلى سوريا، من يعرف ما الذي تخبئه السنوات القادمة؟!
ومن حوادث الزمان الماضي، أنني عندما كنتُ في القنصلية عام 2017، جاء رجلٌ يسأل عمّا إذا كان هذا هو مكتب الائتلاف الذي يصدر جوازات سفر، فقال له أحد الحاضرين إنها قنصلية النظام السوري التي تصدر جوازات سفر، فكان رد فعل الرجل أن بصق على الأرض وقال إنه لن يدفع فلساً واحداً لبشار الأسد، ثم مضى غاضباً شاتماً من أرسله إلى ذاك المكان.
وبالحديث عن الأموال التي ندفعها لبشار الأسد، فلنكن واقعيين، نحن نموّل النظام السوري عبر جوازات السفر وسائر المعاملات القنصلية الأخرى، وتساعده هذه المبالغ على مواصلة الحرب، ومواصلة إذلالنا. لن تفيد كل المناورات النفسية لإقناع أنفسنا بعكس هذا، لكن ليس أمامنا أي حلول أخرى غالباً، وحتى في البلدان الأخرى غير تركيا، التي تمنح اللاجئين فيها وثائق سفر، فإننا سنحتاج القنصليات لتصديق الشهادات العلمية ووثائق الأحوال الشخصية وغيرها. هذا ليس خطأنا، هذا خطأ الأمم المتحدة، وربما قبلها مؤتمر وستفاليا ومبدأ سيادة الدولة.
في الواقع، ثمة مناورة نفسية مفيدة بعض الشيء؛ نستطيع أن نعتبر أننا ندفع هذه الأموال لعصابة قامت باختطاف رهائن، نحن الرهائن، ونحن ندفع للعصابة لتحرير أنفسنا. أو أن هذه ليست مناورة نفسية، بل هي حقيقة، لأنه عندما يتم خطفُ أحد أحبائنا وطلبُ فدية لإطلاق سراحه، سندفعها غالباً مع علمنا أننا نساهم في تمويل العصابة التي ستستفيد من أموالنا لمواصلة جرائمها. هذه ما تفعله قنصليات النظام بالحرف؛ لا أستطيع أن أرى فارقاً.
علامة في الذاكرة
بقدر ما يبدو العالم واسعاً في إسطنبول التي تبدو مزيجاً من مدن متنوعة متجاورة، بقدر ما كان الذهاب إلى قنصلية بشار الأسد فيها يجعل العالم ضيّقاً وخانقاً في وجوهنا. في ذلك المبنى في حي نيشان تاشي، وعلى الأرصفة المجاورة له، أنفق عشرات آلاف السوريين ساعات طويلة من أعمارهم، وأموالاً كثيرة من تعبهم وعرقهم، وشعروا بمهانة لا تُوصف، حتى أنه يحق لنا أن نطالب بتحويل مقرّ القنصلية إلى متحف في المستقبل، متحف للذاكرة، تُعرض فيه بعض الآليات الشيطانية لإذلال السوريين وسرقة أموالهم.
خلال السنتين الماضيتين، باتت تركيا أكثر ضيقاً في وجوه السوريين، وبات السوريون الذين يحتاجون إلى تحديث بياناتهم أو استخراج وثائق من شعبة الأجانب في منطقة بيازيد في اسطنبول يتعرضون أكثر فأكثر لظروف مماثلة لتلك يتعرضون لها في القنصلية. وفي الأشهر القليلة الماضية، فرضت السلطات التركية مزيداً من القيود على السوريين في عموم البلاد، وفي اسطنبول تحديداً، فشهدنا اعتقال الآلاف وترحيل كثيرين منهم قسراً إلى سوريا، وشهدنا حشوداً أكبر وطوابيراً أطول أمام شعبة الأجانب في اسطنبول.
أتخيل الآن أن القنصلية السورية في اسطنبول تتمدد إلى خارج جدرانها، تتسع تدريجياً كما لو أنها ثقبٌ أسود يبتلع السوريين وتعبهم وأعمارهم، وكلّما ابتلع منهم أعداداً وأعماراً وأموالاً أكثر، كلّما صار أكبر وأشد قسوة وقتامة. يصبح العالم كلّه تدريجياً أشبه بقنصلية لنظام بشار الأسد، نقف في طوابيره ودهاليزه وممراته بانتظار أشياء لا نعرفها ولا نملك أن نتوقعها، يحدّق فينا العابرون بمزيج من الدهشة والاحتقار، لا يفهمون ما الذي نفعله في تلك الطوابير التي تعرقل سير العالم، لكنهم يريدون فقط أن نختفي من أمامهم كي يصير عبورهم أسهل.