الحمد لله، ليس هناك حدود فاصلة بين الأحياء. والأحياء هنا ليس البشر الكائنين على قيد الحياة، فثمة بين هؤلاء ما يكفي من المتاريس والرشاشات الآلية والحدود المرصودة، فضلاً عن صعوبة تمييز الحي من الميت في البشر السائرين. أتحدث عن الأحياء السكنية، التي تتشكل من اجتماع بشر في نطاق مكاني معين، دافعين عجلة الحياة ضمن هذا النطاق بعد إعطائه طابعاً طبقياً واقتصادياً وسياسياً يميزه عما سواه من الأحياء، واشتقاق اسم له من تقلبات التاريخ.
نمتنّ لعدم وجود حدود بين الأحياء السكنية، لأن التنقل بينها لا يُعتبر هدراً للدم، ومغامرة خطيرة، وانتقالاً تُسكب على عتباته عبرات الوداع ودموع اللقيا. لا حدود واضحة بين الأحياء: لا أسوار ولا علامات على الإسفلت ولا برلمانات وسياسات تتغير بسبب تدفق العابرين.
هذا هو الحال في حي كورتولوش بمدينة اسطنبول، فأنت لا تعرف إن كُنت قد انتقلت من دولاب ديري إليه، وقد تضطر للخوض في نقاش لا يفوز فيه أحد مع سائق التكسي، حول ما إذا كان آخر شارع بانغالتي يقع في كورتولوش أم ينتهي في بومونتي. وحين يسألك موظفو الأمنيات عن العنوان التفصيلي لبيتك الواقع في أوزان سوكاك، ترتبك أنت، ويرتبكون هم، بسبب صعوبة التحقق من كون هذا الشارع يقع في فيريكوي أم هو تابع لكورتولوش. هذه الضبابية في تحديد أبعاد الحي وتخومه، تجعل الساكن فيه ساكناً في أحياء عدة في الوقت ذاته. فحين يقول قائل أنا أسكن في بومونتي، تستطيع أن تقول وأنا كذلك، وحين يقول أنا أسكن في كورتولوش، أو فيريكوي أو عثمان بيه، تستطيع أن تشاركه ذلك. لكن عليك التأكيد مراراً أنك لا تسخر منه أو تزاود عليه.
في اسطنبول، المدينة الهائلة بحشودها وامتدادها الجغرافي، سكنتُ في حي كورتولوش لمدة أربع سنوات. أتيت في يوم عاصف لزيارة صديقتنا فرات، التي كانت قد استأجرت بيتاً قريباً من الـ «سون دوراك» (المحطة الأخيرة). للوصول إلى بيت صديقتنا كان يتوجب علينا السير على امتداد شارع كورتولوش العام، الذي يوحي للسائرين فيه للمرة الأولى بأنه لا ينتهي، ولكن مدة السير تبدو أقصر مع التكرار والتعود. هذا هو الحال دائماً، أي طريق يبدو طويلاً وشاقاً للغاية على الذي يخوضه للمرة الأولى. بعد 4 أعوام صرت أقطع شارع كورتولوش من أوله إلى آخره دون أن أشعر بثقل المسافة، الذي يهوّنه تقطيع الطريق ووضع نقاط علام تجعل الرحلة الواحدة مجموعة من المراحل المتتالية. قضمات صغيرة منفصلة أفضل من اللقمة الكبيرة التي تسد مجاري الهواء.
«صعدنا تلة أخرى، ووجدنا أنفسنا في محلة أخرى تقع فيها كنيسة آيه ديميتري. جميع الناس هنا من الروم. مسنّون تتضح السكينة عليهم، يافعون مثل العسل، وسيدات بجدائل يملأن الجو بكلامهن الموزون، وأطفال ماكرون يلعبون مع التيوس والدجاجات في الشارع بحرية». هذا ما كتبه الكاتب الإيطالي إدموند دي أميجي، عن حي كورتولوش، في كتابه القسطنطينية.
كان ثمة شيء جاذب في الحي لم أستطع تحديده، إلى جانب معقولية أسعار الإيجار فيه آنذاك، دفعني إلى اتخاذ قرار البحث عن بيت فيه. أعطتنا فرات رقم علي بيه، صاحب المكتب العقاري الذي دلنا على البيت الذي سكنّتُ فيه لمدة عامين، كوّنتُ فيهما حالة من الولاء لهذا الحي، متخذاً خلالهما قراراً بألا أخرج من كورتولوش إلا إلى القبر.. كانت هذه مشاعر حميّة ثورية لا أدري من أين جاءت، ذلك أني سأسخر منها حين أخرج من كورتولوش وتركيا كلها، تاركاً بائع المياه المبهوت من كثرة تنقلي في بيوت الحي يحار من أثري الضائع.
في العام 1929، اندلع حريق هائل عند تقاطع شارعي آية تاناش وديمرجي أليكو، التهم حوالي نصف بيوت الحي المتجاورة والمبنية من الخشب وأحالها رماداً. وكانت كنيسة الروم من بين ما طالته ألسنة اللهب. كان الحريق تاريخياً، وأسس لمرحلة جديدة في هذا الحي، وأثار أزمة بين البلدية وفرق الإطفاء التي اتُهمت بالتقاعس في السيطرة عليه. وقد تغير اسم الحي بعد هذا الحريق بشهرين من «تاتافلا»إلى «كورتولوش».
سكنت في أربعة بيوت في كورتولوش على مدار أربعة أعوام، عاينت فيها الاختلاف الطبقي الغريب في هذا الحي الممتد من بومونتي إلى دولاب ديري. بيتي الأول في سيمن سوكاك كان في منتصف الحي، وكان يعيش فيه سكان من الطبقة المتوسطة، قريباً من مجمع مدارس يتعالى فيه صخب الأطفال في صباحات أيام الدراسة. انتقلتُ بعدها إلى بيت في أوزان سوكاك، مطل على مجمّع لجمع الخردة يتوافد عليه جامعو مخلّفات الكرتون والمعدن، ومعظمهم أطفال، داخلين من بوابة حديدية إلى مكان مسور أشبه بقرية صغيرة داخل الحي، فيها قن دجاج، وحمام يطير ويعود في ساعات الغروب، وأشجار تتقصف في الخريف، وكلب مربوط بسلسلة لا يتحرك إلا في نطاق مترين، وينبح في الليل البارد. كنت أنظر إلى هذا الكلب حاسّاً بالأسى والذنب، وراغباً في فعل شيء أو الشكوى ضد من يديرون هذا المكان، لأن فروه بدأ يتقصف من الجرب وكان لا يستطيع النوم أو الجلوس لفترة طويلة، ويقفز لاهثاً من مكانه فجأة لحكّ ظهره. كان رنين معدن سلسلته الذي يتبعه الأنين في الليل الساكن حين يتحرك يدخل في أذني كإبرة حادة، لأنه يذكّرني أن هناك كائناً على بعد أمتار يواجه العذاب القاسي.. عذاب فقدان الحرية والألم الكامن المصاحب له، ولا أحد يكترث له في هذا العالم.

على النقيض من ذلك، في طرف كورتولوش الأقصى، قريباً من حي بومونتي الذي تقطنه طبقة مرتاحة مادياً، تسير الكلاب النظيفة والمدللة بجانب أصحابها على الأرصفة. ومقابل عربات الكرتون والخردة التي تتوافد إلى مفرمة المعدن قريباً من دولاب ديري، تدخل السيارات الفخمة إلى مواقفها المسقوفة في الأبراج السكنية الحديثة في بومونتي. مقابل سوق الحرامية، هناك سوق أورغانيك وتُحف. ومقابل النساء اللواتي يرتدين الثياب الريفية المزركشة ويرشُشنَ الماء على عتبات البيوت، هناك نساء ذاهبات إلى الكوافير وتلمع على وجناتهان مستحضرات البشرة. مقابل المحافظين والدراويش الذين يملؤون المساجد في أيام الجمع والجنائز، ثمة علمانيون وأغنياء يترددون إلى المقاهي والبارات. تتداخل ملامح الريف والمدينة، وتتدافع الإيديولوجيات والتوجهات السياسية المتناقضة، على طرفي شارع طوله أقل من كيلومترين. رحلة سريعة بين العوالم يعجز عن تحقيقها مردة الفوانيس السحرية بهذه البساطة.
السوريون في كورتولوش، حالهم كحال الأتراك أيضاً، يتوزعون حسب قدرتهم المادية ووضعهم الاجتماعي، فأصحاب الدخل المحدود يسكنون في الغالب قريباً من دولاب ديري والسون دوراك. والميسورون يسكنون في بومونتي ومحيطها. هذا من آيات وحدة الحال التي لا يراها العصابيون.. الجيب يوحّد ويفرّق أكثر من الرايات والبيارق والأناشيد.
كان شارع الاستقلال، وبيه أوغلو عموماً، المركز الرئيسي لحركة الثقافة ومنتوجها، ووجهة للشبان. ولكن بعد حركة التدفق السياحي التي تكثفت خلال الأعوام الأخيرة، بدأ هذا المركز بالتحول إلى «وجهة سياحية»، يفضل كثيرون عدم الخوض في زحامها، ما دفع شرائح كبيرة إلى الانتقال إلى وجهات أخرى، مثل كاديكوي وبشكتاش وبومونتي وكورتولوش.
وبدأت المقاهي والمطاعم التي يرتادها الشبان غالباً، بالظهور بكثرة في كورتولوش، إضافة إلى بروز بومونتي أدا (وهي تجمع مطاعم ومقاهٍ في حي بومونتي بجوار كورتولوش، يضم منصة بابيلون الشهيرة لعروض الموسيقى، ويقع مقابل جامعة معمار سنان للفنون الجميلة)، كمركز جديد لطبقة اجتماعية لا يزعجها وجود أسعار مضاعفة عن مناطق أخرى. وقد أدت هذه الحركة إلى إضفاء حيوية ملحوظة على المنطقة التي يقع فيها الحيّان، من خلال استقطاب شريحة الشبان العلمانيين بالأساس، وكانت، بشكل وثيق، انعكاساً لواقع سياسي يزداد انقساماً، وتسعى فيه التيارات العلمانية المعارضة للتأكيد على هويتها من خلال التكتل في وجه الخطاب السياسي المحافظ الذي كان يزداد امتداداً وتتصاعد شعبيته مع صعود العدالة والتنمية.
أكثر ما أحببته في كورتولوش، هو أنه حي مختلط. سكانه في الأساس يونانيون، أطلقوا عليه اسم «تاتافلا»، وقد هُجّرت غالبيتهم العظمى بموجب اتفاق التبادل بين تركيا واليونان عام 1923، ويسكنه اليوم خليط من الأرمن والأكراد والأفارقة والعرب (غالبيتهم من العراقيين الآثوريين والسوريين)، إضافة للأتراك الآتين من أماكن مختلفة. هوية المكان المختلطة، وفّرت عليَّ كسوري الخوض في الكثير من الجدالات المرّة حول سبب وجودي هنا وتركي لبلادي. الجميع هنا غريب، ولا يؤمن بضرورة طردك ليعيش بسلام، ولا يحمل عصا التذمّر، التي تنهال عليك بشكل أسئلة متتابعة عن توقيت عودتك إلى بلادك. الخضرجي في سيمن سوكاك دخل على ابنه الشاب وهو يوجه لي أسئلة عن سوريا وما الذي يجري فيها، رغم أنه كان يسأل بلطفِ واستفهامِ من لا يدري، لا باستنكار وإدانة من يعرف حقيقة مشوهة. نكزه والده من خاصرته في المستودع حتى يكف عن ذلك، وجاء إلي مبتسماً يحمل الأكياس. كلّ ما مررت به يسألني عن سبب غيابي بوجه بشوش ومحبّ. البقّال الكردي يفعل ذلك أيضاً، والصيدلاني وصاحب المكتبة والميحانة. كلمة كورتولوش لها عدة معان في التركية، المعنى الأكثر تداولاً هو «الاستقلال»، أو «الخلاص»، ولكن أحبَّ معانيها إلى قلبي هو «المَهرب» أو «المنجى». كورتولوش بالنسبة لي تعني الألفة، وموطن اللجوء الداخلي في اسطنبول المتذمرة.
بالطبع الصورة ليست مشرقة بالكامل، ومن السذاجة الاعتقاد بذلك. فعندما استأجرت بيتي الثاني في كورتولوش، اتفقنا مع صاحب البيت على السعر والإجراءات ووقعنا العقد. هو يقترب من السبعين من عمره، حارس في مرآب، يعيش على حسرة وفاة زوجته والأمل بإيجاد أخرى تشاركه بقية سنين حياته. سألني في آخر المطاف زامّاً عينيه السؤال الذي يشبه رُمحاً مسموماً، من أين أنت؟ قلت من سوريا. نظر إلى ابنه، صاحب المكتب العقاري الذي دلّنا إلى البيت، شذراً، من رأسه إلى أخمص قدميه، قائلاً، بقنوط ويأس وغضب وحزم: «لم نتفقّ إذن». تطلب الأمر شرحاً وافياً من ابنه اللطيف الذي شعر بالحرج، لإقناعه بأنني «متعلم وأكابر»، حسب وصفه، وأنني لن أتأخر بالآجار أو أسبب أية مشكلة. وافق في النهاية. وبعد مرور شهور من سكني في الشقة ودفعي الإيجار قبل الوقت المحدد، أصبح يعتذر لي كلما التقيته عن هذا الموقف، ويطلب مني أن لا أغادر المنزل. مبرراً ردة فعله تلك بأنها جاءت بعد استئجار شخص سوري للمنزل في السابق وعدم دفعه الإيجار والفواتير. كنت أشعر في عملية إقناع صاحب البيت بكفاءتي وأخلاقي أنني أرتّقُ ثوباً مثقوباً. السوري هو إما شيطان أو ملاك في عيون الآخرين. وهو في الحقيقة لا هذا ولا ذلك. وفي الحالتين عليه الكفاح بضراوة لتغيير هذه النظرة التي تحمّله أكثر من طاقته.
استأجرتُ بيتاً لأهلي في كورتولوش في صيف 2018. أمي، التي ذاقت مرارة الجيرة السيئة في سوريا، لديها قناعة بأن السؤال عن الجيران أولى من السؤال عن المنزل ومواصفاته. جيرانها الآن في كورتولوش محافظون وبسطاء ويحبون المساعدة. جارتنا خديجة زوجة اسماعيل آبي الدهّان، ملأت شرفة أمي بأصص الزرع. ثمة طبق أسطوري الحركة، يتنقل يومياً بينها وبين خديجة مملوءاً بالطبخ والحلويات. خديجة، التي يذهب زوجها وأولادها إلى العمل، تقرع الباب على أمي في الصباح. أمي لا تعرف من التركية إلا لِماماً، وخديجة لا تعرف من العربية إلا كيفية نطق الآيات والتسابيح والدعاء على الظَلَمة. لا أحد يستطيع في هذا العالم أن يفسر كيف تتمكن خديجة من قراءة الطالع لها في الفنجان، أو التفاهم معها حول الطبخ والأخبار والأوضاع الاقتصادية، أو كيف تستطيع أمي إفهامها ما تريده منها في تطريز وجوه المخدات وثقب العُرى، وهو أمر يتطلب الدقة تفادياً للخطأ. تترصد خديجة أي شكوى أو مشكلة تشير إليها أمي في المنزل، حتى تحضر زوجها وأولادها بالعدّة لإصلاحها. حين تقف خديجة على العتبة تشعر أن وراءها جيشاً مدججاً سريع الحركة والفعالية، كأنها زعيمة في لعبة ريد أليرت. بعد إشارة من خديجة، أصلح اسماعيل آبيه الخزانة والباب الجرّار وباب الشرفة والجلاية والإنترنت وملابن الغرف ومصابيح الكهرباء، وكان يلومنا دائماً حين نعرض نقوداً لقاء جهده. خديجة هذه الأيام تشمّر أكمامها، وتحضّر نفسها لمعركة قريبة مع صاحب منزلنا، إذا قرر رفع الإيجار عند تجديد العقد.
غادرت تركيا قبل أسابيع. قطعت 8 آلاف كيلومتر بعيداً عن كورتولوش، متوجهاً إلى الضفة الأخرى من العالم، التي تنام حين يستيقظ الآخرون، تاركاً أهلي محروسين بصلبان المقابر ولهفة الجيران. تحول السياسيات والأحزاب والجيوش وقلّة عقل الإنسان بيننا كسوريين وبين ما نألفه. ننسلخ عنه كما يُسلخ الولد المفطوم عن ثدي أمه بالفلفل الحرّاق. توزعنا الحظوظ بين الأوطان البديلة كما لو أننا ورق لعب يُخلط بحرص تفادياً لاقتران الأقران وتلاقيهم في موضع واحد. تذرونا الأيام إلى مواضعٍ شتى. نسير في طرقات هذا العالم الذي حطّمنا، مرتبكين من تضارب الخطا التي تحركها ضرورة الهروب في اتجاه، ويوجهها الحنين في الاتجاه المعاكس.