ماذا كان سيحدث لو كان وجه رزان زيتونة رمزاً لثورة السوريين عوضاً عن لحية زهران علوش، أو لحى غيره من «ذئاب» الإسلاميين؟! سؤال أظنه طرح نفسه بقوة على كثير من السوريين لحظة وقوف الصبية السودانية الشجاعة أمام جموع المتظاهرين، مطالبة بحرية بلدها. كان هذا منذ بضعة أشهر خلت، عندما بلغت ثورة السودانيين ضد الحكم العسكري ذروة جعلت من السودان وأحداثه قبلة العالم كله. يتجدد السؤال نفسه الآن، فيما يتبوأ الاحتلال التركي للمناطق الشمالية من الجزيرة السورية الصدارة في أخبار العالم، على وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات الإعلامية لكبريات المحطات التلفزيونية والصحف العالمية، مع ما عناه الأمر من تعاطف في وسائل الإعلام الغربية، يكاد يكون مطلقاً، مع «ضحية» بسمات محددة دوناً عن سواها: مقاتلي وحدات حماية الشعب YPG. كان هذا ردَّ الفعل الأولي الطاغي حتى قبل التطرق للمأساة الإنسانية المتوقعة نتيجة الغزو، التي جاء ذكرها لاحقاً. هؤلاء المقاتلون، الذين تم تصويرهم بصفتهم من قاموا وحدهم من قاموا بالقضاء على خطر داعش، وتلقوا مقابل بطولتهم هذه طعنة في الظهر؛ الخطر الداعشي الذي طال من بين من طالهم فعلياً، عندما كان قائماً، أولئك العرب السنة من سكان الجزيرة السورية، الذين ابتلاهم قدرهم الأسود بالخضوع لتلك السلطة العدمية السوداء في المناطق التي سيطرت داعش عليها، لتأتي بعدها سلطة أخرى قِيل أنها «مُحرِّرَة» لتسومهم سوء العذاب مجدداً بصفتهم.. دواعش قبل أي شيء آخر!
في غمرة الصراع المستعر في شمال الجزيرة السورية بين الجيش التركي ومقاتلي YPG (قطاع واسع من السوريين ينظر إلى الطرفين بصفتهما تركيين، وحربهما امتداد لحرب أهلية تركية على أرض سورية، جيرا مرتزقة سوريين، عرباً وأكراد، للعمل معهم تحت شعارات مختلفة)؛ في غمرة هذا الصراع، طرحت مجموعة من المثقفين والنشطاء السوريين سؤالاً هاماً يصبّ مباشرة في صلب الموقف الأخلاقي تجاه تطورات المقتلة السورية في مختلف وجوهها، وبالتحديد حدثها الأخير المشتعل الآن. السؤال كان: لماذا علينا أن نستنكر موقف المثقفين والنشطاء الأكراد المدنيين المناصر الآن لمقاتلي الـ YPG في حربهم ضد الغزو التركي، في الوقت الذي ابتُلينا بموقف أشد مرارة عندما هوجمت الغوطة الشرقية وأجزاء من إدلب، وكلا المنطقتان كانتا تحت سيطرة تنظيمين ظلاميين متطرفين، جيش الإسلام وجبهة النصرة على التوالي، ومع ذلك صمتنا، ولو مؤقتاً، عن ارتكابات هذين الفصيلين الظلاميين، وسواهما، نصرة للمدنيين في تلك المناطق المحاصرة خلال مرحلة الاعتداء العسكري المباشر؟! السؤال، وعدا عن دافعه الأخلاقي، أشارَ إلى وضع ليس مأزقياً فحسب، بل كارثي أيضاً، عند القطاع الأوسع من الجمهور المناصر لثورة السوريين في عمومها، والمنتمي في الوقت نفسه إلى تلك البيئات التي انطلقت منها الثورة في ذروة زخمها، والتي دفعت أيضاً الثمن الأكثر كلفة في سبيل تلك الثورة. المقصود البيئات العربية السنية.
السؤال كان في حقيقته، وكما قرأه كاتب هذا السطور، وربما كثر معه: لماذ ابتُلينا بوجه طاغ لثورتنا، خصوصاً خلال عملية الاعتداء العسكري المباشر على البيئات الأهلية المدنية التي انطلقت منها تلك الثورة، وجه هو الأشد بشاعة من بين كل الوجوه، البشعة، التي تبارت في طعن هذه الثورة في صميمها؟! المقصود طبعا الوجه الإسلامي الجهادي، وهو الوجه العسكري للإسلام السياسي، الذي حاول فرض نفسه منذ اللحظات الأولى بصفته الوجه الوحيد لتلك الثورة بعون جميع الأطراف، من النظام إلى الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، وحتى الأطراف الدولية التي لم تجد في ثورة شعب على أرضه من أجل الحرية والكرامة إلا مجموعة من الوحوش الإرهابيين القادمين عبر الحدود لتشكيل تنظيم إجرامي لن يلبث أن يحرق العالم كله! أين الوجه الآخر، الحقيقي، الإنساني، العميق والصادق، وجه رزان زيتونة بالذات الذي هو الأكثر تعبيراً عن صورة أولئك الثائرين المدنيين، ليكون تلك الصورة التي تعبّر أصدق تعبير عن تلك الثورة؟! ما الذي حلَّ به، وهل تغييب رزان، ومن قبل جيش الإسلام وقائده زهران علوش بالذات، كان فعلاً بقي محصوراً في بُعده الإجرامي الوحشي، أم أنه تعدّاه إلى ما هو أبعد وأشد أذى، ليس فقط لرزان ومحيطها المباشر ومعها سميرة وناظم ووائل وعائلاتهم، بل لسوريا بأكملها ولصورة ثورة شعبها أمام العالم كله؟!
اليوم، وفي غمرة ذلك الصراع، الذي يراه كاتب هذه السطور أيضاً صراعاً أهلياً تركياً ممتداً إلى داخل الأراضي السورية، نجد تعاطفاً عالمياً هائلاً مع مقاتلي الـ YPG، ليس مع المدنيين فقط، حتى ولو اقتصر التعاطف مع المدنيين الأكراد فحسب دونا عن بقية المكونات الأهلية للمنطقة، وبالذات العرب السنة، بل كان، وفي ردة فعله الأولى، تعاطفاً كاملاً مع مقاتلين يحملون السلاح بصفتهم «مقاتلين من أجل الحرية» ساهموا في هزيمة داعش وكابوسها. الموقف هذا، ودون ذكر ارتكابات أولئك المقاتلين بالذات بحق السكان المدنيين العرب في المنطقة الخاضعة لسلطتهم، عكس انحيازاً واضحاً منذ اللحظات الأولى لسردية واحدة كرّستها مجموعة من المسبقات الواضحة، القاطعة وسهلة التبني دون الحاجة للدخول في تعقيدات ستكلف المنصت إليها صداعاً مزمناً. هي نفسها «مُسبقات» خطاب الحرب على الإرهاب الطاغي عالمياً الآن، والذي يندرج ضمنه الترويج الإعلامي الإسرائيلي في مواجهة البيئات الأهلية الفلسطينية بصفتها بيئات إرهابية أو حاضنة للإرهاب، واندرجَ ضمنه أيضاً خطاب الميليشيات الكردية في مواجهة بيئات محلية خضعت لحكمها المباشر، ومن ضمنها البيئة العربية السنية، وكان هذا لتبرير السلوك الاقصائي الذي اتبعته تلك الميليشيات في مواجهة هذه البيئة بشكل رئيسي. وهي أيضاً الصيغة نفسها التي حاول النظام الأسدي تبنيها، ولكن بدون نجاح كبير لأن ارتكاباته اتسمت بوحشية وغباء فاحشين فاقا كل ما ارتكبه الآخرون، مجتمعين، بحق عموم السوريين، وبمراحل هائلة.
إذن فقد بتنا في هذا الصراع أمام صورتين؛ الأولى تحاول الترويج لنفسها في مواجهة غزو عسكري تركي بصفتها «الملاك» في مواجهة «الشيطان». والحقّ أن الصفة الأخيرة ليست بعيدة جداً في التقاط السمة العامة للموقف التركي الرسمي، الرسمي وليس الشعبي، تجاه عموم السوريين، وليس الأكراد وحدهم. ولكن تلك الصورة، وفي غمرة اندفاعها إلى تلك المواجهة، قامت بفبركة صورتها وحدها بصفتها الضحية المغدورة بالرغم من دفاعها الدائم عن الحرية والعدالة في المناطق التي خضعت لسيطرتها، وهذا كلام يشهد جميع العرب الذي ابتلوا بحكم أصحاب تلك الصورة، مقاتلي الـ YPG وأنصارهم، بأنه لم يكن صحيحاً في أية لحظة من لحظات حكمهم. أما الصورة الثانية، فهي تلك الصورة الإسلامية الجهادية التي يحاول أصحابها فرضها بصفتها الهوية الوحيدة لثورة السوريين ضد الطغيان. ونلاحظ هنا أن كلا الصورتين تحالفتا للوصول إلى النتيجة نفسها، على الضد تماماً من مصالح السوريين، وبالتحديد أولئك الذين أطلقوا الثورة ودفعوا ثمنها بالكامل، وهو أيضاً تحالفٌ مع أول من أطلق تلك الصورة عن الجموع الثائرة ضده وحاول تثبيتها، نظام الأبد الأسدي الفاشي.
في حالة مركبة كهذه يصح السؤال، مع من مشكلتنا بالذات؟! وهنا تصح تلك العبارة التي كانت سائدة في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم خلال مرحلة النضال الوطني الفلسطيني في أوج اشتعاله: من هو عدونا الرئيسي؟! لا يمكن لمعتوه أن يفترض أن الأكراد، أو أي شعب آخر هكذا على العموم، يمكن أن يكونوا أعداء له. في نهاية المطاف هناك قضية كردية محقة وعادلة. هذا أمر لا يجب أن يُنسى أبداً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقيمة أخلاقية نحاول التمسك بها وإعلائها في أي ظرف مهما كان معقداً وحالكاً. وهي القيمة نفسها التي كانت دافعاً لطرح السؤال الرئيسي أعلاه.
أهو النظام؟! ولكن النظام انتهى فعلياً والقرار ما عاد بيده الآن، حتى فيما يتعلق بمصيره كنظام حاكم. والقرار أصلاً مُتنازع عليه بين طرفين حاكمين لمناطق النظام في سوريا، ولرأس النظام نفسه، روسيا وإيران. نعم، لقد فاقت ارتكابات النظام كلّ وصف، ولكن المسألة الآن صارت في عهدة سردية نحاول تثبيتها وتوثيقها بصفتها شهادة على واحد من أكثر أنظمة القهر بشاعة ووحشية عبر التاريخ البشري، وما هو غير ذلك، فتلك مسألة دخلت في طور جديد من «الصراع» عبر المحاكم الدولية، لتثبيت التهم على النظام وقادته بصفتهم مجرمي حرب يجب أن ينالوا العقاب العادل مهما طال الزمن.
الإسلاميون، وكما كانوا دائماً، وكما عرفناهم منذ الانتفاضة الشعبية ضد نظام الأسد الأبدي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وكانت انتفاضة نقابية مدنية أدّى الدخول الإسلامي عليها إلى مواجهة عسكرية دموية خاضها الإسلاميون ضد النظام، تماماً كما أراد النظام وخطط، دمرت مدينة حماة وتركت جرحاً غائراً في ذاكرة الشعب السوري بأكمله؛ الإسلاميون؛ وكما كانوا دائماً، طاعون أي توق نحو الحرية والانعتاق في منطقتنا بأكملها، وعوناً لا يمكن إنكار فعاليته الهائلة لأي نظام استبدادي يريد تدمير المجتمعات التي يحكمها بحجة أولئك الإسلاميين بالذات؛ الإسلاميون، كانوا وما زالوا وسيستمرون في كونهم العدو الرئيسي الذي يجب أن نجد معه حلاً، وإلا عدنا، وككل الحمقى والمغفلين عبر التاريخ كله، لتكرار الأخطاء نفسها، ولكن مع فارق واحد فقط: الكلفة في كل محاولة جديدة ستتضاعف أضعافاً مضاعفة عن المحاولة التي سبقتها!
إن لم نحدد موقفاً واضحًا من موضوع الإسلاميين، وبالذات ضمن سياق المطالبة الشعبية المشروعة والمحقة بالحرية والكرامة، والعيش في مجتمعات أكثر إنسانية وانفتاحاً تليق بنا كبشر، فلن نتمكن من المضي في أية خطوة في أي اتجاه. هذا هو السؤال الملّحّ الذي يجب أن نتصدى له الآن وهنا. غير هذا، سنصبح كمن يمضي لنيل حريته، دون أي سلاح، حتى سلاح التعاطف الإنساني العام مع مطلب محق ومشروع، السلاح الذي لا غنى عنه، وفوق هذا كله هو يحمل قاتله فوق كتفيه!
كل هذا يقال في عالم ما بعد 11 أيلول وتداعيات تلك الجريمة التي ارتكبها فصيل إسلامي، لم ولن تفلح كل محاولات التوضيح للعالم كله أن هذا الفصيل بالذات ابن غير شرعي لتحالف استخباراتي أميركي سعودي، بعد أن سادت صورة واحدة قالت للجميع أن هذا هو المجرم عدو الحياة الذي أباد ثلاثة آلاف مدني بريء خلال بضعة ساعات فقط على مرأى ومسمع العالم بأكمله، وهو ما حصل فعلاً صبيحة ذلك اليوم المشؤوم. لم يبق من وجه أو اسم هذا المجرم إلا تفصيل وحيد.. إنها تلك اللحية المرسلة، دلالة على هوية، ظلامية وغبية وراسخة، يريد صاحبها أن يطلقها على العالم كله ويحرقه، ويحرق في طريقه كل من يريد أن يقول إننا لسنا رعايا لإمبراطورية هذا المعتوه الوهمية، وإننا لسنا أنصاراً له، حتى «في أنفسنا»، كما يلح مثقف عربي ما، وأننا أول الضحايا لكل هذا العته والإجرام، والإجرام المضاد، الذي علقنا وسطه دون أن يسمع صوتنا أحد.
بغير هذا لن نصل إلى أي مكان. وسنبقى في موقف دفاعي عن ثورة يتكاثر الآن عدد الذين يريدون الطعن بها لينجو لأنفسهم ولو… بإشارة لايك على صفحة فيسبوك!