علينا أن نكون واعين أنه لا يمكنك صنع فيلم عن الحرب دون تمجيد شعور الحماسة المرافق للجنود حتى وإن كنت تصنع فيلماً عن ويلات الحرب
– فرانسيس فورد كوبولا
خمسة عادوا
يبدو الحديث اليوم عن أي تفصيل من تفاصيل الحرب العالمية الثانية وكأنه معادٌ ومكرر، فلا يمكن أن تغيب عن بالنا أبداً مجريات تلك الحرب التي غيرت وجه العالم، والتي أعادت تشكيل، ليس فقط شكل البلدان السياسي والجغرافي، بل أيضاً شكل المنظومة الأخلاقية ومصطلحات فلسفة الحرب وماهيتها. شملت هذه الحرب حرفياً كل بقاع الأرض، ولم ينجُ منها لا حجرٌ ولا بشرٌ على امتداد المعمورة، ولا نزال حتى اليوم نعيش تبعياتها بشكلٍ أو بآخر، إلا أن أكثر ما كان جديداً فيها هو أنها كانت حرب الصورة والدعاية الإعلامية؛ لدرجة أن مفاهيماً جديدة تم تشكيلها على مستوى الضخِّ الإعلامي والتجييش الشعبي، حتى أن المؤرخ الإنكليزي إريك هوبزباوم وصف الحرب العالمية الثانية في كتابه عصر التطرفات بالآتي: «وقد كانت تلك الحرب في جوهرها حرب نشرات الأخبار» هوبزباوم إريك، عصر التطرفات القرن العشرين الوجيز (1991-1914)، ترجمة: فايز الصيّاغ، تق: مصطفى الحمارنة، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011، ص68..
ساعدت الوسائط الجديدة آنذاك البروباغندا الإعلامية من خلال العديد من الأفكار الجديدة؛ مثل تقديم المراسلين الحربيين قصصاً مليئةً بالحماسة والتحفيز، وإذاعة نشراتٍ إخبارية تركّز على الانتصارات أكثر من الهزائم أو الخسائر. وبالطبع كان العامل المهم حينها هو إشراك المواطن المدني العادي وتجنيده ليصبح مشاركاً في الحرب، حتى دون أن يحمل السلاح على الجبهة، وكان لهذه الأساليب تأثيرٌ جانبيّ، لا سيما وأنّ هذه الحرب قد حصدت أرواحاً من المدنيين أكثر من العسكريين؛ وذلك لأنها تخلت عن أساليب الحروب القديمة وصاغت أسلوب ليّ ذراع الخصم بكافة السبل الممكنة، بغضّ النظر عن شرعية هذه الأساليب، مما أدى إلى أن تصل أعداد أرواح المدنيين القتلى أكثر بحوالي المليون من أعداد القتلى العسكريين، وذلك بالطبع يستثني الولايات المتحدة التي لم تصل الحرب إلى أرضها بشكلٍ فعلي، وظلت طوال ثلاث سنواتٍ ونصف من بداية الحرب حتى لحظة إعلانها المشاركة الفعلية فيها في مأمنٍ؛ بوصفها خطاً خلفياً للحلفاء، وتمدهم بالسلاح والغذاء دون أن تعرّض نفسها لهول الحرب الحقيقي الذي خضعت له أوروبا وشمال أفريقيا. هذا الحال تغير حينما اضطُرت بحلول شهر أيار(مايو) 1942 إلى الدخول الفعلي في الحرب. عند هذه اللحظة بالتحديد تبدأ السلسلة الوثائقية خمسة عادواFive Came Bac الذي قدمته شبكة نتفليكس. Netflix
تروي السلسلة قصة خمسة مخرجين هوليووديين أوائل، هم: فرانك كابراFrank Russell Capra، وجون فوردJohn Ford، وجون هيوستنJohn Marcellus Huston، وجورج ستيفنزGeorge Cooper Stevens، وويليام ويللرWilliam Wyler. هؤلاء المخرجون كانوا من أهم صنّاع السينما الهوليوودية في لحظة إعلان الولايات المتحدة الأميركية الحرب على اليابان رداً على الغارة الجوية المباغتة على بيرل هاربر (Pearl Harbor)، والتي نفذتها البحرية الإمبراطورية اليابانية في 7 ديسمبر 1941 على الأسطول الأميركي القابع في المحيط الهادئ ضمن قاعدته البحرية في ميناء بيرل بجزر هاواي؛ وذلك عبر تعليقات ومقابلات مع خمسة من المخرجين المعاصرين المعروفين: فرانسيس فورد كوبولاFrancis Ford Coppola، وغيجيرمو ديل توروGuillermo del Toro Gómez، وباول غرينغراسPaul Greengrass، ولورنس كاسدانLawrence Edward Kasdan، وستيفن سبيلبرجSteven Allan Spielberg.
تركت الغارة الجوية اليابانية على الأسطول الأميركي أثرها العميق على الناس في الولايات المتحدة، فتغيرت نظرتهم القائمة على الحياد في الحرب الأوروبية إلى الانتقال لحالة العسكرة الكاملة وحمل السلاح، وهنا برزت الحاجة لحضور هؤلاء المخرجين كحالةٍ أساسية في تغذية الروح الوطنية لدى العامة ودعم التحول العسكري، فمشاركة أهم مخرجي هوليوود في تلك الفترة في العمل الميداني الحربي كان أمراً مثيراً للاهتمام على عدة جبهات؛ الأولى أنهم كانوا جميعاً بالتأكيد قادرين على الإعفاء من التجنيد العسكري لو أرادوا ذلك نتيجة صلاتهم وأسمائهم المعروفة، والثانية التنسيق الممنهج مع وزارة الدفاع الأميركية في تلك الفترة من أجل زعزعة الاستقلالية المفترضة في هوليوود.
ًأصبحت الولايات المتحدة في تلك اللحظة طرفاً عسكرياً مباشراً في الحرب الدائرة، وأصبح من الضروري القيام بالتحرك العسكري اللازم وتوثيقه كما يجب، الأمر الذي تطلب انضمام المخرجين الخمسة إلى القوات المسلحة بغية توثيق الحرب العالمية الثانية.
تحاول السلسلة (خمسة عادوا) أن تعيد سرد الأفلام الوثائقية التي قدمها المخرجون السينمائيون خلال خدمتهم في الجيش الأميركي، وكيف تم التأثير على الرأي العام الأميركي من خلال إيصال الحرب إلى دور السينما وعرض انتصارات الجيش وراء المحيط، وأيضاً كيف أثرت الحرب نفسها في المخرجين ذاتهم.
استندت السلسلة إلى إعداد مارك هاريسMark Harris لنسخة فلمية من كتابه Five Came Back وإخراج لوران بوزيروLaurent Bouzereau، الذي قام مع فريقه بجمع أكثر من 100 ساعة من اللقطات المحفوظة والأخبار، وأكثر من 40 فيلماً وثائقياً تدريبياً من إخراج وإنتاج خمسة مخرجين أثناء الحرب، و50 فيلم ستوديو وأكثر من 30 ساعة من اللقطات الأصلية التي لم تصل إلى النسخة الأخيرة من الأفلام (outtake)، واللقطات الخام من أفلام الحرب الخاصة بهم، وذلك بحثاً عن الدور الذي لعبته هوليوود في تعبئة وتشكيل وعي أميركا المنقسمة في تلك الفترة.
قامت الممثلة ميرل ستريب بدور الراوي في هذه السلسلة، وحصدت على دورها هذا جائزة إيمي لسنة 2017 من أكاديمية الفنون والعلوم التلفزيونية (Academy of Television Arts & Sciences)، وتنقسم السلسلة إلى ثلاث حلقات:
الأولى بعنوان تبدأ المهمة: تروي كيف دخلت الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية، وكيف ترك خمسة من كبار المخرجين بيوتهم ونجاحاتهم في هوليوود من أجل الانضمام إلى القوات المسلحة وصنع أفلام للمجهود الحربي. الحلقة الثانية، وهي بعنوان مناطق القتال: تصور الخدمة الفعلية في الحرب واللحظات التي توصّلَ كل مخرج منهم فيها إلى حقيقة أن رؤيته السينمائية لا يمكن تقديمها دائماً كما يرغب في ظل بيروقراطية الحكومة الأميركية بالإضافة لمتغيرات الحرب. والحلقة الثالثة والأخيرة بعنوان ثمن النصر: حيث يتم عرض نهاية الحرب وعودة المخرجين الخمسة إلى هوليوود لإعادة تأسيس حياتهم المهنية، مع علمهم أنّ ما رأوه سيظل يطاردهم وسيغير حياتهم إلى الأبد.
بعد تتبّع رحلة هؤلاء الخمسة إلى مناطق القتال، تظهر تعليقات أساسية على أفلامهم الحقيقية الوثائقية التي صوروها، فتكشف عبر الحلقات الثلاث كيف صورت الكاميرا الحرب وشناعة هذا الفعل البشري العنيف، رغم محاولة البعض منهم توجيه الصورة نحو بروباغندا متفق عليها بشكلٍ لا لبس فيه، تُقدَّم من خلال أفلام وثائقية قصيرة. وبعد التحليل الدقيق لهذه الأفلام ستجد أن مجموعة الأفكار الدعائية التي تستطيع أن توجهها هذه الأفلام مخيفة جداً، وحقيقة ارتباط الصورة البروباغاندا معقدة ومليئة بالمتناقضات. فلكل قصة من قصص هؤلاء الخمسة هناك جانب مخيف في كيفية سيطرة البروباغندا على الوعي العام، ومع التذكير أن ما حدث يعود لفترة أربعينات القرن الماضي، إلا أننا نستطيع استشفاف صيرورة لا تختلف عن اليوم؛ فهي حكايات نعرفها اليوم ونعرف آثارها الفعلية على حياتنا، ولكن من المثير بشكل أساسي التمعّنُ في بعض اللحظات التي ركزت عليها السلسلة.
في البداية، يمكن اعتبار قصة تصوير معركة سان بيترو 1945 مخيفةً في حقيقتها؛ حيث وصل المخرج جون هوستون إلى سان بيترو في جنوب إيطاليا لتصوير معركةٍ حرجةٍ في الحرب العالمية الثانية في عام 1943، إلا أنه وصل بعد انتهاء المعركة، وكان قد تم بالفعل طمس المدينة الجبلية الصغيرة بالكامل من قبل قوات التحالف الغازية والجيش النازي المتراجع، وأكثر من 1600 جندي أمريكي كانوا بين جرحى وقتلى. نتيجةً لذلك، قام هوستون بتوجيه كاميراته على الجنود الذين سقطوا، وقام بتصوير لقطات مروعة عن التكلفة الفعلية للحرب، لكنّ خططه للقبض على الصراع الفعلي وتصوير المعركة التي دارت هناك كانت قد تبددت، لذلك قرر هوستون أن يعيد محاكاة المعركة من نقطة الصفر، وهكذا قصف الجنود الأميركيون هذه الأرض المدمرة بالفعل مرةً أخرى؛ قاتلوا الأعداء الوهميين، وقاموا بمحاكاة الرعب الذي كانوا قد عانوا منه للتو، ومع ذلك فإن عنف المشاهد وهول الدمار ومشاهد القتلى والجرحى جعلت من الفيلم ذي الـ32 دقيقة مثاراً للجدل بشكلٍ كافٍ، حتى أنّ الجيش الأميركي حاول منع الجنود من رؤيته، ولم يُعرَض على الملأ إلا بعد أن أشاد الجنرال جورج مارشال بالفيلم باعتباره عملاً ضرورياً من شأنه أن يُعدَّ المجندين الجُدد لما ينتظرهم فعلاً في المعركة.
وهكذا كان هوستون، حسب ما يروي فرانسيس فورد كوبولا، قد حاول العثور على الواقعية الجريئة للقتال، حتى لو كانت مزيفة، والذي حاول كوبولا نفسه القيام به في وقتٍ لاحق مع فيلمه Apocalypse Now، الذي كان من المقرر في الأصل أن يكون بمثابة فيلمٍ وثائقيٍّ عن حرب فييتنام، قبل أن يحوله بطريقةٍ ناجحة إلى فيلم روائي عن شناعة تلك الحرب.
أما بالنسبة لفرانك كابرا الذي كُلِّف بإنشاء سلسلة من الأفلام الوثائقية «لماذا نقاتل؟»؛ من أجل تعزيز الروح المعنوية للقوات الأميركية، فإنه على حد قول السلسلة صُدِمَ لأول مرة برؤية ليني ريفينشتال، المخرجة الألمانية التي صورت فيلمي الدعاية للنازية انتصار الإرادة وألمبيا عن أولمبياد برلين 1936، وكان سؤاله الأساسي: «كيف يمكنني أن أتفوق على هذا؟»، فقد شعر هو نفسه بالرهبة كصانع أفلام، وذلك رغم تقززه من أفلامها على حد قوله، إلا أنه أيضاً اعترف أن شرارة تنافسية انطلقت في رأسه، وكان السؤال كيف كان بإمكانه التفوق على الدعاية النازية؟
هذا بالإضافة إلى تلميح السلسلة أنه، أي كابرا، كان رغم ذلك من المعجبين بموسوليني، وأنه أصرّ على تصوير اليابانيين بطريقةٍ سيئةٍ جداً، واستخدام عباراتٍ عنصرية تجاههم، في حين لم يكن الأمر كذلك مع تصوير الألماني، وكأن الياباني كان عدواً أقل قيمةً وأكثر همجية، وهو ما أكدت عليه الحكومة الأميركية التي كانت مشرفةً بشكلٍ مباشرٍ على سلسلته هذه. وبسبب بقائه في لوس أنجلس، كان على صلةٍ مباشرةٍ مع قيادة الجيش الأميركي لإدارة أفلام السلسلة الدعائية هذه، وهكذا بقي بعيداً عن معاينة الألم الحقيقي للحرب، فظلت تظهر في أفلامه على أنها حرب من أجل «حرية العالم الجديد»، دون أن يكون لها ثمنٌ فعلي.
على النقيض، أو على الطرف الأخر من المعادلة، كان المخرج الكوميدي جورج ستفينز، الذي كان من المعروف أنه لم يكن متحمساً للحرب، ولم يكن لديه فكرةٌ واضحةٌ عما يمكنه إضافته في تصويره للحرب، إلا أنه مع ذلك انضم إلى فيلق الإشارة في الجيش الأميركي، وترأس وحدة فيلم من عام 1943 إلى عام 1946، تحت قيادة الجنرال أيزنهاور، وقد قامت وحدته بتصوير لقطاتٍ توثّق يوم النصر عند تحرير باريس واجتماع القوات الأميركية والسوفيتية قرب نهر الألب، بالإضافة إلى مشاهد مروّعة من معسكر العمل الإجباري في دوبن (Duben) ومعسكر الاعتقال داخاو (Dachau)، ليخرج فيلمه Nazi Concentration Camps الذي عرض خلال محاكمات نورمبرغ. عاد ستفينز بعد نهاية هذه الحرب إلى عمله في هوليوود، لكنه ظلّ مصاباً بحالة صدمة مما شاهده خلالها؛ لذا لم يعد أبداّ لصناعة الأفلام الكوميدية، وحتى أفلامه التي رُشّحت أو نالت جوائز أوسكار في مسيرته اللاحقة كانت أفلاماً درامية بامتياز.
يمكن اعتبار هذه المقتطفات من السلسلة الوثائقية بمثابة لمحاتٍ سريعة أو صور صغيرة لما تستطيع السينما تقديمه أو تحفيزه، خاصةً وأنها كانت أداةً خطيرة فعلاً بيد الجيش والحكومة الأميركية، وقد حوّلت، بشكلٍ أو بآخر مسار الحرب، وذلك بعدما شطحت البروباغندا بعيداً، وأكثر من المعتاد. وبقي أن نذكر أن الكتاب الأصلي الذي استندت إليه السلسة كان قد طُبع عام 2014، إلا أن السلسلة الوثائقية ظهرت في نهاية آ وفي هذه المرحلة التاريخية تشهد الحياة الأميركية السياسية تحولاً سياسياً هاماً كما تقول الصحفية أنا تومسون (Anne Thompson) في مقابلتها لفريق العمل: «ما تغير منذ عام 2014 هو أنّ هذا الصدى التاريخي لا يزال قائماً، بعد أن أصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة مع أجندةٍ قوميةٍ وانعزالية ومناهضة للتجارة ومناهضة للمهاجرين». وقال بوزيرو: «كنا نأمل في الأصل أن نصدر الفيلم قبل الانتخابات. لقد أدركنا الرسالة التي حملتها السلسلة، ومعرفة تاريخ ما حدث، وعلاقة الحكومة بالسينما والدعاية».
علاقة السينما الأميركية بالسياسة لم تنتهِ، وتتابعت عبر السنين بأشكالٍ مختلفة، كما حدث مع لجنة الأنشطة المعادية لأميركا التابعة لمجلس النواب (HUAC)، التي أصدرت سنة 1947 ما سُمي بالقائمة السوداء لهوليوود، وتضمنت منع عمل أكثر من 300 شخصٍ ممن أطلقت عليهم وصف «داعمين للشيوعية أو روسيا»، وكما يحدث اليوم، وهذا ما أكده مخرج السلسلة نفسه بالقول: «كان على هؤلاء السينمائيين حينها مسؤولية أن ما كانوا يضعونه في العالم سيتم اعتباره حقيقة. يمكننا رؤية الكثير من أصداء هذه الأفعال من خلال ما يحدث اليوم».
لا يمكن بالتأكيد الإحاطة هنا بكل عناصر السلسلة الوثائقية، التي عبر حلقاتها الثلاث وأكثر من 3 ساعات، عرضت كثيراً من الأفكار التي يمكن مناقشتها ضمن مفهوم الدعاية وعلاقة السينما بالحرب، وما يمكن وصفه هنا في هذا المقال هو انتقاء بعض أكثر اللحظات التي يمكن مناقشتها، وإعادة قراءة هذه السلسلة، التي إن دلّت على شيء فهو بالتأكيد محاولة ربط اليوم بالأمس، عن طريق فهمٍ كاملٍ لعمل مثل هذه المنظومات، حيث أنّ ارتباط هوليوود بالسياسة الحكومية لم يتوقف منذ تلك اللحظة، وسيعود هذا الارتباط أكثر من مرة ليشغل الرأي العام؛ هذا هو الأمر الذي يستحق بالتأكيد التعمق فيه أكثر، وتحليل آلياته دائماً.