شكّل كتاب Ambiguities of domination للباحثة الأميركية ليزا ويدين، الصادر عام 1999، مرجعاً نظرياً هاماً للمطّلعين والمهتمين بالشأن السوري في عهد حافظ الأسد، وعاد إلى الضوء مرةً أخرى بعد بداية الثورة في سوريا، ففيه تُقدّمُ ويدين رؤيةً ثقافيةً وسياسيةً للأسلوب الذي يتّبعه النظام السوري لتمكين حكمه وسيادته، عبر تحريك الجموع إلى الساحات العامة وإجبارهم على الأداء العلنيّ كشكلٍ من أشكال استعراض القوّة، ليصبحوا ككتلة بشريّة محكومين بسياسة As if أو «وكأنّ»، تلك التي تخلق ازدواجيّةً لدى الأفراد، الذين يؤدّون أدوارهم وكأنهم يصدقّون ما يقومون به.
صدر هذا العام كتاب جديد لويدين، تقول إنها بدأت بالعمل عليه منذ عام 2010، بعنوان «التملّك السلطوي: الإيديولوجيا، الحُكم، والحِداد في سوريا»Authoritarian Apprehensions: Ideology, Judgment, and Mourning in Syria. وفيه تقرأ ويدين سياسات النظام السوري و«مُنتجاته الثقافيّة» وأشكالها في مواجهة خطاب الثورة ومُنتجاتها، ودورها في تفعيل الازدواجيّة في المواقف والخطاب الشعبيّ، التي اكتسبت شكلاً جديداً مع بشار الأسد، الذي رسخ اختلافاتٍ بين «الواقع الآن» وبين «المُتخيَّل لاحقاً»، ليأتي الكتاب كمحاولةٍ للإجابة عن سؤال: «لِمَ بقي بعض الناس مؤيدين لنظام الأسد، مع العلم بأنهم يعرفون أنه قمعي»، أو ما يُلَخَّص في عبارة الباحث الفرنسي أوكتاف مانوني بـ«أعلم جيداً… لكن» (-je sais bien, Mais)، والتي يمكن أن تُردَّدَ على لسان أحد السوريين المؤيدين بقوله: «أعلم جيداً أن نظام الأسد قمعي ووحشي، لكن لا بدّ من عدم الثورة ضده وممارسة الحياة بصورة عاديّة»؛ هذه الازدواجيّة هي نتاج التأثير الإيديولوجي لبروباغاندا النظام وتقنيات عمله، التي تفترض ليزا ويدين أنه واعٍ بدقة لكل تفاصيلها، موظِّفةً تعريفها للإيديولوجيا كممارسة فكريّة، وفي الوقت ذاته كبناء للعالم. وفي حالة سوريا، تخلق هذه الإيديولوجيا تناقضاتٍ بين «الواقع المُعاش» و«المتخيّل عن المستقبل»، اللذين يتصارعان ضمن حكايات النظام وحكايات الثورة.
سنحاول طرح تساؤلاتٍ عن التقنيات التي تستخدمها ويدين لتفسير وتحليل الشأن السوريّ، خصوصاً على المستوى الإيديولوجي، وموقفها نفسها كباحثّة، ترى أن الإيديولوجيا «تستعمر النفس»، وتخلق مُتخيلاتٍ لدى المحكومين عن علاقتهم مع بعضهم بعضاً، وعلاقتهم مع العالم والسيادة. هذا «المُتخيَّل»، في حالة سوريا، يتناقض مع «الواقع» ويختلف عنه؛ هو مساحة تتحرك ضمنها حكايات الثورة والنظام في تناقضٍ أفقد كليهما في كثير من الأحيان «الحقيقة».
الهيمنة النيوليبراليّة الأسديّة
ترى ويدين أن الإيديولوجيا تتحرك على مستوىً شعوريّ وآخر مادي، وتخلق التصديق واللاتصديق في الوقت ذاته، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالحياة العادية واليوميّة والمتغيرات التي تحكمها، إذ ترى أن بشار الأسد وظّف «الانفتاح النيوليبرالي» ليخلق مُتخيلاً جديداً لدى «مواطنيه» عن مستقبل السوريين وبلادهم، مختلفٍ عن ذاك الذي مارسه والده، ودعَّم َهذا المُتخيّل بأوهام الحياة المدنية والانفتاح الثقافيّ واتساع رقعة النقد العلنيّ، إلى جانب تلميع صورته وزوجته بوصفهما عصريَين ومنفتحَين.
هذه المتخيلات، المختلفة عن «الواقع»، رسَّخَت الازدواجية في خطاب الخاضعين لها بعبارة: «نعلم جيداً أن النظام وحشي، لكن علينا بناء الوطن والمشاركة في صناعته»، إذ تستدعي ويدين مثلاً احتفالية دمشق عاصمة الثقافة لعام 2008 بوصفها خدعة، حاول النظام فيها استهداف و«تجنيد» الفئة الشابة المؤمنة بالتغيير، لتتجاهل لاحقاً أن أغلب العاملين فيها كانوا من أول من شارك بالثورة، وتنتقل إلى تعميمات عن الناس العاديين، الذين يعيشون الحُلم الليبرالي الذي يقدمه النظام، ويشربون الـmilk shake في مقاهي دمشق ذات الأسماء الأجنبيّة، بوصفها «ديكوراً» وجزءاً من مُتخيّل سريع التلاشي.

أثناء قراءة الكتاب، يثير موضوعان الانتباه، الأول هو مفهوم «الدليل الإثنوغرافي» الذي تستخدمه ويدين، إذ ترى أن ما ينطقه أو يقوم به «شخصٌ ما» يدلُّ على وضعيةٍ سياسيةٍ ما أو متخيّل سياسيّ ما. الغريب هو الجدية المفرطة التي تتعامل بها ليزا مع «الدلائل» التي يقدمها مبحوثوها، إذ لا تأخذ بعين الاعتبار تهكمهم أو حشرهم كموضوعات للبحث دون أن يدروا ذلك، أو ببساطة خوفهم على حياتهم أو حياة من يحبون، فالحوارات والنقاشات «الشخصيّة» التي تقتبس منها ويدين وتُحوِّلُها إلى مادة للدراسة، تعتمد على «مكانتها» كباحثة، وسلطتها اللاواعية أحياناً على مبحوثيها، وهذا يُحيلنا إلى أسلوب التحليل الذي تمارسه. تستخدم ويدين، بتمكّن، القاعدة النظريّة الأوروبية والأميركية لتفسير هذه «الدلائل»، غير العلنية في كثير من الأحيان، مُدعِّمةً رأيها بأسماء ميشيل فوكو وسلافوي جيجيك ورينية جيرارد وغيرهم، لكن، هل فعلاً تقدر تعريفاتهم وأدواتهم على رصد الإيديولوجيا في سوريا؟ -سنعود لهذه النقطة لاحقاً- الأهمّ، هل ما تسميه «دلائل» هي دلائل فعلاً؟ هل عبارات كـ«سوريا ليست ليبيا» أو «لسا ما صار الوقت بسوريا» هي فعلاً نتاج قناعة ووعي، أم خوف من الرقابة الدفينة، أم جزء من الازدواجيّة التي لا يمكن الاعتماد عليها؟ لا يمكن الحكم من السلوك والكلام على موقف أحدهم، ناهيك عن اقتباس جزءٍ منه، بتجاهل أدائيّة كل لحظة والسياق التي ظهر فيها السلوك والكلام، خصوصاً في هذه الدراسات التي نجد كل عينة فيها حالةً مختلفةً، ولا يمكن تعميمها على «السوريين».
كذلك، لا تأخذ ويدين بعين الاعتبار أن «الناس» في سوريا ليسوا مواطنين بالمعنى النظريّ، أي أن التهديد بالقتل والاختفاء حاضر ودائم منذ ما قبل الثورة، ما يفقدهم بالأصل ثقتهم بـ«النظام» ومؤسساته القضائيّة والسياسيّة، ويجعل «مخيمات القتل» الرديفة لها هي العامل الجوهري في تحديد مدى علاقتهم مع الشكل القائم.
يعني ما سبق أن ما يولّده النظام من حكايات لا تؤخذ على محمل الجدّ، حتى لو أدّى أحدهم دور «المواطن المُطيع» بشكل مثالي، فهو مُهدَّد، خصوصاً أن هناك حكايات خفيّة لا تُذكَر أبداً، ولا تُعرَض للعلن، فالخوف والرعب هما محرك هذه الازدواجيّة، وكأن ويدين تركز في عبارة «أعلم جيداً، ولكن..» على القسم الثاني، أي «ولكن..»، لا على «أعلم جيداً». هي تحلل «الأداء الساخر للأفراد» بوصفه نتاج التماهي الجدّي مع الإيديولوجيا، لا التقليد اللاجديّ. إذ تتجاهل المتابعَ السينيكي (cynical viewer)، الذي لا يأخذ على محمل الجد ما يراه، ولا يؤمن به، بل يتدرّع به ويقتبس منها حرفياً؛ بسبب الخوف من الاختفاء مثلاً. كذلك، لا يقتصر إطار التفسير الذي يمتلكه السوريون على ما يرونه من دعاية وإعلام رسمي، بل أيضاً حكايات الاعتقال والتعذيب والمجازر، تلك التي تحرّك الازدواجيّة، وتدفع كثيرين للتمسك بحكايات النظام، وعدم التسليم بجدّيتها.
أزمة سيناريو الطاعة
تستخدم ويدين المنتجات الثقافيّة بوصفها نماذجَ متخيلةً يقدمها -أو يبيحها- النظام لـ«الحياة الطيبة»، أشبه بسيناريوهات ودلائل (Guidlines) على ما يجب قوله أو عدم قوله؛ هي دليلٌ للتقليد. بل وتمدح بعض المقاربات النقديّة التي تطرحها، والتي لم تكن مسموحة قبل، بوصفها جزءاً من «انفتاح النظام» الوهمي، لكنها منتجات لا ترضي «المستهلكين» في كثير من الأحيان، وتعمّق الازدواجية في خطابهم لا غير، وهذا ما تغيّرَ مع بداية الثورة فيما يتعلق بالاستهلاك الإيديولوجي، إذ تغير شكل الحكايات الرسمية، مثل حملة «أنا القانون» التي أنتجها النظام، بوصفها نسخةً أرقّ من القمع، والتي تقسم الناس إلى «مع» و«ضد»، وعبرها يحافظ النظام على وعد «الحياة الطيبة» ويفعّل الوهم لدى الفئة المؤيدة بضرورة حفاظها على موقفها.
لكنّ هذا التعميم بفعالية هذه الحملات على المستوى الشعبيّ ليس بالقدر الذي تدّعيه ويدين. صحيح أن هناك «نزعة لليوتوبيا» لدى كل من المؤيدين والمعارضين على حدٍّ سواء، لكن هنا لا بدّ من التأكيد على النزعة السينيكيّة لدى المشاهدين تجاه هذا المُتخيّل، خصوصاً فيما يتعلق بالمنتجات الثقافيّة والمسلسلات، التي تُفرد لها ويدين الفصل الثاني المعنون بـ«الكوميديا في الأوقات المظلمة»، وتتحدث فيه عن دور الكوميديا في ظل بشار الأسد، ودورها النقدي في «تعريفنا على ما نعرفه ثمّ انتقاده»، والتي تبدو مقاربة متماسكة للدور النقدي للكوميديا، حتى تلك «المسموحة»، والتي تُبيح ما لا يقال. لكن قبل الخوض في الأمر المفاجئ من كتاب ويدين، لا بدَّ من الإشارة إلى أن كل ما «يظهر» في سوريا يمرّ بسلسلةٍ من تقنيات الرقابة، أما الفاعلون الثقافيون ذوو «القدرة» على الانتقاد والإنتاج، فهم كذلك نتيجة «مكانتهم»، لا بسبب جودة ما يقدمونه، إذ يتبنون ألعاب النظام ومساحات «الظهور» المشرعنة. وهنا تظهر الغرابة في المديح الهائل الذي تكيله ويدين لليث حجو؛ بوصفه «أفضل المخرجين» و«الأشد نقديّة»، واعتبار مسلسل ضيعة ضايعة الأكثر أهميّة؛ بوصفه يقدّم صورة متهكّمة ونقديّة لطبيعة العلاقات في سوريا، والفئات المهيمنة سياسياً وطائفياً. لكن الأهمية المفرطة للمسلسل، و«الإقبال الهائل» الذي تدّعيه ويدين لا يستند إلّا على مشاهدتها الشخصية وآراء متنوعة على فيسبوك، متناسيةً أن الكثير من هذه الأحكام استهلاكيّة، وغير نابعة عن رؤية نقديّة، خصوصاً أن المُشاهد بعد 2011 لا يأخذ على محمل الجد ما يراه، أي لا يقدم حكماً كونه مدركاً لسياسات ما يشاهده، كحالة مشاهدي باب الحارة، إذ لا «يجدون أنفسهم فيما يرونه» بالضرورة، بل يشاهدون للتهكم والسخرية من الأداء والحكايات، وهذا ما نراه في مسلسل الخربة مثلاً، الذي لم ينل «الشهرة» ذاتها التي نالها المسلسل السابق، علماً أنه للمخرج والكاتب نفسهما.

ما يهم حقيقةً في الكلام السابق هو أسلوب اختيار ويدين للمسلسل… لِمَ ضيعة ضايعة؟ لماذا لم تختر يوميات مدير عام مثلاً؟ أو بقعة ضوء بكل أجزائه؟ ولِمَ هذا الإعجاب الشديد بالليث حجو الذي ما زال يصوّر أفلاماً على أنقاض الدمار؟ نطرح هذه الأسئلة لنفهم أكثر علاقة ويدين مع مبحوثيها: هل الاختيار بناءً على جودة العمل؟ أو توافره؟ كيف تحدد الأهم وذا الأثر الأكبر على «المشاهدين» (مع أنها تقول أنه لا يمكن قياس ذلك). أليس باب الحارة ذا أثرٍ أكبر ويرسم الحكاية الوطنيّة بدقّة؟ أليس مواكباً للحراك السياسي وبروباغاندا النظام أكثر من ضيعة ضايعة؟ لا نحاول الخوض في التقييم، لكن نسعى إلى فهم آلية المفاضلة والاختيار، علماً أنها تشير في الحاشيّة إلى أنها التقت حجو بين عامي 2011 و2012 في دمشق وبيروت وشيكاغو، أي بعد اندلاع الثورة.
هنا يبرز سؤال، هل فعلاً «استفادة» الليث حجو من المكانة التي يمنحها له النظام هي التي أبقته مؤيداً؟ لماذا يخضع لازدواجيّةٍ إنْ كان من المساهمين في تشكيل الوهم والمُتخيّل عن الحياة في سوريا ويردم مدى «وهميّته»؟ وهل كل هذه القدرة النقديّة التي يمتلكها تتركه ساذجاً أم خائفاً؟
الأهم، أن ضيعة ضايعة من تأليف ممدوح حمادة، الذي يمرّ مرور الكرام في الكتاب.
تتناول ويدين أيضاً مسلسلاً آخر، الولادة من الخاصرة، في جزئه الثالث الذي بُثّ عام 2013. يحوي المسلسل «جرأة» سياسية ما في موضوعاته حسب ويدين، لكنه «مسموح»، ولا شيء مسموح في سوريا بريء تماماً.
الجرأة التي تتحدث عنها ويدين تتجلى برأيها في أن المشاهد يرى في «الحكاية المُتخيّلة» ما لا يراه عادةً، ليشكّل إثر ذلك حُكماً جمالياً وسياسياً يرسم ملامح لسلوكه وعلاقته مع السلطة، ما يجعل المسلسل أشبه بدليل للطاعة، ذي قيمة أدائيّة تتجلى في الحياة اليوميّة، لكن يمكن القول إن «التأديب» أو القيمة التأديبيّة لهذه المسلسلات تأتي مما لا يظهر فيها؛ من العنف الاستعراضي «الواقعي» الذي يُمارَس علناً قبل وأثناء الثورة.
بالتالي، الوعد بـ«الحياة الطيبة» و«شكل العلاقة من السلطة»، اللذين يظهران في الحكايات المتخيّلة، يسخران من المشاهد نفسه؛ المُدرِك للعنف الذي لا يظهر في الحكاية المتخيّلة، كونه اختبره بنفسه. أما الحكم «الجمالي والسياسي» الناتج عن هذه المشاهدة، فليس إلا تعليقاً على النسخة الساخرة من حياة السوريين، تلك المباحة والمرضيّ عنها، ومستحيلة التحقيق، في حين أن حكايات التعذيب والمساجين هي التي تحرك الازدواجيّة، وتُغذّي الوهم بضرورة هذا النظام؛ لسببٍ بسيطٍ و«وجوديّ»، وهو «الحفاظ على الحياة».
الحكايات، كما في الولادة من الخاصرة، والتي تمثل الكتلة البشريّة التي تتبع للنظام وتنفّذ سياساته، لا بدّ لها من اكتمالٍ ما، سببه تقنيات الحكاية التلفزيونيّة التي لا بد أن تكون مقنعة أو منطقيّة؛ بعكس حكايات الوحشية الصادرة عن ممارسات رجالات النظام «الحقيقيّة»، تلك اللامكتملة؛ المعتمدة على العنف المُرتجل المُمارس على الكتلة البشرية الخاضعة للنظام، فالسجانون، والشبيحة وغيرهم، يرتجلون العنف والضرب والإهانة ضد ممارساتٍ قد لا تبدو مثيرة للشبهة؛ كأن يُصفَعَ أحدهم في الشارع لأنه أضاء سيارته تجاه سيارة «أحدهم»، ما يترك مساحة ضبابيّة لا يُحدَّد فيها مدى «صحة» الأداء العادي، و«قدرة» الفرد على إنتاج الطاعة المقتبسة من هذه «المسلسلات»، وهنا تكمن خطورة اللا-اكتمال؛ فهو يترك مساحةً مُرتجلةً لكل فرد لممارسة الطاعة أو العنف حسب السياق والموقف الذي خضع له.
تستمر ويدين في استخدام النماذج «الإثنوغرافيّة»، وخصوصاً النكات الشعبية والمتداولة، لكنها تُسلّم بأنها كلها «مضحكة»، ولا تشير مثلاً إلى النكات السيئة (تشير إلى أنها واجهت صعوباتٍ في فهم لهجة ضيعة ضايعة) وسبب ظهورها بهذا الشكل، سواءً في الحياة العامة أو على الشاشة، فتقدير «الإضحاك» لا يتوقف على «نوع» المسلسل، وبالتالي لا يمكن رصد «أثر» النكتة. ولا تشير مثلاً إلى النكتة السيئة التي تؤشر إلى خللٍ ما فيما تخفيه وراءها، فهي دلائل على عطبٍ في العالم الذي تتناوله النكتة أو تكنيك تشفيرها، فأبسط عبارة كـ«أخذوه إلى بيت خالته» ليست نكتة نقدية لأنها «ظاهرة على التلفاز» ويفهم الناس معناها، بل نقدية وإشكالية لأنها تخبّئ الخوف من نطق اسم المكان والجهة والشخص المسؤول عن الاعتقال أو «الأخذ». وعلى النقيض، لا تشير إلى ضرورة بعض الخيارات الجماليّة في تقديم حكايات الثورة، كمجموعة مصاصة متّة التي تختفي أسماء ممثليها ومؤديها وراء الدمى في أول الفيديوهات التي بثّوها في 2011 خوفاً على حياتهم، فهم رفضوا كلياً كل شكل الطاعة والحياة العاديّة التي يروج لها النظام، واختباؤهم دليلٌ على نفيهم من قبل مؤسساته وخطابه، لا محاولة لانتقاد حكاياته جمالياً، خصوصاً أن هذا النفي لا يقتصر على «الاختفاء» بل يتجلى في التهديد بالقتل والاعتقال.
ضد الحقيقة
تناقش ليزا ويدين في الفصل الثالث مفهوم «الحقيقة وعدم اليقين»، وكيف تحوَّلَ فيضُ الأنباء المتناقضة إلى أداة في يد النظام، لتفكيك مفهوم الحقيقة نفسه، إذ لم يعد مضطراً لإنتاج «حقيقة»، بل يكفي انتقاد حقائق الآخرين والتشكيك بها. وتشير إلى أنّ «الأنباء» من الطرفين، والمبالغة في بعضها، استفاد منها النظام لترسيخ التناقض في الحكايات، لكنّ الأهم هو هذا الاحتمال المُتخيَّل، الذي يخلقه اللايقين، كحالة مجزرة الكيماوي، وتناقض الأنباء حول حقيقة من قام بها، الذي وظفه النظام للترويج لمُتخيّلات وأكاذيب إمكانية امتلاك الثوار في الغوطة للأسلحة الكيماوية. هذا اللاتأكّد يقود إلى تعليق الأحكام لدى الأفراد، والعودة للازدواجيّة، وهو الأمر ذاته الذي حصل مع القاشوش والاعترافات والتحقيقات التي أجراها الطرفان حول حقيقة موته، فهل مات فعلاً؟ هل هو فعلاً صاحب الأناشيد الشهيرة؟ لكنّ المثير للاهتمام في هذا الفصل ليس الحجج التي تقدمها ويدين، بل أسلوب اختيارها لعيّناتها في سبيل إبراز التناقض، فهناك صحفيون أجانب ذوو اتجاهات سياسيّة و«ناشطون سوريون»، وهذا ما نلاحظه في أغلب الفصل: السوريون موضوعة بحثية تقدم «حكاية»، حتى لو كانوا «صحفيين»، فلا أحد بريء من عين «الباحث». وهنا نعود للنظام السوري الذي خلق فضاء من «اللا-تصديق» بحيث لا يمكن التأكدّ من أي خبر؛ هناك فقط الكلام والأداء المُشكّك في جدّيته، إما بقصد النجاة من بطش النظام، أو لإدانة جرائمه، ما جعل الأخبار نفسها عائقاً في وجه إطلاق حكم سياسيّ.
«نحن الوطنيون» و«هم الإرهابيون»
الفصل الرابع بعنوان: «الوطنيّة، الحكم، والعاطفيّة»، وفيه تعود ويدين للحكايات والمنتجات الثقافيّة وأسلوب توظيف كل منهما؛ بوصفها ذات قيمة أدائيّة (performative)؛ أي أنّ المُشاهد لا يقيّم فقط، بل يبني العالم و متخيله عن مكانه فيه. وهنا لا تشير ويدين إلى الاختفاء الذي تحويه هذه المنتجات؛ أي ما لا نراه، والذي لا ينتمي للحكاية الوطنيّة، تلك القائمة على «نحن» و«هم»، والتي تجعل أزمة سوريا «خدميّة» أو نتاج مؤامرة خارجيّة، وترى أن توظيف الميلودراما في بعض الأعمال ذو دافع وطني لبناء الذات واستهداف العواطف للتمسك بحكايات «نحن»، وتستخدم حكايات مشابهة لفيلم جود سعيد مرة أخرى الذي ناقشته سابقاً، مستخدمةً الفيلم الدعائي بروحكِ تحمين الياسمين، الذي يرسم الخطوط «الرسميّة» لأسلوب الحِداد في سوريا، ومن هم الضحايا الذين يستحقون البكاء. أسماء الأسد هي بطلة هذا الفيلم، وبُثَّ على التلفزيون الوطنيّ، ويشكلّ مادة غنية للتحليل بوصفه جماهيرياً.
نركز على كلمة «جماهيري» للإشارة إلى أن الأثر الذي تفترضه ويدين للأفلام التي تناقشها في هذا الفصل، سواء أفلام النظام، أو الثورة، لا يأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأفلام لا تُعرض على مستوىً شعبيّ، بل هي حكر على فئة محددة، من ضمنهم ويدين نفسها، بعكس الفيلم الدعائي الذي أنتجه النظام. فالأفلام غير متوافرة «للعلن»، أي ليست في متناول السوريين، صحيح أنها تقدم متخيلات وأدلة على التناقضات في سوريا، وتصوّر وحشية النظام، لكن أثرها الشعبي ضئيل؛ كونها تعرض في المهرجانات الدوليّة والعربيّة، وخصوصاً تلك التي تدين النظام.
إشكالية الطائفيّة
تعمل الإيديولوجيا على خلق الخوف مما يمكن أن يحدث، وهنا تبرز الطائفيّة بوصفها المرجعية العاطفيّة الأولى لتأويل العالم في حال الخطر، حتى لو لم تكن ظاهرة، لكنها خفيّة. وهذا ما يظهر في تأثير الشائعات حسب ويدين، كتلك التي انتشرت عن هجوم جماعات سنيّة مسلحة على قرى العلويين في اللاذقيّة، ما جعل الناس يتصرفون على أنها قد تكون حقيقيّة، والترويج للخطر على أنه حقيقي، ما دفع الناس للتمسك بمواقفهم المؤيدة للنظام. لكنّ هذا المتخيل عن الخطر الطائفي حقيقيّ، وليس مجرد تقنية دعاية، فالإشاعة قويّة لأنها مرتبطة بممارسات طائفيّة، لا بالتفكير الطائفي للسوريين؛ كحالة «سوق السُنّة» الموجود حقيقةً، وليس إشاعة. وهذا التخوف من الطائفيّة لدى كل من «الثوار» و«المؤيدين» موجود، وسببه تاريخٌ من القمع والفصل وتدليل الكراهية، وتمكينها، ومنع تذكّر الحوادث الطائفية وإخفائها، ما يعني هشاشة الحكاية الوطنيّة، القابلة لتقسيم «الشعب» بكذبة.
حاشية
سيناريو الطاعة الذي ترسم معالمه «مُنتجات النظام» هشٌّ، وغير قابلٍ للتصديق؛ أي أن التماهي معه لا يعني إتقانه، لأن الخوف على الحياة مستمرٌّ ودائم، فالحياة اليوميّة نفسها هي جهدٌ ليس سهلاً. والأهم أن النظام يُجرّم «الجميع» بسبب الفساد في كل مكان، ما يجعل التماهي مع معالم الطاعة هذه مجرد أداء سينيكي، ساخر؛ أداء رديء (mal-performance)، يدرك ممارسوه هشاشته، أي أن القسم الثاني من عبارة «أعلم، ولكن..» يجعل ما بعد المعرفة في كثير من الأحيان، مجرد دورٍ سيء لا يمكن بدقة رصد مدى «جدّيته».
نرى أثر التهديد والخوف على الحياة في «المبالغة في الطاعة»، كحالة كثير من الفنانين من مؤيدي النظام، والمساهمين في خلق دعايته؛ الذين يتغنّون بالحذاء العسكري وغيرها من الأشكال الغروتيسكيّة من الانصياع؛ الأمر ذاته نراه عند المواطنين العاديين، الذين يبالغون في «تقديس» بشار أو الدفاع عنه، دون أي سببٍ أو رقابة، كالفتاة التي رقصت لوحدها في الشارع ما إن سمعت أغنية «منحبك يا كبير»، دون أن تعلم أن هناك من يصورها، ودون أن يكون هناك مسيرة، مجرد أغنية انبعثت من مكانٍ ما دفعتها للرقص.
هذه المبالغة نابعة من الرعب من العنف غير المتوقع، وعدم كفاية السيناريو المتخيّل الذي يضعه النظام للطاعة، والذي لن يضمن نجاة الفرد حتى لو التزم به كلياً، فضبابية العنف وارتجاله وغياب تعريف واضح للجريمة أو «اللا طاعة» هو ما يحرك الازدواجيّة؛ التي ترسخها الممارسات العنيفة العلنيّة غير المضبوطة، فما هو مقدار الضرب الوحشي الذي قد يتعرض له أحدهم في الشارع؟ هل يتوقف عندما يفقد الوعي؟ يُدمى؟ يتوقف عن الحركة؟ وهل هدفه تأديبي؟ خصوصاً أن لا جريمة ارتُكبت، فأي سيناريو يضبط العنف المرتجل؟ ما يراه الناس في مسلسل؟ أم في فيديوهات النمر وشبيحته المفرطين في رجولتهم؟