على الرغم من أن الاتفاق الذي حال دون استكمال تركيا لعمليتها العسكرية قد تم توقيعه بين كل من أنقرة وموسكو عشية يوم الثلاثاء 22 تشرين أول (أكتوبر) الجاري، إلا الرئيس الأميركي دونالد ترامب قال في بيان له من البيت الأبيض في اليوم التالي (الأربعاء) إن كل ما حدث كان بفضله مئة بالمئة، قاصداً وقف إطلاق النار في شمال شرقي سوريا، الذي لم يتم تنفيذه بشكل كامل حتى الآن رغم انخراط تركيا والولايات المتحدة وروسيا في ترتيباته، إذ لا تزال الاشتباكات مستمرة بين مقاتلي قسد ومقاتلي الفصائل التابعة لتركيا جنوب مدينة رأس العين/سري كانييه، وهي الاشتباكات التي يبدو أن الهدف منها استكمال رسم خطوط التماس الجديدة المتشابكة والمتداخلة في المنطقة.

ويبدو الوضع في الجزيرة السورية بالغ التعقيد بعد الاتفاقين اللذين وقعتهما تركيا مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، ذلك أن نصوص هذين الاتفاقين، أو الإعلانين المشتركين في تعبير أكثر دقّة، غير واضحة بخصوص العديد من المسائل شديدة الأهمية، أبرزها مدى نفوذ وهيمنة قوات الأسد في المناطق التي ستنتشر فيها برفقة الشرطة العسكرية الروسية تنفيذاً للاتفاق الروسي التركي، ومسألة عودة النازحين إلى المناطق التي نزحوا منها نتيجة العملية التركية، ومستقبل الإدارة والسيطرة الأمنية في المناطق التي يُفترض أن تنسحب قسد منها.

وعلى الرغم من إعلان قسد عن موافقتها الرسمية على كل من الاتفاقين، إلا أن مستقبل وجودها التنظيمي والإداري والأمني غير واضح في النصين، اللذين يتفقان صراحة على منح تركيا والفصائل السورية التابعة لها السيطرة المباشرة على مدينتي رأس العين وتل أبيض والشريط الواصل بينهما بعمق 30 كيلومتراً حتى طريق حلب الحسكة الدولي، وعلى انسحاب قسد من بقية الشريط الحدودي، الذي ستتسلمه قوات النظام بموجب الاتفاق التركي الروسي.

وقد بدأت قوات النظام بالفعل بتسلّم مواقع لها على الحدود السورية التركية، إذا انتشرت بشكل كامل على الشريط الحدودي قرب مدينة عين العرب/ كوباني إلى الغرب من تل أبيض، وعلى جميع خطوط التماس مع الفصائل التابعة لتركيا في محيط منبج، كما أنها تواصل انتشارها على بقية الشريط الحدودي إلى الشرق من رأس العين في محافظة الحسكة، وقد استكملت انتشارها بشكل كامل من شرق رأس العين وحتى القامشلي مروراً بالدرباسية وعامودا، ويُنتظَر إن تواصل انتشارها في الأيام القادمة حتى عين دوار قرب نهر دجلة في أقصى شمال سوريا الشرقي.

ويتطلب تنفيذ الاتفاقات انسحاب مقاتلي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، الذين يشكلون النواة الرئيسية لقسد، من سائر المناطق الحدودية حتى عمق 30 كيلومتراً، لكن ما لا يزال مجهولاً حتى اللحظة هو طبيعة السيطرة الأمنية والإدارية في المناطق الحدودية التي لم تسيطر عليها تركيا وأتباعها السوريون، إذ لا يبدو أن نظام الأسد يملك قوات كافية للقيام بهذه المهمة بمفرده، وهو حتى الآن لم ينتشر بشكل مباشر داخل الأحياء والمناطق السكنية التي انتشر على حدودها، ويبدو أن هذا الجانب على وجه الخصوص هو ما يتطلب مزيداً من التفاهمات بين جميع الأطراف.

أما بقية مناطق سيطرة قسد غير المشمولة بالاتفاقين، وهي المناطق التي تبعد أكثر من ثلاثين كيلومتراً عن الحدود التركية،  فيبدو أنها ستبقى تحت سيطرة قسد وإدارتها حتى إشعار آخر، وهي مناطق واسعة تضم مدينتي الحسكة والرقة وعشرات المدن والبلدات والقرى في جنوبي محافظة الحسكة وفي محافظة الرقة وفي ريف دير الزور الشمالي والشمالي الشرقي. لكن مع ذلك، لا يبدو أن هذه المناطق كلها تنتظر المستقبل القريب نفسه من حيث الإدارة والسيطرة، ذلك أن قوات النظام وفي سياق انتشارها العسكري بالاتفاق مع قسد مؤخراً، دخلت إلى مطار الطبقة وسد الفرات ومواقع عديدة في محيط منبج، مسيطرةً على مواقع استراتيجية لم يكن باستطاعتها دخولها قبل إعلان الانسحاب الأميركي. ولا يبدو واضحاً ما إذا كان هذا الانتشار سيتحول في المدى القريب إلى سيطرة إدارية وأمنية مباشرة للنظام، وبالتالي انسحاب قسد أو تفكيكها أمنياً وعسكرياً وإدارياً في هذه المناطق، لكن ما يبدو واضحاً هو أن الجزء الغربي من الجزيرة السورية يدخل تدريجياً تحت مظلة النفوذ الروسي، بعد أن بقي طويلاً تحت مظلة النفوذ الأميركي.

بالنسبة لمناطق جنوبي محافظة الحسكة وريف دير الزور الشمالي والشمالي الشرقي، فيبدو أنها ستبقى تحت إدارة قسد بدعم أميركي في المستقبل القريب، بعد أن أكدت الإدارة الأميركية على لسان عدة مسؤولين فيها من بينهم ترامب أن الولايات المتحدة ستُبقي على قواتها فيها لـ «حماية آبار النفط». ورغم أن ترامب أعاد الكلام الذي كان قد قاله سابقاً عن الخروج من «الصراع الدموي على الرمال»، إلا أن جهود الرئيس الأميركي المتحمس للخروج من الشرق الأوسط تصطدم بضغوط النخبة السياسية والعسكرية في واشنطن، التي تريد الإبقاء على الحد الأدنى من الوجود في محافظة دير الزور، وإن كان في سياق منفصل متعلّق الضغط على إيران في المنطقة.

على وقع الاشتباكات المستمرة على تخوم خرائط السيطرة، يبدو أنو خطوط التماس الجديدة المؤقتة قد بدأت ترتسم، لكن ما يبقى معلقاً هو مصير النازحين جراء المعارك الأخيرة ومدى قدرتهم على العودة إلى ديارهم، ذلك أن استقرار السيطرة التركية على بعض هذه المناطق دون السماح للسكان الأكراد بالعودة سيعني تغييراً ديموغرافياً كارثيَّ النتائج المستقبلية، خاصة إذا ما أضيفت إليه مشاريع توطين اللاجئين التركية. كذلك يبقى معلقاً مصير أبناء المناطق التي ينتشر فيها النظام عسكرياً، إذ أن انتقال انتشاره العسكري إلى سيطرة مباشرة إدارية وأمنية سيعني تعريض آلاف المطلوبين لأجهزته الأمنية للخطر، وسيعني فقدان عشرات آلاف النازحين واللاجئين منهم لفرصة العودة إلى ديارهم في المدى المنظور. ويبقى أيضاً ملف العمل الإنساني في المنطقة معلّقاً، إذ يؤدي تداخل السيطرة الدولية على المنطقة إلى صعوبات بالغة في إيصال المساعدات للسكان، الذين يحتاج معظمهم إليها، خاصة بعد موجات النزوح والعمليات العسكرية.

يبدو رسم خرائط ملونة للسيطرة في الجزيرة السورية أمراً بالغ الصعوبة في ظل هذا التداخل، لكن الصورة الحالية تقول إن الجزء الأوسط من شريط الجزيرة الحدودي سيكون تحت سيطرة أنقرة وحلفائها، والأجزاء الباقية من هذا الشريط ستكون تحت سيطرة موسكو وحلفائها، فيما سيكون غرب الجزيرة السورية، بعيداً عن الحدود، تحت سيطرة قسد بإشراف روسي مع تواجد عسكري لقوات النظام، وسيكون شرقها تحت سيطرة قسد بإشراف ودعم أميركي. ويبقى أن جميع هذه الخطوط والتقسيمات مؤقتة وقابلة للتغيّر في أي لحظة، وأنها تفتح الباب واسعاً على التنسيق والتواصل المباشر بين جميع هذه الأطراف بخصوص ما يتعلق بأمن قواتها وضمان مصالحها، فيما ستبقى حياة السكان في هذه المناطق في مهب الريح، تتقاسم السيطرة عليهم جهات دولية وإقليمية عديدة، تتضافر صراعاتها وتفاهماتها في إنتاج مزيد من الأوضاع الكارثية المتجددة.