قبل انطلاق الثورات والانتفاضات المتتالية منذ مطلع العام 2011، كان نوعٌ من الكتابة يشيع بكثرة في الصحافة العربية؛ الكتابة عن الجيوسياسة بوصفها شأناً سياسياً متعالياً، يتعلق بمصالح الدول وحدودها ونوعية تسليحها وتوجهات قادتها، دون أن يكون هناك أي اعتبار لسكان هذه الدول وأوضاعهم وإرادتهم وتوجهاتهم. كانت تلك كتابة «غير مأهولة بالسكان» إذا صحّ القول، تُعنى بأسلوب جلوس حافظ الأسد في اجتماعاته، وبما إذا كان ياسر عرفات سيعبر من الباب قبل إسحاق رابين أم بعده، وبفعالية نظام إس 300 الروسي للدفاع الجوي، وبطول ووعورة المناطق الحدودية بين تركيا والعراق، أكثر مما تُعنى بحياة ملايين البشر وأوضاعهم الاقتصادية والسياسية.
وليس القصد أن هذا النوع من الكتابة الصحفية رديءٌ بالتعريف، أو أنه لا فائدة منه، بل القصد أنه كان الشكل الوحيد تقريباً للكتابة السياسية في الصحافة العربية، مع استثناءات كان ميدانها بعض الصحف اللبنانية على وجه الخصوص، ويرجع ذلك إلى عاملين متراكبين؛ الرقابة الأمنية الشديدة على الصحافة في العالم العربي، وإخراج عموم سكانه من السياسة بقوة القمع والسجون، والمذابح عند اللزوم. غير أن هذا تغيّر لاحقاً، بعد أن اقتحمت الجموع الشوارع والميادين والسياسة وصفحات الجرائد والمواقع الالكترونية.
لكن الأنظمة وصحفييها ومحاسيبها لم يعجبهم الأمر طبعاً، فراحوا منذ اللحظات الأولى يعملون على حشر مطالب المتظاهرين في متطلبات الجيوسياسة، ويشاركهم في ذلك كتّابٌ وخبراء ومراقبون غربيون كُثُر، لم يتورع بعضهم عن توجيه النصائح للسوريين مثلاً بعدم مواصلة الثورة لأن في نجاحها قلباً للأوضاع الجيوسياسية في المنطقة لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، وكأن حياة البشر لا قيمة لها إلّا بقدر ما تندرج في خدمة مصالح ورؤى جيوستراتيجية عليا.
والحقُّ أن هؤلاء ليسوا مخطئين بشكل كامل، لأن حياة البشر وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية تبقى عاملاً أساسياً في صناعة الوقائع الجيوسياسية، حتى في أزمنة الخضوع المطلق للأنظمة الحاكمة، التي يكون فيها هذا الخضوع ذاته عاملاً مؤثراً، لكنه عاملٌ مسكوتٌ عنه، يحضر في الخلفية البعيدة لكل تحليل جيوسياسي، سواء كان صاحب التحليل واعياً بهذا الحضور أم لا. وعليه فإن ساسة الأنظمة وكتّابها ومحلليها ليسوا مخطئين عندما يأخذون بعين الاعتبار الترابط العميق بين الحراك الاجتماعي السياسي من جهة والصراعات الجيوسياسية من جهة أخرى؛ ليست تلك خطيئتهم، بل تكمن خطيئتهم في إعلاء متطلبات الجيوسياسة على متطلبات تحقيق عيش أفضل للبشر، تكمن خطيئتهم في استخدام صراعات المحاور الإقليمية والدولية لتبرير أعمال القمع والإخضاع، لينتهي ذلك إلى تحطيم حياة البشر وإعادة تركيبها بما يتناسب مع صراعات النفوذ الدولية والإقليمية، على غرار أولئك الذين يبررون مشاركة حزب الله في قمع الثورة السورية بضرورة حفاظ الحزب على خطوط إمداده، وأولئك الذين يبررون ينابيع السلام التركية في سوريا بمتطلبات الأمن القومي التركي.
ولقد جرّبنا في سوريا الأثر الرهيب لهذه السياسات التي لا ترى في حياة البشر سوى حوامل للصراعات الجيوسياسية، حتى انتهى الحال بالبلد إلى أرض ممزقة تتناهشها القوى الإقليمية والدولية، وتتقاسمها وفقاً لمتطلبات أمنها وتماسك محاورها، دون النظر إلى حياة السكان الذين تتقاذفهم ضربات الإبادة واتفاقات التهجير والهندسة السكانية. والحال أنه ليس محتوماً أن تتناقض متطلبات الجيوسياسة مع متطلبات العيش الكريم للبشر على هذا النحو التصادمي والحدّي الذي نراه في بلادنا، وليس محتوماً أن تكون المصالح الجيوسياسية لأنظمة الحكم في تناقض مباشر وكامل مع رغبات سكانها في تحسين شروط حياتهم، لكن «لعبة الأمم» وصراعاتها تحمل في ذاتها بذور هذا التناقض، لأنها تعكس صراعات النخب الحاكمة في البلدان ومصالحها وليس كفاح السكان من أجل تحسين شروط حياتهم، وعلى هذا فإنها لا تحمل أوضاعاً أفضل لعموم البشر إلّا كأثر جانبي لهذا الصراع أو ذاك.
ينتزع البشر حقوقهم بحياة أفضل من خلال النضال الحثيث في مواجهة النخب التي تحكمهم، وهذا ما يفعله مئات آلاف الثائرين في لبنان والعراق اليوم، وما يحاول فعله ملايين الثائرين في أنحاء العالم العربي منذ نحو تسع سنوات. لقد خرج المتظاهرون في لبنان والعراق إلى الشوارع مدفوعين بأوضاع اقتصادية واجتماعية بالغة السوء، رافعين شعارات ومطالب تتعلق بالصحة والتعليم والبيئة والخدمات العامة وإنهاء الفساد، لكنهم يجدون أنفسهم في مواجهة لصوص مندرجين في محور يخوض صراعاً جيوسياسياً واسعاً في الإقليم والعالم، على نحو يضعهم شيئاً فشيئاً في مواجهة المحور كله سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا، ويجعلهم أيضاً موضع استغلال من قبل خصوم هذا المحور سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا أيضاً.
لقد نجح النظام السوري في استجلاب «الجيوسياسة» كلّها إلى قلب البلد كي تساعده في إخضاع السوريين، ولم يتمكن الثائرون على الأسد ومعارضوه من مقاومة هذا التوجه، بل إن بعضهم اندرج سريعاً وبحماس في «لعبة الأمم» تلك، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. وتشتغل الآن ماكينات النظامين العراقي واللبناني الإعلامية والأمنية على المنوال نفسه، تحاول أن تدفع بالثورتين الشعبيتين بكل ما أوتيت من قوة إلى قلب صراع المحاور الإقليمي والدولي، آملة في أن يكون هذا سبيلاً إلى تراجع جزء من الثائرين عن ثورتهم، أو سبيلاً إلى تفريق صفوفهم بما يسهّل الانقضاض على ثورتهم وسحقها.
في الوقت الذي أعلن فيه عادل عبد المهدي في العراق وسعد الحريري في لبنان خططاً إصلاحية مستحيلة التنفيذ في ظل الأوضاع القائمة، ويُراد منها فقط أن تكون دافعاً لانسحاب أكبر عدد من من المتظاهرين من الشارع، كانت الأجهزة الأمنية ومعها ميليشيات متعددة في البلدين تمارس مقادير متفاوتة من العنف، وكان بعض رموز السلطتين ومعهم وسائل الإعلام التابعة لها يطلقون سيلاً من الأحاديث عن الفتنة التي يتم الإعداد لها من الخارج، عن أموال قادمة من السفارات، وعن خطط أميركية وإسرائيلية وخليجية لتقويض السلطة في البلدين بهدف ضرب محور المقاومة. يتفاوت المشهدان في الدموية، لكن المسار يبدو واحداً، يبدو المحور الإيراني مستعداً للذهاب في المواجهة إلى آخرها، يسفك دماء المتظاهرين العراقيين برصاص القناصات المباشر في الرؤوس، ويهدد اللبنانيين بسفك الدماء والحروب الأهلية.
بالمقابل، يُظهر الثائرون في البلدين صلابة وإصراراً شديدين، ويعبّرون في شعاراتهم وهتافاتهم ولافتاتهم عن رغبة عارمة في تجاوز هذا المستنقع كلّه، والإفلات من أنياب الجيوسياسة المتوحشة من أجل الظفر بالعيش الكريم. وليس واضحاً بعد كيف يمكن للثائرين في البلدين الخروج من هذا الاستعصاء الرهيب، لكن الحشود التي تواصل النزول إلى الشوارع، تعلن بأجسادها وأصواتها أن زمن الجيوسياسة المتعالية يجب أن ينتهي، وأن سيادة البشر على مصائرهم هي المقدّس الوحيد الذي ينبغي الدفاع عنه.