حبّ اللغة العربيّة مادة خصبة للتفاعل على الإنترنت. بعكس ما كان عليه الحال عند بزوغ فجر تطبيقات المراسلة، صارت الكتابة بالأحرف اللاتينية أونلاين أمرًا غير مستحبّ. تحظى حسابات المعاجم بشعبيّة. مهووسو التدقيق اللغوي نجوم أحيانًا. كلّما انتشرت «ميم» لتعداد تدرّجات الحبّ بالعربيّة، يصاب الناس بالذهول. لكنّنا لن نقول لأحد «أهيم بك» أو «أنا متيمة بك». قد نقول «بحبك»، حسب لهجة البلد، أو I love you، أو قلب أحمر مكان love اختصارًا. تبدو لغتنا جميلة داخل إطار يعلّق على الجدران الافتراضية. نتأملها كعمل فنّي مجرّد، كإعجاز.

هناك نمط تفكير هوياتي حول اللغة، يشعرنا مع كلّ نقرة على الإنترنت أننا نرتكب خيانة ما للغة العربية الفصحى. يقولون منذ ثلاثة عقود على الأقل إنها تموت، وإنّنا نساهم في ذلك. يفهم البعض ذلك كنتيجة حتميّة لفشل مشاريع القومية العربية. يُخاض النقاش السياسي حول إنقاذ العربية كأنها آخر مدماك صامد من عروبتنا. يوصم كلّ ما هو غير فصيح بالمياعة أو «التشبّه بالغرب». يأخذ الأمر أبعادًا أخرى عند السجال غير الجديد حول العاميات والفصحى. نسعى لحماية الفصحى الصحيحة كلغة مكتوبة وتنقيتها من الشوائب. حركة اللغة في الواقع أسرع من حركة تطويرها على الورق. وبعيدًا عن هواجس الفنّ والأدب والقول والبوح، وحدها تلك الفصحى الموضوعة في إطار ما يمنح مشروعيّة لأيّ إنتاج فكري أو ثقافي.

في هذا الملف، نحاول أن نأخذ النقاش أبعد بقليل عن أوراق النعي للعربية الفصحى، ونتقصّى في الواقع تحوّلات سياسية واجتماعية راهنة لتساعدنا على فهم اللغة في حراكها وتحوّلها اليومي، في سيرها الطبيعي والدارج على ألسنتنا، فوق حدود ما يخرج أو يدخل إلى المعجم: من الأردن حيث لفظ القاف مؤشر على تحولات سياسية وعلى ثنائيات طبقية وجندرية؛ ومن مصر حيث نخوض مغامرة مع «مجمع اللغة العربية» في القاهرة، ونسأله إيجاد معادل عربيّ لكلمة GIF؛ ومن سوريا حيث نبحث العنف السياسي المكثّف في مشتقات «الهيبة»؛ ومن الجزائر حيث حوّل الشباب الدراجة إلى أداة ثورة؛ ومن تونس حيث حركة الترجمة بالعاميّة باتت أمرًا واقعًا؛ ومن لبنان حيث تستخدم العاملات الأجنبيات لغة «المدام» للتواصل وتنظيم النضال النقابي؛ ومن فرنسا نفكّر بحضور اللغة العربية خارج محيطها الطبيعي وبين الجاليات العربية واحتكاكها بحساسيات أوروبية؛ وإلى النصّ القرآني نذهب لنستعيد محاولات التأويل النسوي لبعض الآيات.

قراءة متشعبة لواقع اللغة العربية اليوم، نأملها عميقة وإن لم تكن وافية وكاملة، لتفتح ربما آفاقًا جديدة لكيفية تفكير لغتنا، بمقاربات أكثر راهنية من المعتاد.

مواد الملف: