مقدمة: الانتفاضة اللبنانية
قدمت الانتفاضة اللبنانية تجربة فريدة لم يعرفها لبنان خلال العقود الأخيرة، وهي وحدة الشعب اللبناني المتجاوزة لانقساماته الطائفية والمناطقية، في مواجهة النخبة السياسية المتحكمة بالبلد. استندت هذه الوحدة إلى الدور المحوري الذي لعبته القضية الاجتماعية-الاقتصادية في هذه الانتفاضة. فاللبناني وصل إلى أقصى ما يمكن له احتماله في مواجهة الفساد والفقر وسوء الإدارة والفشل على كل المستويات، أمور لا تميز بين شيعي وسني وماورني وغيرهم، وهكذا كان اللبنانيون في انتفاضتهم في مواجهة منظومة الفساد والفقر لبنانيين فقط.
تجاوُز الانقسام الطائفي على مستوى الحراك، حتى الآن، تم بفضل الانتقال إلى ما يجمع ويوحّد، وهو الوضع الاجتماعي/الاقتصادي المتردي، ومواجهة الاستغلال والنهب والافقار الذي يتعرض له اللبناني بغض النظر عن طائفته، والذي لم تعد فاتورته مقتصرة على مناطق مهملة ومنسية من مشاريع التنمية. وهكذا فإن الاجتماعي-الطبقي يحرر من الطائفي أو أية أشكال أخرى للانقسام الأهلي بتقديمه خط نزاع آخر متمثل بالصراع مع الأوليغارشية. وهو ما يصرخ به بشكل واضح ومتزايد العديد من اللبنانيين الذين يرون أنفسهم في مواجهة الأوليغارشية التي تحكم البلد وتنهبهم، سواء كان اسمها الحريري (السني) أو باسيل (الماروني) أو بري (الشيعي). الشعب في مواجهة الأوليغارشية، بما يتجاوز الانقسام الطائفي الذي طالما استفادت منه الأوليغارشية في وضع الشعب في مواجهة بعضه بعضاً.
وُجِد تقليد نظري يساري عريق، ولبناني بخاصة، قارب الطائفية بوصفها شكلاً لهيمنة البرجوازية وتأمين سيطرتها. فالطائفية تُزيف الصراع الحقيقي، الطبقي، مستبدلة إياه بصراع طائفي يقسم الشعب ويضمن تبعية الجماعات لزعاماتها الطائفية ويكرس الإنتاج والسلطة والتبعية الاجتماعية لصالح هذه البرجوازية. لهذا التحليل وجاهته، فقط يكفي أن ننظر إلى العائلات اللبنانية المسيطرة لنراها نفسها قبل الحرب الأهلية وبعدها. الحرب التي دمرت البلاد وسرقت أعمار أجيال وأثقلتها بالديون، لكنها في المقابل لم تمس سيطرة الطبقات السائدة ولا علاقات السيطرة والتبعية التي تستند إليها. هنا تبدو كفاءة النظام الطائفي في الحفاظ على الهيمنة مهولة.
لكن ما يهمله هذا التحليل هو عمق هذا الانقسام الطائفي واستناده إلى التاريخ، الحقيقي أو المتخيل، وإلى قوانين وأشكال حياة يتم من خلالها إعادة إنتاج هذه الطوائف، قوانين شخصية وأحياء ومناطق سكن خاصة بها. فلا يمكن الاقتصار على فكرة الوعي الزائف لفهم الطائفي، ولا الاكتفاء بمظاهرات عابرة للطوائف للتدليل على تجاوز الطائفي. فبرغم أن المطالب الاجتماعية توحد الشعب، أو تشكله في سياق الصراع مع النخبة في الساحات، إلا أنه لا يتجاوز الطائفي ويقصيه، هو يقدم رهاناً عظيماً يجب أخذه بجدية لتجاوز الطائفي أو لتقديم أشكال أكثر تحررية للتعامل مع الولاءات والانتماءات الأهلية بما لا يجعل منها أداة للتحكم والسيطرة الاجتماعيين بيد النخبة المهيمنة.
في الاحتجاج يحضر الناس غاضبين ويعرّفون أنفسهم في مواجهة «النخبة»، لكنهم لا يقدمون حلولاً ولا يقترحون خيارات، وحَّدتهم وحدة سلبية تتعرف بشكل أولي في المواجهة التي يخوضونها ضد الأوليغارشية أو العهد أو الطبقة السياسية أو أية تسمية أخرى، هم «الشعب» المعتر في مواجهة النخبة. لكن بالضرورة هناك مرحلة تالية عليها أن تجيب على سؤال: ما الذي نريده؟ عندها يبدأ الاختبار الجدي لهذه الوحدة. لهذا يرغب العديد بتفادي الاشتباك المبكر مع هذا السؤال والتأكيد على مطالب سلبية في طبيعتها، إسقاط الحكومة أو استقالة الرئيس، دون تقديم مطالب. وخلال هذا الوقت ربما يمكن استكشاف بعض الشعارات التي يمكن تحقيق إجماع (أو توافق واسع) عليها وتكون قادرة على إعطاء معنى إيجابي للوحدة الشعبية. يحتاج هذا الاستكشاف وقتاً، فالاستعجال بتقديم مضمون إيجابي للوحدة الشعبية، لا يحظى بقبول واسع، قد يؤدي إلى تحطمها وبدء الاختلاف بين المتظاهرين.
لنضع المسألة عبر الافتراض التالي، وهو أن الحكومة سقطت ومعها البرلمان، وتم إقرار انتخابات مبكرة. عندها يُطرح السؤال حول النظام الانتخابي الذي ستُنظَّم الانتخابات على أساسه. وبهذا الشكل يصبح الوضع مختلفاً تماماً. وقتها سيفكر المسيحي أو الدرزي، بأن نظاماً انتخابياً خارج القيد الطائفي وعلى أساس لبنان دائرة واحدة مترافقة مع غلبة تصويت طائفي (يصوت الشيعي للشيعي والماروني للماروني وهكذا، وهي فرضية عقلانية تماماً في الشرط اللبناني) ستتركهما عراة أمام الواقع العددي الذي لا يصب في مصلحتهما. القانون الأرثوذكسي! ألا يعني هذا انتهاكاً للعدالة وترسيخاً للطائفية؟ أمام مثل هذا السؤال، القانون الانتخابي، لا يبدو أن الوحدة الشعبية ستبقى حاضرة، لأن الجماعات التي تجاوزت نفسها وقدمت نفسها بوصفها «الشعب» في مواجهة الأوليغارشية، ستظهر كجماعات متباينة بمصالح مختلفة ومتعارضة مرة أخرى. فهذه الجماعات ومصالحها، الحقيقية أو المتخيلة، تشكل العالم المُعاش والخبرة الاجتماعية اليومية لعموم اللبنانيين. وتجاوز هذه الخبرة يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد وحدة شعبية معرّفة بشكل سلبي، إنما إلى مضمون إيجابي لفكرة الشعب، وإلى مخيلة سياسية مختلفة بشكل جذري عما يعرفه عموم اللبنانيين، وهو ما يبدو مهمة معقدة وقد تحتاج إلى زمن طويل. هنا، ما يبدو مطروحاً بشكل أكثر واقعية هو إعادة تنظيم العقد الاجتماعي بين هذه الجماعات ومن داخلها بما يضمن توسيع مجال الحرية للأفراد. على أية حال، المسألة المعنية هنا، أن هذه الوحدة العابرة للطوائف هي محققة طالما أنها مُعرَّفة بشكل سلبي (بالضد)، لكن التحدي يكمن في الحفاظ على هذه الوحدة مع الانتقال إلى إعطائها مضموناً إيجابياً.
الاجتماعي الضامر عربياً
في السياق اللبناني لعبت عدة عوامل في تثبيت المطالب الاجتماعية كأساس المواجهة مع النظام السياسي، الحاجة إلى تجاوز الطائفي وتأكيد الوحدة الشعبية في مواجهة النخبة. أيضاً وجود قدر كبير وحقيقي من الحرية والديمقراطية يتمتع بها النظام السياسي اللبناني، وهو أساس التباين مع باقي الانتفاضات والثورات العربية. حيث واجه العرب تحدياً مختلفاً عما يواجهه اللبنانيون. فالعرب واجهوا أنظمة تنكر عليهم حقوقهم السياسية الأساسية، بما جعل انتفاضاتهم بالضرورة شديدة التسييس، حيث توجَّبَ منذ البداية تحدي شرعية النظام السياسي نفسه، سواء في مصر وتونس وسوريا وغيرها. الانتفاضات كانت بشكل إلزامي ثورة ضد النظام السياسي، وهذا ما جعل السؤال السياسي في الواجهة منذ البداية.
لا يجب أن ينسينا تقدم السياسي للواجهة الأسباب الاجتماعية الكامنة في أساس هذه الثورات، مثلما هو الحال مع الانتفاضة اللبنانية. فالربيع العربي انطلق بحرق البوعزيزي لنفسه بعد أن تعرض لإهانة مرتبطة بمصادرة عربة البيع الخاصة به، وبعدها انتفض أهالي منطقته الفقيرة والمهملة سيدي بوزيد. ثورة مصر أتت بعد سنوات من احتجاجات عمالية وفلاحية، وسخط على الفساد الهائل والقمع المستشري لجهاز الأمن المركزي. سوريا نفسها مثال ممتاز عن مركزية المسألة الاجتماعية في الثورة التي انطلقت من درعا باعتبارها تمثيلاً للريف السوري الذي تعرض للانهيار خلال العقد السابق على الثورة، بسبب اجتماع سياسات جائرة ودورات جفاف. كذلك الفساد الهائل وسوء الإدارة وترهل الدولة وخدماتها، بمقابل تمركزها على القمع. لقد ثار العرب –مثل اللبنانيين- لأنهم وصلوا إلى حد من البؤس والشقاء الذي لم يعد بإمكانهم من بعده أن يصبروا على ما هم فيه.
لكن ما أن انتفض العرب حتى توجَّبَ عليهم طرحُ سؤال النظام السياسي نفسه، فيما لا يبدو هذا –أقلّه الآن- مطروحاً على اللبنانيين. وبطرح سؤال النظام السياسي، تراجعَ المطلب الاجتماعي القابع في أساس الثورة. وبهذا لم يعد ممكناً الاكتفاء باللحظة السلبية في مواجهة النظام دون مضمون إيجابي تفرضه المنازعة الكلية مع النظام السياسي من أجل توحيد الشعب، وفي الآن نفسه لم يكن المطلب الاجتماعي لوحده قادراً على تقديم مضمون إيجابي لتوحيد الشعب في منازعة النظام. مع الثورة على النظام السياسي، الأمر الذي أُجبرت عليه الثورات العربية من البداية، فإن السؤال حول «ماذا بعد» أصبح مطروحاً مباشرة على الجميع حتى قبل سقوط النظام، وفي مواجهة هذا السؤال عملياً تقرر مصير الثورات العربية.
لدينا نموذجان لمآل الثورات العربية. التجارب السورية والعراقية (في موجتها الاولى) والليبية واليمنية من جهة، والتجربة المصرية من جهة أخرى.
في النموذج الأول، وهو نموذج المجتمعات المنقسمة أهلياً على أساس طائفي أو إثني أو عشائري وهلم، كانت الترجمة المضمرة لسؤال النظام السياسي تتمحور حول إدارة هذه الانقسامات الأهلية العميقة التي ينوء المجتمع تحتها والتعاطي معها، خاصة أن الأنظمة السلطوية اعتمدت على الاستثمار المكثف في هذه الانقسامات للحفاظ على سلطتها. فلم تعد الفكرة الوطنية تقدم أساساً صلباً للبناء عليه في مواجهة هذه الانقسامات. عندها قد يكون الحديث عن «ديمقراطية» مفزعاً للأقليات بوجود «جماعة» أغلبية وافتراض غلبة التصويت الأهلي. بل حتى الوطنية نفسها، بوجود انقسامات إثنية، تبدو مفزعة لأقلية إثنية ترغب بالاعتراف بهويتها الخاصة والمميزة والحؤول دون انصهارها في هوية وطنية «أوسع» لا تعترف بخصوصيتها.
في هذا النموذج للمجتمعات المذررة، كان تحدي النظام السياسي يفرض تلقائياً سؤال إدارة الجماعات الأهلية وولاءاتها المختلفة، غير أن الثورات العربية عجزت عن تقديم رؤية سياسية قادرة على توحيد الشعب في مواجهة النظام الحاكم، الذي كان أقدر منها على الاستثمار في هذه الانقسامات الاجتماعية. خاصة أن الثورات اعتمدت الخيار الأسوأ، وقد خبر اللبنانيون بدورهم هذا الخيار سابقاً، والمتمثل بإنكار المسألة برمتها وتحميلها للنظام، والاكتفاء بافتراض أنها ستختفي أو تذوي بمجرد سقوطه. غير أن الواقع أظهر أن العكس قد يكون هو الصحيح في الغالب، فهذه التناقضات انفجرت بشكل لا يمكن ضبطه مع سقوط النظام في ليبيا أو المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في سوريا. كان لهذا الإنكار مصدران مختلفان، ينطلق أولهما من مقاربة وطنية ترى أن الاعتراف بوجود النزاع الأهلي دون ردّه إلى الاستبداد يتضمن قبولاً بتبرير الاستبداد بوصفه ضمانة للسلم الأهلي؛ والثاني رفض وجود نزاع أهلي انطلاقاً من تصور ذمي، حيث تضمن الأكثرية ما يشبه الحقوق «الذمية» للأقليات (وهو بهذا تماهى تماماً مع الصورة المتخيلة التي قدمتها الأنظمة عن الثورات).
في النموذج الثاني، كانت الانقسامات الأهلية مسألة هامشية، وحضر بالمقابل انقسام لا يقل حدة تمحور حول شكل حضور الإسلام في الحياة السياسية. فقد حقق الإسلاميون خلال العقود الأخيرة هيمنة واسعة على المجال العام، فنجحوا بإعادة تشكيل الفضاء السياسي، من مجال يتمحور حول الانقسامات الاجتماعية أو المسألة القومية إلى مجال يدور حول الهوية الدينية. تشكيل المجال السياسي على منازعة تدور حول الهوية الدينية كان مصدر انقسام عميق، بقدر ما هو أيضاً مصدر لشرعية كبيرة يستمدها الكلام باسم الإسلام. الانقسام القائم على سؤال الهوية الدينية كان أشد عمقاً ووطأة من الانقسام الاجتماعي في مواجهة النخبة، بحيث أن جمهوراً واسعاً رأى في الإسلام السياسي خطراً أكبر من النظام المستبد نفسه، ولهذا لم يجدوا حرجاً في التحالف مع النظام (الأقل سوءاً) ضد خطر الإسلام السياسي.
في النموذجين، كان لاختزال السياسة في سياسات هوية، شكلت الهوية الدينية شكلها الأبرز، دورٌ في انقسام المنتفضين أو الذين من الممكن أن يلتحقوا بهم، معطلة بهذا الشكل من إمكانية «تشكيل» شعب على أساس المنازعة مع النظام السياسي، تكون المطالب الاجتماعية في أساس هذه المنازعة.

الشعب المُتخيَّل والاعتصام كأسطورة سياسية
الشعب في الساحة، والإرادة الشعبية تعلن: «الشعب يريد إسقاط النظام». تقدم الساحة مسألتين مهمتين، الأولى تخيل الشعب كذات موحدة وفاعلة وذات حضور مباشر. الثانية، أن الشعب الحاضر في الساحة يعلن عن نفسه كإرادة، وبالتالي كمصدر للشرعية التي ينتزعها من النظام.
نملك جميعنا هويات مختلفة ومتنوعة ونُحيل إليها في سياقات اجتماعية مختلفة، قد تكون هذه الهويات متنازعة ولها قضايا ومطالب مختلفة وحتى متناقضة فيما بينهما. عمال وعاطلون وفلاحون ومهندسون، مسلمون ومسيحيون، سنة وشيعة وأرثوذكس وعلويون ودروز، أبناء مدينة وأبناء ريف، رجال ونساء وهلم. غير أنهم في الساحة يتجاوزون هذه الانقسامات متحدين حول مُتخيَّل مشترك، هو «الشعب»، هم «الشعب» في منازعته مع النخبة. في مواجهة نظام مبارك توحّد الشعب المصري في الساحة متجاوزاً كل انقساماته الواقعية، طائفية وطبقية ومناطقية وغيرها. في الساحة كان هناك «شعب» موحد في مواجهة نظام يطالب برحيله. في الساحة لا يكتفي الشعب بتجاوز انقساماته، بل يتعين بالإحالة إلى الموجودين في الساحة بوصفهم الشعب، ومن ليس في الساحة ليس شعب. قد يكون جزء من النخبة التي ينتفض ضدها الشعب، قد يكون من حزب الكنبة الذي لا صوت له وبالتالي لا ذات له. «الشعب» يقتصر على الموجودين في الساحات رغم كونهم عددياً أقلية.
في عمله حول العقل الشعبوي، أشار إرنستو لاكلاو إلى كون الشعب مُتخيَّلاً يتشكل حول المنازعة الأساسية التي هي خط الانقسام بين الشعب والنظام (النخبة الحاكمة). الشعب المتخيل على أساس هذه المنازعة السياسية ليس موحداً أو منسجماً بشكل طبيعي، بل مؤلف من جماعات مختلفة ومتباينة وقد تكون في سياقات عديدة متنازعة. لكن مع تحديد المنازعة المركزية مع النظام يمكن لمطالب هذه الجماعات أن تبدو وكأنها متكافئة، يمكن التوحيد والجمع بينها في سلسلة مطالب يجد الجميع أنفسهم فيها ويرونها معبرة عن همومهم ومطالبهم. المنازعة السياسية وسلسلة المطالب المتكافئة المرتبطة بها هما ما يعطينا معنى للشعب المتخيل كوحدة في مواجهة النظام.
هذا الشعب المتخيل والحاضر بشكل عيني في الساحة يصبح مُعبِّراً عن إرادة موحدة لا تقبل التجزئة أو الانقسام، الإرادة العامة لدى روسو. فلا تعود هناك إرادات جزئية تتعارض مع مطالب الإرادة الشعبية، لا توجد إرادات أخرى ترغب ببقاء النظام، فمن يرغب ببقاء النظام وليس بإسقاطه يعفي نفسه أساساً من كونه من الشعب.
يقدم حضور الشعب في الساحة أسطورة سياسية، قصة تعطي مغزى ومعنى لما نشهده، وتُزوِّدُنا برموز نجتمع حولها وبفعل تأسيس للمخيلة نعيد اكتشاف أنفسنا عبره. خلال الاعتصامات اكتشف كل شعب عربي نفسه مرة أخرى، تعرف الناس على أنفسهم وعلى شركائهم بطرق جديدة لم يعهدوها من قبل وكأنهم يرون أنفسهم للمرة الأولى، نوع من الكشف الذي يزيل غشاوة لطالما أعمتهم. كما رأى جورج سوريل في الإضراب العام أسطورة سياسية للطبقة العاملة، يمكن النظر إلى اعتصامات الساحات خلال الانتفاضات العربية بوصفها أسطورة سياسية للشعب، معها تبدأ حكاية شعب موحد بإرادة عامة لا تقبل التجزئة تعلن عن نفسها كأصل للشرعية وتنزعها عن خصمها.
لا تكون المنازعة الأساسية التي تُخاض مع النخبة بالضرورة ذات مضمون إيجابي، بل على الأرجح تكون في البداية سلبية التحديد، مكتفية بتعريف الشعب كضد للنخبة، ضد سياسات وممارسات، ضد الفقر والفساد. حتى الشعار المركزي للانتفاضات العربية، «الشعب يريد إسقاط النظام»، هو تعريف بالسلب. في هذا الشعار، لا يحوز الشعب مضموناً إيجابياً خاصاً بما يريد، بل يدور أساساً حول مضمون سلبي متمثل بمنازعته مع النظام الذي يرغب بإسقاطه.
التحديد بالسلب له ميزة شديدة الفائدة في لحظة مواجهة النظام، وهي أنها تسمح بتجاوز كل الانقسامات الممكنة والمحتملة داخل الشعب وتركيز كامل المواجهة مع النظام. فنحن لا نقول ما نرغب وبالتالي، وطالما أننا لا نقول هذا، لن يكون لدينا أسباب للاختلاف. فابن الطبقة المتوسطة يرغب بسقوط نظام مبارك مثل ابن العشوائيات، ابن المدينة مثل ابن الريف وهلم. لكن ما أن يصبح السؤال حول ما يرغب كل منهم بتحقيقه، فإن الاختلافات تظهر، وما كان «شعباً» يمسي عندها جماعات وطبقات مختلفة ومتباينة فيما بينها وحول تحديد ماهية المصلحة العامة. التعريف السلبي يسمح بالوحدة التي لن يضمنها أي تعريف إيجابي. على العكس، فإن المظاهرات والإضرابات التي انطلقت من مطالب محددة تماماً في سياق جماعات بعينها، إضرابات عمال أو إضرابات سائقي نقل أو أطباء، نُظر إليها باعتبارها مطالب فئوية، وفي العديد من الحالات تم تبرير قمعها لكونها مطالب فئات تتعارض مع المصلحة العامة للشعب التي احتكر النظام تعريفها.
بعد لحظة المنازعة القصوى في الساحة وانتزاع الشرعية من النظام تأتي المهمة التالية، استعادة الدولة أو تأسيس نظام جديد، الأمر الذي يفرض تقديم صياغة إيجابية لمطالب الشعب. ليس من الضروري دوماً أن تكون المهمة التالية، التأسيس، لاحقة زمنياً على منازعة النظام وإسقاطه، بل ربما تكون محايثة للمهمة الأولى المتمثلة بتثبيت المنازعة نفسها. هذا يتعلق بالسياق الخاص بكل بلد وبمدى جذرية المنازعة نفسها مع النظام.
في حال نجاح طبقة (جماعة) في تحقيق الهيمنة، عندها تكون قادرة على تقديم نظرتها الخاصة بوصفها الإطار الناظم لتصور المصلحة العامة. هكذا فعلت البرجوازية عندما جعلت من نفسها الشعب، حيث قبلت بقية الطبقات بالتصور البرجوازي للشعب والمصلحة العامة لأنها وجدت فيه ما يمكن لها أن تتماهى معه ويلبي مطالبها، الانتخاب وحكم الجدارة والمساواة وإلغاء الامتيازات. الشعبوية، في المقابل، قامت على إرضاء تحالف واسع من الطبقات الشعبية دون القدرة على فرض هيمنة محددة، التي استعاضت عنها بكاريزما القائد الملهم، وهو ما فرض عليها لاحقاً –بتوليها السلطة- تبني سياسات ترضي هذا التحالف الطبقي الواسع الذي تقوم عليه.
في سياق الانتفاضات العربية، لعب فشل الدول ونموذجها الاقتصادي دوراً أساسياً في الانتفاض عليها، الفقر والفساد وسوء الإدارة وعدم قدرة قطاعات متزايدة على العيش ضمن هذه الشروط، وانسلاخ متزايد للطبقات الوسطى عن الدولة ودفعها إلى الانحدار الاجتماعي. ترافق فشل الدولة وترهلها مع تمحور متزايد لها حول المركب القمعي في تثبيت سيطرتها. هذه العوامل كانت كامنة خلف الانتفاضات العربية وأساساً في تحقيق وحدة واسعة بين المنتفضين ضد الأنظمة. غير أن التحدي تمثل بالانتقال إلى تأسيس إيجابي لوحدة الشعب التي تجلت في الساحات مع التحول إلى سؤال استعادة الدولة.
طُرح سؤال البديل بشكل سريع وحاد على الدول العربية ذات الأنظمة التسلطية، وكلما كان التداخل بين الدولة والنظام أكبر كان السؤال أشد إلحاحاً، بما فرض طرح مضمون إيجابي للوحدة الشعبية، فالاكتفاء بمضمون سلبي في مواجهة النظام لا يكفي لتوحيد الشعب. في الحالة السورية اندثر الشعب نفسه تحت وطأة التحدي الذي كان مطروحاً بشكل ضمني حتى قبل السقوط الواقعي للنظام، فالشعب لم يستطع أن يتوحد بوجود انقسامات أهلية أشد عمقاً من أن يتمّ الالتفاف حولها بمنازعة سلبية مع النظام. خاصة مع وجود خيار لتحديد المنازعة بشكل هوياتي (طائفي) بما يضمن لها أيضاً جمهوراً واسعاً، عبر توحيد السُنّة في مواجهة العلويين بما يضمن توحيد جماعات مختلفة ومتباينة في هوية سنية واسعة، وهو الخيار الذي استثمر فيه بكثافة لاحقاً. في مصر وبعد سقوط مبارك والانتقال إلى مجلس عسكري وبعده إلى الانتخابات، انقسم الشعب على نفسه إلى إسلاميين وخصومهم، وعوضاً عن منازعة تُخاض ضد النظام أصبحت منازعة بين الإسلاميين وخصومهم بما مكن النظام من القيام بثورته المضادة بالاتكاء على هذا الانقسام.
في الانتفاضات العربية لم يكن الأساس الاجتماعي للسخط على النظام، وهو السبب الأساسي للانتفاضة، قادراً على تجاوز خطوط الانقسام الأخرى التي تمزق الشعب بما يؤمن وحدة متخيلة للشعب في مواجهة النظام. في المقابل، اختارت قوى سياسية الاستثمار في خطوط نزاع تعتمد سياسات الهوية، وتؤمن لها هيمنة مضمونة بشكل أكبر، لكن بتكلفة تمزيق الشعب وتشكيل خطوط نزاع سياسي غير المنازعة مع النظام، أو بصياغة المنازعة مع النظام في شكل نزاع هوية بما يجعل جزءاً كبيراً من الشعب في صف النظام بوصفه الأقل ضرراً.
الشعب والإرادة السياسية
أول ما يظهر كقصور واجه الانتفاضات العربية يتمثل في عدم قدرتها على تنظيم نفسها (أياً يكن شكل هذا التنظيم، فلا يهم سواء كان حزباً أو كان اتحاداً طوعياً لعاميات أو نقابة شعبية تحوز القبول أو أي شيء آخر) وتقديم هيئة مفوضة للكلام باسمها، باعتبارها التمثيل السياسي للإرادة العامة المتحققة في الساحات. على العكس أبدت الانتفاضات العربية نفوراً من السياسي، وكأنها ليست هي نفسها ثورات سياسية تستهدف تغيير نظام سياسي. مثل هذه الهيئة كان لها أن تساعد بشكل فعال في صيانة الوحدة الشعبية المتحققة وإعطائها مضموناً إيجابياً، عبر التفاعل والتواصل المباشر مع الحاضرين على الأرض وربط مطالبهم بعضها ببعض وصياغتها في لغة موحدة وقيم مشتركة (إعادة تشكيل للمخيال السياسي وبلورته على أساس المنازعة) تحوز على قبول المنتفضين بما يصون الوحدة الشعبية في المراحل اللاحقة من تطور المنازعة.
كذلك، تُقدِّمُ مثل هذه الهيئة شكلاً مضاد للدولة كتجسيد للشرعية الشعبية. فلا يمكن تناسي أن جهاز الدولة لم يكن يوماً للشعب، وأنظمتها وقوانينها وضعتها النخبة بهدف إحكام السيطرة على الشعب وحماية نفسها من الشعب الذي يثور عليها الآن. من الطبيعي في القانون المصري أن يخرج مبارك بريئاً، وأن يجد الثوار أنفسهم في السجون، في النهاية هم يتحاكمون إلى قوانين وأنظمة قضائية وقضاة صنعتهم دولة مبارك نفسها.
يضاف لهذا أن الوصول إلى الانتخابات يعني أن الشعب لم يعد يتحدد بمن كان في الساحات، بل بكل من يملك حق التصويت، سواء من أنصار النظام أو من أنصار حزب الكنبة. عندها، ربما يكون الشعب أقلية تصويتية، خاصة مع الانقسامات التي تقسمه.
غياب مثل هذه الهيئة السياسية الممثلة للإرادة الشعبية المنبثقة من الساحات، لتقوم بمحاورة الدولة –إن لم نأخذ المسألة للحد الأقصى واعتبار هذه الهيئة بديلاً عن الدولة- يجعل من السهل فرز الشعب مرة أخرى إلى جماعات متنافرة عبر بوابة الدخول إلى الدولة، حيث تكون «الدولة العميقة» الأقدر على إدارة هذه الدولة وقوانينها لمصلحتها، وعلى الاستثمار في اختلاف الجماعات وتباينها. في النهاية، عرف النظام المصري أن يغذي الانقسام القبطي-الإسلامي؛ خوف الطبقة الوسطى من الإسلاميين؛ وتنازع الإسلاميين (الإخوان والسلفيين) على الحق بتمثيل الإسلام.
عانت الانتفاضات العربية من عدم قدرتها على تقديم مثل هذه الهيئة السياسية التي تستند إلى تمثيلها للإرادة العامة، بما يسمح لها بالحفاظ على «الشعب»، الوحدة المتخيلة للجماعات المختلفة، وفرض احترام إرادتها على الدولة بوصفها أساس للشرعية المنبثقة من الساحة.
في السياق اللبناني، ما تزال الانتفاضة في لحظاتها الأولى، لحظة صياغة نفسها في مواجهة النخبة الحاكمة، وفيها تعيش وحدتها (الشعب اللبناني) المتجاوزة للانقسامات الطائفية والمناطقية. لكن التحدي اللاحق هو التحدي الذي سيطرح ما أن تقرر الحكومة الاستقالة أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة، هل يبقى الشعب اللبناني المتخيل في الساحات شعباً أم ينحلّ إلى جماعاته الأهلية؟ إن الخبرة المعاشة والمستندة إلى مثل هذه الجماعات، بما يرافقها من وضعيات قانونية لها، سواء على مستوى الأحوال الشخصية أو على مستوى التنظيم السياسي للدولة، سيجعل من العودة لها أمراً شبه محتوم في غياب مثل هذه الهيئة التي تنبثق من الساحات بوصفها تعبيراً عن الإرادة العامة وعلى أساس من الخبرة الجديدة للوحدة الشعبية. بالمقابل يسعى العديد من الناشطين اللبنانيين إلى تقديم نموذج لهذه الهيئة عبر العاميات التي يسعون لتشكيلها وربطها بمطالب وطنية يمكن للجماعات المختلفة أن تتماهى معها في مواجهة النخبة الحاكمة.
إن نجاح الانتفاضة أو فشلها هو رهن بالقدرة على الحفاظ على الشعب المتخيل الذي تم تشكيله في الساحات، وهذا الأمر رهين بالسياسي، وبالانخراط أكثر في الانتفاضة.