فيما يلي، قصة اعتقالي لدى تنظيم داعش، وتنقّلي بين أكثر من خمسة سجون، في كلٍّ من دير الزور والرقة والميادين، وما تخلّل ذلك من قصص مرت معي وأثرّت بي، لأناسٍ بعضهم تمكن من العودة لأهله فيما بعد، والبعض الآخر لم تُكتب لهم العودة حتى اليوم.
لحظات ما قبل الاعتقال
كنت في بيت جدي بحي الحميدية في دير الزور عندما جاء صديقي عيسى ليخبرني بمجيء أخيه موسى، كان ذلك عند الحادية عشرة ظهراً من يوم الجمعة، المصادف 14 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2016. كنا قد اتفقنا، نحن الثلاثة، على الخروج إلى قرية الصالحية بريف البوكمال في ذلك اليوم، وذلك بعد أن نلتقي بشخصٍ يُدعى تحسين العبد الله، تربطنا به علاقةٌ قديمةٌ نوعاً ما. تحسين كان مقاتلاً في الجيش الحر في بداية الثورة، وشغل لاحقاً موقعاً في الأمن العام لدى داعش (الأمنيّين). كان هدف اللقاء هو معرفة تفاصيل اعتقال صديقنا معتز من داخل مركز «الاستتابة»؛ حيث فرض عليه داعش حضور دورةٍ في العقيدة، بحكم أنه كان قائداً لمجموعة كتائب من الجيش الحر في المدينة.
كان مصير معتز مرتبطاً بنا كلياً؛ بسبب تاريخنا المشترك في التنسيقيات والنشاط السلمي والإغاثي قبل احتلال داعش لدير الزور في تموز (يوليو) 2014. الفارق بيننا أنّنا، بخلاف معتز، لم نحمل السلاح، وهو ما يجعلنا أقلّ عرضةً للخطر. ذهبتُ لمقابلة موسى في بيت أهله بالحارة المجاورة، وكان موجوداً معه ابن أخته حمود وزوج أخته هشام. تناولنا الفطور سويةً، ولم نلبث طويلاً إلى أن جاء تحسين يسأل عنا. حاولنا دعوته إلى البيت، غير أنّه تذرّع بوجود النساء لرفض دعوتنا؛ فهو لا يريد الحديث عن مصير معتز أمامهنّ، ونزولاً عند رغبته، اصطحبه موسى إلى البيت الذي تزوّجَ فيه قبل مدةٍ قصيرة، في البناء المقابل من الحارة ذاتها. أما أنا وعيسى، فبقينا حيث نحن نشرب الشاي، وماهي إلا بضع دقائق حتى أحسسنا بضجيجٍ خفيفٍ قادمٍ من الخارج، وحتى لا نُشعِرَ أهل موسى بالسيناريو المرعب الذي كنا نتوقعه، ذهب عيسى إلى الباب الخارجي وبقيتُ أنا ماكثاً في مكاني أتصنّع شرب الشاي، إلا أنّ عيسى لم يعد مباشرةً، وبدأت أخته تدرك حركاتنا المريبة، محذّرةً من مكر تحسين، لا سيما أنه صار من أمنيّي داعش.
لحقتُ بعيسى نحو الباب لأجده مصدوماً يشير بسبابته نحو الشارع، وهو يقول: «حذيفة! دكّوا موسى (أمسكوا به) وجوّلوه بالسيارة بعد ما كلبچوه». كان وقع كلماته قاسياً عليّ، ولم أصدّق حتى رأيت موسى داخل سيارةٍ بيضاء من نوع «هوندا إكسنت». أما تحسين فكان واقفاً حينها إلى جانب دراجته النارية، مدركاً وجودنا من وراء الباب، وقد حاول نهينا عن الخروج مخافة اعتقالنا أيضاً! في هذه الأثناء أخبرتُ عيسى بضرورة خروجنا السريع من المدينة، وذهبتُ إلى بيت جدي لجلب هويتي وبعض الأشياء الخفيفة الضرورية. خرجتُ من البيت متعجّلاً، ومن دون أن أحيط أبي بصورة ما يحدث.
في هذه الأثناء، كان شخصٌ له علاقاتٌ مع عناصر تنظيم الدولة يدعى حمود قد جهّز دراجته النارية حتى يساعدنا في الخروج من المعبر العسكري الخاص بمقاتلي داعش تحت الجسر المعلّق.
الهروب ولحظة الاعتقال
تمكنّا من العبور إلى الطرف الآخر، وكان تحسين أيضاً خارجاً معنا، وقد صدّقتُ حينها أنّ خروجه كان بمحض الصدفة؛ إذ تحجّج بضرورة إجراء اتصالٍ من قرية «حطلة»، بهدف السؤال عن مشكلة موسى. كنتُ أحمل معي كيساً أسود، وطلبتُ من تحسين بشكلٍ عفوي أن يحاول فعل أيّ شيءٍ من أجل موسى. بعد ذلك أقلّنا حمود إلى خان أبو علي الچلبة في قرية «صالحية البلد» عند مدخل مدينة دير الزور الشمالي. لم نبقَ كثيراً عند أبو علي الجلبة بعد أن أخبرناه بما حصل لموسى. كان أبو علي من دائرتنا الضيقة، وتربطنا به علاقةٌ عائليةٌ وثورية. أودعتُ لديه هارداتي الشخصية، ومن ثم هربت أنا وعيسى من باب الخان الخلفي، بعد أن طرق الباب عناصر من داعش يبحثون عنا، ومكثنا بعد ذلك قليلاً لدى أناسٍ لا نعرفهم في القرية، ريثما تنتهي صلاة العصر؛ حيث أنّ التجوال ممنوعٌ خلال مواقيت الصلاة.
تمكنّا بعد ذلك من العثور على سيارة أجرة نقلتنا إلى قرية «محيميدة» بريف دير الزور الغربي؛ حيث يقطن أهل زوجة موسى، وكان الهدف من ذلك هو أن يقلّنا أحمد، نسيب موسى، بسيارته إلى قرية الصالحية في ريف البوكمال، والتي يسكن فيها شقيقٌ لموسى يختبئ لديه عبد الرحمن وزوجته. عبد الرحمن كان الشخص الثالث بيننا، والمُهدّد أيضاً بالاعتقال. وصلنا إلى بيت أحمد في محيميدة، ولم يكن فيه. رأيت زوجة موسى التي سألتني بقلقٍ عن سبب عدم مجيء موسى معنا، لاسيما أنه أخبرها بنيته المجيء. كذبتُ عليها وحاولتْ هي بدورها ادعاء تصديقي. أثناء انتظاري لأحمد حاولت الاتصال بأخي خالد وصديقي عبد الرحيم لأعلمهم بما حصل معي.
وصل أحمد بعد دقائق قليلة، وأعلمتُه همساً بما حدث لصهره، وبضرورة الذهاب إلى البوكمال حالاً. وبالفعل شرعنا بالخروج فوراً، ولكنّ ما أن تجاوزنا سور البيت حتى توقّفت أمامنا سيّارةٌ بيضاء من نوع «فولكس فاكن»، وصرتُ في مرمى النظرات الحاقدة لسائقها المقنّع. أدركتُ وقتها أنها قد تكون المرة الأخيرة التي أرى فيها الشمس. ترجّل سائق السيارة متجهاً نحوي، ومن ثمّ وضع فوهة مسدسه «الكلوك» عند قلبي، قائلاً: «شِسْمَك ولاك؟» وبعد أن تأكّد من هويتي، قام بتوثيق يديّ نحو الخلف، وعصب عينيّ بقطعة قماش، ثمّ ألقى بنا، أنا وعيسى، داخل سيارته. أمّا أحمد فقد هرب بسيارته بعد أن شهد اعتقالنا.
مضت السيّارة بنا ونحن ملقيَّيْن على بطوننا، ليلتفت الملثّم نحونا ويبدأ ضربنا، بشكلٍ هيستيري، بخرطومٍ كان يحمله؛ بغرض معرفة مكان جهاز الإنترنت الفضائي الذي ادّعى أننا أخرجناه معنا من المعبر العسكري! في الحقيقة كنت قد أخرجت معي بضعة هارداتٍ فقط، ولم يكن بحوزتي جهاز إنترنت، والذي كانت حيازته كفيلةً باعتبارنا «مرتدّين» مصيرنا القتل، كحال الكثيرين الذي قُتلوا بهذه التهمة بعد أن أعلن التنظيم منع اقتنائه.
وصلنا إلى مكانٍ بدا أنّه سجنٌ خارج المدينة؛ إذ لم نستغرق الوقت الكافي للعودة إليها. أنزلونا من السيارة، ومباشرةً، تناولَتْنا الأيادي بالضرب حتى وصلنا إلى داخل المكان، ومن ثمّ جعلوني أستلقي على بطني، وشرع أحدهم باستئناف الجَلْد على يديَّ وقدميَّ، محاولاً معرفة مكان الجهاز. أما عيسى، فجعلوا منه دليلهم إلى مكان أبو علي الچلبة؛ حيث تركْنا ذلك الكيس. وبعد نصف ساعة، عادت السيارة التي تُقلّ عيسى وأبو علي الچلبة والهاردات. أدركت ذلك من أصوات صراخهم نتيجة الضرب، ومناشدات أبو علي الفاشلة بأن يُسمح له بدخول دورة المياه؛ كونه مصابٌ بالسُّكر. اقترب المُلثّم الذي اعتقلنا من أذني اليمنى قائلاً: «قلتلّي ما طالعت معاك شي من البلد مو؟»، ثمّ أمر العناصر بإعادتنا إلى السيّارة، لنسير قرابة عشر دقائق قبل أن تتوقف عند حاجزٍ تبيّنَ لي من خلال صوت محركات القوارب الكبيرة التي كانت وسيلة عبور النهر الوحيدة، بأنّنا سنعود من خلاله إلى مدينة دير الزور مروراً بنهر الفرات. ما هي إلا بضع دقائق قد مرّت حتى وصلنا إلى سجنٍ آخر، وأُنزلنا من السيارة موثّقي الأيدي ومعصوبي الأعين، ثمّ جرى توزيعنا على منفرداتٍ معزولة.
السجن الأول وجلسة التحقيق الأولى
دخلتُ إلى منفردةٍ بطول مترين ونصف وعرض مترٍ ونصف تقريباً، وكان ذلك في نهاية فترة العصر. كان صعباً عليّ تصديق أنني معتقل، ولدى داعش أيضاً! وفي محاولةٍ منّي لإدراك ما أنا فيه، رحت أتأمل تفاصيل المكان: جدرانٌ بيضاء، بلاطٌ نظيف، مصباحُ توفير للطاقة، تمديداتٌ صحيةٌ جديدة، وصنبورٌ بلاستيكيٌّ أبيض تحته مغسلةٌ صغيرة. كان مكاناً جديداً لا يشبه السجون التي تخيلتها، وكان هناك لوحٌ خشبيٌّ ملبّسٌ بالألمنيوم يفصل القسم الأكبر من المنفردة عن مكان قضاء حاجة السجين؛ حيث المرحاض العربي، وفي هذه الزاوية التي لا يستطيع السجّان رؤيتها من طاقة باب المنفردة من الخارج، دُوّنت أسماء معتقلين كانوا قد مروا من هنا، بالإضافة إلى بضعة خطوط كان المسجونون قد حفروها لحساب عدد الأيام التي قضوها هنا. في هذه الأثناء، فُتحت نوافذ المنفردات، وبدأ الصراخ بكلمة «صحنك». أما أنا فلم أكن أملك صحناً بعد، فأمر السجّان بإحضار واحدٍ لي وبملئه بطبخة اليوم، وهي عبارة عن باذنجان مفروم مع مرقة ربّ البندورة، بالإضافة إلى رغيف خبز. وضعت طعامي جانباً وعدتُ لتملّي منفردتي مجدداً، متخيلاً نفسي في كابوسٍ له تبعاته التي لم تبدأ بعد.
مضت ثلاث ليالٍ عليَّ في هذا السجن، وبينما أنا أسمع نحيب شبابٍ في المنفردات المجاورة، أطلَّ من باب منفردتي رأس رجلٍ مُلثّم، طلب مني تعصيب عينيّ للخروج. بعد أن عصبتُ عينيّ، أُوثِقَت يدايّ إلى الخلف، وتمّ اقتيادي نحو سلّمٍ للأسفل عبر عدّة ممرات، إلى أن وصلنا إلى عتبة إحدى الغرف، التي طلب مني السجّان عندها رفع قدمي للعبور. دخلت الغرفة المفروشة بالسجّاد ليأمرني بالجلوس. مضى على جلوسي قرابة ثلاث دقائق دون أيّ كلام، ثمّ خرج صوت شخصٍ هادئ النبرة، وهو يحرّك مجموعة أوراق. سمعت السجّان يخاطبه بـ«الخال». قال لي الخال: «السلام عليكم.. شلونك يا حذيفة؟» رددتُ عليه السلام، وراح يسألني عن أسماء وتفاصيل تتعلّق بأقاربي، ومن ثمّ طلب مني بريدي الإلكتروني وحساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، فأعطيته ما يريد.
بعدها طلب مني أن أحكي له سيرة حياتي منذ عام 2011 حتى لحظتنا تلك. سردت له أحداثاً كثيرةً، وعندما وصلت إلى آخر عامين؛ أي منذ احتلالهم لديرالزور، بتُّ أكثر حذراً في أقوالي، مخافة أن أودي بنفسي إلى مهلكها، واقتصرت في حديثي على عملي في منظمةٍ إغاثية محلية إلى حين توقّف عملها على يد التنظيم. في الأثناء، شعرتُ بوجود أكثر من أربعة أشخاص في الغرفة؛ حيث سمعت همساتهم المتبادلة حين سألني «الخال» عن كيفية تدبّري لمصروفي بعدما صادر التنظيم كل ما تحتويه المنظمة التي كنت أعمل فيها، وهو ما أدّى لتوقف عملها. أجبتُ بأنّ أقاربي خارج سوريا يساعدونني. حينها اخترق سمعي صوتٌ قادمٌ من الخلف: «كذاب ولاك!»، واقترب صاحب الصوت من أذني متابعاً: «ماعرفتني مو ولاك؟.. أنا اللي اعتقلتك من محيميدة، وهذا الصوت راح تسمعو چثير». كان هذا صوت المحقق «أبو عزام»، الذي شرع يضربني بهراوة، معيداً طرح الأسئلة ذاتها، وحين وجدني ثابتاً على أقوالي، اقترب مجدداً ليقول: «ولاك.. نحنا نعرف كل شي، ومعتز أبو علي، ربيعكم، حچالنا كل التفاصيل عنكم، حتى عن جهاز الإنترنت ونوعه، وعن شغلكم حتّى… هاي الرقبة راح تطير بكل الأحوال، فاحچي (تكلّم) أحسن ما نعلقك فوق، ونقصبك مثل ما صار بإصدار التبني».
استمر التحقيق وراح جميع الموجودين في الغرفة يضربونني بالهراوات على كامل جسدي، فقد كان إنكاري المتكرر يستفزّهم جميعاً، وشارفتُ على فقدان الوعي من شدة الضرب، فتوقفوا، وأخرجوني من غرفة التحقيق ليحضروا معتقلاً آخراً من قضيتي نفسها، متيحين لي المجال للتفكير، كي أغير رأيي وأعترف بكلّ ما يملونه عليّ.
لم يعيدوني إلى المنفردة التي كنت فيها، بل وجدت نفسي بعد خلع الطمّاشة داخل حمامٍ صغيرٍ مليءٍ بالشعر الذي يعود ربما لمعتقلين قد جرى حلق شعورهم قبل إعدامهم. كان هذا المكان عبارة عن منفردةٍ تُستخدم عند امتلاء المنفردات الأخرى، وفيها نافذة صغيرة عالية تتسلّل منها الشمس، ويمكن من خلالها رؤية أعلى شجرة ليمون، ومن خلفها بقايا مقدمة بناءٍ طاله القصف. رائحة الرطوبة ووجود نحلٍ قرب النافذة جعلني أشعر بأني قريبٌ من نهر الفرات وسط المدينة. بقيتُ في هذه المنفردة حتى الليل، ورحت أشعر بتورّمٍ في فخِذَيْ، وبعد ذلك بقليلٍ قرروا إعادتي إلى المنفردة التي كنت فيها أول وصولي إلى هذا السجن.
التواصل الأول
جرى إخلاء السجن من معتقلي الريف الغربي بالكامل، بينما كنتُ أراقب ذلك من خلال ثقبٍ في باب المنفردة يُطلّ على مخرج القسم منتظراً، دون جدوى، إخراجي أنا أيضاً. بدأت بالصراخ مخاطباً السجان الصغير الذي ردّ عليّ بالصراخ، وعلى إثر ذلك، سمع موسى صوتي، فتبادلنا السلام والدردشة، سألته عن صحته، ونقل لي شوقه لي ولأخيه عيسى. تمكنّا من خلال تلك المحادثة الممزوجة بالنحيب، أن نتفق على بعض الأمور التي يجب قولها في التحقيق، قبل أن يكتشف أمرنا السجّان «أبو داوود» وينقلني إلى جماعية خالية في الجهة المقابلة من السجن. في هذه الفترة، لم أرَ سوى السجّان الذي كان يأتيني بالطعام بمعدّل وجبتين؛ واحدة عند الظهر وأخرى عند المغرب، ولم أستحم طوال تلك الفترة سوى أربع مرات.
كان يُوزّع على المساجين لباسٌ خاصٌّ على غرار اللباس الأفغاني. في أول شهرين من سجني كنت مُصراً على عدم ارتداءه، أملاً بالخروج من السجن بثيابي، إلا أنّ القمل الذي تحمله أغطية المنفردات حال دون ثباتي على موقفي هذا. خلال تلك الفترة كنت قد خضعتُ إلى ثلاث عشرة جلسة تحقيق، يتخلل كلاً منها تعذيبٌ وشبح، كما كان المحقّق «أبو عزّام» يعمد إلى إفهامي بأني مُغيّبٌ ومتروكٌ في هذا القسم لأنه بعيدٌ عن أنظار الجميع، لا سيما «لجان المظاليم» التي كانت تزعم البحث عن الظلم في سجون التنظيم.
بعد ذلك، تُركت دون تحقيق مدة ثلاثين يوماً على التوالي، واقتصر يومي وقتها على النوم والصلاة وقراءة القرآن وكتاب «صفوة التفاسير» للصابوني؛ الذي كنت قد أخذته وساعة يد خلسةً من إحدى الجماعيّات، إلى أنّ تمّ استدعائي للتحقيق مجدداً وسط صرخات سجناءٍ يتعرضون للتعذيب، عند الساعة الثانية والنصف من منتصف الليل. دخلت غرفة المحقق «أبو عزام»، وكانت دافئةً جداً، بعكس باقي السجن. تحدّث المحقق بأسلوبٍ شديد اللين، وقال إنّ الدولة الإسلامية عادلة، وإني إذا «تبْتُ وأصلحتُ وبيّنتُ» فسيقتصر حكمي على حضور دورة استتابة. كان لسان حاله يقول بوضوح: اعترف بما نمليه عليك، حتى وإن كان محض خيال، من قبيل أنك كنت تصوّر مقرّاتٍ للدولة الإسلامية وترسلها للتحالف الدولي، حتى نخرجك من هنا. أما المصير الحقيقي فقد كان عكس ذلك تماماً؛ إذ ستكون نهايتي مادةً إعلامية ضمن إصدار هوليوودي تعرضه وكالة أعماق. استمعت لكلامه حتى النهاية، لأكرّر موقفي مرةً أخرى بالإجابة بأنّي لم أفعل شيئاً واحداً مّما قاله. وهنا استشاط غضباً، وأمرَ السجّانَ بتعليقي على أنبوبٍ حديدي في الممر المجاور، وبدأ السجانُ ضربي بواسطة خرطومٍ غليظ على قدميّ إلى أن فقدتُ الوعي، كحال الشخص المعلّق بجانبي.
بُعيد أذان الفجر، أُنزلت عن أنبوب الشَبْح، لأُعاد إلى المنفردة، وما أن توضأت وصليت والتحفت لأخفف من ارتجافي نتيجة البرد الشديد، حتى عاد السجّان مرة أخرى، طالباً مني وضع الطمّاشة، ليعيد شبحي وضربي على أقدامي الحافية من جديد. كنت أصرخ: «يا الله» مع كل جلدة، مما استفزّ السجّان والمحقق «أبو عزام» الذي كان يراقبني من بعيد ويصيح «خراس ولاك». بعدما انتهوا من ذلك، قال لي المحقق «هَرْوِلْ ولاك»، فلم أبرح مكاني، حتى أعاد عليّ الطلب. كان الهدف من ذلك ألا يتجمّع الدم في قدمي نتيجة الضرب، ويكون دليلاً على التعذيب أمام لجنةٍ ما قد تزور السجن دون سابق إنذار.
في كل مرّةٍ كنت أخرج فيها للتحقيق، كان الخوف على مصير عبد الرحمن (الشخص الثالث بيننا) ينال مني، لا سيما أنه كان متوارياً عن الأنظار هو وزوجته، إلى أن أخبرني المحقق بأنّه استطاع الهروب والوصول إلى إدلب. حينها فقط، انتابتني الفرحة، فقد استطاع أحدنا النجاة بنفسه، وسيحكي قصتنا مع هؤلاء المعاتيه.
في تلك الأثناء، كانت الأسابيع تمرّ علينا ثقيلةً بانتظار قدوم القاضي الذي سيُطلق سراحنا في أحد الآحاد. كنّا نتسلّى من خلال استراق الحديث من تحت أبواب المنفردات، متناقلين الأخبار الجديدة، ولكن وصلنا خبر استشهاد هشام، زوج أخت موسى، جراء مجزرةٍ ارتكبتها طائرات النظام وروسيا، حين استهدفت سوقاً صغيراً للخضار في حي الحميدية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2016، لتزداد هموم موسى همّاً جديداً.
من أساليب التعذيب النفسي التي كانت تمارس ضدّنا تشغيلُ إصداراتٍ صوتية بأعلى صوت عبر المُكبرات الموجودة في الممرات، وإرغامنا على الإنصات لها، لا سيما إصدار «الإخوان المرتدون» الذي يتحدث عن نشأة تنظيم الإخوان المسلمين ووجوب تكفيره، بالإضافة إلى جملةٍ من الصوتيات من إنتاج إذاعة البيان، التي كانت تبثّ من مدينة الميادين بريف دير الزور الشرقي. لم يقتصر الأمر على إصدارات داعش، بل كانوا يشغلون القرآن أيضاً، لا سيما أثناء التعذيب. في بعض اللحظات داخلني شيءٌ من اللغط في العقيدة، فإذا ما مرّت آيةٌ عن العذاب، أقوم (دونما وعيٍ) بربطها مع ما يحدث معي وأنا مُعلّقٌ من قبل هؤلاء الدواعش.
كان قد أخبرني عيسى فيما بعد بأنّ السجان «أبو داوود» كان يأتي عند منتصف كل ليلة إلى قسم المنفردات، مصطحباً معه مجموعة مفاتيح، ويقوم بخشخشة المفاتيح قائلاً: «جهزوا حالكم»؛ ليُخيّل إلى المعتقلين بأن حفلةً من التعذيب ستبدأ بعد قليل، فيقضوا ليلهم دون أن يناموا من شدة الخوف، ويطلع الصباح دون أن يحصل شيء. وفي إحدى المرات التي تمكنتُ فيها من التواصل مع موسى، أخبرني بأن تحسين، آخر شخصٍ كنا قد قابلناه قبل الاعتقال، هو من أوقع بنا لدى أمنيي داعش، وهو الذي كان قد أعلمهم، بمكان لحظة اعتقاله، كما أنني قد شاهدت تحسين لاحقاً، بأم عيني، وهو يمشي في ممر سجن التأمينات ليلاً، في إحدى المرات، التي كنت فيها أختلس النظر من خلال ثقب في باب المنفردة، وقد تمت ترقيته، ليصبح أمنياً في هذا السجن.
فرُغ السجن من جميع الذين اعتُقلوا في نفس قضيتي، ولم يبقَ غيرنا؛ أنا وموسى وحمود وأبو علي الچلبة، وكنت حينها قد أمضيت 86 يوماً متنقلاً بين المنفردات، حتى فتح سجّانٌ جديدٌ طاقة باب المنفردة، طالباً منّي جمع أغراضي، ليصطحبني إلى الجماعية. انتابني الفرح لأول مرةٍ حينها؛ إذ أنّني وأخيراً سأحظى بمجالسة أحدهم والتحدث إليه. تم إدخالي إلى الجماعية، وعلمت بنقل موسى إلى الجماعية الثانية، حيث يوجد حمود. كان في جماعيتي شخصان؛ شخصٌ أصمٌّ لم ينتبه لدخولي، وأبو علي الچلبة، الذي لم أستطع معانقته حتى صلاة الفجر، بسبب كاميرا المراقبة التي نبهّني إليها بإشارةٍ من عينه.
مكثتُ في هذه الجماعية قرابة عشرة أيام، إلى أن جاء يوم الإثنين؛ موعد مجيء القاضي «أبو محمد التميمي» الذي سنسمع حكمنا منه. عند السادسة صباحاً، طلب مني أحد السجانين ارتداء ملابسي التي تم اعتقالي بها، وطلبوا من حمود وموسى الأمر ذاته. سلمونا أماناتنا، عدا الهاردات التي أعلموني بمصادرتها، وريثما جُهزت الشاحنة التي ستحملنا، جمعنا المحقق أبو عزام، قائلاً: «إنتم حالياً رايحين تا تشوفون القاضي برا»، وبعدها خصّني بالقول: «حذيفة!! ما بدنا مشاكل عالطريق ها».
مضت بنا الشاحنة إلى خارج المدينة، نحو بلدة الصالحية عند المدخل الشمالي لمدينة دير الزور. مكثنا قرابة الساعتين قبل أن نركب سيارة من نوع «فان» بصحبة سجناء آخرين. وبعد مضي نصف ساعة في السيارة طلب منّا أحدهم إزالة الأقمشة التي على وجوهنا، ورأينا بعضنا بعضاً لأول مرةٍ منذ اعتُقلنا. كانت لحية موسى رثّةً كثيفة، وكان حمود قلقاً مثلنا جميعاً، لا سيما بعد أن رأينا يافطةً تحمل اسم قرية «شقرا» في الريف الغربي لدير الزور على الطريق الواصل إلى محافظة الرقة. سعى موسى إلى التعرف على شابٍّ صغيرٍ يبلغ من العمر 16 عاماً كان معنا في السيارة، وهو ينحدر من قرية «دشيشة أبو حامضة» الواقعة بين دير الزور والحسكة، وسأله عن سبب اعتقاله، فأجاب ببرودة: «عميل للـ يه بي كه»، ومن ثم صمتْ. ردّ عليه موسى مرةً أخرى، مستفهماً: «يعني هاي تهمة؟ إنت بريء منها.. مو؟!» ليرد سالم بطريقةٍ لا تُوحي بمعرفته خطورة ما يقوله: «لا.. لا، أنا فعلاً عميل للـ يه بي كي!». كان معنا في الحافلة أيضاً ثمانية أشخاص، غالبيتهم من اللاذقية، كان قد تم اعتقالهم في الميادين، وحُكم عليهم بأحكام اقتصادية، تقتضي دفع مبالغ محددة للتنظيم؛ فهم من مبايعي داعش.
الوصول إلى الرقة: سجنَا الاقتصاديات والنقطة 11 (سجن الملعب)
عندما شارفنا على دخول مدينة الرقة، عبر الجسر الذي دمره التحالف قبل ذلك بأيام، ليُملأ مكانه بالتراب كحلٍّ إسعافي، طلب منا السائق إعادة وضع الأقمشة على عيوننا للحيلولة دون معرفة الطريق المؤدي إلى السجن الذي سنُزجُّ فيه. وصلنا السجن الذي كانت واجهته عبارة عن باب سحّاب يشبه أبواب المحال التجارية. كان ذلك هو سجن «الاقتصاديات»، ووضعوا كلّ واحدٍ منّا في جماعية، بعد أن صادروا أماناتنا مرةً أخرى.
كان في جماعيتي الجديدة عشرة أشخاص، من حلب والرقة وليبيا وروسيا والعراق. كنت صائماً وقتها، ولم آكل شيئاً منذ الصباح، وكان قد قارب الوقتُ فترة العصر، فصليت مع البقية صلاة الجماعة، ولم نلبث كثيراً، قبل أن يتم استدعاء الواصلين حديثاً. سُلّمنا، أنا وحمود وموسى ورجلٌ يُدعى سالم، أغراضنا مرةً أخرى، ووضعونا في صندوق سيارة «سكودا». لم تمضِ السيارة كثيراً حتى توقفت، وسط شارع مليء بالحياة. قال لنا السائق الكبير في العمر، الذي كان يرتدي كلابية وعقالاً أحمراً: «شوفوا.. أسع تنزلون من السيارة، وبعد ما تنزلون عن عيونكم الطماشات، تمشون بشكل طبيعي إلى الأمام، وتركبون بالسيارة البيضا اللي قدامكم، وبس تفوتون بيها، رَجْعوا الطمّاشات على عيونكم».
مضى في البدء حمود، ومن بعده أنا، فشاهدت لثوانٍ معدودة الحياة في هذا السوق الذي كان يحجبه عن السماء شادرٌ وُضع للحيلولة دون رؤية طائرات التحالف لمن يمشي فيه من الدواعش. بعدها، وصلنا إلى ما يشبه البيت، بحسب ما تحسسته قدماي، فقد كنت ومن معي ما نزال معصوبي الأعين. قابلنا شخصين أخذا منا أماناتنا وسجّلا أسماءنا، ومن ثم التقطوا لنا صوراً شخصية، ومن بعدها، اتجهوا بنا نحو ما تهيّأ لي أنه قبوٌ تحت الأرض. رحنا ننزل عبر سلالم طويلة نحو الأسفل، واستغرق ذلك وقتاً ليس بالقصير، حتى ظنّنا أننا وصلنا الطابق العشرين تحت الأرض، ولكن بعد أن طال الوقت، أدركتُ بأن هذا الطقس مفتعلٌ، ونحن نمرّ على ذات السلم؛ بغية إشعارنا بالرعب، فقد كنت أسمع صوت الأطفال الذين يلعبون بالجوار مختلطاً بصوت الباعة الجوّالين، بعد أن وصلت إلى الجماعية التي وضعوني فيها، ومن ثمّ فصلوني عن الذين كانوا معي.
أول ما سألني عنه المسجونون في هذه الجماعية، هو عن شعوري أثناء نزول السلالم الطويلة، فأجبتهم بكل براءة، بأنني خلت نفسي ذاهباً نحو حتفي لا محالة، لينفجروا ضحكاً إثر ذلك، فقد كان الحاج الموصلّي «أبو سمير» قد لفظ الشهادة ورفع سبّابته حين مرّروه خلال تلك السلالم. كان في هذه الجماعية ستة أشخاص، وقد دعوني لمشاركتهم الطعام الذي كانوا يُعدّونه، لا سيما أنّي كنت صائماً.
بدأ الستة بالتعريف عن أنفسهم، وأولهم كان «أبو سلطان الحلبي»، صاحب الجسد الضخم، والذي كان معروفاً لمتابعي إصدارات داعش باسم «سيّاف حلب»، وتحديداً في مقطع الفيديو الذي يبثّ عملية «قَصَاصِ السَحَرة» بواسطة سيفٍ كان بيد أبو سلطان. أما السجين الثاني فهو شابٌ رقاويٌّ ثلاثينيٌّ اسمه «محمد العوض»، وكان يرفع رؤوس أصابع يديه نحو الأعلى كما لو كانت قد تعرّضت للحرق، غير أنّ السبب الحقيقي هو تعليقه من معاصم يديه مدة 12 يوماً متتالياً، وكان لدى محمد معرفة في تفسير الأحلام كما أخبرني. السجين الثالث كان تونسيّاً اسمه «عبد الله أبو اليمان»، والرابع هو «أبو سمير»؛ خمسينيٌّ عراقيٌّ من تركمان الموصل، وقد اعتُقل بسبب خلافٍ مع أحد التجار الذين يعملون مع داعش. أبو سمير كان قريباً من عراقيٍّ آخر كان معنا، وهو شابٌّ مبتور القدم في الثالثة والعشرين من عمره، وكان أميراً في داعش وشديد الفخر بامتلاكه لـ«سبايا». آخر النزلاء في هذه الجماعية كان «أبو معاذ المصري»، في السادسة والعشرين من عمره، وهو من مواليد القاهرة، اعتُقل بسبب خلافه مع نسيبٍ له من مدينة الباب، ليشكوه الأخير إلى أمنيّي داعش.
لقد كان وجودي وسط هذا الجو المليء بالنرجسيين الدواعش يزيد من صعوبة التجربة أضعافاً مضاعفة، فقد كنتُ بنظرهم واحداً من الرعاع غير العارفين بدينهم، وقاعداً عن الجهاد وجاهلاً في الفقه، كما أنّ عدم التزامي ببعض الوضعيات أو الحركات أثناء الصلاة جعلني أبتعد عن صلاة الجماعة معهم.
ذات صباح، استيقظتُ من حلمٍ قد أثار جزعي، وكوني اعتدتُ رؤية المساجين يقصدون «محمد العوض» لتفسير رؤاهم، فعلت الأمر نفسه، وطلبت منه أن يخبرني بتفسير الحلم إن كان خيراً، وأن يكتمه عني لو كان فيه شيءٌ سيء. ابتسم الشاب واستشهد بحديثٍ للرسول يقول فيه: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُبُوَّة إِلاَّ المبُشِّراتُ. قالوا: وَمَا المُبشِّراتُ؟ قَالَ: الُّرؤْيَا الصَّالِحةُ»، وأضاف أن الله ما عنده إلا الخير، فسردت له حلمي قائلاً: «كنت في سجنٍ جماعي كهذا، ومعي أبي وأمي، وفي حجري أخي الأصغر ألعب معه وأقبّله، وكانت أختي تبعد عني قرابة مترٍ ونصف. رأيت أبي خارجاً من السجن بعد أن أعطيته مالاً». وبدأ محمد بتفسير الحلم كالتالي: «وجود أهلك معك في السجن معناه أن حياتهم صارت سجناً على فراقك، ووجود أخيك الأصغر في حضنك، إنما هو يمثّل بلاءك وقضيتك التي هي سجنك، وذلك مرتبطٌ باسم أخيك.. ما اسمه؟ أجبت: حارث، فابتسم قائلاً: أتعرف معنى اسم أخيك! كذبتُ عليه وقلت لا، فأجابني: هو اسمٌ من أسماء الأسد؛ أي أنّ قضيتك صعبةٌ بعض الشيء». ثم أكمل: «بالنسبة لأختك التي تبعد عنك قليلاً، فإنما هي تمثّل فَرَجَكَ إن شاء الله، ما اسمها؟ أجبته: ملاك، فابتسم وقال: فرجك آتٍ، إنما تحتاج للقليل من الصبر، أخيراً وبخصوص إعطاءك المال لأبيك، فإنّ ذلك خبرٌ قد بعثت به إليه وقد وصله، أما خروج أبيك من السجن، فهي مساعيه في إيجاد خبر عنك». ارتحتُ كثيراً لما قاله وصدّقتُه، لاسيما أنّي كنت قد بعثت فعلاً بخبرٍ إلى أبي مع سجينٍ كان معي في سجن التأمينات بديرالزور، ويبدو أنه قد أوصل الأمانة فور خروجه.
في حادثةٍ طريفة، جرى إدخال معتقلٍ جديد إلى الجماعية، وكان فلسطينياً من الخليل، ويدعى «أبو حذيفة المقدسي»، وأثناء تعارفه علينا بدا لأبي سلطان بأنه يعرف هذا الصوت قبلاً، فسأله: ألست من كنت تدير مجموعةً ما على تطبيق «الزيلو» مذ كنت في فلسطين، وكان اسمك «أسد الخلافة»؟ فأجابه المقدسي: «صحيح، بس ما عاد في أسد يخوي.. عملوني أرنوب!».
في هذه الأثناء، تمّ التحقيق معي ثلاث مرات من قبلِ محققٍ يدعى «أبو عائشة»، وكان قد أعاد عليَّ كل الأسئلة التي طُرحت في ديرالزور، وتعرضتُ للإهانة والضرب بسبب إنكاري لتهمة الضلوع في إرسال معلومات أو إحداثيات لمقارّ الدولة الإسلامية للتحالف الدولي كي يستهدفها. بعد ذلك نقلت من هذا السجن الذي علمت بأنه «النقطة 11» أو «سجن الملعب» ذائع الصيت.
سجن العمالة
نُقلنا إلى سجنٍ آخر ضمن مدينة الرقة للمرة الثالثة، مع الإجراءات الروتينية نفسها، المتمثّلة في مصادرة الأمانات وتسجيل الأسماء وإبعادنا عن بعضنا بعضاً من خلال توزيعنا على مهاجع ومنفردات مختلفة. اقتادني السجان «عمر»، الشاب الصغير، إلى جماعيةٍ لها بابٌ حديديٌّ مُغطّىً بشبك، واستغرق وقتاً لفتح الباب. عند دخولي كان جميع المساجين متجهين نحو الحائط، في انتظار أمر السجان المراهق ليسمح لهم بأخذ راحتهم في الجلوس. كان عدد المعتقلين هنا خمسة أشخاص، وكانوا متلهّفين لمعرفة شخصية وقصة صديقهم الجديد، وكذلك لسماع أخبار جديدة من الخارج، لا سيما وأن التحالف بدأ عملياته ضد داعش في الرقة مطلع العام 2017. كان أجمل ما في الجماعية هو وجود إبريق شاي يعمل بالكهرباء، فضلاً عن كوّةٍ في الحائط تتسرب منها أشعة الشمس التي لم أرها منذ اعتُقلت.
كان لأصدقائي الجدد قصصهم المليئة بالظلم: «يوسف عرب»، رقاويٌّ تركماني مرّ على اعتقاله بتهمة العمالة ستة أشهر، ولطالما كان يبكي شوقاً لعائلته، وخصوصاً لابنته أسماء، أو «أسّومة» كما يحب أن يدعوها، وكذلك كان معي «عبد الرحمن قبلان» من الرقة، المعتقل منذ خمسة أشهر بالتهمة ذاتها. كان هنالك «عايد» أيضاً، رقاويٌّ كان يملك محلاً للصيرفة وسط الرقة، وتهمته المزعومة هي تسليم مبلغ من النقود لعميلٍ للتحالف. من الأساليب التي اعتمدها الدواعش مع «عايد» هي وصل هاتفه الجوال بالإنترنت، وتحميل مقاطع صوتية كان أرسلها طفله عبر واتساب، يسأله بها عن حاله بلغةٍ بريئة، مذيلاً كل جملة بكلمة «أبوي»، لينفجر عايد بالبكاء في كلّ مرة. كان لذلك أثره الكبير على الرجل، ومما زاد عذابه النفسي رؤيته مشاهد موت رجلٍ خمسيني مريض بداء السكري، كان مُعلقاً معه في بداية اعتقاله. لقد مات هذا الشخص بعد أن رفض السجان إعطاءه كأساً من الماء.
كنتُ قد علمت بأننا في سجن العمالة الواقع بالقرب من مسجد الإمام النووي في الرقة، من خلال أبناء الرقة الذي يعرفون صوت المؤذن. في هذا السجن ذهبت للتحقيق مرةً واحدة، وكانت الأسئلة روتينية، قبل أن أُعرض على القاضي العراقي المعروف بـ«قاضي قضاة الشام». اختصر القاضي حديثه معي بالقول: «ليش فوتت حالك بهالمعترك هذا؟» ومن ثم صرفني. في الأثناء ذاتها كانوا قد عرضوا موسى على القاضي أيضاً، وبعد ثلاثة أيام، تم أخذي إلى غرفة التحقيق، وكان قد تم إدخال موسى قبلي، ليتمّ إطلاعنا على الحكم الذي صدر في قضيتنا. شرع القاضي بالقول: «بدكم تعرفون حكمكم مو؟ شنو بدو يكون حكم المرتدين.. ها؟» حينها، لم ننبس ببنت شفة، فأكمل حديثه: «حكمكم حضور دورة استتابة مفتوحة بأحد الجوامع». بقيت لبضع ثوانٍ لا أعي ما أسمعه، إذ لم أكن بانتظار شيءٍ غير الموت على يد هؤلاء المعاتيه، قبل أن أسمع موسى يحمد الله على ذلك، ويشرع بالبكاء فرحاً، ويطلب من المحقق أن يسمح له بأن يسجد لله حمداً وتسبيحاً، فلمّا سمح له، أخذنا نسجد بلا وعيٍ لاتجاه القبلة، حتى نبهنا لذلك المحقق، فنحن ما نزال معصوبي الأعين. بعدها تمت إعادتنا إلى الجماعية سويةً، وللمرة الأولى أجتمعُ مع موسى، وقد علمت منه أنّ حمود قد أُطلق سراحه قبلنا.
سجن الميادين: إطلاق السراح
مكثنا ثلاثة أيام بعد مقابلة القاضي قبل أن يأتينا السجان «عمر» في الصباح الباكر، طالباً منا تجهيز أنفسنا للذهاب، أنا وموسى وسالم، الشاب الذي قدم معنا من ريف الدير. تمّ اقتيادنا إلى سيارة «فان»، وبخلافنا كان سالم موثّقاً بالأغلال، فقد حكم القاضي بقتله، بعد أن قال له: «تُبْ إلى الله، وأكثر من الاستغفار»؛ العبارة التي تعني الحكم بالقتل. كان معنا في السيارة امرأةٌ مصريّةٌ وزوجها المغربي وطفلهما، وقد كانت المرأة معتقلةً معنا بذات السجن، وكنا دائماً نسمع صراخها وتوبيخها للسجانين.
مضت السيارة بنا مروراً بنهر الفرات قريباً من ديرالزور، حسب ما فهمناه من المصرية التي لم يعصبوا عينيها، فهي استطاعت رؤية جسر السياسية عند مدخل مدينة دير الزور الشمالي. وصلنا بعدها إلى ڤيلا بمدينة الميادين كانت عبارةً عن سجن، وتمّ وضعنا مع بعض، أنا وموسى، في جماعيةٍ فيها 15 شخصاً آخرين. كنا في حالٍ يُرثى لها، فهذا سادس السجون التي تنقلنا فيما بينها، كما اعترانا الخوف من إعادة التحقيق معنا وتعذيبنا انطلاقاً من الصفر. مضت ليلةٌ واحدةٌ على وجودنا في هذا المكان المغلق بالكامل، فقررت أنا وموسى سؤال المحقق عن حالنا. رد قائلاً: «أنتم إن شاء الله الظهر راح يتم إخلاء سبيلكم»، فسألته بخصوص دورة الاستتابة التي فُرضت علينا، فردّ: «لازم تعملونها بأقرب جامع على بيتكم.. جهزوا حالكم، عند الظهر راح تطلعون».
خرج المحقق من الغرفة، ليغمر قلبينَا الفرح، وصلينا ركعتي شكرٍ لله، قبل أن يعود المحقق أبو عبد الرحمن، مصطحباً معه أماناتنا، ويأمر بإصعادنا السيارة؛ أنا وموسى وشخصٌ ثالثٌ لم نكن نعرفه. مضت السيارة بنا طويلاً حتى لا نحفظ مكان السجن الذي كنا فيه، ثمّ توقفت ليُفتح بابها الخلفي. طُلب منا خلع الطماشات والنزول. وجدنا أنفسنا في الحارات المجاورة لسوق مدينة الميادين، وكان أحد المارة قد استهجن مناظرنا؛ لحىً وشحوبٌ وتوجّسٌ من أشعة الشمس، فأدرك وضعنا، وعرض علينا إيصالنا إلى حيث نريد، فطلبنا منه التوجّه بنا إلى الكراجات، ومنها توجهنا إلى بيوت أهلنا بعد غيابٍ دام أربعة أشهرٍ ونصف.
كانت مسألة حصولي على الحرية، أنا ومن معي، أمراً مستحيل المنال، لا سيما وأنّنا صرنا «مرتدين» لدى هؤلاء المسوخ، فكلٌّ الذين يُطلق عليهم هذا الحكم يصيرون في عداد المعلّقة رؤوسهم على أعمدة ساحات الدير، بتهمةٍ جاهزة هي العمالة، ولكنّه قدر النجاة الذي أصابنا، ولم يصب كثيرين ممّن قابلناهم في تلك السجون، ولم يعودوا حتى اللحظة إلى أهلهم في كل من الرقة ودير الزور.