انتبهوا إلى الكنوز التي لا يطالب بها أحد
– جورج حنين
الناقد المُعنِّف
في لقاء تلفزيوني أدارته الإعلامية ليلى رستم في منتصف الستينيات، جلس الأديب طه حسين متصدّراً عشرة كتّاب مصريين كان قد بدأ يلمع اسمهم في مجالي الأدب والصحافة. تناوب المحاورون على طرح الأسئلة على طه حسين حول القضايا الفكرية التي شغلت الحقل الثقافي العربي في تلك المرحلة، ومنها ثنائيات فكرية كالفصحى/ العامية والرمزية/ الواقعية، إضافةً إلى مفهوم الالتزام في الأدب كما تصوّره جان بول سارتر وكما وصل إلى العالم العربي محمَّلاً معانيَ ثورية ألهمت جيلاً من المفكرين اليساريين حتى وقوع حرب 1967.
فرضت مكانة طه حسين جواً من الرهبة على الحلقة، وبدا التوتّر واضحاً لدى الكتاب المحاورين الذين أدركوا سريعاً أنهم ليسوا هناك لمناقشة طه حسين، بل لمجرّد استفتائه حول قضايا الساعة. في ختام الحلقة، طلب المفكر الماركسي محمود أمين العالم الكلام، وطرح سؤالاً على طه حسين بعبارة لبقة وحذرة، وبعامّية فصيحة، يطلب فيها رأي عميد الأدب بالتجارب الأدبية الجديدة. يسأل محمود العالم:
إيه رأي دكتورنا في أدب الجيل الجديد؟ الدكتور طه حسين دائما بيعَنِف، في الحقيقة، بأدباء الجيل الجديد ونحن نرى في عنف الدكتور طه حسين بهم نوع من الأبوة الكبيرة والأستاذية الكبيرة، بل يمكن عنف الأستاذ طه حسين بهم هو عنف الدكتور طه حسين بنفسه. حقيقة، نحن نتربّى بهذا العنف ونتعلّم منه. ولكن ما رأي الدكتور طه حسين في ما أضافه هذا الجيل الجديد للأدب؟ هل أضاف إضافة جدية لتراثنا العربي أم لم يقدّم شيء؟ (…) يشرّف الجيل كله لو الدكتور طه حكم علينا، وطبعاً، هو حكم منصف.
فيجيب طه حسين بعبارة فصيحةٍ حازمة:
أتمنّى دائما للكتاب الجدد أن يقرأوا بمقدار ما يكتبون وأن يقرأوا قبل أن يكتبوا. وآخذ عليهم أنهم قليلو القراءة جداً ولا يحبون أن يتعمقوا شيئاً. أي هؤلاء الكتّاب الجدد قرأوا الأدب العربي القديم؟ ومن يعرف منهم لغة أجنبية؟ أظنّ أن الذين يقرأون منهم أدب هذه اللغة أو بعض ما ترجم إلى هذه اللغة من آداب اللغات الأخرى، اظنّ أن هذا نادر جداً. وعلى كل حال، ما يكتبون لا يدلّ على ثقافة واسعة وعميقة. وأستثني من هؤلاء محمود العالم. أنت لا تُعدّ مع الشباب الذي لا يثقّف نفسه.
كان محمود أمين العالم قد دخل قبل ذلك بسنوات قليلة في سجال كبير مع طه حسين حول ماهية الأدب شكّل مفهوما الالتزام والواقعية الإطار النظري الذي دفع بروائيين اشتراكيين لإزاحة من سبقهم من أدباء، أبرزهم طه حسين، كانوا قد دعوا إلى تحييد الأدب عن الصراعات السياسية، لاسيما الطبقية منها. يلخّص محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس السجال مع طه حسين في مقالتهما «الأدب بين الصياغة والمضمون». في الثقافة المصرية، القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1955: 39-45. كما كان قد خرج لتوه أيضاً من السجن بعد معارضته لهيمنة مصر على سوريا خلال الوحدة. ولكن بالرغم من وقوفه بوجه قطبي الثقافة والسياسة المصريين المتمثّلين بطه حسين وجمال عبد الناصر، لم يشأ العالِم المسّ بامتيازات عميد الأدب. فتوجّه إلى طه حسين بعبارات تشكّل دعائم خطاب نقدي يضع الأبوة («الأبوة» و«الأستاذية») شرطاً للتأديب ومسوِّغاً للعنف، مانحاً بذلك طه حسين الكلمة الأخيرة في تقييم وتقويم جيل جديد من الكتاب المصريين. فصدر حكم الأب-الأديب، وكان حُكماً قاسياً.
بدا ارتباك معدّ الحلقة، الكاتب أنيس منصور، واضحاً وهو يمسح عرقه، فيما ركّزت الكاميرا على وجوه الكتّاب الجالسين أمامه كيوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي وهم يتساءلون إن كان الحكم يشملهم. اللافت أن التعنيف طال أيضاً نجيب محفوظ قبل عقدين من حصوله على جائزة نوبل وتصدّره الحقل الثقافي العربي. فتوبيخ طه حسين، وإن استثنى محمود العالم، أطاح بجيل كامل من الأدباء القوميين واليساريين الذين نَسب إليهم الجهل بتراثهم العربي الإسلامي أولاً، وبتراث الأدب العالمي ولغاته ثانياً، يختتم طه حسين الحلقة وكأنها العشاء الأخير، يضع فيه المثقف-النبي وصاياه حول اللغة والتراث والآداب العالمية لمن سيليه من كتّابٍ، آملاً أن يتّخذوا النهج عينه وأن يصبحوا رسلاً يؤتمنون بدورهم على الرسالة.
لهذا النقاش التلفزيوني دلالات عدّة حول مكوّنات الخطاب النقدي كما تجلّى في تلك المرحلة. فقد جسّد طه حسين في الحلقة دور الأديب الذي راكم رأس مال رمزياً لا يخوّله الحكم على من جاء بعده وحسب، بل أيضاً تأديب كلّ من خرج عن النهج الأدبي الذي وضعه، أي الانغماس العضوي بالتراث العربي واستقاء مكوِّنات منه تنهض بالعرب نحو حداثة قائمة على التواصل مع لغات الغرب وآدابه. لقد برز حقّ صاحب رأس المال الرمزي بتأديب جيل جديد من الماركسيّين المعنيّين بمادية النص الأدبي وارتباط الشكل بالمعنى. كما برزت ثنائية الفصحى والعامية، وعملية المد والجزر بين دعاة المزج بين المستويين اللغويّين في العمل الأدبي وآخرين كطه حسين يقبلون بالمحكيات في حالات خاصة محصورة، ويرون في تسيّد المستوى الفصيح من العربية بداية تحقيق الوحدة بين الجماعات العربية.
رغمَ أنّ هذا النقاش قد بُثّ منذ نصف قرن، فإنّه لا يزال راهناً. فهو يحاكي بعض الخطابات النقدية المعاصرة التي تستند إلى سلطة الناقد الأبوية لتأديب نصوصٍ وتجاربَ طرحتْ مفهوماً مغايراً للّغة والقول السياسي. في ما يلي أمثلة عن تجلّي مثلث الأب-الأديب-المؤدِّب في أربع مقاربات نقدية لا يتبنّاها نقّاد أدبيون وحسب، بل أيضاً مؤرخون وقانونيون وناشطون في الحقل الثقافي يتولّون مهامّ الناقد، فيستخدمون اللغة معياراً والعنف منهجاً في عملية التقييم الأدبية.
الناقد المُطهِّر
كان لنشأة مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1932 دورٌ في وضع تصوّر للغة العرب ومنهجية للحفاظ عليها في عصر الحداثة. ارتكزت النشاطات البحثية إلى مفهوم النقاوة اللغوية، فشدّدت على قواعد النحو، وعادت إلى المعاجم، وشككت بالدخيل والأعجمي، وتمسّكت بأصيل المصطلحات. وكان لطه حسين مواقف عدّة حول دور اللغة العربية في مسيرة تنوير العرب. فرأى طه حسين في الفصحى لغةً للتواصل بين العرب، لكن أيضاً لغةً مشتركة بين الطبقات الاجتماعية بحيث لا تغدو فقط لغة الأعيان والعلماء.راجعوا، مثلاً، المقالة الطويلة التي نشرها طه حسين حول هذا الموضوع والتي يضع فيها تصوره حول أهمية الفصحى في التعليم الرسمي وضرورة تيسير قواعد النحو. طه حسين، <اللغة الفصحى وتعليم الشعب>، المجمع العلمي العربي (1)1957: 44-57. ودعا مراراً إلى تيسير قواعد اللغة كي لا ينفر منها متعلموها فتصبح في طي النسيان. ولكن بالرغم من انفتاح طه حسين على تحديث قواعد النحو، إلا أنه حذّر من انسلال العامية إلى النص الأدبي، كي يبقى الأدب لغة التواصل لدى الشعوب وفي ما بينها.
قدّم طه حسين في عدد من النقاشات والسجالات اللاحقة قليلاً من التنازلات في هذا المجال، فلم يمنح الكتّاب الحق في الجنوح إلى العامية إلا في حالات محصورة جداً. كما أبقى عميد الأدب على الفصحى لغةً للحوار في مسرحياته المعرّبة، راجياً الجيل الجديد من الكتاب أن يتّبعوا هذا المنهج. إلا أن معتنقي الواقعية الاشتراكية من جيل العالم وإدريس بدأوا يرون في المحكيات مكمن الوعي الطبقي ومخزناً للقول السياسي الذي يجب أن يوضع في صلب النص الأدبي. أعاد هذا النقاش التأكيد على أن المواقف المتنوعة من ثنائية الفصحى والعامية ليست متّصلة باللغة وحسب، بل برؤية الكاتب الإيديولوجية للعالم أيضاً. فكانت تجارب عديدة لكتّاب غامروا في اختبار العامية لغةً روائية ومسرحية.
في العقدين الماضيين، عادت إشكالية العامية إلى النقد الأدبي في لحظة تحوّل تكنولوجي وسياسي في العالم العربي. ومن أسباب بروز العامية، كما ترى تيريزا بيبي، ابتعاد الكتّاب الجدد عن دور النشر الرسمية وخوضهم غمار روايتهم الأولى في دور نشر صغيرة هامشية محدودة الانتشار.Pepe, Teresa. “Mixed Arabic as a Subversive Literary Style [2005–2011], in Philologists of the World: A Festschrift in Honor of Gunvor Mejdell. Eds. Rana Issa & Nora S. Eggen. Oslo: Novus Vorlag, 2017: 363-394. فأدّى التحول في اقتصاد النشر في مصر إلى تكاثر نصوص سردية تضع العامية في صلب النقد السياسي. لعلّ أبرز هذه التجارب اللغوية وأكثرها إثارة للسجال هي أن تكون عباس العبد (2003) لأحمد العايدي ولصوص متقاعدون (2009) لحمدي أبو غليل ونساء الكرنتينا لنائل الطوخي (2013)، وغيرها من الروايات التي أضاءت فيها العامية على سرديات طبقية ومحلية كانت قد شذّت عن أقانيم المكرّس الأدبي العربي، فأُسقطت منه.نجد في عدد كبير من الكتابات النثرية والشعرية المعاصرة محاولات لاسترجاع الفصحى من خطابات سلطوية، دينية أم إيديولوجية، كانت قد أفرغت الفصحى من قدرتها على القول السياسي، وذلك عبر وضع تصوّر جديد لدور العامية أو الفصحى في القول السياسي. فلم تُستعَد الفصحى من أدراج النظام وحسب، بل تمّ التصالح أيضاً مع العامية كمستوى لغوي قابل للتسييس وقادر على القول الثوري. فتظهر المحكيات في عدد من الأعمال الأدبية المعاصرة قولاً بديلاً عن سطوة الخطاب القومي بطوره السلطوي الذي لطالما عتّم على التجارب الأدبية المحلية، وخصوصاً تلك المناهضة له.
أثارت أخيراً رواية نادية كامل المولودة (2018) سجالاً أعاد النقاد فيه طرح ثنائية الفصحى والعامية في الأدب. فالرواية التي تصفها كامل بـ«الرواية التسجيلية» جاءت بالعامية، تحديداً بعامية والدة نادية، المصرية ذات الأصول الأوروبية. غداة نشر الرواية، عاد طه حسين طيفاً ليحذّر من تداعيات تسلّل المحكية إلى الأدب. وما زاد السجال حدةً هو حصول نادية كامل على جائزة ساويرس الأدبية، فازداد القلق من مغبة تكريس رواية عربية كتبت بالمحكية. فكان لعدد من النقاد والمشتغلين في الحقل الثقافي المصري آراء مشككة ورافضة لمنطق النشر بالعامية أولاً، ولمنطق مكافأة رواية لم تقم على المكوّن الأساسي للجماليات الأدبية، أي اللغة الفصيحة، ثانياً. كما زعم بعضهم مخطئاً بأنّه ما دام ليس للمحكية قواعد، فهي إذاً ليست صالحة للتدوين والسرد، فيما شجب آخرون ما ظنّوه انحطاطاً في الأدب وتراجعاً في المعايير النقدية التي اتبعها محكّمو جائزة ساويرس، فنُسبت إلى الرواية «الركاكة».
كان لعالمة اللسانيات مديحة دوس رأيٌ مختلف في ما وصفته بـ«الخناقة اللغوية»، ففنّدت جميع الحجج التي وُظِّفت تاريخياً في سبيل نقد رواية نادية كامل، مستعينة بأمثلة من التراث الأدبي العربي تتشابك فيها مستويات لغوية مختلفة. وتحدثت نادية كامل، بدورها، عن السجال اللغوي الذي رافق الرواية قائلةً إن «التحقير من العامية طريقة للرقابة وفرض الوصاية»، مضيفةً أن «العامية ليست فصحى ركيكة، العامية أداة تعبير مستقلة بذاتها». يشير القلق الذي أفصح عنه النقد الذي تناول الرواية وجائزة ساويرس إلى أن القضية لا تتوقّف على مواقف متباينة من اللغة والأدب، بل تصل إلى حدّ التباين في الرؤى السياسية، أي في الإجابة على السؤال الأزلي الذي كان قد وضع أسسه جان بول سارتر: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟
لعلّ أسباب التعنيف النقدي الذي طال رواية نادية كامل وعدداً كبيراً من التجارب الروائية المعاصرة لا تكمن في إشكالية العامية كمستوى لغوي غير رصين، بل في المحتوى السياسي الذي يفصح عنه هذا المستوى. بمعنى آخر، قد يكون الاستنكار المصاحب لرواية نادية كامل وحصولها على الجائزة متصلاً بالقول السياسي المتأصل في الرواية والذي يخشى النقاد تكريسه. فالرواية التي تصفها كامل بـ«التسجيلية» خارجة عن السرديات الإيديولوجية المكرسة. هي قصة أمها، ماري روزنتال المعروفة بنائلة كامل، والدها يهودي مصري من أصول أوكرانية ووالدتها إيطالية كاثوليكية هاجر أهلها من مصر فيما بقيت هي ناشطة في العمل الشيوعي إلى جانب زوجها سعد كامل. لا تستعيد الرواية حياة نائلة كامل وحسب، بل تعود بنا إلى تجربة مصر في مراحل سياسية وإيديولوجية عدة، منها العصر الكوزموبوليتي المتخيّل الذي سبق قيام جمهورية يوليو، وتجارب نائلة في السجون الملكية والجمهورية معاً، ثمّ عصري السادات ومبارك، وصولاً إلى ثورة يناير. فالسؤال المضمر التي تحاول الرواية طرحه، والذي ربّما يكون النقاد قد أدركوا تداعياته جيداً: هل الفصحى قادرة على التعبير عن ذاكرة فردية ملونة بتجارب وهويات عابرة للحدود القومية الأيديولوجية؟ وهل باستطاعة الفصحى نقل محكية امرأة اختزنت لكنات تعكس جذورها اللغوية المتنوعة وانتماءها السياسي؟ في المحصلة، قد يكون العنف النقدي الذي طال الرواية ليس إلا محاولات سلطوية للتعتيم على سرديات ممنوع تدوينها حرصاً على تماسك السرديات الرسمية الكبرى، أو بالأحرى خوفاً على هشاشتها.
الناقد القومي
قبل عام من صدور أرابيسك (1985)، الرواية الفلسطينية التي كتبها أنطون شمّاس بالعبريّة، والتي أقلقت الدوائر الأدبية العربية والإسرائيلية على حدّ سواء، شبّه شمّاس كتابته بالعبرية بحُلوله ضيفاً على اللغة.See interview with Anton Shammas and Muhammad Siddiq. “Introduction and Dialogue with Anton Shammas.” Alif: Journal of Comparative Poetics. 20 (2000): 155-167. ضيفٌ، يقول شمّاس، «يأتيك إلى العشاء لتجده، بعد انتهاء الوجبة، في المطبخ يغسل الصحون مستمتعاً على طريقة هارولد بينتر، متعةَ من قد يكسر أي قطعة جميلة من غير قصد». يضيف شمّاس لاحقاً، «وفي الصباح التالي، يكون قد بدأ يستولي على المكان». بقدر ما تخبرنا استعارة أنطون شمّاس عن حكاية الضيف الذي يحتلّ تدريجياً لغة الآخر في سبيل استعادة أحقيّة القول فيها، فإنّها تتركنا حائرين بشأن بيت الضيف اللغوي الأول والأصيل. فالسؤال هنا، هل يحتفظ الضيف بملكيّته للحيز الذي ما عاد يشغله في لغته الأمّ؟ بمعنى آخر، هل يُبقي الكاتب-الضيف على مكانه في لغته الأم والحقل الأدبي الذي ينشأ في غيابه؟
كثيرة هي الأمثلة التي تدل على التشكيك النقدي بالسرديات التي تروى بلسانٍ الآخَر المستعمِر. آسيا جبار هي إحدى الكاتبات اللواتي استطعنَ في نصوصهنّ الفرنسية تقويض سردية المستعمِر عبر استملاكها وإضافة لكنةٍ سياسية إليها تستبدل سردية الاستعمار بسردية جزائرية عربية نسوية مغايرة. ولكن بالرغم من تمسكها بالقول السياسي شرطاً للكتابة السردية، بقيت جبّار خارج المكرّس الأدبي العربي. فلم يترجم من أعمالها إلا قليلها، كرواياتها الأولى وبعض أعمالها الأخيرة. باستثناء ذلك، ظلت آسيا جبار فرنسية، تتنقل في الدوائر اللغوية والأدبية الفرنكوفونية، فيراها الحقل الثقافي العربي رحالةً فرنسيةً ذات لكنة عربية، بعيدة كل البعد عن المُكرَّس العربي والقومي الذي ارتكز إلى العربية دون غيرها من اللغات المحلية (الكردية أو الأمازيغية مثلاً) لغةً للقول السياسي.
تحاكي تجربة آسيا جبار في الأدب العربي الفرنكفوني تجربة الروائي المصري ألبير قصيري الذي حلّ ضيفاً على بيت اللغة الفرنسية ولم يتركه يوما. كتب قصيري رواية مصرية بلسان فرنسي فصيح. كان قصيري قد استقرّ في باريس بعد انتهاء تجربته مع مجموعة «الفن والحرية» التي جمعت فنانين وأدباء مصريين سورياليين في الثلاثينيات نشروا بيانهم الشهير «يحيا الفن المنحطّ!». ولكن بعدما انتقل قصيري إلى باريس، انخرط في حقل أدبي أوروبي يعيد بناء نفسه على أنقاض تيارات أدبية قوّضتها الحرب العالمية الثانية، فتبنّى الفرنسية ليسرد قصة مصرية.
ألبير قصيري
لكن قصيري، وإن امتلك اللغة الفرنسية تماماً، فإنه غالباً ما عبث بروحيتّها معيداً تركيب أجزائها على هواه، مغرقاً فرنسيته الفصيحة بلكنة عربيّة مزخرفة وبعبارات من السَّجَع العربي المُفَرنَس.خُذوا على سبيل المثال عنوان روايته الأخيرة غير المكتملة “Une Epoque de Fils de Chiens”. وهو عنوان في جملة فرنسيّة سليمة، إنّما يُقرأ وكأنّه بالعاميّة المصرية <زمن ولاد الكلب> محصلة قصيري، أذاً، رواية مصرية سردها بالفرنسية جعلت النقّاد يتساءلون إن كان قصيري يكتب «أدباً مصرياً بالفرنسيّة أم أدباً فرنسياً في مصر»Creswell, Robyn. ‘Undelivered: Egyptian Novelists at Home and Abroad’. Harper’s Magazine, February 2011:77.. يعود لنا السؤال إذاً بصيغة جديدة: أين مكمن القلق في صعوبة تصنيف قصيري لغوياً وأدبياً؟
قد لا تكمن الإجابة في إشكالية الكتابة بالفرنسية، بل في القول السياسي الذي تتيحه الكتابة بالفرنسية. فلم تُثر لغة قصيري الروائية وحدها قلق النقّاد، بل أيضاً سخريته من الإيديولوجيا. فالمقاربات الواقعية أو الوجودية التي تربّعت على عرش الحقل الأدبي العربي منذ بداية الخمسينيات صوّرت الكاتب كما نظّر له جيل محمود أمين العالم وجان بول سارتر من قبله، ككاتب ملتزم يتمتّع بوعي اجتماعي ويعبّر عن آمال مجتمعه الوطنيّ وآلامه، ملتزماً بنهج الواقعية الاشتراكية. ولكن شخصيات قصيري رفعت شعار الصعلكة والسخرية والألاعيب والمقالب والأكاذيب والفكاهة، واحتفت بالخمول وتغنّت بالكسل ولم تخفِ تململها من سطوة الخطاب الاشتراكي الثوري والواقعي الذي تسيّد الحقل الثقافي المصري بعد قيام جمهورية يوليو وبروز تصدّعاتها. فموقع قصيري اللغوي البعيد والمغاير فرض عليه استحالتين: لم يكن فرنسياً بما فيه الكفاية بحكم مخياله الأدبي الذي أخذ به إلى مصر، ولم يكن مصرياً بما فيه الكفاية بحكم لسانه الروائي وإلحاده الإيديولوجي.
قد يكون شطط قصيري عن الإجماع الإيديولوجي هو الذي منع عنه الإجماع النقدي. فلم تحظَ أعماله باهتمامٍ نقدي في مصر إلا في لحظات قليلة ومتباعدة تكثفت غداة موته سنة 2008. وكما في حالة آسيا جبار، لم تعرَّب أعمال قصيري الكاملة إلا مؤخراً. ويعود ذلك إلى ما سمّاه ريشار جاكمون «الرقابة بواسطة الإهمال»، أي عملية إسقاط كتّاب الشتات كقصيري ووجيه غالي وجورج حنين من المكرَّس المصري عبر تجاهل أعمالهم وعدم نقلها إلى العربية. يتجلّى هذا الإهمال لدى مقارنته بالعدد الكبير من الكتّاب الروس والفرنسيّين الذين تُرجمت أعمالهم في الستّينيات بمبادرات أغلبها رسمي. راجعوا تحليل ريشار جاكمون لسياسات الترجمة الرسمية في نظام عبد الناصر. Jacquemond, Richard. Conscience of the Nation: Writers, State, and Society in Modern Egypt. Translated by David Tresilian. Cairo: The American University in Cairo Press, 2008: 119–20. وكما آسيا الجبار، لم يحظَ قصيري بتكريم رسميّ في بيته إلا بعد وفاته حين أصدر المركز القومي للترجمة طبعة مُعرَّبة عن دراسة بحثية حول أعمال قصيري. فعاد قصيري إلى مصر كاتباً فرنسياً مُكرّساً، عرّفت عنه الصحف العربية بعناوين متشابهة مكررة، فلُقِّب بـ «رسول الكسل» أو «صاحب فلسفة الكسل» وكأن النقاد تمسّكوا بمفهوميْ الكسل والسخرية كمقاربة وحيدة ونهائية لقراءة رواية قصيري.
لم يُقرأ قصيري بشكلٍ كافٍ عربياً، أي أن النقاد، وإن تحدثوا عن إسهاماته، لم يضعوا أعماله في سياقها العربي. ولكن بالرغم من ذلك، برزت بعض الأصوات التي تجرّأت على طرح السؤال حول تداعيات قراءة أعمال قصيري بأسلوب مقارن، أي من داخل المكرّس الأدبي. وقد أشار محمد شعير إلى لبّ الإشكالية عندما تساءل: «ماذا ‘لو’؟ لو بقي قصيري منافساً لمحفوظ في مصر، أما كان تغير شكل الرواية العربية؟»
يؤكد سؤال شعير الافتراضي على مركزية اللغة في الممارسة النقدية والتكريس، فيعود إلينا طيف أنطون شماس مرّة أخرى. فذاك الذي حلّ ضيفاً مؤقتاً على العبرية، كتب حكاية الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم بعد النكبة منفيّين من جغرافيّتهم العربية الأوسع إلى الدولة الصهيونية، لا بل إلى هامشها. وإن كان شماس قد نشر روايته سنة 1985، أي في لحظة خاصة جداً من التاريخ الفلسطيني، إلا أنها لا تزال تحاكي ذاكرة فلسطينيي الداخل اليوم. فهل ستُترجم أرابيسك من العبرية إلى العربية، وهي التي استُقبلت في العالم العربي بحذرٍ في أحسن الأحوال؟ وإن حصل ذلك، هل ستجد مكانها في سردية الفقدان الفلسطينيّ الأوسع، إلى جانب أعمال الياس خوري وفدوى طوقان ومحمود درويش؟
لمّا كان ضيوف اللغات غير العربية يكتبون بلغات وأنساق ذات حمولة سياسية، فإنّهم يزيحون العربيّة اداةً وحيدة لرواية تجربة الحاضر العربية، لا بل يقدمون طرحاً مغايراً سياسياً، تحديداً لأنه مغايرٌ لغوياً. بمعنى آخر، إنّهم قادرون على تصوّر سردية بديلة بفضل ابتعادهم عن بيتهم اللغوي الأصلي. فاستعادتهم اليوم عبر الاقتباس والترجمة والقراءة المتأخرة تعني استعادة السردية التي لم تُقل بالعربية والتي ستقلق، بحكم اختلافها، سُكون الناقد القومي والمكرّس الأدبي العربي القائم على ملاءمة اللسان العربي للقول القومي والاشتراكي والواقعي.
الناقد الرصين
من الخطابات النقدية المؤدِّبة نوعٌ يتميّز في قدرته على وضع العبارة الرصينة والدقّة اللغوية معياراً للنقد، فيما ينسب إلى النصوص التي لا تستوفي شروط الرصانة صفة «الركاكة». تشير رنا عيسى في معرض بحثها عن مفهوم «الركاكة» وتبلوره في الفكر النهضوي، إلى أن المفهوم برز كآلية خوّلت مفكّرين مسيحيين من سوريا الكبرى أن يتمايزوا عن أسلافهم من العلماء المسيحيين الذين استقوا عربيّتهم من مستويات لغوية مختلفة من المحكيات ولغات النص الديني المسيحي. كما كانت الركاكة أيضاً وسيلة لمحاكاة التمايز اللغوي الذي لطالما رفع من شأن العلماء المسلمين. فجاء مفهوم النقاوة اللغوية في هذا السياق أداةً تأديبية فعّلت القطيعة مع الماضي العثماني والمملوكي القريب والمتنوع لغوياً، وشددت على التواصل مع ماضٍ بعيدٍ متخيّل يدعمه مفهوما الأصالة الثقافية والنقاء اللغوي. فقامت عيسى بقراءة معمّقة للسجال الشهير الذي جمع ابراهيم اليازجي بفارس الشدياق، النهضويّين اللذين دأبا على التعريف بالركيك: هل هو المخطئ في النحو أم في الاصطلاح؟
بالرغم من حدّة السجال بين الشدياق واليازجي، والاختلاف في موقفيهما من الركاكة، بقيت «الركاكة» مقياساً للقول النهضوي وأدوات النقد الحديث المعاصر. فلم تقتصر تهمة الركاكة على الشدياق واليازجي ومجايليهما، بل انسحبت أيضاً على محاوري طه حسين الذين اتُهموا بضعف العبارة وضيق الرؤيا، لتصل أخيراً إلى الروائيين المعاصرين.
تُستخدم «الركاكة» في الخطاب النقدي المعاصر وسيلة للتشكيك بقيمة الأعمال الأدبية وتحجيمها لضمان مكوثها في الهامش. للكاتبات النساء، والخليجيات منهنّ تحديداً، تجربة طويلة مع الركاكة. فغالباً ما يُسقط النقاد هذه «التهمة» على أعمالٍ روائية لنساء كتبن هامش الحقل الثقافي فخرجن على السردية الرسمية في التأويل التاريخي. فعلى سبيل المثال، كانت الرواية الأولى لرجاء الصانع بنات الرياض (2006) نقطة تحوّل في الأدب السعودي بشكل خاص. الرواية التي كُتبت كسلسلةٍ من الرسائل الإلكترونية المرسلة إلى قائمة واسعة من المشتركين، تسجّل حياة أربع نساء ميسورات خلال تنقلهن بين عالمين متقاطعين. الأوّل هو عالم الهويات المعولمة والأعراف الاجتماعية المتبدّلة في السعودية، والثاني هو عالم العوائق المفروضة من قبل الدولة على حركة الفتيات وجنسانيّتهن. لم تنجح السجالات العديدة التي أحاطت بالرواية في الحدّ من شعبيّتها في العالم العربي، بل سرّعت ترجمتها إلى لغات عدّة. وبين ليلة وضحاها، حوّل هذا النجاح التجاري العالمي رجاء الصانع إلى واحدة من المشاهير، وجذب الانتباه إلى الكاتبات السعوديات والعربيات العديدات اللواتي دأبن على النشر بكثافة في العقد الأخير. زينب حفني وسمر المقرن وصبا الحرز هي بضعة أسماء لكاتبات سعوديات عديدات ساهمن في ازدهار «الأدب النسائي» الخليجي المثير للجدل.
رغم تعقيدات ثيمات روايات الكاتبات السعوديات وتنوّع أساليبها، نادراً ما نظر النقاد إلى القيمة الأدبية لهذه الروايات، وقلّما تناولوها لأسبابٍ جمالية. فقد تميّزت الكتابات النقدية إمّا بالثناء على الكاتبات لمواجهتهن القمع الجنسي، وإمّا بالشجب لزعزعتهنّ الأدوار الجندرية التقليدية. ذلك أنّ النقّاد قاربوا هذا النوع الأدبي كمجرّد فورة لنصوص انطباعية هاوية لا تتطلّع إلى الإدلاء بأي مداخلة سياسية، ناهيك بقدرتها على فعل ذلك حتى لو أرادت.
لكن من الواضح أن هناك عدداً من الروايات الخليجية التي قدّمت طرحاً لغوياً وشكلياً مختلفاً في العقد الأخير، فأضافت إلى الحقل الأدبي العربي سرديات جندرية ومثلية ودينية وقومية جديدة. لكن، بالرغم من هذا التحول، بقي الخطاب النقدي العربي عاجزاً عن القراءة والتأويل، زاعماً أنّ الركاكة متأصّلة في هذا النوع الأدبي بجميع أطواره وأصواته. وغالباً ما تُنسب الركاكة المزعومة إلى سطحيّة هذا الأدب، أي تركيزه حصراً على كسر المحرّمات الدينية والانغماس في الملذّات، ومعالجته المحدودة والضحلة للمجتمعات العربية المعقّدة. ففي ذهن الناقد الرصين، لا تعدو تلك الأعمال الأدبية عن كونها محاولات صغيرة، محدودة، والأهم، ركيكة، في القول. فتتراوح الآراء النقدية بين التجاهل التام والإدانة الصريحة لأولئك الكاتبات بسبب مقاربتهنّ السطحية المزعومة ولغتهنّ السردية الركيكة.
تكشف القراءة المتأنّية لردود الفعل النقدية انتشار معجم نقديّ شاجب مؤدِّب، غالباً ما يحطّ من قدر روائيات خليجيات نظراً لـ«ركاكة» بنائهن اللغوي. وقد عرّف النقاد هذا النوع الروائي كـ«ظاهرة» بوصفه حدثاً غير طبيعي، تقف خلفه «طفرة»، أو نمو مفاجئ غير مستحبّ، يحيل إلى عوالم الأورام والأمراض العضوية العصية على التصنيف. كذلك قيل عن هذه الموجة الجديدة من الكتابات إنها «على الموضة»، في إشارة إلى نمط الاستهلاك السريع المنسوب إلى النساء. كما ربط النقاد بين الركاكة المزعومة ونمط من السلوك الاجتماعي المؤنّث كـ«الثرثرة»، ونظروا إليه ككتابة انفعاليّة ورجعيّة كما في استخدام عبارات منها «فورة» و«حدث أدبي صغير» للإشارة إلى الانفعالات السطحية. حتّى أنّ بعض النقّاد عبّر عن «الخوف» أو «الألم» من هذا «الانفلات الأدبي>، وهو مصطلح يحيل إلى التعابير السلطوية التي تذكّر القارئة بمؤسسات أمنية تحذّر من «الانفلات الأمني» وأخرى دينية تحذّر من «الانفلات الأخلاقي>، ناهيك بوصف بعض تلك الأعمال بالـ«إنزال»، بمعنيين متّصلين بالسلطة والذكورة، أي القذف والاجتياح العسكري.
تضيء تهمة الركاكة التي غالباً ما تسقَط على روايات لكاتبات نساء على سلطة الناقد في استعمال الركاكة لا كمعيار أدبي وحسب، بل كمعيار تأديبي أيضاً للتعبير عن القول السياسي الكامن في عدد كبير من هذه النصوص لكاتبات خرجنَ عن العرف السياسي والاجتماعي برؤىً مختلفة. طبعاً، لا يعني ذلك أن كل ما تُنتجه روائيات خليجيات متميز وجدي، ولكن الكلام عينه ينطبق على الروائيين الذكور الذين يحاكون السائد في الرواية دون تقديم أيّ جديد.
هكذا يستخدم النقاد المعاصرون تهمة الركاكة ومشتقاتها ظاهرياً لصون الفصحى من اللحن المعجمي والنحوي، وضمنياً للحد من القول «الشاذ والمنحط»، أي ذاك القول الذي تُنتجه تلك الركاكة المعجمية واللحنية المزعومة والذي يشاكس سياسياً، تحديداً من خلال تحدّيه لمنطق النقاوة اللغوية والأصالة الثقافية.((راجعوا مقالة رنا عيسى عن مفهوم الركاكة في هذا الملف .)) فتتحول تهمة الركاكة سبيلاً إلى التعتيم على القول السياسي.
الناقد الشرطي
هي قصة أب مصري سعى «لينير عقول بناته بالقراءة» فيهديهن مجلة أخبار الأدب التي نشأت عليها أجيال من المصريين. يكتشف الأب لاحقاً احتواء المجلة على مقتطف من رواية استخدام الحياة (2014) لأحمد ناجي التي زعم الأب أنها تحوي موبقات لفظية تفتك بإحساس بناته وتحرّضهنّ على الرذيلة. وإذا بالأب يستغيث بالعدالة في بلاغ ضد أحمد ناجي ومدير تحرير المجلة. فيتعرّض الكاتب أحمد ناجي للمحاكمة بتهمة استخدام «ألفاظ خادشة للحياء» والشذوذ عن الأعراف الأدبية واللغوية والاجتماعية.
أحمد ناجي
ينتمي نص الادّعاء إلى نوع أدبي قانوني يُعرَف بالخطبة القضائية، أي المرافعات التي يُدعّم التعليل فيها على بلاغة متمثلة في تكثيف أساليب البيان والبديع حيث يتسلّح المرافع بمصطلحات نادرة من المدونة العربية لإضفاء شرعيةً على القول والتشديد على ركاكة النص الذي تبتّ بأمره المحكمة. فلما كان المدّعى عليه كاتباً وكانت التهمة لغويةً، كان على الادعاء أن يؤدي دور الناقد الأدبي ليثبت التهمة. راجعوا تحقيق خيري شلبي عن محاكمة طه حسين في محاكمة طه حسين. بيروت: المكتبة العصرية، 1972.
لم تكن هذه المرة الأولى التي أدّى فيها المدّعي العام دور الناقد. ففي التاريخ القضائي المصري سابقة تعود إلى معركة طه حسين نفسه مع القضاء بعد التهمة التي وجّهها له علماء من الأزهر عقب نشره في الشعر الجاهلي (1926). ففي نص النيابة العامة آنذاك تفكيك لمنهجية الكاتب والمنطق المنظم لأفكاره وغوص دقيق في تفاصيل الحجة وأسلوب المحاججة. خلص المدعي العام-الناقد آنذاك إلى إسقاط الدعوة عن طه حسين نظراً لاتباع الأخير منهج علمي ليس معصوماً عن الخطأ، ولأنّ «القصد الجنائي»- وهذا هو الأهمّ- لم يكن متوفراً. مذّاك، بدأ يترسّخ في النظام القضائي، تحديداً القضاء المعني بالمحاكمات الإبداعية، دور الناقد-الشرطي الذي عاد وظهر في قضية أحمد ناجي.
يتهم الادعاء أحمد ناجي بأنه يدعو إلى «الفتك بأصول الأخلاق وفكّ عرى الفضيلة» في ما رآه لغة نثرية واقعة ساقطة «انعقدت على محو القيم واهانة الفصحى بلغة سوقية ركيكة تنهل من ألفاظ جنسية متدنية». ليست الإهانة موجهة إذاً للأب المصري الساعي إلى إنارة عقول بناته وحسب، بل أيضاً إلى الفصحى بوصفها المكوِّن الثقافي العربي الأسمى. «ماذا نصنع؟» يتساءل المدعي العام مستنكراً، «إذا رأينا الخناصر قد انعقدت أنبتسم ابتسامة المهادنة؟ أم ابتسامة المداهنة؟». بلغ تحقير الفصحى إذاً مبلغاً من الفداحة استدعى المحاسبة القانونية، فمارس الناقد-الشرطي حقّه المطلق في عملية التقويم. ولكن المذهل في المحاكمة هو التعليل الذي استخدمه الادعاء والذي مارس من خلاله دور الناقد في تحديد ماهية الأدب واللغة الأدبية.
يستهلّ الادعاء المرافعة بإقراره أن الدستور المصري يحفظ الحق في حرية التعبير الفني والأدبي. لكن، في سبيل إثبات التهمة على أحمد ناجي، يقوم الادعاء بشرح كيف أنّ الدستور لا يلحظ نص أحمد ناجي لأنه، وهنا لبّ الحجة، ليس أدباً وليس أحمد ناجي بأديب. لماذا؟ لأن لا نصَّ أدبياً يقوم على ألفاظ جنسية تصف العلاقات الجنسية بشكلٍ مفصّل وبابتذال يجرح إحساس مواطنين ومواطنات ائتمنوا الدولة المصرية ومطبوعاتها القومية على تنويرهم. فإن كان نص ناجي يحوي بعض هذه المصطلحات، فهذا يدل على أنه خارجَ فئة الإبداع التي يلحظها القانون. اللغة السفيهة، اذاً، لا تصنع أدباً.
في محاكمة أحمد ناجي أيضاً، يحضر طيف طه حسين ليضفي شرعية على منطق الناقد-الشرطي في محاكمة صاحب اللغة السفيهة الساقطة. فيعود الادعاء في مرافعته إلى الأيام لطه حسين ليستثني عميد الأدب من جمع أولئك الساقطين لغوياً، «المتأخرين في الألفاظ والمعاني، الذين اتجهوا إلى الابتذال في استثارة الغرائز». هكذا تضع لنا المرافعة خارطة لفهم المعركة: الأديب الحق ينتمي إلى جيل المعلمين، أولئك الذين، وإن جنحوا الى المحكية مضطرين ملزمين، فإنهم يصونون لغتهم ويرتقون بها تنويراً للعقول. وذلك على عكس أحمد ناجي الذي «يقال عليه كاتب وروائي وما هو إلا قاتل لأحلام أبناء وبنات ذلك الوطن»، والذي يشبه، بحكم مشاكسته اللغوية والاخلاقية، نظراءه من الكتّاب، «صرعى المجون والشذوذ الفكري». يفضي ربط الأدب بالأخلاق هنا إلى أقنومَيْن: إن الكاتب المنحطّ لغوياً هو حتماً منحط أخلاقياً، وعليه، فإنّ الكاتب المنحط أخلاقياً ليس أديباً. هذه هي المعادلة الأدبية-القانونية التي يستند إليها الناقد-الشرطي.
تبرز أيضاً في عملية استدعاء روح طه حسين محاكاة للمحاكمة التي تعرّض لها عميد الأدب، من دون أن يخفى الفارق بين اللحظتين التاريخيتين. صحيح أنّ طه حسين تعرّض للمحاكمة بسبب ما نشر، لكنّ المحكمة برّأته تحديداً لأن صفتَيْ الباحث والمفكّر ضمنتا حقه في التعبير عن رأيه، حتى ولو كان مخطئاً في ما خلص إليه عن الشعر الجاهلي. فمحاكمة طه حسين، وبالرغم من تقاطعها السطحي مع محاكمة أحمد ناجي، فإنها تحيلنا إلى الأقنوم الثالث الذي يستند إليه الناقد-الشرطي: المحاكمة الفكرية وحدها لا تصنع أديباً والأديب الحق، كما طه حسين، لا يُجرّم.
بعد إثبات عدم أحقية ناجي بصفة الأديب، استبقت النيابة العامة المصرية تهمتَيْ الظلم والعنف اللتين قد توجهان ضدها، فبرّرت نفسها بأنها وإن بدت عنيفة اليوم، فإن ذلك يعود إلى إصرارها على وقوفها حصناً منيعاً في وجه الباطل. فكانت العودة للأدائية اللغوية المتمثلة في السجع وتكثيف المقابلات سبيلاً لإعلاء قول النيابة وابطال قول الروائي. فيقول المدعي العام:
هذه الصفراوات البالية لن تهدأ ما بقيت مسرحاً لتلك الدسائس ضد الأخلاق واستبدلت التسفيه بالتوجيه، والتزوير بالتنوير، والتهريج بالتتويج، والإثارة بالإنارة، والدعاية بالرعاية، والسخافة بالصحافة، والإجحاف بالإنصاف، والسفهاء بالعلماء، والأقزام بالأعلام، والإجرام بالإعلام، والدجل بالعمل، والادعاء بالعطاء، والشجار بالحوار، والتناوش بالتعايش.
يختم الادعاء المرافعة عبر التوجه إلى شعب مصر مقتبساً من سورة آل عمران: «أيا شعب مصر الأغرّ، لا تهنوا ولا تحزنوا فإن لكم قضاءً ماجداً لطالما ترددت بكلماته وبأحكامه أصداء الحق بين جدران هذه القاعات، فأشرقت بنور عدلها ليال ظلم طالت.» فيعد الادعاء هنا الشعب المصري بأن القضاء سيقف معه كما عهده دائماً في معركة الدفاع عن الذات ضد من شذّ عن أعراف الأدب واللغة.
تكتمل الصورة اذاً على تلاحم سلطتين اثنتين، سلطة الدولة وسلطة الناقد. تتمثل سلطة الدولة في قضاء يمنع المسّ بمشاعر المواطنين، وتتمثل سلطة الناقد في أداء النيابة العامة التي دأبت على تمييز الفصحى عن السوقية والأديب عن السفيه والأدب عن الانحطاط. فالناقد-الشرطي يقدّم إجابةً قاطعةً عن سؤال «ما الأدب؟» الذي لطالما شغل النقاد، ويعطينا درساً في القراءة: كيف نقرأ؟ من نقرأ؟ ولماذا؟
ومن خلال المقابلات المسجَّعة، تبرز معالم الأدب الجديد الذي يبشّر به الناقد-الشرطي ويدعو المواطنين إلى قراءته والقانون إلى حمايته. هو الأدب القائم على التوجيه والتنوير والتتويج والإنارة والرعاية والإنصاف والعلم والإعلام والعطاء والحوار والتعايش وإلى ما هنالك من مفاهيم تنويرية أفرغت الأنظمة الحديثة المتعاقبة معناها واستخدمتها أداة للتطويع السياسي.
وبهذا يكون قد اكتمل مثلث الأب- الأديب- المؤدِّب بتلاقي أبي البنات المنوّر مع المدعي العام الذي تنضح مرافعته بلاغةً ومع القاضي الذي أنزل بناجي عقوبة سنتين بسبب لغته الساقطة والخادشة للحياء. هكذا اذاً، يطوّع الحاكم الخطاب النقدي، خصوصاً ذاك الذي يرى في الأدب ارتقاءً للغة وإعلاءً للأخلاق، مُسخِّراً له القضاء المصري في طوره الأخير بعد 30 يونيو.
الكنوز التي لا يطالب بها أحد
يشير الخطاب النقدي الذي تناول السرديات غير العربية والمحكية والركيكة والخادشة للحياء، إلى معاييرَ أدبية ثابتة تضع القومية والامتثال للأعراف اللغوية معياراً للجودة الأدبية. فالأديب-الأب-المؤدِّب يلفظ من المكرّس الأدبي العربي القول الخارج عن العرف اللغوي العربي بوصفه دخيلاً على النخبة اللغوية التي تمسك بأحقية القول. كما يحرّم القول على كل من روى تجارب محلية وإقليمية ومثلية وجندرية لا مكان لها في المكرّس، تحديداً لأنها شرعت في تقويض السلطة عبر تفكيك جزئياتها اللغوية. بذلك يضع الناقد المعاصر لنا حقلاً روائياً ثقافياً وسياسياً تسوّره حدودٌ معيارية متقادمة لا تحاكي التجربة الروائية المعاصرة، بل تعيد انتاج سلطة الأب-الأديب-المؤدِّب الذي يعيد بدوره انتاج خطابه إلى ما لا نهاية.
يدلّنا الخطاب النقدي هذا، بحكم عنفه الممنهج، على سرديات كان ترحالها كما تنوعها اللغوي سبباً في تغذية هامشية كتّاب بقوا خارج الأدب العربي المكرّس. فعبّرت تلك السرديات عن ذوات متعددة ومشككة في أوج التوحيد الأيديولوجي، ذوات خرجت لا من مراكز الحقول اللغوية والسياسية والثقافية العربية، بل من المواقع الهامشية بحكم بُعدها عن السلطة وبحكم منفاها اللغوي والجغرافي. فبين سطور الأب-الأديب-المؤدِّب تبرز نصوص متمرّدة في عملها كخطاب مضادّ يفكّك عمليات التكريس في الأدب ويصوّب سهامه باتجاه تناقضات مراكز السلطة.
بين تلك النصوص الأدبية الملفوظة والمنسية والركيكة كنوز لم يطالب بها أحد.