*****
بعد خمسين عاماً على نشر نقد العنف لوالتر بنيامين، وأكثر من ستين عاماً على ظهور تأملات في العنف لجورج سوريل، لا يمكن القول إن إعادة النظر في معنى وحدود العنف لم يحن أوانها بعد. اليوم، تحيا الإنسانية تحت خطر دمارها اللحظي الدائم بطريقة لم يكن بينامين ولا سوريل قادرين على تخيلها. لقد تجاوز هذا العنف حده البشري. لكن الضرورة الملحة لإعادة التفكير في العنف لا تنبع من درجته، بل من علاقته التي تزداد غموضاً مع السياسة. لهذا يختلف النقد المطروح هنا عن شرح بنيامين لعلاقة العنف بالقانون والعدالة، لأنه يسعى إلى تحديد علاقته بالسياسة بدلاً من ذلك، وإلى سبر أغوار العنف بحد ذاته ومن أجل ذاته من خلال ذلك. بكلمات أخرى، نسعى هنا لتبيّن الحدود، إن وجدت، بين العنف وعالم الثقافة البشرية بمعناها الأوسع. وتبيّن هذه الحدود بدوره سيسمح لنا أن نتصدى لمسألة العنف الوحيد المتواجد ضمن المقاييس البشرية: نعني العنف الثوري.
للوهلة الأولى تبدو العلاقة بين العنف والسياسة كتناقض في المفاهيم: التاريخ الأوروبي بحد ذاته يستند لفكرة إقصاء كل من المفهومين للآخر. اليونانيون القدماء، الذين ندين لهم بمعظم المفاهيم المستخدمة للتعبير عن تجربتنا السياسية اليوم، استعملوا مصطلح الپولس (أو المدينة) لوصف حياة تقوم على الكلمة وليس على العنف. أن يكون الإنسان پوليتيكياً-سياسياً (أن ينتمي إلى الپولس أو المدينة) يعني قبول مبدأ أن الكلام أو الإقناع مصدر القرار وليس القوة أو العنف.انظر إلى وصف آرنت لمفهوم اليونانيين القدماء عن السياسة في الفصل الأول من الشرط الإنساني. لذلك كانت قوة الإقناع أو الـ«بيثارخيا» الصفة الرئيسية التي طبعت الحياة السياسية، إلى درجة أنه حتى المواطنون المحكوم عليهم بالإعدام كان يجري إقناعهم بقتل أنفسهم.
كان ربط اليونانيين القدماء للسياسة مع اللغة – وفهمهم للغة بصفتها في جوهرها نقيضاَ للعنف – قوياً لدرجة أنهم عرّفوا كل شيء خارج المدينة، بما في ذلك الاحتكاك بالعبيد والغرباء، على أنه «أنيو لوغو» وهو مصطلح يمكن ترجمته إلى «بلا منطق» أو «بلا لغة»، وذلك ليس لأن العبيد أو الغرباء لم يكن لديهم لغة، ولكن لأنهم كانوا محرومين من طريقة الحياة الوحيدة التي تكون فيها اللغة وحدها ذات معنى.
وكما يلاحظ بنيامين مُحقاً، يمكن التدليل على فكرة انتفاء أي عنف محتمل في حضور اللغة بحقيقة أنه ما من شرعة قانونية قديمة خصصت عقاباً للكذب. الحياة السياسية بوصفها قوة على الإقناع استندت على فهم خاص لعلاقة اللغة بالحقيقة: الإيمان أن الحقيقة، لوحدها وبحد ذاتها، قادرة على إقناع العقل البشري. لم يفهم اليونانيون القدماء «الإقناع» بوصفه تقنية جدلية مثل السفسطة، بل كصفة جوهرية للحقيقة. لذلك، اصطدمت الفلسفة اليونانية منذ ظهورها مع الفضاء السياسي، حيث بدا بازدياد وكأن الحقائق تخسر قدرتها على الإقناع – علينا فقط أن نفكر بمرارة أفلاطون وهو يشاهد بلا حيلة حكم الإعدام على سقراط. مع إحساسهم المتزايد بالانكشاف أمام خطر العنف، بدأ الفلاسفة بالبحث عن الحقائق خارج الفضاء السياسي-الزمني؛ حقائق بعيدة جذرياً عن العنف. من هذا المنظار، يبدو واضحاً أننا نختبر السياسة بشكل مختلف عن اليونانيين القدماء: نعلم من تجاربنا المباشرة أن الفلاسفة اليونانيين كانوا محقين في تخمين أن الحقيقة في السياسة لا يمكن أن تنفي العنف. بالإضافة إلى ذلك، نشهد اليوم انتشاراً لنوع من العنف مجهول تماماً للقدماء، مع انتشار المزيد والمزيد من الكذب في الفضاء السياسي.
باستطاعتنا القول إذن أن ربط اللغة مع اللاعنف لم يعد مقنعاً. في الواقع، انهيار هذه العلاقة هو الخط الفاصل بين تجربتنا السياسية وتجربة القدماء: لا يمكننا التعويل على أي نظرية سياسية تستند إلى افتراضات الإغريقيين القدماء.
باستطاعة العصر الحديث أن ينسب لنفسه شرف تجاوز الربط البسيط بين القدرة الإقناعية واللغة، وتنفيذ مؤامرة مخططة لإدخال العنف إلى اللغة ذاتها. اليوم، العنف اللغوي المنظم الذي يهدف للاحتيال على الوعي شائع لدرجة لا يمكن لأي نظرية حول العنف تجاهل تمظهراته في اللغة. بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر العنف اللغوي على المجال السياسي فقط، بل دخل أيضاً إلى فضاء التسلية اليومي. الانتشار الهائل للروايات الإباحية في نهاية القرن الثامن عشر لم يكن سوى اكتشاف لقدرة بعض التركيبات اللغوية على النفاذ إلى جسد الإنسان بغض النظر عن إرادته. تستطيع اللغة التأثير على الغرائز البشرية، فتُهيمن على الإرادة وتعيد الإنسان إلى الطبيعة. اللغة قادرة على أن تفعل ما يقوم به العنف: اللغة قادرة على الإثارة! بكلمات أخرى، تكمن جاذبية المادة الإباحية في قدرتها على إدخال العنف إلى فضاء اللاعنف: إلى اللغة.
لهذا السبب، عمد الماركيز دو ساد، وهو الدارس الجاد والمتسق للبورنوغرافيا، إلى تصميم مشروع واعٍ هو النظير التام للمشروع الكانطي في البحث عن علة للفعل يمكن رفعها لتصبح قانوناً كونياً، مشروع يبحث عن شكل للعنف «يكون ذا تأثير دائم، بحيث أكون دوماً مصدراً لاضطراب طالما حييت، في كل ساعة من اليوم وأثناء نومي في الليل، وبحيث يتسع هذا الاضطراب لدرجة يسبّب فيها فسادأً كونياً وانقلاباً شديداً، فأبقى حتى بعد انتهاء حياتي من خلال الاستمرار الدائم لشروري».
عثر دو ساد على محرّكه الكوني في العنف اللغوي. ولكن وفي نفس الوقت، فإن تحليلاً دقيقاً للبورنوغرافيا يُظهر اشتراكها مع نوع آخر من التعبير اللغوي في خصائص أساسية؛ نوع يشغل في العادة المكان الأسمى في التراتبية الثقافية: أعني الشعر. ليس من الصدفة أن يتزامن بحث دو ساد عن محرّك كوني في العنف اللغوي مع وصف هولديرلين (وهو الأول بين كثيرين استخدموا العنف المجازي للتعبير عن التجربة الشعرية) لعنف الكلمة المأساوي، حيث «تستولي الكلمة على الجسد، فيقوم هذا الأخير بفعل القتل».
تعود فكرة العنف الكامن في اللغة الشعرية إلى أفلاطون. المثير للفضول أن قلة فقط أدركت الدافع وراء عداء أفلاطون للشعراء ونفيه لهم من المدينة الفاضلة. في بعض جوانبه، هذا تعبير نموذجي واضح عن قناعته بأن الإقناع لا يجب أن يكون عنيفاً، والتي تشكل إحدى دعائم النظرية السقراطية التي ترى في العلاقات اللغوية الحرة بين البشر فناً شبيهاً بحرفة القابلة، أي المايوتيقا (أو فن التوليد) اليوناني والذي لا يمكن أن يترافق مع العنف: فالعنف اقتحام خارجي يمنع حرية ضحيته، ولا يُظهر العفوية الخلاقة الداخلية، وإنما فقط المادية العارية. يقدم الشعر نوعاً من الإقناع لا يعتمد على الحقيقة، بل على التأثير العاطفي الخاص بالموسيقى والإيقاع، الذي يؤثر بنا بشكل عنيف وجسدي. كان محتماً على أفلاطون إذن أن يطرد الشعراء خارج المدينة.
قد يكون الفارق الأكبر الذي يفصل بين اختبارنا للسياسة واختبار اليونانيين القدماء لها هو وعينا أن الإقناع نفسه يتحول إلى عنف من خلال أشكال وظروف معينة، وبالتحديد عندما يتجاوز الإقناع العلاقة اللغوية الحرة بين فردين ويتحول إلى تقنية حديثة تعيد إنتاج اللغة المحكية والمطبوعة. هذا هو جوهر نوع العنف الذي يمكن لمجتمعنا ادعاء اختراعه، أقله في شكله الحديث: البروباغاندا.
علينا هنا أن نجابه اختراعاً آخر من اختراعات مجتمعنا الحديث، أعني نظرية العنف التي برزت في عصرنا وأنهت تماماً أفكاراً قديمة. في هذه النظرية، لا يتعارض العنف نهائياً مع فن التوليد، كما اعتقد أفلاطون. بالعكس، فحسب قول ماركس في رأس المال، العنف بات القابلة القانونية للمجتمعات القديمة الحبلى بمجتمعات جديدة» (284). علينا التوقف عند هذه الجملة، ليس فقط لأنه يمكن القول إن كل النقاشات الحديثة عن العنف هي محاولات في الشرح اللغوي، ولكن أيضاً لأن توصيف ماركس للسياسة والمجتمع يكشف عن فهمه للعلاقة بين العنف والسياسة. ملاحظته هذه لم تقصد جميع أنواع العنف: العنف الذي يحطم نظاماً اجتماعياً قديماً من خلال توليد نظام جديد، يختلف عن العنف الذي يحافظ على قانون موجود سلفاً ويناهض كل أنواع التغيير. تكمن المشكلة في تمييز العنف العادل، العنف الذي يقود إلى شيء جديد تماماً، العنف القادر بحق على تسمية نفسه عنفاً ثورياً.
المعيار الأكثر شيوعاً لتمييز هذا العنف ينبع من نوع من أنواع الداروينية التاريخية. كثيراً ما يجري ربط هذه النظرية بشكل خاطئ بالماركسية القويمة، على الرغم من أنها تنبع من تصورات اجتماعية برجوازية للتاريخ متأثرة بداروين، تطورت في نهاية القرن التاسع عشر. الداروينية التاريخية تفهم التاريخ كتقدم خطي يخضع لقوانين حتمية، تشبه القوانين الحاكمة للعالم الطبيعي، وعلى هذا المنوال يُفهم التصور الماركسي للإنسان والطبيعة والتحول الجذري الكامن فيهما بشكل أخرق، وكأنه يختزل التاريخ في أفكار عن الطبيعة تنبع من علوم القرن التاسع عشر.من المعروف جيداً أن العلم المعاصر تخلى عن هذه الفكرة ولا يستمد قوانيناً طبيعية من نموذج ميكانيكي للعالم. حسب هذا الإطار النظري، توفيق هيغل بين الضرورة والحرية، والذي نقده ماركس باستمرار، يصبح الشرط الأولي لتأسيس حكم الحتمية الميكانيكية التي لا تحتوي على مساحة للفعل البشري الحر والفاعل.
في إطار كهذا، ليس من الصعب أبداً تمييز العنف العادل: إذا كان العنف هو «قابلة» التاريخ، يكفي فقط أن يقوم بتسهيل وتسريع الاكتشاف الحتمي لقوانين التاريخ الضرورية. العنف الذي يخدم هذه الغاية عادل، والعنف الذي يمانع هذه الغاية غير عادل. لكي نفهم خراقة هذا التفكير، يكفي فقط أن نتخيل أنه يظهر الثوري كالعالِم الذي يكتشف نوعاً من أنواع النبات الموشك على الانقراض، فيقوم بكل ما بوسعه للقضاء عليه بغرض تحقيق قوانين الطبيعة. هذا هو تماماً النموذج الذي قامت الحركات الشمولية في القرن العشرين بتبنيه، والتي قام «حقها» في العنف الثوري بتشريع أفعال كئيبة داخل حركات ثورية بحق. هذا تماماً ما حدث في ألمانيا النازية مع ترحيل اليهود إلى المعسكرات، وفي روسيا أثناء التطهيرات الكبيرة عام 1935 عندما تم ترحيل شعوب سوفييتية كاملة. الفرق الوحيد كان أن هتلر سعى إلى تسريع تحقق قانون طبيعي (تفوق العرق الآري) فيما كان ستالين يؤمن أنه يسرع في تحقيق قانون تاريخي حتمي.
وحتى ولو تجاهلنا النتائج السياسية الكارثية لنظرية العنف هذه، سنبقى قادرين على رؤية خللها الحقيقي: في أنها تموضع تبرير العنف خارج العنف بحد ذاته. بكلمات آخرى، تضع هذه النظرية العنف ضمن نظرية أشمل عن الغايات التي تبرر الوسائل. الغاية هي المعيار الوحيد لتحديد عدل الوسيلة أو عدمه. لاحظ بنيامين صائباً أن إطاراً كهذا، رغم نجاحه في تبرير تطبيق العنف، إلا أنه يفشل في تبرير مبدأ العنف بحد ذاته. في المحصلة، كل نظرية تعرّف شرعية الوسائل الثورية من خلال عدل الغايات متناقضة تماماً، كأية نظرية قانونية تضمن نهاية عادلة من خلال تشريع وسائل قمعية.
لا يمكن اعتبار العنف في الطبيعة عادلاً إلا لمن آمن بالخطط الكونية الكبرى والرعاية الإلهية، ولا يمكن اعتبار العنف البشري عادلاً إلا لمن يرى في التاريخ تقدماً ثابتاً على طريق خطي محدد الوجهة مسبقاً (وهذه رؤية التقدمية المبتذلة). في الثقافة الأوروبية، لم تبرز الحاجة للثيوديسيا (التبرير الفلسفي لوجود الله) إلا عندما فُقدت القدرة على التوفيق بين قسوة التاريخ والخير الإلهي، فاختفى الإيمان التلقائي بالعدالة الإلهية. بشكل مشابه، لم تبرز الحاجة لتبرير العنف إلا عندما فُقد الوعي بالأهمية الأصلية للعنف. إن نظرية للعنف الثوري هي بلا معنى في عالم الثيوديوسيا التاريخية، والتي تحول الثوري إلى شخصية شبيهة بالدكتور بيتر بانغلوس في رواية كانديد لفولتير، والذي يؤمن أن كل شيء يحدث هو ذو غرض جيد، في هذا العالم الأفضل بين كل العوالم المحتملة.يرمز بانغلوس في رواية كانديد للفيلسوف لايبنتز وفلسفته التفائلية القائمة على اعتبار كل مايحدث «هو لصالح ما» في هذا العالم «الأفضل بين العوالم المحتملة»، يرفض التلميذ كانديد في نهاية المطاف هذه الفلسفة المتفائلة بسذاجة ويرفع في وجهها شعاراً عملياً مختلفاً «علينا أن نحرث حديقتنا». (المترجم).
في ضوء كل هذا، لا نسعى للتعرف على تبرير للعنف (الغاية العادلة تبرر الوسيلة). بل نبحث عن عنف ليس بحاجة لتبرير، عنف يحمل في داخله حقه في الوجود. عندما تفحّص بنيامين وسوريل النظريات المحتملة للعنف الثوري، اعترف كلاهما بالحاجة لكسر الحلقة المفرغة بين الغايات والوسائل بهدف اكتشاف نوع من العنف لا يمكن، بسبب طبيعته نفسه، اختزاله في أي شيء آخر. يميز سوريل بين القوة، التي تهدف للسلطة، أي لخلق دولة جديدة، والعنف البروليتاري، الهادف لتهديم الدولة. بالنسبة لسوريل، تمت إساءة فهم العنف البروليتاري بشكل أساسي لأن ماركس، وبالمقارنة مع وصفه العميق والتفصيلي للتطور العنيف للنظام الرأسمالي، اقتصد في شرح تنظيم البروليتاريا:
كانت نتيجة هذا الخلل في عمل ماركس انحراف الماركسية عن طبيعتها الحقيقية. الفخورون بكونهم ماركسيين قويمين لم يرغبوا بإضافة أي شيء مهم لما كتبه سيدهم، ولطالما تخيلوا أنه من أجل الحديث عن البروليتاريا يجب الاستفادة مما تعلموه من تاريخ البورجوازية. لذلك لم يفكروا في ضرورة التمييز بين القوة الهادفة للسلطة، الجاهدة للحصول على طاعة تلقائية، والعنف الذي يحطم هذه السلطة. بالنسبة لهم، على البروليتاريا أن تحصل على القوة بنفس الطريقة التي حصلت عليها البورجوازية، وأن تستعملها كما استعملتها البورجوازية، وتنتهي إلى تأسيس دولة اشتراكية تحل محل الدولة البرجوازية. (سوريل، 169-170)
يتوسع بنيامين في النظرية السوريلية عن الضربة البروليتارية العامة، ويجد نموذجه للعنف الثوري في التمييز بين العنف الأسطوري، الذي يفرض القانون ولذلك يمكن اعتباره مسيطراً، والعنف «النقي والمباشر»، والذي لا يطمح لفرض أي قانون، ولا حتى على شكل تعبئة الفراغات القانونية الموجودة سلفاً. بدلاً من ذلك، العنف النقي والمباشر يزيح القانون والقوة الضامنة له، الدولة، معلناً بذلك بدء عصر تاريخي جديد.
ولكن في كلا الحالتين، يبقى هدف العثور على عنف يحتوي مبدأه وتبريره نصف محقق. في النهاية، يبقى المعيار غائياً: غاية إزاحة الدولة وتأسيس نظام تاريخي جديد هي العامل الحاسم. على الرغم من ذلك، يدفع سوريل وبينامين أنفسهم إلى حد بعيد نستطيع عنده البدء في تخيل نظرية للعنف الثوري. ما هو، في نهاية المطاف، العنف الذي لا يفرض أي قانون؟ أليس الحديث عن عنف منفصل عن تأكيد السلطة متناقضاً بالضرورة؟ ما الذي يعطي العنف الثوري القدرة العجائبية على فتح الأفق التاريخي، وبدء عصر جديد؟ ستقودنا هذه الأسئلة ونحن نحاول تبين نظرية محتملة للعنف الثوري.
في الواقع، ليست مهمة تخيل عنف يتحاشى قاصداً تطبيق أي قانون ويكسر مفهوم الزمن ليؤسس لمرحلة جديدة بالصعوبة التي تبدو عليها في البداية. لدينا مثال واحد على الأقل عن عنف كهذا، مع أنه لا يقع ضمن تجربتنا «الحضارية»: نعني العنف المقدس. احتفلت معظم الشعوب البدائية بطقوس عنيفة مصممة لقطع التحول الرتيب للزمن البشري. بعثت هذه الطقوس فوضى بدائية، جعلت من البشر أنداداً للآلهة، وأعطتهم مدخلاً لمجال الخلق الأصلي. في كل مرة بدت وكأن حياة الجماعة في خطر؛ في كل مرة بدا وكأن النظام الكوني بات فارغاً وعاطلاً، التفتت الشعوب البدائية لإعادة توليد الزمان هذه، حينها فقط تبدأ مرحلة جديدة أو عصر جديد.
ما يثير الفضول هو أن الشعوب التي احتفلت بهذه الطقوس هي نفسها الشعوب التي تعتبر صانعة للتاريخ: البابليون، المصريون القدامي، العبريون، الإيرانيون القدامى، الرومان. وكأن هذه الشعوب، ولأنها تحديداً لم تعد مرتبطة بنمط حياة تحكمه زمنية البيولوجيا الدائرية، شعرت بالحاجة الماسة لإعادة توليد الزمان، مؤكدة بشكل طقسي على العنف الكامن في بداية تاريخها.
لم تولد الرغبة في استرجاع زمان الخلق الأول من خلال العنف المقدس نتيجة رفض متشائم للحياة أو للواقع. على العكس، البشر البدائيون لم يشتبكوا مع الكون بشكل كامل – مؤكدين قوتهم من خلال سفك دمائهم هم – إلا من خلال الظهور المفاجئ للمقدس فيما بينهم وانقطاع الزمن العادي. بهذه الطريقة أعادوا امتلاك السلطة للمشاركة في خلق الثقافة والعالم التاريخي.
أعطى مفهوم «الپولس» زخماً خاصاً لاختبارات اليونانيين القدماء للعنف المقدس، والذي عبر عن قوته المزعزعة الإله ديونيسس، الإله الذي يموت ويُخلق من جديد. يكشف العنف المقدس عن نفسه حيث يستشعر البشر قربهم المحوري من الحياة والموت، العنف والخلق: يبرز عندما يكتشف البشر أن اختبار قربهم هذا هو انبعاث وتوليد لزمان جديد. في هذا الضوء، تكتسب كلمات يوريبدس في باكاي أهمية خاصة. المسرحية التراجيدية التي تروي قصة النزاع بين عنف الآلهة المقدس وعنف الطاغية الزمني، تختم بعبارة عن إيمان المرء الدائم بإمكانية جديدة غير متوقعة: إمكانية إعادة بدء الزمن.
الكثير من الأشياء تحققها الآلهة دون توقعات
ما انتظرناه كثيراً لا يحدث
وتجد الآلهة طرقاً لما لم نحلم به قط.
في الأيديولوجيا الألمانية، يربط ماركس بشكل واضح بين اختبار البروليتاريا للثورة والقدرة على إعادة بدء التاريخ وتأسيس المجتمع على قواعد جديدة. يكتب أن «الثورة ضرورة، إذاً، ليس فقط لأنه لا يمكن الخلاص من الطبقة الحاكمة إلا من خلالها، بل أيضاً لأنه فقط من خلال الثورة بإمكان الطبقة الثائرة التخلص من قذارة الزمن الغابر واكتساب القدرة على ’إعادة تأسيس المجتمع‘». القدرة على افتتاح زمن تاريخي جديد تنتمي حصراً إلى الطبقة الثورية التي تختبر نفيها لذاتها أثناء نفيها للطبقة الحاكمة. تطبيق معيار ماركس هذا للتجربة الثورية على العنف سيفضي بنا إلى المعيار المطلوب في بحثنا.
العنف الثوري ليس عنفاً في الوسيلة، يهدف فقط إلى نفي النظام الحالي. إنه عنف ينفي الذات أثناء نفيها للآخر. يوقظ هذا العنف الثوري في الذات وعياً بموتها، أثناء إلحاقها الموت بالآخر. الطبقة الثورية فقط تدرك أنها بإعمالها للعنف ضد الآخر فهي تقتل نفسها لا محالة، الطبقة الثورية فقط تستطيع امتلاك الحق (أو الواجب الرهيب) بممارسة العنف. وكالعنف المقدس قبله، يمكن وصف العنف الثوري بأنه ألم: نفي للنفس وتضحية بالذات. عندما ننظر للأمور بهذه الطريقة، نكتشف أن العنف القمعي (الذي يطبق القانون) والعنف الإجرامي (الذي يكسر القانون) لا يختلفان عن العنف الساعي لتأسيس قوانين جديد وسلطة جديدة: في كل حالة، يفشل نفي الآخر أن يكون نفياً للذات ايضاً. العنف التنفيذي ملوَّث بالضرورة، بغض النظر عن هدفه؛ وملوِّث، كما عُرفت المجتمعات بحدسها دوماً، للشرطي كما للجلاد، وذلك لأنه يستبعد الإمكانية الوحيدة للفداء، لأنه يرفض نفي الذات أثناء نفيها للآخر. وحده العنف الثوري قادر على حل هذا التناقض الذي وصفه هيغل كتنافر أساسي في مفهوم العنف: «القوة (أو العنف) تحطم ذاتها في نشوئها. هي تَمَظهُر للإرادة يلغي ويتجاوز تمظهر أو تعبير الإرادة الظاهر».
إذن، هناك معيار واحد يستطيع العنف من خلاله أن يعتبر نفسه ثورياً. تخبرنا التجربة أن مجتمعنا قليلاً ما يعي التناقض التأسيسي الكامن في عنفه. غالبية التمردات العنيفة ضد الطبقة الحاكمة لا تنتج ثورة، كما أن معظم جرعات الدواء لا تنتج شفاءً معجزاً. فقط من يواجهون بشكل واعٍ نفيهم لأنفسهم من خلال العنف قادرون على نفض كل «قذارة الزمن الغابر» وبدء العالم من جديد. فقط هم قادرون على الدعوة لوقفة خلاصية قادرة على فتح زمان جديد واختبار نوع مختلف للزمان: تاريخ جديد.
يجب فهم العنف الثوري في ضوء علاقته بالموت؛ هذه هي الحقيقة التي تسمح لنا بتوسيع بحثنا لعلاقة العنف الثوري بالثقافة. كل ثقافة تهدف إلى تجاوز الموت، كل ما علمه وعلّمه وكتبه وخلقه الجنس البشري، تم خلقه وكتابته ومعرفته وتعليمه بغرض التصالح مع الموت. هذا هو أساس ميلنا الدائم لفصل العنف عن اللغة: اللغة أولاً وقبل كل شيء هي القوة التي نملكها في مواجهة الموت، الفضاء الوحيد للتصالح. لنجاوب عن السؤال الأبدي «لماذا هناك شيء وليس لاشيء»، تقوم الثقافة باستكشاف لغز أسماه بنيامين مرة «هذا الشيء، حيث في المقام الأخير الحجاب ضروري»، تنقلنا الثقافة إلى مكان حيث يكشف «الشيء» و«اللاشيء»، «الحياة» و«الموت»، «الخلق» و«النفي»، عن ارتباطهما الوثيق، فنصل إلى حدود اللغة القصوى. وفي اللحظة التي تضعنا على عتبة ما لا يمكن معرفته من خلال اللغة، تنهي الثقافة مهمتها. لا تستطيع الثقافة الاستمرار دون أن تنفي ذاتها، لأنها تهدف إلى مصالحتنا مع الموت.
وحده العنف الثوري قادر على تخطي هذه العتبة. فهو يُولَد في لحظة الإدراك المذهل للعروة الوثقى بين الحياة والموت، الخلق والنفي. لا يحصل هذا الإدراك إلا في فضاء يتجاوز اللغة، ولذلك فهو يهزّ ويسلب الجنس البشري. العنف، عندما يصبح نفياً للذات، لا ينتمي لفاعله ولا لضحيته، بل يتحول إلى ارتقاء وسلب للذات، كما فهم اليونانيون القدماء في تصويرهم للإله المجنون. الأحياء لا يستطيعون تبيّن قربهم التأسيسي من الموت دون نفي ذواتهم، وفي هذا التناقض يقبع الختم الحامي لِلُغز الوجود البشري المقدس والعميق.
بصفته اختباراً لنفي الذات، يشكل العنف الثوري الـ«أر هيتون» الإغريقي بامتياز، ذلك الذي لا يمكن النطق به والذي يُفحم اللغة ويستعصي على كل تبرير. ومن خلال الذهاب أبعد من اللغة تحديداً، من خلال نفي الذات والقدرة على الكلام، تكتسب البشرية القدرة على الدخول إلى الفضاء الأصلي حيث معرفة اللغز والثقافة تتفكك، سامحةً للكلمات والأفعال أن تنتج بداية جديدة.
في بداية كل تاريخ يهدف إلى الأمان والتصالح مع الموت، سيُكتب «في البدء كانت الكلمة»، وفي فجر كل نظام زمني جديد سيكتب «في البداية، كان العنف». هذا هو حد وحقيقة العنف الثوري التي لا يمكن طمسها. من خلال عبور حد الثقافة واحتلال مساحة عصية على اللغة، يتحول العنف الثوري إلى مطلق، مثبتاً ملاحظة هيغل أن التصوير الأعمق للحقيقة تحتويه الصورة العنيفة لـ«جلسة سكر ليس فيها شخص واحد غير سكران».