أصدرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا اليوم تقريراً بعنوان الاحتجاز في صيدنايا (تقرير عن إجراءات وتبعات الاعتقال)، جاء حصيلة نحو عام ونصف من إجراء المقابلات وجمع البيانات وتحليلها. ويعتمد التقرير على البيانات الواردة في المقابلات التي أجراها فريق الرابطة مع 401 شخصاً من الناجين من السجن الرهيب، الذي سبق أن وصفته منظمة العفو الدولية بأنه المكان الذي «تقوم فيه الدولة السورية بذبح شعبها بهدوء»، ثم تحليل هذه البيانات للوقوف على تصور يقارب حجم الفظائع والانتهاكات فيه، ويسلط الضوء على آليات الاعتقال وتبعاته المديدة على المعتقلين وعائلاتهم.
وقد بدأ إجراء هذه المقابلات مطلع العام 2018 واستمرّ حتى آذار من العام 2019؛ يقول دياب سرّية، المنسق العام للرابطة، في حديث له مع الجمهورية: «كنا نتوقع أن نوثق خلال عام من العمل قرابة الألف حالة اعتقال، لكننا فوجئنا أننا لم نصل سوى لأقل من نصف هذا الرقم بعد عام من العمل، وهو مؤشر على قلّة أعداد الناجين؛ كانت صدمة حتى بالنسبة لنا». وكان تسجيل تلك الشهادات أمراً فائق الصعوبة، لأن استعادة تلك التفاصيل مع الناجين هو أحد أكثر العمليات قسوة على الموثِّق والناجي، كما أن المخاطر التي تعرض لها الفريق خلال العمل كانت أحد أكبر العوائق، إذ اعتقل ثلاث موثقين في منطقة إدلب التي تسيطر عليها فصائل معارضة خلال عملهم، وتم اطلاق سراحهم لاحقاً بحسب سرّية.
سجن صيدنايا هو سجن عسكري، وهو يستخدم لاحتجاز المعتقلين السياسيين في سوريا منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، وقد تحوّل بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 إلى واحد من أسوأ معسكرات الاعتقال في البلد، الذي يعج بمعسكرات اعتقال وسجون سرّية يستخدمها نظام الأسد لإخفاء وقتل السوريين الذين يشتبه بأنهم شاركوا في الاحتجاجات ضده أو في أي نشاطات مناهضة له. ويكشف التقرير التحولات في إجراءات الاعتقال وظروف السجن خلال هذه السنوات كلها منذ تأسيسه حتى الآن، كما يبين حجم الانتهاكات وظروف الاعتقال بالغة الوحشية فيه، التي أدت إلى حدوث وفيات جماعية نتيجة أمراض يمكن معالجتها بسهولة مثل مرض الإسهال.
يتابع دياب سرّية في حديثه للجمهورية: «كان ابتزاز أهالي المعتقلين في سجن صيدنايا عملية شائعة بين المسؤولين في أجهزة أمن النظام، حيث كانت بعض العائلات تدفع مبالغ خيالية لمجرد نقل ابنها من سجن صيدنايا إلى سجون مدنية مثل سجن عدرا أو سجن حماة المركزي». وتُظهر هذه القصة بعضاً من أبرز أوجه الاعتقال في سوريا، فهو وسيلة لجمع الأموال ومراكمة الثروات لقادة الأجهزة الأمنية، كما أن المبالغ المالية الهائلة التي تدفعها العائلات لنقل أبنائها من سجن صيدنايا إلى سجن عدرا مثلاً تُظهر كيف أن الخروج من الأول هو نجاة من موت محقق.
يقول التقرير إن 100% من الناجين الذين تمّ أخذ شهاداتهم ذكروا تعرضهم للتعذيب الجسدي، بينما ذكر 97.8% التعذيب النفسي، وقد حددت نتائج التقرير 20 وسيلة تعذيب من بينها الضرب بالعصي والصعق الكهربائي والشبح (التعليق من اليدين أو القدمين) والحرمان من الطعام وسكب المياه الباردة والدولاب (وسيلة تعذيب اشتهر بها النظام السوري، حيث يتم طوي جسد المعتقل ضمن دولاب شاحنة ويتم ضربه بالعصي على مختلف مناطق جسده).
وقد كانت النسبة العظمى من المعتقلين في السجن من المختفين قسرياً، إذ لم يتم إبلاغ عائلاتهم رسمياً بمكان اعتقالهم، ولم يتم عرضهم على محاكم مدنية، كما لم يتم إخبارهم بسبب اعتقالهم في حالات كثيرة. وقال التقرير إن أكثر من نصف الحالات التي رصدها حوكمت أمام «المحكمة الميدانية»، وهي محاكم صورية يتم فيها عرض المعتقل أمام لجنة عسكرية دون توجيه تهم واضحة ودون إمكانية تقديم دفاع قانوني، وتصدر هذه المحكمة أحكاماً قد تصل إلى الإعدام أو إلى السجن لأكثر من عشرين عاماً، دون القدرة على استئناف أحكامها أمام القضاء.
ويتضمن التقرير شرحاً تفصيلياً لآليات التعذيب وعمليات ابتزاز أهالي المعتقلين وظروف الاعتقال الكارثية ضمن كرّاسة من ستين صفحة، تحاول أن تقدم مقاربة لأحد أسوأ السجون في العالم، تُرتكب فيه حتى هذه اللحظة انتهاكات لا يمكن مقارنتها إلا بفظائع المعتقلات النازية، حيث تنتهك الكرامة الإنسانية إلى الدرجة القصوى، فيما يصبح القتل عملاً روتينياً للمجرمين القائمين على هذه السجون.
يضيف دياب سرّية في حديثه: «هناك كثيرٌ من التفاصيل التي حصلنا عليها ولم نشاركها في التقرير، مثل هوية المسؤولين عن الانتهاكات في السجن، والتي قمنا بمشاركتها مع آليات التحقيق الدولية حول سوريا مثل IIIM (آلية دولية محايدة ومستقلة) للتحقيق في سوريا وCOI (لجنة التحقيق الدولية المستقلة في سوريا)، وسنستخدمها أيضاً ضمن الملفات القضائية التي يتم العمل عليها لملاحقة مجرمي الحرب والمسؤولين عن الانتهاكات في سوريا».
ليس هذا التقرير هو الأول الذي يتحدث عن الأهوال التي يعانيها السوريون المحتجزون في سجن صيدنايا، إذ سبق أن نشرت جهات متنوعة تقارير عديدة، من بينها التقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية في شباط 2017 بعنوان المسلخ البشري، غير أن ما يميز التقرير الصادر اليوم عن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا هو العدد غير المسبوق من الشهادات التي يستند إليها، واشتغاله على تقديم إجابات لجملة من الأسئلة: من هم المعتقلون وكيف يتم اعتقالهم؟ وما هي تبعات الاعتقال عليهم أو على عائلاتهم (الآثار الجسدية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية)؟ وما الذي تغير بعد الثورة سواء في إجراءات الاعتقال أو تبعاته؟
تواصل رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا عملها على التوثيق وتسجيل شهادات الناجين، وتحليل البيانات التي تتضمنها هذه الشهادات، ونقتبس هنا مقطعاً من الخلاصة التي جاءت في نهاية التقرير: «فضلاً عن المعلومات المتعلقة بالظروف المأساوية لأوضاع المعتقلين في السجون السورية عموماً، وسجن صيدنايا خصوصاً، يقدم هذا التقرير، والشهادات التي استند إليها، معلومات عن تحولات ملف الاعتقال السياسي في سوريا، وعن مجمل الظروف السياسية والاجتماعية المرافقة له. ونعتقد أن الإحاطة بهذه الظروف تؤمن شروطاً أفضل لفهم الكيفية التي تعمل بها مؤسسات النظام الأمنية، وكيفية استخدامها للاعتقال والتعذيب والتصفية في السجون وسيلة لإرهاب وإخضاع المجتمع كله، وهو ما يساهم في فهم أعمق لبنية النظام السوري الأمنية، وبالتالي في البحث عن وسائل لتفكيكها من جهة، ومحاسبة المسؤولين عن إدارتها وتحقيق العدالة للضحايا من جهة أخرى».