تدور أحداث المسرحية هذه المرة في المدينة التي لا نعرفها، أو بشكلٍ أدق تحاول استعادة المساحات والأجزاء التي غضضنا البصر عنها لمدةٍ طويلة، وقد حان الوقت للعودة إليها واستكشافها من جديد. هذه العودة التي بدأها الكاتب والمخرج المسرحي وائل قدور في مسرحيته وقائع مدينة لا نعرفها، وأخرجها إلى جانبه الممثل والمخرج محمد آل رشي، كانت قد عُرضت في أكثر من مدينةٍ أوروبية، آخرها على خشبة مسرح بوان دو جور في مدينة ليون الفرنسية، ضمن مهرجان سانس إنترديه الدولي، وفي عرضين متتاليين على مدار يومين مطلع الشهر الفائت.
تعود أحداث العرض المسرحي إلى عام 2011، في محاولة تقصٍّ درامي لحادثة انتحار صبيةٍ في الثامنة والعشرين من عمرها، وأيضاً لفهم أسباب هذا الانتحار بالتزامن مع لحظة انفجار الثورة السورية آنذاك، وهذا المدخل للعمل المسرحي، الذي يرسم عوالمَ وحواراتٍ قد تكون من مخيلة الكاتب، ليس افتراضياً، بل إنّه تفصيلٌ مأخوذٌ من قصة حقيقية لصبية سورية انتحرت بالفعل في بدايات الثورة، ومن الأقاويل والافتراضات التي تم تداولها هنا وهناك عن أن الصبية كانت قد انفصلت عن حبيبتها في بدايات الثورة السورية. وعند هذه اللحظة ينتهي الخبر، وتبدأ كتابة الدراما والغوص في لحظة انفصال الحبيبتين، وتخيُّل عوالم نور ورولا المشتركة في الأيام الأولى للثورة السورية.
يقول وائل قدور، كاتب العمل المسرحي، للجمهورية: «إنّ السبب الذي دفعه لهذه العودة هو الفضول الإنساني والدرامي؛ لماذا يمكن للإنسان، في لحظة تحولٍ كبيرة كهذه، أن يغرق في مأساته الخاصة وينتحر، في حين أن أكثر المتشائمين أو اللامبالين بالسياسة، كانوا مهتمين بالتحول حينها، وذلك بصرف النظر عن طريقة الاهتمام وفي أيّ سياقٍ يمكن وضع هذا الاهتمام فيه. من هنا بدأتُ العمل على الحكاية وإعادة بنائها الدرامي من خلال توظيف المُتخيَّل، ومن دون أن أنتقل للعمل بشكلٍ توثيقي. في المسرحية كنا نعيد مساءلة الحقيقة، فعلى أرض الواقع يمكن أن نقول إنّ النظام قتل الثوار، وهذه حقيقة، ولم أحاول التشكيك بهذه الحقيقة، ولكن في المقابل هناك الحقيقة الفنية القابلة للتأويل والتشكيك، وهذا ما عملت عليه».
بالنظر إلى كون النص يتعامل مع نوعٍ من الحقائق «الفنية» القابلة للتأويل وإعادة التشكيل، فإنّ العرض المسرحي يقدّم افتراضاً لا يجزم بحقيقته، كما أنه لا يمكننا أن نعرف يقيناً ما هو سبب الانتحار فعلاً، وليس من المنتظر أن يُجيب النص عن هكذا أسئلة رغم أنها ستدور في رأس المتلقي، لا سيما أن تقديم رواية حقيقية عن حادثة الانتحار ليس الغرض الذي كُتبت من أجله المسرحية، بل فهم ما حدث وتشريح اللحظة المعقدة اجتماعياُ وسياسياً، وانعكاساتها على علاقة الحب بين الشابتين، ذلك أننا نعرف أنه، وبغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك قد حدث فعلياً مع هاتين الشابتين على وجه التحديد أم لا، فإنّه قد حدث وما يزال يحدث بأشكال أشدّ عنفاً في بقعةٍ ما من سوريا الأمس واليوم.
تُفتتح المسرحية بمشهدٍ في أحد المشافي الحكومية في دمشق، ونفهم منه أنّ الشابة رولا تبحث عن صديقتها نور التي رمت بنفسها من سطح مطعم: «كانت شربانة وما حدا فهّمنا إنو وقعت بالغلط ولّا هي زتت حالها». وتتوالى بعد ذلك المشاهد غير مرتبة زمنياً لتفكّك لنا تدريجياً قصة الشابة نور التي انتحرت، والتي تتشابك قصتها الخاصة مع الحدث السياسي العام المتزامن معها، وذلك عندما اختارت صديقتها رولا الانضمام للثورة مهما كانت الأثمان، في حين أنّ نور، ولأسباب اجتماعية وطبقية، مُنعت من الانضمام للثورة، وتعمّق حاجز الخوف في داخلها وبات مركباً؛ خوفٌ من العنف السياسي ممزوجاً مع خوف من العنف الاجتماعي والعائلي الذي تعرّضت له بسبب هويتها الجنسية.
اختار الكاتب الغياب الكلي للشخصية الرئيسية نور في المسرحية التي تدور حولها، وذلك تعبيراً عن العنف والخوف الذي يغيّب الفرد المختلف اجتماعياً وجندرياً، لكنه، وفي الوقت ذاته، وظّفه درامياً لإبقاء حادثة انتحار نور جرحاً مفتوحاً لا نعرف حقيقته؛ فالجميع يتحدث عن نور، غير أنّ ما نعرفه عنها مصدره دائماً أحاديث الآخرين عنها، وحتى في المشاهد التي تسبق انتحارها، تبقى نور مغيبة كلياً، وما نعرفه عنها لا يتعدى الوقائع التي غيّرت شكل حياتها، لا سيّما على الصعيد العائلي وعلاقتها بوالديها، لكنها لم تبح لنا؛ أي نور، أبداً خلال المسرحية عن مشاعرها وعن أحاسيسها تجاه ما يحدث. الوسيلة الوحيدة التي لربما قد عبرتْ عن شيءٍ من أحاسيسها هي رسائلها النصية لرولا، لكن حتى هذه يشوبها الشك والغموض عندما تصبح بيد المحقق في فرع الأمن حيث اعتُقلت رولا لنسمع على لسان المحقق رسائل نور لها.
تتطرق المسرحية إلى المثلية الجنسية في سوريا، وتحديداً عند بداية الثورة، والإطار الذي قدمت فيه هذه القضية يتّسع ليشمل المعاني السياسية للحرية الجنسية التي حُرم من مختلف أشكالها الأفراد في سوريا كما حرموا من حريتهم السياسية، وتجسّد ذلك وضوحاً في المسرحية ضمن مشهد التحقيق والكيفية التي يتعامل بها النظام مع فكرة المثلية الجنسية؛ أي عملاً بمبدأ القوي والضعيف كما يخبرنا كاتب المسرحية، يقول قدور مستعيداً أحد الحوارات الدائرة في المسرحية: «في الخدمة العسكرية جرت علاقة بين مُجندين، وعندما كانت العلاقة عبارة عن اغتصاب عنيف بهدف الإذلال كانت بأمرٍ من الضابط، ولكن عندما تحوّلت إلى علاقة جنسية بمشاعر وعواطف وحب، راح الضابط يراقب المُجنّدَين إلى أن تمّ إعدامهما. المثلية الجنسية ممنوعة بحب، ولكن مسموح أن نفعل ذلك بعنف وبهدف الإذلال». إذاً فالحرية الجنسية هي واحدة من معارك التحرر التي لا تنفصل في جوهرها عن الحرية التي طالب بها الشعب السوري منذ 2011، وهو ما يعبر عنه قدور من خلال توظيف تساؤلٍ أبعد من تعقيد المثلية الجنسية في مجتمعاتنا ومساحات المقبول والمُحرّم: «في النهاية الحرية لا تتجزأ، وهل كان الأمر سيختلف لو استبدلنا العلاقة بين شابتين بعلاقة بين فتاة وشاب، وذلك لأننا نعمل ضمن معايير المجتمع المقبولة والمتعارف عليها! نحن لم نجزم بأنّ الفتاتين كانتا على علاقة، وقد يكون المحقق كذاباً كما تدّعي الفتاة في المسرحية، وقد يكون الأمر برمته ينطوي على أنّ المحقق قد استخدم تهمة المثلية الجنسية للتلاعب بالصبية الماثلة أمامه، ثمّ أخبر الأب الذي تربطه صلاتٌ بالدولة بهذه التهمة، ليتعامل معها على أنها حقيقة، ومن ثمّ حين نقل هذه الحقيقة إلى الأم، تعاملت بدورها مع الموضوع على أنه حقيقة راسخة، وقد يكون اعتراف رولا بالعلاقة الجنسية مع الفتاة الأخرى في نهاية المسرحية اعترافاً كيدياً. قد لا يكون هنالك قضية مثلية جنسية في الحقيقة، ولكن المسرحية تحاول إبراز كيف أنّ النظام أعطى لنفسه الحق في أن يكون في سريرك، وأن يرسم حدود علاقاتك».
استخدم العرض المسرحي الطوبَ في السينوغرافيا، ليخلق فضاء مدينةٍ يُفترض أنها دمشق؛ حيث تدور أحداث المسرحية، وذلك بالتعاون مع السينوغراف الفرنسي جان كريستوف لانكوتان. وبعد إجراء ورشة والتجريب بأكثر من طريقة، تمّ التوصل إلى شكل قطع الطوب وآلية تحريكها بما يخدم فكرة المسرحية. يقول وائل قدور عن ذلك: «إنّ الطوب هي المادة الأساسية في البناء، سواء بناء المشافي أو الجامعات أو بناء البيوت والمعتقلات، كما أنها تكتسب معنىً خاص لدى السوريين كونها مادة البناء والهدم في آنٍ واحد»، وهذا بدوره يُحيلنا إلى فكرة الحواجز بمعانيها ودلالاتها المختلفة؛ سواءً على شكل جدران تضيّق الخناق في كبتها للحريات الخاصة، أو على شكل حواجز تفصل السوريين بعضهم عن بعض.
قدّم كلٌّ من وائل قدور ومحمد آل رشي في مسرحية وقائع عن مدينة لا نعرفها، جانباً قد جرى التعتيم عليه في دمشق في زمن الثورة، من زاويةٍ تنطلق من اشتباك القصص الخاصة للأفراد مع السياق السياسي الأعم، ويمكننا أن نفهم هذه العودة إلى 2011، بدلاً من اختيار موضوع راهن زمنياً، على أنها محاولة تلمّسٍ للماضي على ضوء مآلات الثورة وجراحها، كما أنه خيار إبداعي يسمح بالتعرف على المدينة والتشكيك بروايات احتلت المشهد العام على حساب حكايا الناس التي لا تقل حساسيةً وتعقيداً عن الحدث السوري، ونقطة انطلاق هذه الرحلة إلى الماضي هي حاجتنا الملحّة لفهم الراهن على ضوء الماضي الفردي والجمعي. لقد وظفّت المسرحية جميع زوايا طَرحِها للعلاقة بين الشابتين وسط الفضاء العام للثورة، وضمن الجو العائلي للطبقة الغنية اقتصادياً في تعاملها مع مثلية ابنتها، في سبيل تفكيك الارتباط بين السلطة والحرية الجنسية والعلاقة الطبقية بين عائلتين جمعت أفرادهما سابقاً علاقةٌ أسريّة تهدّمت بفعل التمايز الطبقي والاجتماعي الذي رسّخته السلطوية الحاكمة، فكان كل موضوع تطرقت له المسرحية من هذه المواضيع بمثابة مدخلٍ لمناقشة الموضوع الآخر على شكل مجموعة من الأسئلة.
ولكنّ أكثر الأسئلة الجوهرية التي حرّكت العمل كما يصفه قدور هو: «إلى أي درجة كنا أحراراً، هل أستطيع أن أستيقظ صباحاً وأقول لا أريد هذا الرئيس دون أن تُطلق رصاصة في رأسي أو أن أُسجن؟ هل بإمكاني مساءلة طبقتي الاجتماعية أو تغيير هويتي الجنسية؟ إنّ حدود الحرية قبل وبعد الثورة ضمن حدود الضغط الاجتماعي الذي نعيش فيه، كانت جميعها أسئلةً حاولنا البحث فيها».
كان لافتاً في العرض أنّه لم يكن جهداً سورياً خالصاً، بل هو ثمرة تعاون بين كادر عمل سوري وفرنسي ولبناني، وقد جسّدت شخصيتي الممرضة ورولا مُمثلتان لبنانيتان هما حنان الديراني وتمارى سعد اللتين لم تعمدا إلى مقاربة اللكنة السورية، بل أديتا بلكنتيهما، وإذا كان المُتابع الأجنبي غير قادرٍ على التمييز في هذه النقطة لأنّه سيتعامل في النهاية مع الترجمة المرافقة من خلال جهاز إسقاط على لوحة قماشية في زاوية المسرح، فإن المتلقي السوري والعربي عموماً لن يجد في ذلك ما يُضعف النص، ولعلّ ذلك معزوٌّ إلى أنّ اللبنانيين واللبنانيات ليسوا بعيدين عن السياق السوري، وهم قادرون على تجسيد صورٍ منه دون أن تبدو مصطنعة.
يبقى أنّ المتابع غير الناطق بالعربية قد فاتته كثيرٌ من المعاني التي تحملها اللهجة السورية المحلية المستعملة في معظم المسرحية، وقد فاته أيضاً دلالات المفردة في الجملة العربية، خصوصاً في المشاهد التي تحضر فيها الممثلة أمل عمران، التي أدّت بإتقان دور والدة نور. لا يمكن للترجمة مهما كانت متقنةً أن تنقل هذه الدلالات، خصوصاً ضمن حوارٍ مسترسلٍ ومتتابعٍ لا يمكن أن تعطّله الحواشي والجمل التوضيحية، ولكنّ هذا نقاشٌ واسعٌ لا يتعلق بهذه المسرحية بقدر ما يتعلق بترجمة الفنون المسرحية والأدائية بشكلٍ عام.