وافقَ ثلثا أعضاء «مجلس الشورى العام» في إدلب، خلال جلسته الطارئة التي عُقدت صباح أمس الإثنين الثامن عشر من تشرين الثاني 2019، على تكليف المهندس علي عبد الرحمن كِده بتشكيل مجلس الوزراء الجديد في حكومة الإنقاذ، الذراع المدني لهيئة تحرير الشام في مناطق سيطرتها في إدلب والأرياف المحيطة بها. وعلي عبد الرحمن كده من مواليد بلدة حربنوش بريف إدلب، وهو مهندس إلكترون وخريج الأكاديمية العسكرية السورية، وجاء اختياره لرئاسة مجلس وزراء حكومة الإنقاذ خلفاً للدكتور فواز هلال بعد قبول مجلس الشورى الاستقالة التي تقدمت بها حكومة الأخير يوم السبت الماضي، فاتحة الباب أمام تكهنات سياسية متعددة؛ تراوحت بين القول إن الأمر لا يعدو كونه نتيجة لنهاية ولاية الحكومة السابقة؛ والقول إن هذه الاستقالة جاءت استجابة لمطالب المتظاهرين الذين دعوا مؤخراً لإسقاطها؛ والقول إنها مناورة سياسية من قبل هيئة تحرير الشام بوصفها الحاكم الفعلي في المنطقة، بهدف التخفيف من حدة الاحتقان الشعبي المتصاعد في إدلب، وإيصال رسالة للمجتمع الدولي والدول الفاعلة في الشأن السوري حول طبيعة وهيكلية الحياة السياسية في المنطقة.

حكومة الأمر الواقع؛ استقالة أم إقالة؟

منذ الإعلان عن تشكيل حكومة الإنقاذ في الثاني من تشرين الثاني (أكتوبر) عام 2017، تحددت ولاية كل تشكيلة حكومية بعام كامل، وهو ما تم تنفيذه أول مرة بعد استقالة الحكومة الأولى نهاية العام 2018، وتسلم حكومة جديدة لمهامها حتى تقديمها استقالتها قبل أيام. ويبدو أن هذا الشكل من العمل يهدف إلى الإيحاء بوجود دورة سياسية «ديمقراطية» في المنطقة، إلّا أن الإعلان في كل مرة تنتهي فيها المدة الزمنية لأعمال الحكومة عن «استقالتها»، يفتح الباب دائماً على البحث في الآلية التي يتم تشكيل هذه الحكومات من خلالها، والهيكلية الإدارية والقانونية لعملها.

يرى محمد، وهو حقوقي وناشط مدني محليّ تم إخفاء كنيته لأسباب أمنية، أن الـ«استقالة» تكون احتجاجاً على أوضاع معينة أو على تدخلات في عمل الحكومة، أو استجابة لمطالب السكان أو نتيجة تقصير في أداء المهام، لكنهم استخدموا كلمة «استقالة» للإيحاء بأن الأمر تم استجابة لمطالب شعبية، وهو ما تمت الإشارة له بشكل موارب في موقع «أنباء الشام» التابع لحكومة الإنقاذ، وعلى لسان نائب رئيس مجلس الوزراء لؤي الحسين، الذي قال إن الاستقالة جاءت «بعد انتهاء ولاية المجلس الحالية، لإفساح المجال لأصحاب الخبرة في المناطق المحررة لتقديم ما لديهم والارتقاء بواقع المنطقة».

يبدو الأمر إذن كما لو أن هناك تعمداً للخلط بين فكرة انتهاء ولاية الحكومة وفقاً لأنظمتها الداخلية، وبين فكرة استقالتها استجابة لمتطلبات أو مطالبات معينة. يضيف محمد في هذا السياق أنه لا يمكن لحكومة أن تؤدي مهامها وتتابع مشاريعها خلال عام واحد، مؤكداً أن هذه الحكومات ما هي إلا «واجهات مدنية وشمّاعات لتعليق أخطاء الحكّام الفعليين، ووسيلة لفرض قرارات ووضعها حيّز التنفيذ دون التمكن من محاسبة أصحابها الفعليين».

لا يعفي محمد الوزراء من المسؤولية عن هذه القرارات، ولا ينفي وجوب محاسبتهم عليها، إلّا أنه يرى أن الحكومة مفروضة بقوة سلاح هيئة تحرير الشام التي يتحكم «أمراؤها» بالحياة العامة السياسية والاقتصادية في المنطقة، وكعادة التنظيمات «الجهادية التي تتصف بعدم الشفافية والكتمان، يبقى دور حكومة الإنقاذ محصوراً في أن تكون جهة تنفيذية تختص بالجباية وتنفيذ الأوامر، دون أن يكون لها أي دور في التخطيط ودراسة الواقع الحياتي والخدمي في المنطقة».

من جهة أخرى يتساءل الناشط المدني مصطفى السعيد عن تزامن هذه الاستقالة مع الاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها المنطقة منذ أيلول الماضي، قائلاً إن الحكومة المستقيلة كان يجب أن تنتهي أعمالها في الواقع منذ آذار الماضي، ولم يكن يفترض أن تتابع عملها حتى انتهاء ولايتها، وذلك لأن مجلس الشورى العام كان قد تشكّل في آذار الماضي، ووضع أعضاؤه على عاتقهم مهمة العمل كسلطة «تشريعية وبرلمانية»، من مهماتها تشكيل الحكومة ومحاسبتها وعزلها أو حلهّا وحجب الثقة عنها.

ويضمّ مجلس الشورى هذا 107 أشخاص، يمثلون سائر المناطق الجغرافية التي تتواجد فيها هيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى ممثلين عن المُهجَّرين والوافدين والنقابات. ويقول السعيد إن مجلس الشورى، شأنه شأن الحكومة، لا يملك أي قرار، واصفاً ما يحدث بـ «المسرحية الشكلية»، فمعظم الأشخاص المنضوين في مجلس الشورى هم من التابعين لهيئة تحرير الشام أو الموالين لها أو المقربين منها، والاستمرار بعمل الحكومة السابقة رغم تشكيله جاء بحسب ما قال أعضاءٌ في المجلس وقتها نتيجة «الحملة العسكرية الأخيرة التي تشنها قوات الأسد وروسيا على المنطقة»، متسائلاً مرة أخرى عمّا إذا كانت هذه الحملة قد توقفت لتُقدِّمَ الحكومة استقالتها؟! معتبراً ذلك دليلاً على أن استقالتها اليوم ليست إلا مناورة سياسية للتحايل على الاحتقان الشعبي والاحتجاجات المتصاعدة.

يخلص السعيد إذن إلى أن الاستقالة جاءت بطلب من هيئة تحرير الشام، لامتصاص غضب الشارع المحتقن بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة، خاصة ما حدث في كفرتخاريم من اقتحام الهيئة للبلدة، والمظاهرات التي طالبت بإقالة حكومة الإنقاذ، ثم رفعت سقف مطالبها إلى حدّ مطالبة هيئة تحرير الشام ورأسها أبو محمد الجولاني بالرحيل عن مدن وبلدات المنطقة.

المظاهرات ضد الهيئة أم ضد الحكومة؟

يؤكد علي (ناشط مدني من كفرتخاريم) على أن المظاهرات ستستمرّ حتى بعد استقالة الحكومة الحالية واستبدالها بحكومة جديدة، ويقول إن «أشخاصها» لن يكونوا أفضل حالاً من سابقيهم، فالحكومة ليست «أشخاصاً» باستقالتهم سيتغير واقع الحال، وإنما هناك ربط لكافة الكوادر والمؤسسات والمجالس المحلية بهيئة تحرير الشام وقراراتها، ومن الضروري أن يتم إسقاط حكومة الإنقاذ لا وزرائها، وهو ما يعني إسقاط سلطة العسكرة والسلاح التي تفرضها هيئة تحرير الشام بالقوة على الجميع في إدلب، والتحول إلى حكومة مدنية منتخبة يكون عملها متابعة حياة السكان لا «نهبهم وسرقتهم».

ويرى علي أن أهالي المنطقة محتقنون وغاضبون، ولا يمكن تهدئتهم، خاصة مع اجتماع الظروف المعيشية السيئة التي زاد من تفاقمها القرارات غير الصائبة بفرض الضرائب والأتاوات على الأساسيات الحياتية كالخبز والوقود والمواسم الزراعية والكهرباء والمياه والسيارات، مع التقهقر العسكري على الجبهات وخسارة مناطق واسعة لصالح قوات الأسد، «البعبع الذي تخيفنا الهيئة من تقدمه دائماً»، والذي لم تستطع إيقاف تقدمه أو مواجهته، بل تكتفي في كل مرة بما تسميه «الانحياز عن المناطق»، لتنتقل مع عناصرها إلى خطوط خلفية تاركة الأهالي لمصيرهم في الموت والقصف والاعتقال والنزوح.

يضيف علي إن ما حدث في كفرتخاريم كان مثالاً واضحاً عن تحكم الهيئة بمفاصل الحياة العامة؛ «أين حكومة الإنقاذ من الشهداء الذين سقطوا في غزوة “الزيت” الأخيرة؟ ومن الاستدعاءات الأمنية التي يتم توجيهها للناشطين والمتظاهرين؟». و«غزوة الزيت» هو الاسم الساخر الذي يطلقه كثير من الأهالي في إدلب على هجوم هيئة تحرير الشام الأخير على مدينة كفرتخاريم، بعد رفض أهلها دفع الضرائب التي فرضتها حكومة الإنقاذ على محصول زيت الزيتون لهذا العام.

يتساءل علي: «إذا كان هناك وزارة للعدل في حكومة الإنقاذ فعلاً، فلماذا تتم الاعتقالات والملاحقات الأمنية بواسطة عناصر الهيئة، الذين أعلن أحدهم منذ فترة وجوب قتل كل من يتظاهر ضد حكمها أو يطالب بإسقاط الجولاني أو رحيله؟». وكان تسجيل صوتي لأحد الأمنيين في الهيئة، اسمه أبو اليمان الحمصي، قد شاع مؤخراً، وفيه يعتبر هذا الأمني أن من يتظاهر ضد الهيئة إنما يتظاهر ضد الإسلام، وإنه يجب قتل جميع المتظاهرين ضد الهيئة.

من جهة أخرى، يقول الحقوقي والناشط المدني محمد إن عائدات المنطقة تذهب بمجملها إلى جيوب أمراء الهيئة، وهي مبالغ كبيرة تقدر بملايين الدولارات شهرياً، دون أن يتم مساءلتهم من قبل الحكومة التي لم تستطع تنفيذ أي مشروع خدمي في المنطقة. ويشرح محمد أن سعر الوقود ارتفع إلى الضعف خلال الأشهر الأخيرة ومع دخول فصل الشتاء، كذلك الطرق المحفرة وربطة الخبز التي انخفضت أعداد أرغفتها بنسبة 20%، كذلك التعليم الذي توقف في المنطقة، ناهيك عن ضعف الاستجابة في المخيمات، إذ لم تقدم إدارة المهجرين أي مساعدة لنحو مليون شخص نزحوا في الآونة الأخيرة، بل عمدت إلى فرض أتاوة على عمل المنظمات بأخذ قسم من المواد لصالحها، وكذلك تأجير الأراضي العشوائية لسكان المخيمات بدلاً من تقديم الخدمات لهم، أما التجار وأصحاب المولدات فهم واجهات مدنية لأشخاص متنفذين في الهيئة يفرضون الأسعار التي يريدونها دون رقابة أو محاسبة، وبالتعاون مع المجالس المحلية التي هي في الأصل بـ «لا حول ولا قوة» بعد تشكيل معظمها من الموالين للهيئة أيضاً.

ويكمل محمد أن الجولاني زعيم الهيئة، وبعضاً من المقربين من دائرته، يتمثلون المقولة «أينما أمطرت فخراجها لي»، دون الوقوف على أحوال السكان، تاركين لـ «حكومة الإنقاذ» تلقي الصفعات عنهم، واصفاً الوزراء في الحكومة بـ «وجه المقابحة» الذي يتم الاستغناء عنه في كل مرة يحتجّ السكان فيها، ليتم تحميلهم مسؤولية فساده وتجاوزاته.

مظاهرات شعبية منظمة

يقول علي إن المظاهرات لا تتبع لأي أجندة خارجية ولا لأي تيار سياسي أو عسكري، إلّا أنها ليست عفوية أيضاً، إذ لا يمكن الدعوة للاحتجاج دون تنسيق، وهو ما يتم بالفعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغرف الواتس آب بالدعوة للمظاهرات من قبل ناشطين وفعاليات مدنية وثورية، تقوم بتجهيز اللافتات وساحات التظاهر والأمور اللوجستية، والاتفاق مع الفعاليات في مناطق أخرى للخروج في مظاهرات موحدة وبمطالب تعبر عن السكان ومعاناتهم.

كما يتم استغلال مظاهرات يوم الجمعة للحديث عن تجاوزات الحكومة والهيئة، التي لا تقل أهمية عن المطالبة بإسقاط النظام وجرائمه. يقول أحمد (أحد منسقي المظاهرات) إن اللافتات المكتوبة والهتافات التي يطلقها المتظاهرون عفوية، هي تعبر عما في داخلهم في ظل سياسة الخوف. يتابع: «في البداية سمحت الهيئة بهذه المظاهرات في الأسابيع الأولى وكان هناك تواجد لبعض عناصرها، خاصة حين كان الأمر يتعلق بانتقاد أداء حكومة الإنقاذ، ومع ارتفاع سقف المطالب ليطال الهيئة ورجالاتها بدأت الهيئة بالتضييق على الناشطين واستدعائهم وملاحقته أمنياً، ما أدى إلى تراجع قسم من الأهالي عن الحضور، وخفت حدة هذه المظاهرات خوفاً من الاعتقال».

يرى أحمد أن السماح بالمظاهرات لم يكن في البداية سوى لاستدراج المتظاهرين ومعرفة أسماء ناشطي الحراك لتتم معاقبتهم واعتقالهم لاحقاً، محملاً المسؤولية للهيئة عن اختفاء أو اعتقال المتظاهرين الذين خرجوا بوجوه مكشوفة وبأسماء معروفة، وتم تصويرهم وتداول الفيديوهات التي يظهرون على وسائل التواصل الاجتماعي.

تحاول هيئة تحرير الشام التغيير من سياستها، وتمارس لعبة سياسية تبدو «مكشوفة» للشارع السوري الذي لم «يعد لديه ما يخسره»، بعد أن تسبب حكمها العسكري وواجهته المدنية بإفقار السكان والتحكم بمصيرهم ومواردهم وخسارة لمساحات واسعة من المناطق لصالح النظام. ويرى السعيد أن المنطقة ستشهد مظاهرات كبيرة في المستقبل القريب، لأن استبدال «هلال بـ كِده» لا يغير من حقيقة الأمر، وإنما هو «إبرة مخدر» لن تنفع، فـ كِده كان معاوناً لوزير الداخلية في الحكومة السابقة، وشيوع الحديث عن تبعيته لفصيل فيلق الشام المقرّب من تركيا ما هو إلّا خلطُ أوراق من قبل الهيئة، لتصدير واجهات جديدة تبعد المسؤولية عنها، فيمت تبقى في يدها السيطرة على أمور الحياة كافة.