غالباً ما تبتكر الروائية روزا ياسين حسن عنصراً حكائياً في روايتها، يكون حاملاً لكل أنواع السرد، حتى التوثيقي منها. يتحقق هذا العامل السردي إما من خلال طبيعة تكوين الحكاية، كما في الذين مسّهم السحر 2016، وإما من خلال خصوصية الشخصية الأساسية في الرواية كما في رواية نيغاتيف 2008، حيث نجد الساردة-الكاتبة تحاول أن توثق لتجارب المعتقلات السياسية، وبذلك تخلق حاملاً تخييلياً سردياً لما تطلق عليه الروائية اسم الرواية التوثيقية. كذلك الأمر، في رواية حراس الهواء 2009، حيث تجعل الروائية من بطلة الرواية مترجمة فورية في إحدى السفارات، تتلقى العديد من طلبات اللجوء، لتكون هذه المترجمة وسيطاً للتعرف على كثير من طلبات الهجرة التي تتعلق بحكايات اضطهاد من الأنظمة القمعية، وشهادات في أنواع التعذيب وقمع الحريات. في روايتها الأخيرة بين حبال الماء، 2019، الصادرة عن داريّ سرد وممدوح عدوان، وعلى غرار المترجمة الفورية التي تتعرف على واقع البلاد عبر شهادات طالبي اللجوء، تبتكر الروائية شخصية الشاب السينمائي، الذي سيتم التنقّل من خلال نظرته الفنية بين أحداث محورية من تاريخ الحدث السوري، قبل العام 2011، مروراً بكل الأحداث التي تلت هذا العام، وصولاً إلى رحلات اللجوء في قوارب الموت التي عايشها الشعب السوري.
التاريخ، دونكيشوتات سورية مسكينة
تُروى الرواية على لسان الشخصية الأساسية، وهو تموز الذي فقد والديه في حادث سيارة عندما كان في الثامنة من عمره، وتابع حياته مع جده سهيل متنقلاً بين قرية كرم الزيتون والعاصمة دمشق؛ هو الآن في الثانية والعشرين من العمر. في إشارة عابرة تمر في بداية الرواية، نقع على إحدى رؤى تموز التي تعكس علاقته مع بلده سورية، وذلك من خلال شعوره بأن أصحاب الشخصيات التاريخية السورية التي يرى تماثيلها في الساحات مثل صلاح الدين ويوسف العظمة؛ والتي يرى أنها ناضلت لأجل قضايا مثالية وحالمة، كانوا فرساناً في زمن انتهاء الفروسية: (كأنهم دونكيشوتات سوريّة مسكينة). لاحقاً في أحداث الرواية، ستحوّلُ الثورة السورية 2011، اهتمامه إلى بلده، حيث سيُتاح له اكتشافها، كغيره من الشباب والشابات.
العالم السفلي في دبي
يُبنى العالم السفلي في دبي في الرواية من خلال ثلاث خطوط: الخط الأول عالم العمّال في الأنظمة الرأسمالية، الخط الثاني عالم العاملات الجنسيات بنات الليل، والخط الثالث عالم الرأسمالية من خلال التطرق إلى العمل في الشركات الكبرى.
العمال المُهمّشون: منذ ستينيات القرن الماضي، ومع اكتشاف النفط في دولة الإمارات العربية المتحدة، تشكلت ظاهرة هجرة أبناء المشرق العربي للعمل في الخليج العربي، وتبلورت الظاهرة بوضوح مع سنوات السبعينيات والثمانينيات. يسافر بطل الرواية، تموز، للعمل في مول تجاري في دبي، ومنذ السطور الأولى للرواية ترسم المؤلفة عالم تموز السفلي في دبي: «كان علينا أن ندخل المول من المدخل الخلفي، فالمداخل الأمامية للمولات ليست لنا. مداخل المعابد العملاقة لا يدخلها إلا السادة، أصحاب المال، ورجال الدين، ولنا نحن، الهامشيين، المداخل الخلفية التي لا يعلم أحد بوجودها».
عالم بنات الليل: دبي تمثل أيضاً عالماً من الانفتاح على الجنسيات المتعددة. ذلك نعيشه في الرواية عندما يغوص تموز في عالم بنات الليل. اللجوء إلى العاملات الجنسيات هي ظاهرة تتكرر في تجارب شبان بلاد الشام العاملين في دبي، وبالنسبة إلى تموز ستكون هذه الحياة نافذة للتعرف على أحوال العالم من خلال الأحاديث إلى العاملات الأجنبيات مثل الصينية صديقته في العمل، وكذلك العاملات الجنسيات، كالألمانية جوليا، ومليكة الأوزبكية التي اعتقلت في معسكرات المتشددين الأفغان؛ يقول تموز: «كان عالم بنات الليل قد بدأ يذهلني، لكل واحدة منهنّ حكايتها المختلفة عن الأخرى، لكل واحدة شخصيتها المتفردة، أداؤها، وجمالها كذلك. عالمٌ غنيٌ مُتاح أمامك كل يوم لتكتشفه، والأمر لا يتعلق بممارسة الجنس فحسب، بل أبعد من ذلك، كأنك كل يوم ترى فيلماً جديداً».
عالم المال والشركات: رغم أنه عالم معاكس لطبقة العمال في التصنيف الهرمي الإقتصادي، إلا أن الروائية ترسم عالم المال والشركات أيضاً وكأنه عالم يستهلك الفرد بشروطه ومغرياته، يسحبه أو يفرض عليه طريقة من التفكير والتصرف، وأسلوب حياة يستلبه كما هو عالم العمّال أيضاً. ينتقل تموز من وظيفة العامل في المول إلى التجارة والدخول في عالم الشركات الكبرى، وهو يُبدي تأففاً في سياق الرواية من انغماسه في عالم المال، واستلابه لصالح منطق الشركات. ينتقد المال في مونولوجاته الداخلية، كما ينتقد نظام الشركات في تأملاته الذاتية. ولكي يكتمل رسم هذا العالم كعالم استلابي، يبدأ تموز الغوص فيه متناسياً حلمه الأساسي الذي أتى لأجله إلى دبي، ألا وهو تجميع مبلغ مالي يُمكّنه من دراسة السينما في كوبا، حلمٌ ما لبث أن تبدد مع انغماسه في شروط الرأسمالية الجديدة.
الفن السينمائي داخل العمل الروائي
حين تختار الكاتبة أن تكون السينما جزءاً من عملها الروائي، فإن الأسئلة السردية تتعلق بكيفية دمج خصوصيات الفن السينمائي داخل السرد الروائي. ترسم الروائية بعناية ذهنية شخصية مفتونة بالأفلام وشخصياتها، تستلهم الأفلام السينمائية في وصف الأحداث الواقعية التي يعايشها بطل الرواية، وكذلك تستعمل السيناريو السينمائي في السرد لتروي من خلاله حكايات ومقتطفات من التجربة السورية، عن طريق ثلاث سكريبتات تدمجها في الرواية، تسمح لها بالإضاءة على ظواهر تراها هامة في الحدث السوري.
في طفولته، شاهد تموز فيلماً عن حياة فتى صغير، ومن خلاله فوجئ بقدرة السينما على نقل حيوات البشر وتفاصيلهم. منذ الطفولة تنطلق الكاتبة في رسم الملمح الأساسي في شخصية بطلها، وهو الولع بالسينما. ترسمها الروائية بعناية في ذهنية تموز، فيعبر عن شغفه في أفكاره الخاصة: «باختصار عشق السينما هو أن تقول كمشاهد شغوف لفيلم: ‘لا’، حين يقرر المخرج أن يقول: ‘كات’، وينهي المشهد. لا، ليس هنا أوان النهاية أبداً». يصطحب تموز شخصياتِ الأفلام التي يراها معه إلى البيت، يبيتون إلى جانبه في السرير، يحادثهم، يناقشهم، يضحك ويحزن معهم.
لا تنسى الكاتبة أن ترصد بعض عادات وممارسات محبي الأفلام، إذ نرى بطل الرواية يحبس نفسه في الغرفة لمشاهدة الأفلام، تمر عليه الأسابيع وهو يشاهد الأفلام دون توقف، يغفو على آخر مشهد من فيلم ليعيش في الحلم مع أبطاله وشخصياته، وأحياناً يكمل رسم مشاهد جديدة ومغايرة، وما يلبث أن يستيقظ ليتابع الترحال في عوالم فيلم آخر، فهو يعتبر أن : «الحياة هناك أمام الكادر وسط كل تلك الأمداء اللانهائية، مع كل تلك اللغات والألوان والروائح والأمكنة والفلسفات والأفكار».
في المحكية العربية، تستعمل كلمة «سينما» للإشارة إلى الفن السينمائي، وكذلك إلى الصالات، وهو ما لا يغيب عن بال المؤلفة، فبعد أن تهتم بعشق تموز للأفلام وشخصياتها، تخصص مقاطعاً في الرواية لوصف مشاعره تجاه صالات السينما، كما هذا الوصف الرائع الذي يشرح عن صالات السينما الفارغة بعد عروض الأفلام: «صالات السينما بعد انتهاء العروض عالم آخر تماماً، حبلى بمئات الأسئلة التي تركتها الأفلام فيها، مليئة بموجات من الأصوات المتلاطمة المتداخلة، تغصّ بالعشرات من المشاعر المتناقضة، حتى ليكاد المرء يشعر بأن جدرانها تئن من حرارة الأجساد ولذعة الدمع وضربات القلوب المضطربة»..
استلهام الأفلام السينمائية لوصف أحداث من الواقع
مع كل تجربة حياتية يمرّ بها، يستلهم تموز فيلماً سينمائياً لوصفها وإيجاد المقاربة الملائمة لسردها. فتجربة الجنس مثلاً، تجربة اكتشاف الجسد الأولى، تُذكِّرُهُ بفيلم البحيرة الزرقاء 1980، ومحاولته الانتحار بعد تجربة العشق الأولى تُذكّره بانتحار الروائية فرجينيا وولف في فيلم الساعات 2002، وحين التفكير في الحرب يقارن نفسه بجندي فيلم أحلام 1990، الذي تلاحقه أرواح الموتى من رفاقه بين نفق الحياة والموت. وحين الحديث عن عالم رأس المال، تستعمل الكاتبة الصورة الشهيرة لشارلي شابلن في فيلم الأزمنة الحديثة 1936، حين يَعلَقُ العامل داخل الآلة: «حين تزلّ قدمك في عجلة رأس المال لا يعود ثمة فرصة للخروج، تاخذك الحركة الدائرية لتلك العجلة متزايدة السرعة حتى العدم، تماماً كالعامل شارلي شابلن، ذلك الذي لا تنفك يداه تتحركان بوتيرة واحدة رتيبة ومدروسة كآلة».
كذلك تُطعِّمُ الكاتبة نصها بحوارات من أفلام سينمائية، فمثلاً عند الحديث عن نظام الشركات العالمي، تستعير ما يقوله ماكس شوماخر من فيلم الشبكة 1976: «لا يوجد أمم، لا يوجد شعوب، لا يوجد عالم ثالث ولا غرب، يوجد نظام مقدس للأنظمة، نظام واسع، هائل، متعدد الجنسيات من الدولارات، دولارات بترولية، دولارات إلكترونية، دولارات متعددة الأشكال. الشركات هي أمم العالم اليوم، العالم هو البزنس».
سورية أرض الأفلام
مع قيام الثورة السورية في العام 2011، عايش السوريون من مختلف أطيافهم تجربة متماثلة، وهي إعادة إكتشاف وطنهم، الذي أصبح مجدداً مثار اهتمامهم. وحين معالجة هذه التجربة الجديدة روائياً، تخلق الروائية منطقاً ذهنياً فردياً لبطلها، لكنه يعبّر أيضاً عن نموذج جمعي سوري. فصحيح أن إعادة اكتشاف الوطن تجربة جديدة على مستوى الوعي الجمعي، إلا أنه لكل فرد أسبابٌ وأفكارٌ ذاتية دفعته للانجذاب مجدداً إلى سورية. فعاشق الأفلام، تموز، مثلاً، بعد انغماسه التام في عالم الرأسمالية والشركات ونسيان حلمه في دراسة السينما في كوبا، ما يلبث أن يقدم للقارئ أفكاراً ومونولوجات تبين أسبابه الذاتية في إعادة الإهتمام ببلده، هي تلك الحكايات والقصص التي خرجت من المجتمع السوري منذ العام 2011. يُفكّرُ تموز عن سورية: «إن بركاناً في بلدي يستعر، حيث تُخلق هناك الآلاف من القصص، وأنا ما زلت هنا؟ المئات من الأفلام بانتظاري هناك لأوقظها من سباتها. الآن آلاف الشباب والصبايا، غير الخبيرين، يصنعون السينما بعفوية وصدق هنا».
عدا عن كم الصور والفيديوهات التي خرجت من سورية خلال هذه المرحلة، فإن الثورة السورية زدات من إنتاج الأفلام السينمائية المستقلة. لقد ظهرت سينما مستقلّة عمادها أفلامٌ يصنعها مصورون هواة، يوظفون فيها تقنيات سينمائية بسيطة، تُمكِّنُهُم من عكس الواقع والتعبير عن موضوعاتهم. هذا الإنتاج السينمائي السوري الجديد يدفع بطل الرواية للعودة إلى بلاده، ومعه سلسلة لا متناهية من الأفلام تتلاطم في خياله. يعتبر تموز أن ما دفعه للعودة ليس حسّاً ثورياً، ولا موقفاً سياسياً، ولا رغبة بالمشاركة في صنع التاريخ، بل رغبة صناعة الأفلام التي طالما حلم طويلاً بصنعها، أي أنه يحصر مشاركته بدوره الفني، ولا يرغب بالتدخل في الحدث السياسي؛ إنه يلتزم بدور الفنان في صناعة الأفلام عن قصص مجتمعه، يوضح ذلك: «فسورية كانت بالنسبة لي في تلك الفترة أرض الأفلام».
سورية تشبه أفلام الرعب والأهوال
عبر المقارنة بالأفلام، يحاول تموز أن ينقل لنا أحوال بعض المدن السورية، يقارن الحال في حماة بحال فيتنام وكمبوديا في فيلم القيامة الآن 1979، ويقارن بين مدينة حمص بمدينة بيروت في فيلم بيروت الغربية 1998، وهكذا. في رحلة بطل الرواية لتصوير الأفلام، ترسم المؤلفة معالم المناطق الثائرة، المحاصرة، والخاضعة للمعارك. وعبر الحكاية التخييلية، وتقنية المقارنة بين الواقع والفن توثق لحال مناطق الحرب، تركز على مشاركة المرأة في الأعمال الاجتماعية، تناقش حمل الثورة للسلاح وتحولّها من السلمية إلى العسكرة، تدين الرعب وتفرد فقرات خاصة لمناقشته: «في مملكة الجنون الوحشية هذه، هل هناك حقاً إله وقاتل في داخل كل منا؟». وعن أسئلة الفنان أمام الرعب نقرأ: «كيف يمكنني أن أصادق الرعب والإرهاب الأخلاقي، وأنا فنان بكاميرا. أتيت لألتقط أفلامي من عيون الناس المتحررين وصرخات الثائرين، وإذا بي أُرمى في جحيم لا يمكنني الخروج منه، لا يمكنني أن أتركه ببساطة وأعاود حياتي الطبيعية التي كانت قبلاً».
التجربة السورية بين الموت، الاعتقال، وقوارب النزوح
في الرواية، تفرد الكاتبة ثلاثة فقرات خاصة، كل منها يمثل فيلماً صوّره تموز من مناطق الحرب والرعب. تُروى هذه الأفلام الثلاثة للقارئ على أنها ثلاثة سكريبتات، أي أن المؤلفة تدمج سيناريوهات الأفلام داخل النص الروائي لتحكي لنا حكاية هذه الأفلام الثلاثة، وتمنح هذه الثلاثية عنواناً هو: «أحلام مُعدّة للنسيان»، تتكرر فيهم واقعة رؤية الموتى والتواصل مع أرواحهم، موضوعة الموت والتواصل مع أرواح الضحايا، التي انتشرت بعد العام 2011 في كامل أنواع الفن السوري.
السكريبت الأول بعنوان: «قبة خضراء مزرقّة» عن أبو علوان شيخ جامع في المناطق الثائرة، والتي تتعرض للقصف، يتوقف عن إلقاء الخطب الدينية بسبب تدخل المسلحين في مضمون كلامه، وفي حكايته تلك القدرة التي يمتلكها على رؤية أرواح الضحايا والتواصل مع الموتى. السكريبت الثاني بعنوان: «فساتين الأحلام لا تزهر»، عن مُعتقل يفتقد إلى العالم الأنثوي في السجن، والسكريبت الثالث بعنوان: «أساطير الشتات» عن امرأة حبلى، تلد بينما هي في رحلة الهروب بين أرتال المهاجرين، وينتهي هذا الفيلم مع مشهد يتحدث فيه المهاجرون إلى الأشباح، يسألونهم عن الأشخاص المفقودين والغائبين. ثلاثة سكريبتات نقرأها في الرواية، اختيرت حكاياتها للرمزية التي تحملها في عكس الواقع السوري، بين الموت والاعتقال وآلام النزوح.
منذ العام 2011 ، تتكاثر النصوص الأدبية التي تعكس موضوعة الموت والاعتقال، وفي السنوات الأخيرة بدأت تظهر الأعمال الفنية التي تقارب تجربة النزوح، رحلات الهرب من الموت إلى خارج الحدود السورية. يكتسب القسم الأخير من رواية بين حبال الماء أهمية خاصة لأنه يتابع هذه الموضوعة، عملية النزوح من سورية، والعبور إلى اليونان في البحر عبر تركيا. تنتقل بنا الرواية بين الحواجز التي تخضع لقوى مسلحة متعددة على الأراضي السورية، كذلك يتعرض بطل الرواية للاعتقال عند الفصائل الدينية بينما يحاول الانتقال إلى الأراضي التركية، ويقابل هناك ناشطاً سلمياً ديمقراطياً اعتُقل من قبل كل أطراف النزاع في سورية، ومن ثم تنتقل الرواية للحديث عن تجارة تهريب البشر: «التجارة الرابحة اليوم هي تجارة تهريب البشر، أربح من أي تجارة أخرى، فالكل يريد النجاة، والنجاة تعني الوصول إلى شواطئ أوروبا، والوصول إلى بر الأمان غير ممكن إلا بواسطة هؤلاء المهربين». لقد أصبحت مياه البحر المتوسط مقبرةً جماعية: «كانت أخبار كثيرة قد وصلتنا عن مئات ممن غرقوا في البحر المتوسط، أجسادهم تتكئ الآن في قعره وتنظر إلينا نحن القادمين إلى لجة المياه. سأقطع اليوم مقبرة البحر المتوسط، وسأشمّ روائح الجثث المنتفخة، وقد أرى أشباحهم ترفرف فوق صفحة الماء».
رحلة اللجوء القسري عبر البحر بقوارب الموت آخر مراحل الرواية، حوالي 200 شخص في قارب نجاة، ينقلب القارب ويحاول الركاب التمسك برمق الحياة الأخير، أم وابنها يمسكان بجسد تموز يطلبان منه الإنقاذ، يفلت تموز الأم ويترك أمواج البحر تبتعلها وابنها، فالخلاص في هذه اللحظات يصبح فردياً، ويحمل شعوراً عارماً بالذنب: «فقدتُ كاميرتي، فقدتُ إنسانيتي وبراءتي وغدوت قاتلاً». ورغم خسارته لكل أفلامه التي صورها، ومحاولته الانتحار بسبب شروط العيش عند وصوله إلى مخيم في اليونان يشبه سجون الغستابو في الحرب العالمية الثانية، حسب وصفه، إلا أن المؤلفة تأبى إنهاء الحكاية إلا بدوافع للأمل، فينهض بطل الرواية من محاولة انتحاره ليقول: «ما زال الوقت مبكراً للموت، ثمة الكثير من الأفلام بانتظاري لأخرجها إلى الضوء، وما زالت الكثير من الحكايات بانتظاري لأرويها».
على أمل صناعة أفلام وروي حكايات جديدة، تنهي المؤلفة رواية متماسكة في البنية السردية، تمتع القارئ بالتنويع بين الذاكرة السينمائية وبين الأحداث المتسلسلة في الرواية. وتثبت المؤلفة قدرة على مزج السرد الأدبي بخصوصيات الفن السينمائي، كما تدمج سكريبتات أفلام داخل متن الرواية. وتتناول موضوعات من نقد العالم الرأسمالي الذي يستلب أفراده، إلى الحرب التي لا تأبه بضحاياها، إلى النزوح من الموت إلى الأمل، عبر الفن.