قد لا تخلو عائلة سورية من أحد قرر خلال العقود الماضية ترتيب حقيبته وتوديع أهله مؤقتاً إلى إحدى الدول الخليجية، التي بدأت بحصد نتائج اقتصادها المزدهر، جراء اكتشاف النفط وقدوم الاستثمارات الأجنبية، لتتفوق على جيرانها في المنطقة في هذا الجانب بشكل متسارع، مستقطبة الأيدي العاملة والكفاءات من جميع أنحاء العالم.
كان معظم الراغبين بالعمل في هذه البلدان يُدركون أن الذهاب إليها هو ذهاب مؤقت لـ«تحويش» ما يمكن، والعودة إلى بلادهم بعد شراء ممتلكات فيها. ذلك أن البقاء في هذه البلاد المزدهرة اقتصادياً بشكل متسارع، وإن كان خياراً مُتاحاً شريطة العمل في ظل الكفيل، لا يُعطي المقيم حقوقاً مع مرور الوقت، كالجنسية والأوراق والتقاعد والمعاملة المتساوية كمواطنين، وهو ما يحُتّم على الوافد ضرورة إدراك أن أية لحظة قد تكون لحظة العودة إلى بلاده، التي كانت آمنة في ذلك الحين وفقاً لمعايير اليوم، وبإمكان مواطنيها العودة إليها متى شاؤوا، باستثناء أولئك الخارجين لأسباب سياسية بعد مواجهات مع أنظمتهم القمعية.
اختلف الوضع بعد الربيع العربي، وأصبح ملايين السوريين والعرب المعارضين لأنظمتهم مضطرين للخروج من بلادهم، أو عدم العودة إليها إن كانوا في المنافي، بسبب التهديد الذي يطال حياتهم وأمنهم، ما أجبر المقيمين منهم في دول الخليج على الحرص على عدم المغامرة والسير بخطوات حذرة، فبلادهم، التي كانوا مطمئنين إلى إمكانية العودة إليها ذات يوم، تترصدهم بالسجون والميلشيات، فيما تتزايد الدول التي تُغلق الأبواب في وجوههم بعد موجات اللجوء الكثيفة خلال الأعوام الأخيرة.
كانت للدول الخليجية مواقف متفاوتة من الثورات العربية، وكانت فاعلة كأطراف تؤيد أو تعارض هذا الحراك أو ذاك، وفقاً لعوامل عدة، كإيران والإخوان مثلاً، ومع ازدياد المشهد تعقيداً في هذه الثورات، وحصار قطر الذي بدأ في عام 2017، أصبح من غير السديد التحدث عن دول الخليج بصفتها كتلة واحدة، وتحاول هذه المادة تسليط الضوء على أثر هذه التناقضات والمعطيات على وضع السوريين فيها.
«ضريبة الدخل»
لا شك في أن معدلات الدّخل في دول مثل الإمارات والسعودية وقطر والكويت، أعلى من نظيراتها في دول العالم العربي وبعض الدول المتقدمة حول العالم عموماً، وكان هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع الوافدين من كل أنحاء العالم إلى الاتجاه نحو هذه البلدان.
إلا أن معدلات الدخل العالية قد يخبو بريقها حين يسمع الشخص شكاوى من نسبة غير قليلة من المقيمين هناك، بسبب عدم قدرتهم على توفير المال، نظراً للمصاريف العالية التي تفرضها الأسعار ونمط الحياة السائد.
الإيجارات الغالية والأقساط والفواتير، تُضاف إلى أسباب كثيرة مسببة حالة من قلة الرضا لدى عدد كبير من المقيمين هناك، ومن هذه الأسباب أنه لا ضمان اجتماعي، ولا إقامة إلا في ظل الكفيل، الذي قد يكون شخصاً أو شركة، ولا فرصة لأن يحظى المقيم في هذه البلدان بحقوق المواطنة مهما طال الوقت، إضافة إلى أن ثمة شعوراً عميقاً لدى المقيم في بلدان كهذه بأنه يسفح وقته في دوائر من التوتر والإجهاد، خلف المكاتب والآلات، محاطاً بالحديد والإسمنت، ومُفتقداً للأمان فيما يخص المستقبل، ومُعرَّضَاً في كلّ لحظة لاحتمالات غضب المدير وكوابيس انقطاع المدخول والاضطرار للرحيل، فيما تنتظره يد جلادي بلاده التي ترفع السوط والبندقية، ويعبس في وجهه كل موظفي مطارات العالم.
خالد درّاج (اسم مستعار لأحد المقيمين في السعودية منذ فترة طويلة) قال في حديث للجمهورية إن «نظام الكفالة يسري في السعودية على جميع الوافدين، فلا يستطيع أي مقيم، مهما كانت جنسيته، الإقامة في المملكة إلا من خلال كفيل، وتتفاوت قيود ومرونة هذه الكفالة بين دول التعاون الخليجي، فهناك سلطة للكفيل السعودي أكبر من سلطة نظيره الإماراتي مثلاً. والمقيم الأجنبي هنا رغم أنه يحصل على مدخول أعلى من ذلك الذي يمكن أن يتقاضاه في أماكن أخرى حول العالم، إلا أنه لا يحصل على حقوق قانونية تطمئنه بخصوص المستقبل مهما طالت مدة إقامته. السوريون والعرب الذين لا يستطيعون العودة إلى بلادهم المحكومة بالديكتاتوريات والفوضى، مصيرهم في يد الكفيل، وليس هناك أفق واضح يمكن استطلاعه فيما يخص الوضع القانوني غير المحصّن من التغيّر بين ليلة وضحاها، وهذا ما يدفع معظم المقيمين هنا أو في دول الخليج الأخرى، كقطر والإمارات والكويت، إلى التفكير ببدائل للإقامة في أماكن أخرى لهم، تضمن مستقبلاً أكثر وضوحاً لهم ولعائلاتهم».
الصعوبات تُفرّق الأُسر
يضيف درّاج متحدثاً عن الصعوبات الأخرى التي تواجه الوافدين: «لا يستطيع الطلاب السوريون، حالهم كحال معظم الوافدين، الدراسة في الجامعات الحكومية السعودية، ولا خيار أمام الشباب والصبايا السوريين الذين أنهوا دراستهم الثانوية في السعودية للدراسة إلا في الجامعات الخاصة -المعروفة بغلاء أقساطها الكبير، والذي يعجز حتى أصحاب الدخل المعقول عن دفعها- أو الدراسة في بلد آخر إن أمكن ذلك. وقد لجأت الغالبية العظمى من الوافدين في السعودية إلى إرسال عائلاتهم للإقامة في أماكن أخرى، بعد فرض رسوم على المرافقين للأجانب عام 2017، رسوم تتضاعف في كل عام، لتصل إلى نحو 400 ريال (106 دولار) شهرياً على الفرد الواحد. أي أن المقيم الذي لديه عائلة مكونة من 4 أفراد، يجب عليه دفع ما يقارب 20 ألف ريال سنوياً (أكثر من 5 آلاف دولار)، وهو مبلغ كبير جداً. وهذا مما دفع من يستطيع إلى إرسال عائلته إلى أي مكان آخر والبقاء هنا بغرض العمل. الأسر تفرّقت وهذا واضح في المشهد العام».
تضاف إلى هذه العوامل المساهِمة في تفريق الأسر، عوامل أخرى قد لا يعرف بها كثيرون، وهي أن هناك عائلات قدم بعض أفرادها اللجوء في ألمانيا مثلاً (الدولة التي لجأ إليها العدد الأكبر من السوريين في أوروبا)، وبقي بعض أفراد العائلة في السعودية أو أية دولة خليجية أخرى، وهي دول تصنفها ألمانيا على أنها دول آمنة ولا تقبل إجراءات لم الشمل للأقارب المقيمين فيها، وينتهي أمر عائلات كثيرة بالتشتت، الذي ترسّخه صعوبة تنقل السوريين أصلاً في هذا العالم.
التحزّب وكمامات الخوف
إلى جانب هذه المعطيات التي لها علاقة بالعمل والصيغ القانونية، والتي تجعل الوافد راغباً في مغادرة هذه البلاد، هناك مسائل يُعتبر أثرها العام أكبر من أثرها الخاص، منها تضاؤل هامش حرية التعبير عن الرأي، وغيابه كلياً في بعض الأحيان، فيما يخص مسائل سياسية واجتماعية كثيرة، تُعتبر خطوطاً حمراء.
هذه القيود على القول تكتم أو توجه أصوات الوافدين السوريين والعرب، في زمن تجري فيه تحولات كبرى في بلدانهم، التي تتدخل فيها الدول الخليجية التي يقيمون فيها بشكل مباشر وسلبي غالباً، ما يدفعهم إلى القبض على جمر السلامة والسير إلى جانب الحائط، والتعبير عن آرائهم في الهامش المُتاح لهم فقط، على ألا يبدي أحد منهم آراءً تتعارض مع تحركات هذه الدول في بلادهم.
هذا الهامش الضيق المقيد لمساحة التعبير عن الآراء، إضافة إلى أنه ساهم في إخراج آلاف المتعطشين للمشاركة في الفعل السياسي العام من هذا الميدان، الذي فتحت بابه الثورات العربية بعد عقود القمع، أدى إلى حصول استقطابات حادة في صفوف كثير من الوافدين العرب إلى هذه البلدان، مع تصاعد الخصومة والعداء فيما بينها. فهناك سوريّو الإمارات، في مواجهة سوريي قطر على سبيل المثال، وكذلك الحال في اليمن وليبيا ومصر.
وظهرت هذه الاستقطابات في عدة بلدان عربية، حيث خاضت الأطراف المحلية قتالات دامية على الأرض، كانت امتداداً للخصومة القائمة بين هذه الدول، التي ساهمت في أقلمة الصراعات المحلية ثم تدويلها، حيث ظهرت في بلدان عدة تيارات تابعة لقطر، وأخرى تابعة للسعودية والإمارات، ووصلت خصومتها إلى حد العداوة والمواجهات المسلحة في بعض الأحيان. وقد أصبح حرص الوافد في هذه الظروف بمثابة كمامة تساهم في تحزيبه رغماً عنه.
الترحيل
تعرَّضَ السوريون إلى حملات ترحيل من بلدان عدة في المناطق المقيمين فيها كلاجئين، مثل لبنان وتركيا أو مصر، وتم تداول هذه الحملات على نطاق معقول في وسائل الإعلام. إلا أن حملات أخرى طالت سوريين مقيمين في دول خليجية كالإمارات بسبب مواقفهم السياسية، ولم يتم تناولها في الإعلام كما يجب.
ونشرت صحيفة العربي الجديد تقريراً في ديسمبر 2017 أشارت فيه إلى حدوث حالات ترحيل تعسفية بحق مئات الأشخاص مع عوائلهم، وتعرض بعض الأشخاص لانتهاكات نفسية وجسدية أثناء التحقيقات. وقالت الصحيفة إن «نحو 1070 أسرة تم ترحيلها من الإمارات»، مُضيفة أن الحملة «شملت عمالاً وموظفين ومستثمرين سوريين مقيمين كانوا من المعارضين لنظام الحكم في سورية،.وطُلب منهم مغادرة البلاد خلال مدة قصيرة جداً، من دون السماح لهم حتى بإخراج أموالهم أو السماح لهم بتصفية شركاتهم، كما يترافق قرار الإبعاد في الغالب بإيقاف كل الحسابات المصرفية للمبعدين ومصادرة كل ممتلكاتهم واستثماراتهم».
زهير حاتم (اسم مستعار لشخص كان مقيماً في الإمارات وتم ترحيله)، تحدَّثَ للجمهورية عن قصة ترحيله من الإمارات قائلاً: «استدعاني الأمن الإماراتي في 2013، وحقق معي، بخصوص اجتماع حضرته لجمع التبرعات للنازحين السوريين آنذاك. أعطوني ملفاً من عشرات الصفحات وطلبوا مني ملأه بمعلومات عني وعن عائلتي وأعمامي وخالاتي وأصدقائي في الإمارات وسوريا. كان ثمة أسئلة شخصية جداً وتفصيلية لا أعرف الهدف منها».
وأضاف حاتم: «لم يتم ترحيلي فوراً من الإمارات، وإنما مرت شهور كان يتم فيها استدعائي، وكان موظف الأمن الإماراتي يطلب مني العمل كمخبر أحياناً، ويهددني بالترحيل. ثم تم إخباري فجأة في نهاية المطاف أن أمراً بالإبعاد صدر بحقي، وأن عليَّ مغادرة البلاد خلال 3 أيام، دون أن أعرف ما هي تهمتي بالضبط، سوى أن اسمي ورد في التحقيق».
وتابع الشاب بالقول: «لقد تسببت لي هذه التجربة بضرر نفسي كبير، فقد قضيت أكثر من عام ونصف في حالة من الفزع والخوف جراء مواجهتي لمستقبل مجهول وتعرضي لكل الاحتمالات، دون أن يكون ثمة حقوق أو صيغة قانونية تحميني. لم أعرف إلى أين سأذهب بنفسي في ظل منعي من السفر في فترة التحقيق، ولا إلى أين سيؤول كل ذلك حينها. وحين صدر الأمر بترحيلي من الإمارات غادرت إلى تركيا، التي كنت محظوظاً حينها بأنها لم تغلق حدودها بعد، ثم ذهبت عن طريق البحر إلى اليونان ثم إلى ألمانيا. أشعر هنا بالأمان من ناحية الأوراق ووجود القانون، ولكني لا زلت أخاف من كل ما له علاقة بالشرطة والدولة، الخوف المتراكم طيلة مدة القلق التي عشتها هناك دخل إلى أماكن عميقة في لا وعيي، ولا أعرف كيف سأتخلص منه».
الرحيل والبدائل
جزء كبير من السوريين غادر السعودية باتجاه أوروبا أو كندا والولايات المتحدة، طلباً للجنسية والحقوق القانونية ومستقبل الأولاد.
وفي ظل صعوبة الانتقال إلى أوروبا أو كندا وتعقيد إجراءات ذلك أو طول مدتها، يقول خالد درّاج إن كثيرين «حاولوا الانتقال إلى تركيا مثلاً، من خلال تأمين إقامة فيها، أو هناك من فكّر بشراء واحد من جوازات الدول التي تسهل إجراءات الحصول على جوازها مقابل المال، كأنتيغوا أو الدومينيكان. في محيطي القريب، يمكن القول إن خمسة أشخاص من كل عشرة، يفكرون في البدائل بشكل جدي. وأمام تعقيد هذا المشهد في العموم، حيث المستقبل غامض لدى السوريين في هذه البلاد، ولا بوادر لأن يكون ثمة حقوق أو ضمانات، بدأ آخرون بالتفكير في العودة إلى سوريا، الأمر الذي لم يكن في حسبانهم في السابق إطلاقاً، وذلك بعد التحرّي عن أسمائهم إن كانوا مطلوبين للنظام. فيما عزف الجميع عن إبداء آرائهم السياسية بشأن ما يجري في العالم العربي إذا كانوا مقيمين في هذه البلدان، إذا كانت قد تعرضهم للخطر والمساءلة».