تدخلُ انتفاضة اللبنانيين في وجه نظام المحاصصة الطائفية يومها السادس والثلاثين على التوالي، وكان يومها الخامس والثلاثين أمس الأربعاء قد شهد إغلاق المتظاهرين طرقاً في حلبا والبداوي والمنية وببين وجب جنين وزحلة وطرابلس، كما شهدت عدة مدن من بينها طرابلس وبيروت وصيدا مظاهرات عدّة، نظَّمَ بعضها طلاب جامعة بيروت العربية في طرابلس وطلاب الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا في بيروت.
كذلك، تم إطلاق سراح 12 معتقلاً من ثكنة الحلو في بيروت صباح أمس، جرى اعتقالهم مساء الثلاثاء الماضي من ساحة رياض الصلح وسط العاصمة اللبنانية بعد اشتباكات مع قوى الأمن. وكان نقيب المحامين المنتخب حديثاً ملحم خلف قد توجه أول أمس مع مجموعة من المحامين إلى ثكنة الحلو، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين ومتابعة قضيتهم.
وكان الادعاء العام في لبنان قد بدأ، في السابع من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، بتحريك قضايا وتحقيقات حول عمل عدد من المسؤولين اللبنانيين، إذ وجّه النائب العام المالي علي إبراهيم تهماً بإساءة استخدام الأموال العامة والإثراء غير المشروع لمدراء شركات ألفا وتاتش (أكبر شركتي اتصالات في لبنان) وشركة أوجيرو، كما ادعى القاضي إبراهيم على وزراء الاتصالات السابقين جمال جراح وبطرس حرب ونقولا صحناوي بتهم الاختلاس وهدر المال العام.
تأتي هذه التطورات بعد يوم من قيام المتظاهرين بمحاصرة مبنى البرلمان اللبناني وسط العاصمة، ومنع النواب من الدخول لحضور جلسة دعا إليها رئيس البرلمان وزعيم حركة أمل نبيه بري. وكانت تلك الجلسة تضع على برنامجها إقرار قوانين مثيرة للجدل من بينها قانون عفو عام، واعتبر المحتجون اللبنانيون أن البرلمان قد فقد الشرعية، وأن على نوابه الامتناع عن التشريع، وإقرار انتخابات نيابية مبكرة وتشكيل حكومة تكنوقراط من خارج النخبة السياسية الحاكمة. وتأجلت جلسة البرلمان بسبب عدم اكتمال النصاب، حيث لم يستطع الوصول إلى البرلمان سوى 9 نواب فقط حسب التقديرات، بينما أعلن نواب حزبا الكتائب والقوات عدم حضورهم للجلسة، بالإضافة إلى نواب ينتمون إلى كتلة المستقبل والحزب الاشتراكي الديموقراطي دون اتخاذ موقف رسمي من الكتلتين.
ويعد منع هذه الجلسة انتصاراً هاماً للثورة في لبنان، إذ يبدو أن النظام الحاكم غير قادر على الاستمرار في العمل حتى بالحد الأدنى، وهو على الرغم من تشدده تجاه مطالب المتظاهرين، إلا أنه يواجه بالتأكيد أسئلة لا يبدو قادراً على الإجابة عليها، إذ يُظهر الحراك في لبنان سقوط رهان السلطة على ملل المتظاهرين أو يأسهم أو تراجعهم تحت ضغط التهديد بالعنف وأشباح الحرب الأهلية وانهيار الأوضاع الاقتصادية. بالمقابل، تبدو الانتصارات الجزئية التي حققتها ثورة اللبنانيين دافعاً لمزيد من الزخم والاستمرار، ولعلّ أبرزها، بالإضافة إلى منع جلسة مجلس النواب من الانعقاد، استقالة الحريري الشهر الماضي، وفوز المرشح المستقل ملحم خلف في انتخابات نقابة المحامين اللبنانية في مواجهة مرشح أحزاب السلطة، ومن ثم طلب محمد الصفدي سحب اسمه من التداول كمرشح لرئاسة الوزراء بعد أن صرّح جبران باسيل بأن الصفدي موافق على تكليفه بتشكيل الحكومة، وذلك نتيجة رفض المتظاهرين الواضح في كل لبنان لهذا التكليف باعتبار أن الصفدي أحد أوجه منظومة الفساد الحاكمة.
يقول جان قصير، ناشر ومحرر موقع ميغافون، للجمهورية: «الانتصارات التي حدثت هي أمر حاسم أعطى دفعاً جيداً للثورة اللبنانية، وفعلاً كان هناك سوء تقدير من السلطة حول مدى تحمّل الناس، أعتقد أن الناس تمتلك صبراً ونفساً أطول بكثير مما يمكن أن يتوقعوا (…) اليوم أصبحت كلفة رضى الناس أعلى بكثير، فمن المحتمل لو أن أحزاب السلطة قاموا بالتجاوب خلال الأيام الأولى وشكّلوا حكومة اختصاصيين لخسرت الثورة زخماً هاماً، لكن احتقارهم المفضوح للناس أدى إلى ردة فعل عكسية، وأعتقدُ أن كثيراً من الناس ليس لديهم ما يخسرونه، لقد عبرنا نقطة اللاعودة».
ستزيد هذه الأوضاع بالتأكيد من الضغط على تحالف حزب الله والتيار العوني، الذي فقد شريكه في العهد سعد الحريري بعد أقل من أسبوعين على انطلاق الثورة، الأمر الذي يضع الشريكين في مواجهة مباشرة مع الحراك اللبناني، وبخيارات تبدو الآن محدودة، ولا يبدو أن من بينها القمع المباشر باستخدام الجيش والقوى الأمنية، التي اشتبكت مع المتظاهرين والمعتصمين واعتقلت بعضهم في مناسبات عدة، إلا أنها لا تبدو في صدد شن حملات قمع واسعة النطاق، وهو ما يطرح على هذين التيارين أسئلة مصيرية، يقترح وليد جنبلاط أجوبة عليها عبر تصريحه يوم أمس عندما قال «انتهى العهد في الشارع… انتهت الجمهورية الثانية، انتهى الطائف».
لكن تصريح جنبلاط هذا لا يقدم إجابات ناجزة على تلك الأسئلة المصيرية، وإن كان يقترح بوابة للبحث عن إجابات، ذلك أن سؤال المصير هذا موجه إلى كامل النخبة السياسية وزعامات الطوائف في لبنان، ومن بينهم وليد جنبلاط نفسه طبعاً، وجميع الزعامات التي أدارت لبنان منذ اتفاق الطائف، سواء كانت اليوم في السلطة أم لا.
كما أن سؤال المصير هذا مطروحٌ أيضاً بقوة على الثوار والمتظاهرين في شوارع لبنان، ذلك أن ثورتهم التي بدأت انتفاضة شعبية عارمة على أوضاع اقتصادية لا تُحتمل، تحوّلت إلى حراك ثوري طويل الأمد، يطرح على المنخرطين فيه أسئلة التنظيم والتخطيط بعيد المدى؛ يتابع جان قصير في حديثه للجمهورية: «أعتقد أن غياب التنظيم في أول أيام الثورة كان مفيداً، فالعفوية والتنسيق بين مجموعات صغيرة كان ممتازاً على المستوى التكتيكي، وهو ما ساهم بشكل حاسم في تضييع قوى السلطة التي لم تعرف كيف ترد على حراك لا يملك رأساً واضحاً، وأدى إلى تقديمها تلك التنازلات. وأولاً وقبل كل شيء، كان شكل الحراك دليلاً على أن الناس امتلكت المبادرة دون أن تنتظر تعليمات أو توجيهات من أي أحد. برأيي لا يوجد مهرب من سؤال التنظيم، من أجل الحفاظ على الاستمرارية. هناك عدد من المبادرات بدأت بالظهور، أكثرها لفتاً للانتباه هي المبادرات التي خرجت ضمن العمل النقابي، مثل تجمع مهنيات ومهنيين، وانتخاب مرشح الثورة ملحم خلف لرئاسة نقابة المحامين، هذه المبادرات التنظيمية ستكون عاملاً في خلق أجسام قادرة على طرح مطالب واضحة ومحددة، وإنتاج خطاب يساعد على الاستمرارية ويكون بديلاً عن خطاب السلطة».
تطرح تطورات الأيام الماضية في لبنان العديد من الأسئلة على الثوار وعلى أحزاب السلطة، إلا أنها بالتأكيد تقدم إجابة واضحة حول سؤال رئيسي؛ هل سيعود الوضع في لبنان إلى ما كان عليه قبل ثورة تشرين الأول 2019؟ بالتأكيد لا.