بعد أن أنهت الطفلة عرضاً مسرحياً في المدرسة الوحيدة في مخيم قاح القديم، بحثت عنها مُدرّستها لتجدها بين ضحايا القصف الصاروخي، الذي استهدف المكان مساء يوم الأربعاء الماضي العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي؛ تقول إنها كانت تحلم أن تصير طبيبة، قبل أن تنتهي أحلامها رفقة أحد عشر طفلاً آخر في الهجوم.
القصف الذي استهدف خيام النازحين في بلدة قاح، التابعة لمدينة الدانا بريف إدلب الشمالي، هو الأول من نوعه الذي يطال المخيمات القريبة من الحدود السورية التركية، التي نزح عشرات الآلاف من الأهالي إليها، لما تمثّله من أمان بالنسبة لهم من جهة، وخلوها من أي تواجد عسكري أو مقرات للفصائل المسلّحة من جهة ثانية.
الواقع الخدمي والإنساني في تجمع مخيمات قاح
يضم تجمّع مخيمات قاح ستة وعشرين مخيّماً، أقدمها هو مخيم قاح القديم الذي شهد المذبحة، إذ تم تأسيسه في الأشهر الأولى من العام 2012. ويعيش معظم سكان التجمع في ظروف اقتصادية وخدمية سيئة منذ نحو سبع سنوات، وأغلبهم من أرياف حماة وريف إدلب الجنوبي وحلب وبعض المُهجّرين من دمشق.
ويعيش في مخيمات قاح نحو 20509 أشخاص ضمن 3807 عائلات، يتوزعون على 3210 خيام، بالإضافة إلى 1170 غرفة 88 % منها مسقوفة بعوازل مطرية، بينما تحتاج 468 خيمة للاستبدال و333 خيمة للإصلاح، وذلك بحسب وحدة تنسيق الدعم. ويعيش في التجمع 499 يتيماً فاقد الأبوين، و277 عائلة تحت مسؤولية نساء بدون أزواجهنّ، و200 شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، منهم 90 مصاباً بالشلل و27 أصماً و32 فاقداً البصر.
في التجمع شبكات لمياه الشرب والصرف الصحي، إلَا أنها لا تلبي كافة الاحتياجات، إذ يلجأ السكان لشراء مياه الصهاريج بسعر 600 ليرة سورية للمتر المكعب لتعويض النقص، كما عمد كثيرون من أصحاب الخيام إلى بناء حمّامات خاصة بالقرب من خيامهم على نفقتهم الخاصة، خاصة وأن التجمع بكامله يحتوي فقط على 468 تواليتاً عاماً، كما عمد السكان لبناء أرضيات إسمنتية لخيامهم، وجدران حول الخيام لا يتجاوز ارتفاعها النصف متر لحمايتهم من الظروف المناخية السيئة خاصة في الشتاء. ويحتوي التجمع على 264 حاوية قمامة، وتقوم المنظمات والمجالس المحلية بتحمل نفقات النظافة في المخيمات التي يحتوي خمسة وعشرون منها على طرق مرصوفة أو مبحّصة، وفي التجمع ثلاث نقاط طبية لخدمة النازحين.
أما من الناحية الإغاثية، فيتم تقديم سلّة غذائية شهرياً لأغلب سكان التجمع، وسلّة نظافة كل شهرين، بينما يُقدَّم الخبز المجاني اليومي لنحو 83 % من سكان التجمع. ولا تكفي هذه المساعدات لتغطية الاحتياجات العامة للسكان، إذ تعاني كثيرٌ من العائلات من النقص الحاد في الغذاء تنتيجة قلّة فرص العمل، خاصة مع تراجع حجن المساعدات الإنسانية، بينما يفتقر 65 % منهم للوقود اللازم للتدفئة، ولم يتم توزيع أي ملابس شتوية أو أغطية أو وقود أو مدافئ في التجمّع.
مخيم قاح القديم قبل الهجوم
لا يختلف واقع مخيم قاح عن غيره من مخيمات التجمع، ويضم المخيم نحو 364 عائلة، ويقدر عدد سكانه بنحو ألفي شخص، أغلبهم من بلدة كفرزيتا في ريف حماة الشمالي ومن ريف إدلب الجنوبي. و«يُعتبر مخيما قاح وأطمة أول المخيمات التي أقيمت في المنطقة»؛ يقول فادي السلوم أحد سكان المخيم منذ بداية تأسيسه.
في المخيم مدرسة واحدة تضم طلاب المرحلة الابتدائية وروضة للأطفال الصغار، ومنذ خمسة أشهر تم تفعيل مشفى الأمومة من قبل الجمعية الطبية السورية الأمريكية «سامز» ليكون رديفاً لمشفى ترملا الذي توقف عن العمل نتيجة الاستهداف. كذلك يضم المخيم أربعة حمامات عامة مشتركة وشبكة للمياه والصرف الصحي، وهو يبعد نحو مئة وخمسين متراً عن الشارع الرئيسي الواصل بين بلدتيّ قاح ودير حسّان، ما يجعل المواصلات مؤمنة إليه، كما أن جميع طرقه مرصوفة، إلَا أن معظم سكانه يعيشون ظروفاً اقتصادية سيئة، بحسب أبو أحمد من سكان المخيم.
يقول خمسة أشخاص من الذين تواصلنا معهم في المخيم إنهم يحصلون على سلة غذائية شهرية من «اليونيسيف أو منظمات أخرى»، وسلّة للنظافة مرة كل شهرين أو ثلاثة أشهر، فيما تغيب فرص العمل داخل المخيم الذي يتواجد فيه بعض دكاكين السمانة وبيع الخضار.
يعمل سكان المخيم كعمال مياومة في المواسم الزراعية في الصيف، خاصة في قطف المحاصيل كالبندورة والخيار والكوسا والباذنجان في الأراضي المجاورة، أما في الشتاء فيعتمد السكان على ما يحصلون عليه من قطاف موسم الزيتون. يقول من التقيناهم إنهم يحصلون على مبالغ قليلة تُعينهم على بعض الاحتياجات، دون القدرة على تأمين وقود الشتاء ولوازمه الكثيرة، وكذلك الاحتياجات الرئيسية للخيام التي يسكنونها.
تقول أم محمد إن الحياة في المخيم قاسية، لكنها أرحم من خارجه، خاصة مع ارتفاع إيجارات المنازل، وأيضاً غياب الأمان وتعرض مناطق كثيرة للقصف.
ليلة الهجوم على مخيم قاح
معظم مقاطع الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي حددت وقت الهجوم على المخيم في الساعة السابعة والربع من ليل الأربعاء، ويقول فادي السلوم إن الهجوم تم بعد صلاة العشاء، وهي الفترة التي يجتمع فيها معظم سكان المخيم في بيوتهم بعد إنهاء عملهم؛ يكمل: «سمعنا صوت انفجار، تلاه انفجارات متلاحقة لقنابل عنقودية أدت إلى احتراق عدد من الخيام بمن فيها، بينهم عائلات كاملة».
يروي السلوم ما حدث في ذلك الوقت من خوف وهلع بين الأهالي، وكيف لم تحمله قدماه حين رأى عائلة أحد جيرانه في المخيم وهي تحترق، والأشلاء والدماء التي ملأت المكان، قبل أن تصل سيارات الإسعاف والدفاع المدني لإطفاء الحرائق التي ارتفعت فيها ألسنة اللهب.
بعد تضارب في أعداد الضحايا خلال الساعات الأولى التالية للمذبحة، تم توثيق مقتل 17 شخصاً من سكان المخيم في الحصيلة النهائية، بينهم أحد عشر طفلاً وثلاث نساء وثلاثة رجال، بالإضافة إلى أكثر من خمسين مصاباً. كما أسفر عن احتراق أربع خيام بالكامل، وتضرّر نحو ست عشرة خيمة بالشظايا، إضافة إلى خسائر مادية في الممتلكات والعوازل.
تقول أم محمد إنها شاهدت جثة طفل محترق بالكامل، ويقول الطبيب عبد المعطي من مشفى أطمه إن أربعة أطفال لقوا حتفهم خلال الهجوم بعد إسعافهم إلى المشفى، إضافة إلى شاب في العشرينات من عمره، ناهيك عن الحالات التي تم نقلها إلى مشافٍ أخرى في باب الهوى وعقربات، بعضها تم تحويله إلى المشافي التركية.
وكان الدفاع المدني السوري قد وثَّقَ الحشوة الدافعة للصاروخ الذي يحمل القنابل العنقودية التي سقطت في المخيم، وكانت الحشوة قد سقطت على بعد نحو كيلو متر واحد من المخيم، لتصل القنابل العنقودية إلى الخيام، معتبراً أن الهجوم يرقى إلى جريمة حرب، وإبادة جماعية، وذلك بحسب هيئة القانونيين السوريين.
والصاروخ المستخدم روسي الصنع من نوع توشكا، وهو صاروخ أرض أرض قصير المدى قادر على حمل ذخائر عنقودية، تملكه القوات الروسية والإيرانية وقوات النظام السوري، تم إطلاقه من أحد مواقع النظام قرب مدينة حلب بحسب مرصد جسر الشغور، الذي عمّم عبر القبضات اللاسلكية عن توجهه من الشرق إلى الغرب، مطالباً الأهالي بالحيطة والحذر.
وقد أعقبت سقوط الصاروخ عدة انفجارات ناتجة عن ذخائره العنقودية، وهو ما أدى إلى تضارب في المعلومات حول عدد الصواريخ المستخدمة أول الأمر، وكان أحد هذه الانفجارات على بعد 25 متراً من مشفى الأمومة، بحسب بيان لمنظمة سامز، التي قالت إن المشفى يقع ضمن آلية الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ما يؤكد معرفة مطلقيه بإحداثيات المكان، وهو ما يرجح الاستهداف المباشر والمقصود للمخيم.
وأصدرت 89 من منظمات المجتمع المدني السوري بياناً بخصوص الهجوم، اعتبرت فيه أن «استمرار العمليات العسكرية والانتهاكات بحق المدنيين يجعل السوريين فاقدين الثقة بالجهود الجارية في جنيف الآن من قبل الأمم المتحدة , وبالتالي فإن مشروعية أي عملية سياسية وضمان نجاحها مرتبطة بضمان أمن المدنيين وحمايتهم وفق التزامات الدول بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومعاهدات ومواثيق حقوق الإنسان».
«تم استهداف المخيم في اليوم العالمي للطفل، ومعظم ضحاياه كانوا من الأطفال أيضاً»؛ يقول المحامي والناشط المدني سعيد اليوسف، الذي أضاف إن هذا الاستهداف كغيره من المجازر التي ارتكبت وترتكب بحق السوريين في كل يوم، سيُنسى ولن تتم محاسبة الفاعلين، بينما ستكتفي دول العالم بالتنديد والشجب وبيانات الاستنكار.
ويكمل اليوسف إن بيان الأمم المتحدة الذي صدر عن منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية في سوريا، مارك كتس، أدان الهجوم على المخيم والمشفى ودعا إلى إجراء تحقيق بالحادثة التي استهدفت المدنيين، والتي وصفها بـ «الواقعة المفزعة» و«الانتهاك للقانون الدولي الإنساني»، إلّا أن شيئاً لم يتغير، وتابعت قوات الأسد وروسيا استهدافهما للمدنيين خلال الأيام الماضية في ريف إدلب الجنوبي دون رادع.
غادر نحو 90% من الأهالي خيامهم بعد الاستهداف، بعضهم لجأ إلى أقاربه أو إلى مخيمات قريبة، وكُثُرٌ منهم باتوا في العراء تحت أشجار الزيتون خوفاً من استهداف المخيم من جديد، أو من انفجار القنابل العنقودية التي لم تنفجر بعد. وبالرغم من قساوة المناخ وانخفاض درجات الحرارة، يقول السلوم إنه لم يبق في المخيم سوى بعض الشبان لحراسته في ليلة الهجوم.
ترجيحات بمسؤولية إيران عن المذبحة
جاء في تقرير نشره موقع المدن إن الصاروخ الذي استهدف المخيم هو من الأسلحة التي نقلتها الميليشيات الإيرانية من اللواء 157 على طريق دمشق -السويداء، وتم استعماله من قبل هذه الميليشيات لخلط الأوراق في المنطقة.
وفي السياق نفسه يقول الناشط السياسي المحليّ أحمد المحمود إن مواقع النظام العسكرية الأقرب إلى منطقة قاح هي تلك الموجودة قرب مدينة حلب، وهي مواقع تسيطر عليها ميليشات إيرانية وميليشات سورية تابعة لإيران، وعلى وجه الخصوص قاعدة جبل عزّان جنوبي مدينة حلب، التي يُرجَّح أن الصاروخ المحمل بالقذائف العنقودية قد انطلق منها، وهي قاعدة عسكرية إيرانية.
يقول المحمود إن إيران تسعى لفرض حضورها على الساحة السورية بعد تهميشها في الآونة الأخيرة من قبل روسيا، التي تقود دفة المعارك العسكرية والسياسية متجاهلة حصة إيران ومكاسبها، مرّجحاً أن يكون هدف إيران من ارتكاب هذه المذبحة هو فرض نفسها كطرف على الاتفاقيات الروسية التركية، خاصة وأنها المرة الأولى التي يتم فيها استهداف مخيم على الحدود السورية التركية بشكل مباشر، مؤكداً أن عدد الضحايا كان سيتضاعف إلى حد كبير لو لم تسقط الحشوة الدافعة بعيداً عن المخيم.
«لا مكان ينزح إليه السوريون»، يقول من التقيناهم من سكّان المخيم، ذلك أن هذه المخيمات كانت المكان الذي يعطي الشعور الأكبر بالأمان من الاستهداف والقصف الذي يطال المدن والقرى في المنطقة، بالرغم مما وصفوه بحياة «الذل والفقر» داخل الخيام التي غدت ملاذاً وملجأ لمئات الآلاف من النازحين والمهجرين. مع استهداف مخيمات قاح، تتغير المعادلة نحو الأسوأ؛ تقول أم محمد «هم يقتلون فينا حتى الشعور بالحياة، وإن كانت تحت ظلّ عازل مطري».