مع الأحداث التي تصاعدت في مصر على وقع فيديوهات المقاول المصري محمد علي، التي أتَّهمَ فيها كبار قادة الجيش المصري ورئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بوقائع فساد، بدأت تلوح في الأفق بوادر أمل لزوال الغمّة التي تطبق على أنفاس المصريين منذ ست سنوات. أثناء متابعتي منشورات على فيسبوك خلال تلك الفترة التي شهدت حالة زخم مرتبطة بالفيديوهات، مرّ أمامي منشورٌ مضحك كتبه شاب يقضي فترة تجنيده، يدعو فيه المصريين لتأجيل ثورتهم المنتظرة حتى ينهي مدة خدمته العسكرية. ذكَّرَني ذلك المنشور بما مررتُ به أثناء فترة خدمتي العسكرية في ذكرى ثورة يناير عام 2013، حينما قامت تظاهرات في مدينة السويس، حيث كان مقر خدمتي، ضد الرئيس المصري الراحل محمد مرسي. في ذلك الوقت تضايقتُ من تلك التظاهرات، لأنها قد تعني نزولنا إلى مواجهات في الشارع، وكذلك كان لديَّ تخوفات، لم يكن لها أي أساس في حقيقة الأمر، من أن يتم تمديد خدمتي العسكرية. بالرغم من أن أمنيتي في ذلك الوقت كانت زوال نظام الإخوان المسلمين، باعتباري أنني أنتمي لأقلية دينية سيطرت عليها كثيرٌ من الهواجس في السنة التي حكم فيها مرسي، إلا إنني كنت أفكر في مستقبلي أيضاً، أريد الخروج من ذلك المكان، أريد أن أنهي خدمتي العسكرية وأخرج من هنا حتى لو خرجت ووجدت الدواعش يحكمون مصر.
جعلتني الضجّة التي أحدثتها فيديوهات محمد علي أتفائل بإمكانية حدوث تغيير سياسي ما في مصر، حتى ولو كان ذلك عن طريق انقلاب عسكري جديد، ولكن سرعان ما بدأت تسيطر عليَّ هواجس الانتماء لأقلية دينية. ماذا سوف يحدث للمسيحيين في حالة حدوث تغيير سياسي؟ ماذا إذا أراد البعض الانتقام من المسيحيين، الذين ورطتهم الكنيسة بسبب دعمها الفجّ لنظام الحكم، بدعوى مساندتهم للسيسي. وماذا عن برنامج الدكتوراة الذي أنوي التقدّم إليه في الولايات المتحدة للهروب من هذه البلد؟ في أثناء التظاهرات التي وقعت في السويس إثرَ فيديوهات ودعوات محمد علي، أخبرني صديقي المقيم في السويس إنه يخشى أن تؤثر التظاهرات أو أي تغيير سياسي كبير على إمكانية حصوله على الوظيفة التي ينتظرها. إنه ذلك الصراع الدائم بين المصلحة الشخصية والصالح العام.
لا أتعجب في حقيقة الأمر من تشبث أي ديكتاتور بكرسيه حتى النفس الأخير له، أو النفس الأخير لآخر مواطن في البلد التي يحكمها. المصلحة الشخصية هنا على المحك. فأنا الشخص المنتمي للطبقة الوسطى أخشى دائماً من أن تُحدِثَ رياح التغيير إرباكاً في مستقبلي الوظيفي والمهني، فما بالنا برجال سلطة ورجال أعمال يتكسبون الكثير من الوضع القائم. هؤلاء لديهم ما يخسرونه، سلطة وثروة، والعكس ليس صحيحاً بالنسبة للفقراء. الفقير ليس لديه الكثير ليخسره، وهو يخرج غاضباً لأنه ليس لديه الكثير ليخسره، لا وظيفة ثابتة ولا دخل مستقرّ، لا تأمين صحي ولا تأمين اجتماعي ولا ثروة يتكئ عليها في حالة حدوث أمر جلل له أو لأحد أفراد أسرته. لا شئ على الإطلاق. يخرج الفقراء وخلفهم اللاشئ ليبكوا عليه أو يخشوا من زواله.
دائماً ما يُستخدم مصطلح «ثورة الجياع» للتحذير من الثورة القادمة في مصر. يتحدث كثيرون من المهتمين بالشأن العام في مصر عن أمنيتهم في أن يكون هناك ولو شخص عاقل في النظام المصري يستمع لصوت العقل ليعرف أن ما تفعله السلطة في مصر يأخذنا إلى حافة الهاوية. ينتمي هؤلاء الآملون يوجود ذلك الشخص العاقل للطبقة الوسطى أو الوسطى العليا إن أمكن القول، ويمكن القول إنهم هم أيضاً يخشون على مكتسباتهم الاقتصادية والاجتماعية، التي حتى وإن كانت تتضاءل، إلا أنها تظلّ أفضل كثيراً من حال الجياع الذين يخاف الجميع خروجهم. حسناً، مرحباً بالهاوية، ليس هناك شخص عاقل في هذا النظام. لماذا يفكر شخص أو نظام في التخلي عن أيٍّ من مكاسبه؟ لا أحد يتخلى عن مكاسبه بسهولة هكذا؛ لماذا قد يتخلى الجيش عن السلطة في مصر؟ لماذا قد يتخلى الضباط عن الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية التي يتمتعون بها؟ لماذا يتخلى الأسد وعائلته والدائرة الضيقة المحيطة به عن الحكم في سوريا؟ خشية أن تنهار البلاد؟!!
الهاوية هي الحل لذلك الموقف في حقيقة الأمر، الهاوية هي ما يفكك ذلك التعنّت والصَلَفَ من جانب النظم الحاكمة. كان الوصول إلى الهاوية، بل والوقوع فيها، هو المُغير الرئيسي عبر التاريخ. في كتابه المعنون: المساواتي العظيم: العنف وتاريخ اللامساواة من العصر الحجري حتى القرن الحادي والعشرين، يخبرنا المؤرخ الأميركي والتر شيديل أنه عبر تاريخنا البشري أتت التغيرات الكبرى، وبالأخص فيما يتعلق بالتقليل من اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية بين عموم سكان بلدٍ ما، نتيجة أحداث جسيمة وكارثية مثل الحروب التي يُستخدم فيها العنف الصناعي المسلح كالحربين العالميتين الأولى والثانية، وكذلك الحروب الأهلية والثورات المغيرة والأوبئة. ما حدث في سوريا يدخل ضمن تلك الرباعية إن أمكن القول، بدأ الأمر كثورة تحاول التغيير، ثم انقلبت إلى حرب أهلية ثم حرب ذات طابع دولي، تم استخدام العنف الحربي الصناعي فيها بصورة مكثفة. للأسف لم يخرج تغيير إيجابي من رحم المعاناة في الحالة السورية، لأن الطرف المنتصر هو الطرف الذي كرَّسَ لغياب العدل واللامساواة. فلنتخيل أن الجنوب انتصر في وقت الحرب الأهلية الأميركية بدلاً من الشمال، كانت النتيجة لتصبح تكريس العبودية في كل الولايات الأميركية وليس فقط في الجنوب، واستمرار وجود العبيد ضمن الثروة التي يمتلكها الأشخاص باعتبار أن العبيد كانوا يُعامَلون كأصل مادي. لم يكن ليتخلى الجنوبيون بملء إرادتهم عن ما اعتبروه حقهم في تملّك العبيد، حيث أن إلغاء العبودية بالنسبة لهم يشبه أن تقتحم منزل أحدهم وتخبره بأن هذا المنزل لم يعد ملكه وأن عليه الخروج منه. استمر الجنوبيون، وكثير من البيض بشكل عام، لعقود بعد إلغاء العبودية في ممارسة التمييز العنصري ضد السود بأشكال مختلفة. لم يستطع البيض، الجنوبيون منهم بشكل خاص، تخيُّلَ أن يأتي اليوم الذي لا يكونون فيه السادة. جنّ جنونهم إلى درجة دخولهم في حرب دفاعاً عن ما يعتبرونه ممتلكاتهم وثرواتهم المتمثلة في مجموعة من البشر بالأساس. انخفضت اللامساواة في الجنوب بعد تحرر العبيد، سواء فيما يتعلق بالثروة أو الدخل، حيث فقد البيض الجنوبيون جزءاً كبيراً من ثرواتهم المتمثلة في العبيد، وكذلك أصبح من حق هؤلاء العبيد العمل مقابل أجر ودخل. يجن جنون حكامنا أيضاً حين ينازعهم عموم الناس حول السلطة والثروة. يصبح حكامنا على أتم الاستعداد للدخول في حروب إبادة ضد شعوبهم، تماماً كما فعل الجنوبيون في الحالة الأميركية. لقد فعلها بشار الأسد بالفعل.
أظن أن المقولة التي يرددها الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، «العدل ولو انهار العالم»، هي مقولة دالة في هذا السياق، لأنها تعبّر عن ما يخبرنا به التاريخ، من إنه لا بدّ من انهيار العالم حتى يتحقق قدرٌ معقولٌ من العدل، متمثلاً في مساواة اقتصادية واجتماعية وسياسية. وكأن تلك الأحداث الجسيمة التي تؤدي لانهيار العالم تسبب ارتباكاً وتوقظ البشرية من غفلتها لبعض الوقت. ولكن تلك اليقظة تكون لبعض الوقت فقط، لأنه سرعان ما تعود ريما لعادتها القديمة كما يقولون. على سبيل المثال، دولة الرفاه الاجتماعي هي ابنة دولة الحرب. فدولة الرفاه الاجتماعي كما نعرفها اليوم تطورت في الفترة بين الحربين العالميتين، ثم وصلت إلى مرحلة قريبة من الكمال في الفترة بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال العديد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها التأميم على سبيل المثال في بعض البلدان. ساهمت تلك السياسات، وكذلك الدمار الذي نتج عن الحربين، في التقليل من حدة التفاوت واللامساوة، وبداية تشكل قاعدة عريضة من الطبقة الوسطى. ولكن يعود العالم اليوم إلى الخلف مرة أخرى، وتتسع حدة التفاوتات، بالأخصّ فيما يتعلق بالثروة، بوتيرة متسارعة للغاية. يبدو أن العالم يتنظر حرباً عالمية جديدة حتى يفيق لفترة وجيزة مرة أخرى.
لماذا ثار السوريون؟ ثاروا ضد نظام قمعي طائفي تهيمن عليه عصبة تسلطية متوحشة؟ نعم هذا صحيح، ولكن ماذا كان بعد سيطرة العصبة على السلطة؟ جاءت السيطرة على الثروات، والسيطرة على المناصب العامة التي تسهل عملية توليد الثروة؟ ليس توليدها ولكن نهبها إن أمكن القول. يقوم آخرون، وهم المجموع العام من السكان داخل الوطن السوري، بتوليد الثروة، ثم يأتي أحدهم ليعلن ملكيته للجزء الأكبر من تلك الثروة كما هو الحال مع رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد. كذلك الأمر في لبنان أيضاً، الذي خرجت فيه جموع المواطنين مطالبين بكسر تلك الحلقة المفرغة من السيطرة على ثروات البلاد، وإنتاج مستويات مرتفعة من اللامساواة. من الملفت للنظر في حالة التظاهرات اللبنانية الأخيرة هي أنها قامت إثر فرض ضريبة جديدة، في مشهد يذكر بثورات الفلاحين في العصور الوسطى في أوروبا وغيرها من مناطق العالم ضد الضرائب التي كانت تفرض عليهم. الفرق هنا هو أنه في الحالة الثانية كانت تفرض الضريبة على ما تخرجه الأرض، حيث كانت هي المصدر الأهم، إن لم يكن الأوحد، لخلق الثروة وممارسة النشاط الاقتصادي، ولكن في الحالة الأولى فُرضت الضريبة على خدمة تكنولوجية «الواتس آب»، ولو أن ذلك الفرق مفهومٌ نظراً لطبيعة التحول في النشاط الاقتصادي عبر التاريخ البشري من هيمنة الزراعة كنشاط رئيسي، مروراً بالتحول الصناعي، وصولاً إلى هيمنة القطاع الخدمي والتكنولوجي. ولكن هناك قاسماً مشتركاً في الحالتين، وهو تجنب النظم الحاكمة فرض ضرائب مباشرة على الأغنياء وأصحاب الثروات، واللجوء لتحميل العبء على عموم المواطنين في صورة ضرائب غير مباشرة لجلب موارد للخزانة العامة في مناخ متشابه بين الماضي والحاضر، حيث تسيطر نسبة قليلة من السكان، الـ 1%، على جانب كبير من الثروة. وكأن كل ما أنتجته الحداثة هو تغيير في المسميات فقط، وفي الشكل الذي يمكن أن يأخذه مخزن الثروة. فطبقة الـ 1% ظلت كما هي، ولكن بدلاً من الأمراء والملوك والنبلاء أصبح لدينا رجال الأعمال والرأسماليون والمدراء التنفيذيون. بدلاً من الفلاحين أصبح لدينا العمال، وبدلاً من العمال أصبح لدينا جيوش العاملين في القطاع الخدمي، كالنادلين في المطاعم ومن يتلقون اتصالاتنا في مراكز الاتصال الخاصة بالشركات. في الماضي كانت الثروة تنحصر تقريباً في الأراضي القابلة للزراعة، ولكن في وقتنا الحالي تأخذ الثروة أشكالاً متعددة من عقارات وأموال منقولة وأسهم في شركات وسيارات فارهة وطائرات خاصة ويخوت وسبائك ذهبية.
قد يجادل البعض أن مشكلة عالمنا العربي تتمثل بالأساس في صغر حجم الكعكة، كما يحلو للاقتصاديين توصيف الناتج الخاص باقتصاد البلدان، وكذلك عدم قدرة نموذج النمو على إنتاج وظائف جيدة، وليس في كيفية توزيع الكعكة أو طبيعة التربيطات الاجتماعية والسياسية ما بين النخب الحاكمة التي تقرر الكيفية التي يتم من خلالها توزيع هذه الكعكة. هذا صحيح، الكعكة في بلداننا صغيرة نسبياً، ولكن ذلك لا يعني تجاهل سؤال التوزيع بغض النظر عن حجم الكعكة، أو التقليل من دور الفساد السياسي وتأثيره على عملية صنع القرار ورسم السياسات العامة التي من شأنها التأثير على إمكانية زيادة حجم تلك الكعكة. فالكعكة الصغيرة في الحالة المصرية ينطبق عليها المثال من الكتاب المدرسي الذي يُدرَّس لطلبة الاقتصاد في سنتهم الجامعية الأولى، ذلك المثال الخاص بالزبدة (الإنفاق المدني) والبندقية (الإنفاق العسكري)، الذي يستخدم في الحديث عن ندرة الموارد والاستخدام الأمثل لها في ضوء معيار تكلفة الفرصة البديلة.
لقد عَقَدَ النظام المصري الحالي على سبيل المثال صفقات سلاح بمليارات الدولارات، كما أنه ينفق الكثير على تسليح الجهاز الشرطي وبناء السجون وتوظيف مئات الآلاف من العناصر البشرية ضمن منظومة القمع تلك. تكلفة الفرصة البديلة هنا مرتبطة بما كان من الممكن فعله بكل تلك الأموال المصروفة على ضبط المواطنين وتأديبهم، أو على مشروعات أنفق عليها النظام المصري مليارات الدولارات دون معرفة الفائدة الحقيقية من ورائها. وحتى لو زاد حجم الكعكة، سينتهي الأمر إلى سيطرة فئة قليلة على تلك الزيادة. النظام الاقتصادي العالمي ليس في إمكانه إنتاج وظائف جيدة بعد الآن، وذلك يرتبط بالتحول في طبيعة النشاط الاقتصادي وهيمنة الأنشطة الخدمية والتكنولوجية. تحتاج الأنشطة الخدمية إلى عمالة غير ماهرة، يمكن استبدالها بكل سهولة، وفي حالة الأنشطة التكنولوجية، تكون الحاجة للعنصر البشري في أقل الحدود. تنتفي أيضاً إمكانية توليد وظائف جيدة في إطار المنافسة بين البلدان فيما يعرف بالسباق نحو الهاوية، من خلال التخفيض الدائم لمعدلات الضرائب وتقويض الحماية التي توفرها القوانين الوطنية للعمالة في مسعى البلدان لجذب رؤوس الأموال، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى سيطرة طبقة الـ 1% على أي زيادة ممكنة في حجم الكعكة.
الهدف النهائي من السيطرة على السلطة من وجهة نظري، إلى جانب حبّ تملّك السلطة وإظهار القوة وممارستها في صورة بطش وقمع كما هو الحال مع شخص مثل السيسي في مصر، هو السيطرة على الثروة والتمكّن من عيش حياة مترفة ليس من الممكن تجربتها دون السيطرة على السلطة. وكما يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح في إحدى مقالاته؛ «السلطة لحراسة الثروة، والثروة ثمرة السلطة وترجمتها الأمينة».
لم يكن للسيسي أن يرتدي تلك البدلات الأنيقة والساعات باهظة الثمن، ولا أن يبني القصور والاستراحات على شواطئ البحر أو في عاصمته الجديدة، لو لم يتمكن من السيطرة على السلطة. سيظل الصراع طبقياً كما لوَّحَ متظاهرون لبنانيون بلافاتاتهم. والصراع الطبقي في حقيقة الأمر ليس فقط بين من يسكنون القصور ومن هم في أسفل السلم الاجتماعي؛ الذين في المنتصف هم جزءٌ من هذا الصراع أيضاً، ومنهم من يفضّلُ أَخذَ صفِّ من يسكنون القصور سواء عن قناعة صادقة أو نتيجة تخوف من فقدان ما يمتلكون، تماماً كما هو حال سكّان القصور. أولئك الذين في المنتصف يمتلكون شيئاً ما، على عكس من هم في القاع. في نهاية المطاف، الذين في المنتصف، أو من يُطلق عليهم الطبقة الوسطى، يتشاركون مع الطبقة الحاكمة أو فئة الـ 1% في سمة مشتركة، ألا وهي التملّك؛ كلاهما يتقاسمان مخزون الثروة، مع الأخذ في الاعتبار أن نصيب الأسد يذهب لطبقة الـ 1%.
: احمد عياد – من كتاب (فابريكاتد اوربانتيز) ٢٠١٥
التأثير النفسي الأبرز فيما يتعلق باللامساواة والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، هو أنها تُخرِجُ أسوأ ما في النفوس، أو يمكن القول أفضل ما في النفوس في هذه الحالة. تُخرج مكنونات الغضب والحقد، الحقد الطبقي في حالتنا هذه. لا تفلح في هذه الحالات مقولات الوعظ الديني من نوعية «الفقراء لهم الجنة»، التي تحثّ المُهمّشين على الصبر على بلائهم الدنيوي. لن تستطيع مقولات كهذه أن تمنع الأشخاص بأي حال من أن يعقدوا المقارنات الاجتماعية بين بعضهم بعضاً، كما أن الآلة الأمنية الهادفة لضبط الناس سوف تنكسر يوماً ما أمام جموع الجماهير الغاضبة.
أظن أن فيديوهات محمد علي انتشرت بذلك الشكل الكبير لأنه لمس ذلك الوتر الحساس في داخل النفس البشرية، وتر الحقد الناتج عن المقارنات التي يعقدها البشر بين بعضهم بعضاً.
لقد بدأ المصريون يسمعون أحاديثَ ويشاهدون فيديوهات عن فيلات وقصور فارهة للرجل ذاته الذي يعايرهم بفقرهم، وهنا يأتي مفعول الانكشاف الذي تناولتُهُ في مقالة سابقة؛ الانكشاف على هذا الكم من البذخ والترف والثراء. ذلك الانكشاف كفيلٌ بتفجير كل مكنونات الغضب داخل النفس البشرية، كفيلٌ بتحفيز الجوعى ليأكلوا الأخضر واليابس كما يقولون. أظن أن السوريين عايشوا ذلك التأثير النفسي المرتبط بالانكشاف مؤخراً مع حالة استعراض محمد رامي مخلوف لأسطول سياراته الفارهة. المصريون كما السوريون، يعرفون بلا شكّ أن الأفراد المنتمين للعائلات الحاكمة في بلدانهم يعيشون حياة مترفة، ولكن أن ترى بعينك، حتى ولو عبر شاشة هاتفك الشخصي، مختلفٌ عن أن تسمع بأذنك. تأثير الانكشاف يكون مضاعفاً في هذه الحالة.
أثناء حديثي مع أحد الأصدقاء عن الطبقة الوسطى والفقراء في مصر، أخبرني أن الفقراء هم السبب فيما آلت إليه الأوضاع في مصر الآن، وأنهم يجنون نتيجة تأييدهم للقمع وسكوتهم عليه بحجة حاجة البلد للاستقرار. ولكن لماذا قد يفضّل الفقراء والمهمشون الاستقرار ويكرهون الاعتصامات والتظاهرات في بعض الأحيان؟ الاقتصاديون لديهم مصطلح يُطلَقُ عليه «تكلفة الفرصة البديلة»، فعلى سبيل المثال قد يفضّلُ الشخص تأجيل دخوله إلى سوق العمل حتى يحصل على شهادة جامعية، أملاً في الحصول على دخل مادي أفضل في المستقبل، وكذلك مكانة اجتماعية أفضل بطبيعة الحال نتيجة للتعليم والدخل الجيد الذي قد يتولد عنه، وشبكة العلاقات الاجتماعية التي قد يتم تكوينها خلال سنوات الدراسة، وتكون تكلفة الفرصة البديلة هي الدخل الذي كان من الممكن لهذا الشخص أن يحصل عليه لو كان قد قرَّرَ دخول سوق العمل مبكراً بدلاً من إكمال دراسته الجامعية.
في التظاهر والاعتصام وتغيير الأنظمة، هناك تكلفة فرصة بديلة أيضاً. المتظاهرون والطامحون للتغيير ينظرون للأمام، ويأملون أن التغيير سوف يجلب معه حياة أفضل، وفي مقابل ذلك قد يقبلون بتحمل تكلفة الفرصة البديلة، التي قد تكون عدم ذهابهم إلى أعمالهم لبعض الوقت، وعدم حصولهم على دخل خلال تلك الفترة. في حالة التعليم وفي حالة التظاهر، الفقراء ليس لديهم رفاهية الانتظار أو رفاهية تحمل تكلفة الفرصة البديلة، حتى وإن كان الانتظار في صالحهم.
في حقيقة الأمر، إن جاز أن نلوم طبقة ما على ما وصلنا إليه في مصر الآن، فهي الطبقة الوسطى والمنتمون لها من المنشغلين بالشأن العام، الذين فشلوا على سبيل المثال في توحيد صفوفهم حول مرشح رئاسي توافقي في عام 2012. باعتقادي، لم يكن ليسقط نظام مبارك، ولم يكن ليوم 28 يناير 2011 أن يمثل العلامة الفارقة في تاريخ ثورة يناير، لولا خروج الفقراء أو المهمشين من أحيائهم المختلفة للوقوف في وجه قوات الأمن المركزي. لا يمكن لحراك أن ينجح بدون هؤلاء في الواقع، خاصة في بلد مثل مصر، حيث يكاد يكون تعداد الجهاز الأمني مساوياً لتعداد بلدان مليونية صغيرة.
المثير للسخرية في حالة المظاهرات التي اندلعت بعد دعوات المقاول محمد علي، هو أن كثيرين من المنتمين للطبقة الوسطى، وأنا من بينهم، عولوا على مساهمة تلك الفئة التي طحنها التقشف المالي في إسقاط النظام الحاكم في مصر حالياً. السبب الرئيسي وراء التعويل على هؤلاء، هو أننا كمنتمين للطبقة الوسطى خِفنا من النزول لمواجهة بطش الآلة الأمنية لنظام السيسي، وكأننا في داخلنا نعلم جيداً أن المهمشين هم الفئة القادرة على محاولة التصدي لتلك الآلة. المهمشون في السياق المصري، وفي غيره من السياقات العربية غير مكتملة التحول الصناعي، يشبه دورهم دورَ العمال في المركز الرأسمالي الصناعي من حيث قدرتهم على التنظيم والمواجهة، وأهمية ذلك في نجاح أية عملية تغيير.
المفارقة هنا أن كثيراً من الطامحين للتغيير في صفوف الطبقة الوسطى، كانت لديهم خشية كبيرة من نتائج أية تظاهرات كبيرة كان من الممكن أن تخرج إثر دعوة محمد علي، السبب هو خوفنا من دخول البلاد في نفق مظلم وغياب الاستقرار، وهو السبب نفسه الذي يستخدمه كثيرٌ من المنتمين للطبقة الوسطى في لوم المهمشين على انتخابهم السيسي في ولايته الأولى، وسكوتهم على ما حدث ولا زال في مصر من قمع للحريات بحجة تحقيق الاستقرار. وجود الطبقة الوسطى هو في مصلحة الرأسماليات والطبقات الحاكمة بطبيعة الحال، لأنها تساهم في تخفيف حدة، أو تجميل قبح، الصراع الطبقي. الطبقة الوسطى هي خط الدفاع الأول للأغنياء في مواجهة الفقراء، هي جيشهم الأول. ولعل التطور الأبرز في دورة حياة الرأسمالية هو تطور دولة الرفاه الاجتماعي التي ساهمت بدرجة كبيرة في تشكل ما يعرف بالطبقة الوسطى، ونظراً للصفة التاريخية التي تلتصق بالطبقات الحاكمة، الصلف والتعنت، فإنهم يأخذون الأمور للهاوية من خلال تفكيكهم لدولة الرفاه الاجتماعي وبالتالي القضاء على جيشهم الأول، الطبقة الوسطى.
سيظلّ جزءٌ مهم من الصراع متعلقاً بالطبقات الاجتماعية وانحيازاتها، وستظلّ السلطة في بلداننا العربية هي أحد أهم وأسهل وأقصر الطرق للوصول إلى الثروة واحتكارها. يظل ذلك صحيحاً في سوريا، وفي العراق وفي مصر، وكذلك في لبنان. وحتى لو اصطبغ الصراع بالطائفية والمذهبية، ولكن يظل الطموح الرئيسي للفرد أياً كان منبته الاجتماعي هو تملّك قدر من الثروة، وشراء مسكن في أحياء تنعم بالهدوء، بعيداً عن أحياء المهشمين المليئة بالجريمة والعنف. باختصار، يظل حلم الترقي الاجتماعي السريع يداعب مخيلات كثيرين، وفي بلداننا العربية ليس هناك أفضل من الوصول إلى السلطة، سواء جالساً على الكرسي أو مقرباً من الجالس على الكرسي، لتحقيق ذلك الحلم.