أمعنتُ النظر في الخطوط غير الواضحة لرسومات الجحيم في كتاب الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي. فكرت برهبة السؤال الذي شغل طفولتي، تُرى كيف هو الجحيم؟ اقشعر بدني وتنهدتُ مثلما تنهد الشاعر الفرنسي رامبو وتمتمت أبيات جحيمه:
قديماً في سالف الأيام، ما لم تخني الذاكرة،
كانت حياتي تتفتح فيها كل القلوب، وتسيل كل الخمور.
ربما كان ذلك قبل عشر سنوات، حُطم تمثال الإله الخالد المنتصب نحو السماء. هتفت الحناجر، ورفرف الرصاص فوق الرؤوس و اجتثّها. ارتفعت السواعد ومعها ارتفعت الأجساد لتبتلع صمته الأزلي. لم يُهدم التمثال، فأحرقوه. ومنذ يومها لم يتوقف الاحتراق وقطع الثوار للطرقات أمام الدبابات وقوافل الأمن التي حاصرت المدن. كان ذلك منذ عشر سنوات (مالم تخني الذاكرة).
وها هو مسخ آخر يجلس على كرسيه الخالد. إنها حقاً «كوميديا الهية».
أرخيت ظهري المحني فوق الصفحات، ونظرت نحو البحر المعلق كلوحة اعتيادية في البيوت، أغمضت عيني وغفوت. «الثور الجالس»أحد رؤساء قبائل السكان الأصليين في أميركا، وقاتل ضد قوات الخيالة الأميركية. لمس يدي وسقط في المعركة. أبيدت قبيلته فشدّ على يدي وحمّلني فناءهم بإغماضة عينه. وكنت أسمع حشود الجيوش فاستدارت نحوي أوروبا اللعينة، ابتسمت لي ووجّهَت بندقية من آثار الحرب العالمية إلى جبهتي. هل فقدت سيفي ذا النجاد البني؟ في الحلم ركبت فيلاً ضخماً وركض الناس من حولي وكان يصرخون: جاء أخو هارون.
فتحت عيني نحو السماء حيث اعتادت الطائرات رمي براميلها مثل أوراق الشجر الذابلة فوق أرواحنا. ثم نظرت إلى البحر حيث تطفوا النفايات والنوارس، تدور دورتها ثم تموت ببنادق صيد رديئة. فكرت وأنا أنحدر من التلة المطلة على الميناء: «لا نوارس في بيروت!». سائق السرفيس العجوز يرتجف وتلامس يده عجلة القيادة كأنها شجرة تموت. وتنحدر أسقف السيارات مثل نهر أزرق طويل من الألومينيوم.
تصرخ المرأة في الطابق السادس. تَسبُّ رجلاً ما أرّق حياتها: «يا أخو الشليتة»، ثم يغمغم صوتها كأنه صدى لآلاف النساء المترملات على جانبي الحدود بين بلاد الشام وبلاد الرافدين.
الاحتراق ينهمر مثل سيدة غاضبة تنتقم، وأنا أقبض وجه الشرير وأغمس رأسي بدخانه. تُشحذ الكراهية وتجلب الدموع والحسرات، تتفحم الجثث وتتعفن كقصيدة قُطع عنقها أمام الشاشات. من مكان عالٍ يجلس أحدهم ويدخن عُقب سيجارة ثم يقول: جميلٌ هذا الاحتراق.
أولُ جسدٍ واريته التراب كان جسدَ عُصفورٍ صغير، دفنته في حاكورة منزل جدي، ثم أيقنت أنني سأسقطُ في الجحيم، وأن الشياطين تلبّست عقلي الذي بدأ بالسؤال عن الموت. الشياطين في كل مكان، في الليل ووسوسة الأشجار الغارقة في صمتها تلتحف العتمة وتسِّول للعين أشكالاً مختلفة من العفاريت؛ في القطط السوداء تحدق في الظلام، وتبرق عيونها كما لو أنها قد فتحت ثقوباً في عالم الغيب؛ في أجساد الفتيات المسكونة بالأبالسة تنهش عِفّتنا.
الهواء يحترق، في الغابات وفي المعارك وتحت سقوف الحالمين الملعونين. تستطيع أن تشعر كيف يُضغط الهواء بين المسافة الساقطة من الأعلى إلى الأسفل ثم ينبعث الدخان في نوبة من السكر الشديد والهلع المتضارب حول دنو الموت وإدراك الأعصاب أن النجاة قد تمت، وأن الانتقال من عالم الأحياء إلى عالم الأموات مسألة لم تتم بعد.
يتطاير شرر الأشجار المعمرة. الشجرة الأم تُجلد كما تُجلد الفتيات تحت نظرات الرجال التي تستحقرهن. رأسي أسفل الجذع الطويل والأغصان تلاعب وجهي بالفيء، تخلل الضوء بين رموشي فأغفو على رطوبة تربتها التي تبلل جسدي. ها هي ملامحي تشتعل على طوال الساحل السوري. تحترق الرموش والأهداب والأغصان والجذوع والتراب وهوام الأرض.. تشتعل أجسادنا مثل شياطين كفرت بنعمة الرب
إننا في الدرك الأسفل من الجحيم.
*****
الأنشودة الأولى
تُعاقب المدينة الخطّائين بثبات إيقاعها. الحركة الأبدية نحو الفراغ. يسير الناس محقونين بالعادة. أحدق/ نحو الغيم/ نحو البحر/ صمت طويل. أتأمل أصابعي.. تشرق الشمس، تهبط. الخالدون يراقبون كدحنا نحو خلودهم، يعوّذوننا بالضرائب والأتاوات والمعارك وجني سنين عمرنا درءاً من الشرير. ليتبارك الجالسون في الأعالي، يشربون الشمبانيا ويأكلون لحم الضأن والكافيار. ويصنعون من جلود النساء والرجال أرائك للجلوس عليها، ليتبارك عرش الأبنية الرخامية المتطاولة نحو الأعلى.. واللعنة على أرواحنا الخاطئة..
هللوليا
هللوليا.
*****
أفتح عيني كأنني ولدتُ للتو. أعرف هذا الضجيج، أسير نحوه كأنني أحبو وأتعلم المشي.
تحوم سيارات الأمن مسرعة نحو الخطر المحدق، ويتأهب عسس المدينة. يتدفق الخوف في معدتي، ويشدني فضول قط جائع. أهبط من الاستديو في التباريز. وأسير في الشارع الواصل إلى وسط المدينة. هل يحدث هذا حقاً؟ أسمع هدير الأصوات، وأفكر في خطة للوصول. أنزل بين الحارات الفرعية باتجاه ديمو، ثم أمر من جانب الكنيسة نحو الصيفي، وبين حارات الصيفي سأجد نفسي في ساحة الشهداء.
أغني وأتمتم لأزيد من عزيمتي:
حنا ما نهاب الموت لما نجتمع
يسيل الغاز المسيل للدموع وتمتزج رائحته برائحة حرق الإطارات. أتسلل بسرعة وأجد نفسي قرب حريق كبير عند جسر فؤاد شهاب. شباب يربطون الكوفيات واللثام واللهب يتطاير فوق رؤوسهم..
واجهات المحلات الفخمة والبنوك التي يرمقنا أصحابها بأطراف أعينهم كأننا عنصر فائض عن الحاجة، تتهشم تحت ضرباتهم.
الموضة الآن هي اللثام..
حيّ على الخراب.
وكأنني نزلت من حي شمال الخط متجهاً نحو ساحة السراي وسط درعا. أريد أن أهتف: حرية. أستطيع الإحساس بعناصر الأمن المتخفيين، ماذا لو تم إيقافي؟ من الممكن ترحيلي الى سوريا، حيث اقتيد آلاف من المتظاهرين إلى جحيم المعتقلات. انحدرَ نحوهم القناصة من وراء هذه الجبال مرتدين بدلاتهم السود وأعلامهم الصفراء واقتنصوهم واحداً تلو الآخر.
تتوهج النار في كل مكان. أرقص حولها، والخوف يجذبني من رأسي حتى أسفل قدمي. ها أنا موجود أيتها المدينة. أتلمّس أطرافي كأنني شبح بدأ بالاكتمال. سأخاف من الرصاص الذي سينهمر بعد قليل، لكن الرصاص لا ينهمر. سأهتف «الموت ولا المذلة» لكنني لن ألتقط جسد أصدقائي من على الأسفلت. أتطلع حولي لأجد الوجوه تبتسم، وأسمع صوت فتاة: «جنة جنة .. جنة يا وطنا».
تدمع عيني وأردد وراء صوت الفتاة:
جنة جنة جنة يا وطنا
*****
تشبه الأوردة طرقات المدينة، يسيل فيها الثوار ليبعثوا فيها الحياة. هذا جسد أعملت فيه الخناجر في كل اتجاه. وهؤلاء الثوار يشبهون الملائكة الهابطين إلى قعر الجحيم وهم مطرودون من الفردوس.
منذ عدة أسابيع لم نكن نستطيع مغادرة بيوتنا، طافت المدينة بالكراهية والنفايات. وها هو وسط المدينة الرخامي الأشبه بالقبر تدب فيه الحياة. يصافح الناس بعضهم بعضاً كما لو أنهم خرجوا من تحت الأرض واكتشفوا أنه ثمة متسع للحياة. ماتت الحرب الآن. الأرواح الهائمة في الطرقات بحثاً عن العدالة تستريح، تغمرها غلالة النعيم وتداويها من العذاب الأبدي.
لا أعد الأيام، ربما هو اليوم الثاني أو الثالث من الثورة، وربما هو اليوم العشرون، وربما هي السنة العاشرة. أسير بين جامع الأمين ومبنى العازارية. لطالما شعرت بالرهبة في المرور وسط هذا الطريق. هنا يقبع نخاع النظام وعقله المدبر حيث تنتشر الأفرع الأمنية والدوائر الحكومية والبنوك. يستطيع الأمن الاستغناء عن كامل البلاد باستثناء هذه البقعة من الأرض. ترتفع الأبنية بنوافذها المغلقة حيث تتوارد التقارير عن حالة البلد الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي يمعن السياسيون في نهبها. يتسلل الأمن بيننا، يختبئون وراء الأسلاك الشائكة ثم ينصبون حواجزهم.
*****
«هيلا هيلا هيلا هيلا هو..» أسير كما لو أنني في قدّاس. هذه ترنيمة ما في الحياة الأبدية تطلق على الخالدين حين يسقطون من عروشهم. يتوافد الناس من كل صوب وهم يرددونها. لا رايات للحروب القديمة. يرقص الناس ما استطاعوا، يرقصون استعادةً لحياتهم التي انقضت في النحيب. تملأ النساء والفتيات الساحات وينتصبن أمام الأسلاك الشائكة وهراوات الأمن بكامل ألقهن.
ووسط جحيم الاحتراق لا مكان للتهذيب، تنفلت الألسنة المعوذة برادع الخوف.
كس أمّو/
بدنا نيك أختو/
أخوات الشرموطة ناكوا أختنا بدنا نيك أختن/
أيري بالتهذيب/
واللغة!
منذ عشر سنوات قال وزير الداخلية في سوريا:
«عيب.. هي مظاهرة»
ومنذ ذلك اليوم اصبح العيب مسألة مختلفة، فالعيب قناع السلطة لتخفي حيف قتل الناس وتعذيبهم.
يا حيف.
*****
على الجدران واللافتات تمتد العبارات والرسومات وتزين واجهات المحلات والبنوك والأبنية الحكومية كأنها فيلم أزلي عن حياتنا، حيث تتداخل الأزمنة والأمكنة. أسير وسط الشوارع والساحات وأتابع المشاهد المتعاقبة.
تسقط الدولة/ تسقط الحكومة/ يسقط رأس المال/ يسقط النظام/ تسقط الرأسمالية/ يسقط حكم المصرف/ يسقط الإخوان/ يسقط الدواعش/ يسقط الـ x / يسقط التهذيب/ يسقط الطابور الخامس/ تسقط الحدود/ تسقط otv / تسقط قناة الدنيا/ تسقط أمريكا/ يسقط الحرس الثوري/ يسقط حكم العسكر/ يسقط حكم الأزعر / يسقط نظام الملالي/ يسقط العالم/ يسقط أبو عمشة/ يسقط أردوغان/ يسقط الاستشراق/ يسقط السيسي/ يسقط بوتين/ يسقط ترمب/
يسقط العالم.
يكتبها الثوار على الجدران ويتناقلونها على الألسن ويهتفونها، يرددونها.. يغنونها. يعوذون بها أرواحهم المطرودة من النعيم.
*****
وراء السينما التي غرق تحت جدرانها آلاف من الضحايا مختنقين من الماء، وبين شطري المدينة التي سقط على خطوط تماسها آلاف الضحايا، يتدفق الشباب نحو جسر الرينغ ويقطعون الطريق. يتدفقون في العتمة ويغلقونها بوجه من يسبحون بحمد السلطة والأمان. يقطعونها بوجه المؤمنين بالآباء الخالدين. أجلس على الإسفلت وتتملكني الرهبة بأننا نمتلك المدينة، وأن هذه المدن تستحق الحياة، جميلة هي ليس في خرابها بل بسكانها الذين يحولونها إلى احتفال كبير من الفرح والابتهاج، ثم يغمرني خوف السنوات العشر الماضية. أكتفي بتأمل الوجوه وأتسلل مثل شبح بين قطّاع الطريق وأتمايل بينهم نشواناً. أجد صعوبة في ترديد هتافات بعينها، لكن لساني ينفلت في كل مرة يعلو الهتاف: ثورة.
إنها الثورة تمتد من شوارع بغداد ودرعا والباب وبيروت وطرابلس والنبطية وغزة والجزائر، إنه العالم القديم الغارق بدمائه، تنتفض طرقاته التي تصل عصب النظام العالمي المتربع كإله يطردها خارج نعيمه.