في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) عام 2013، داهمت مجموعة مسلحين ملثمين مكتب مركز توثيق الانتهاكات في مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية، واختطفت رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادة ووائل حمادي. وبعد مرور ست سنوات على هذه الواقعة، لا يزال مصير الأربعة مجهولاً، لا يزالون متروكين في عالم الغيب الرهيب، العالم الذي يلفّ مصير آلاف السوريين والسوريات، والذي اجتهدت في نسج خيوطه ورفع أسواره قوى متنوعة، على رأسها نظام الأبد والإبادة الأسدي، وتنظيمات وجِهات أخرى من بينها جيش الإسلام، المتهم بارتكاب هذه الجريمة فائقة الخسّة والنذالة، وغيرها كثيرٌ من جرائم الاختطاف والتعذيب والقتل.

والمُغيَّبون الأربعة هم من المناضلين السوريين المعروفين، ناضلوا قبل الثورة السورية وبعدها في مواجهة نظام الأسد، وكانوا وقت ارتكاب الجريمة قد اختاروا أن يعملوا من دوما الخارجة عن سيطرة النظام وقتها، يقدمون فيها كل ما يستطيعونه من عون، ويعملون خصوصاً على توثيق الانتهاكات التي يتعرّض لها السوريون، سواء على يد نظام الأسد أو على يد غيره، ولعلّ هذا ما أثار حفيظة الخاطفين الذين كانوا يعملون على بناء سلطتهم وإحكام سيطرتهم على حياة الناس ومصائرهم في دوما.

كانت رزان زيتونة قد تلّقت تهديداً مكتوباً بالقتل من قبل جهة لم تعلن عن نفسها صراحة وقت التهديد، كما أن إطلاق نار تهديدي كان قد وقع أمام المكتب، ولم يكن لدى رزان شكّ في أن المسؤولين عنه هم عناصر في جيش الإسلام؛ كان هذا في أواخر أيلول (سبتمبر) 2013، أي قبل الاختطاف بنحو شهرين ونصف. ولم يكن جيش الإسلام وقتها هو الطرف المسلّح الوحيد الموجود في الغوطة الشرقية، لكنه كان الجهة الأوسع تنظيماً والأكثر سيطرة في مدينة دوما، وكان قد بدأ ببناء سلطته وتعزيزها بجهاز أمني صغير آخذ في التوسع، وبشبكة من السجون العلنية والسرية الآخذة بالتوسع أيضاً، ولهذا بالتحديد كان مستبعداً أن تتمكن أي جماعة مسلحة من تنفيذ عملية اختطاف كهذه في دوما دون علمه إو إذنه أو شراكته، أو دون أن يكون قادراً على المساعدة في كشف تفاصيل الجريمة على الأقل.

هذه كانت بالذات القرينة الأولى على تورطه في الجريمة، فجيش الإسلام لم يقدّم عوناً من أي نوع، ولم يَقُم بإجراء أي تحقيق فعلي أو زيارة للمكتب بعد وقوع الجريمة، وكانت ردوده دائماً تنصبّ على المراوغة ورفض أي اتهام موجه له، ولعلّ من أشهر تلك الردود المُراوِغة، ما كان قد قاله زهران علوش بعد نحو ثمانية أشهر من الاختطاف، عن أن جيش الإسلام أجرى تحقيقات قادته إلى «أطراف خيوط» تتعلق ببعض «الاتجاهات الخارجية»، ليتحوّل بعدها إلى مطالبة الحاضرين بالسؤال عن «نساء المسلمين» في سجون الأسد بقدر أسئلتهم عن رزان زيتونة، في مزاودة رخيصة وتهرّب واضح المسؤولية. طبعاً، لم يعلن جيش الإسلام بعدها أياً من نتائج تحقيقاته و«خيوطه» المزعومة تلك.

لكن هناك قرائن أخرى أكثر أهمية من هذه المراوغات، أبرزها أن شخصاً يدعى حسين الشاذلي اعترف لاحقاً في تحقيقات أجراها القضاء المحلي في الغوطة بأنه هو من كان قد كتب رسالة التهديد لرزان زيتونة، وأنه كان قد كتبها بأمر من أبو عبد الرحمن سمير كعكة، الشرعي في جيش الإسلام. وفوق هذا، قام زهران علوش بإطلاق سراح الشاذلي من سجنه بالقوة لاحقاً، مُعرِقلاً أعمال التحقيق، وقاطعاً بذلك «أطراف الخيوط» التي يمكن أن تقود إلى كشف الجُناة وتحرير المخطوفين.

إذا لم تكن هذه الوقائع المُثبَتَة قرائن على مسؤولية قيادة جيش الإسلام عن الجريمة، فما هي الوقائع التي تصلح أن تكون قرائن على مسؤولية مرتكبي أي جريمة في الدنيا إذن؟

وليست هذه هي القرائن الوحيدة على كل حال، بل هناك قرائن غيرها، كما أن هناك تفصيلاً أوسع بخصوصها في نص حمل عنوان؛ لماذا زهران علوش هو المتهم، كتبه ياسين الحاج صالح، زوج سميرة الخليل وصديق رزان ووائل وناظم. ومع مرور الأشهر والسنوات، ومع استمرار جريمة التغييب، راحت القرائن تصبح أكثر قوة وتماسكاً، وواصل قادةٌ وأشخاصٌ في جيش الإسلام، من بينهم زهران علوش نفسه، الردّ على كل المبادرات والأسئلة والرسائل الموجهة لهم بنفي التهمة أو المراوغة أو التجاهل التام، ومن بينها مبادرة حملت اسم نداء إلى من يهمه العدل، دعت في أيار (مايو) من العام 2015 إلى إطلاق عملية قضائية بخصوص الجريمة، ولم يتم الرد عليها مطلقاً، حالها كحال رسالة تم توجيهها إلى قيادة جيش الإسلام في كانون الثاني (يناير) من العام التالي 2016، بعد مقتل زهران علوش مؤسس جيش الإسلام، وتولّي أبو همام البويضاني قيادة التنظيم خَلَفاً له.

كان علوش قد قُتِلَ أواخر العام 2015، وبعد مقتل زهران كما قبله، واصلت قيادة جيش الإسلام تجاهلها لكل النداءات بخصوص الكشف عن مصير المُغيّبين، لكنها وجدت نفسها على ما يبدو مضطرة لتقديم ردّ ما بخصوص القضية والاتهامات التي تطالها بالمسؤولية عنها. ولم يوجّه جيش الإسلام ردّه هذا إلى عموم السوريين ولا إلى ذوي المخطوفين ورفاقهم، بل قام «المكتب الحقوقي» في جيش الإسلام بإعداد ملفّ عن القضية دون أن يقوم بنشره في أي وقت، وحصل ياسين الحاج صالح على نسخة منه، وقام بنشرها على صفحته في فيسبوك في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2016. والأرجح أن هدف جيش الإسلام من إعداد الملفّ كان محاولة تبرئة ساحته وتبرير نفسه أمام داعميه، أو أمام جهات دولية يريد التواصل معها، وإلّا ما هو تفسير إعداد ملفّ كهذا دون القيام بنشره للعموم؟!

على أي حال، لم يحمل ملف جيش الإسلام ذاك شيئاً غير مزيد من المراوغة والتضليل، فهو أراد أن يحوّل المسألة من قضية عامة إلى قضية خلافات شخصية وإيديولوجية، كما أنه تناول أشياء كثيرة ليس من بينها القرينة الأساسية المتعلقة بحسين الشاذلي واعترافاته ثم إطلاق صراحه عنوة على يد زهران علوش، وفيه أيضاً خلط متعمد للحقائق بعضها ببعض، على نحو ما يبيّن  ياسين الحاج صالح في تفنيده المطول لهذا الملفّ، الذي يتضمن، فضلاً عن التفنيد، إعادة شرح للقضية وأبعادها وظروفها والقرائن المتوافرة بشأنها.

بعد حرب الإبادة الهمجية التي شنّها نظام الأسد بدعم روسي وإيراني على الغوطة الشرقية، تمكنت قوات النظام من فرض سيطرتها على المنطقة، وتهجير عشرات الآلاف من أبنائها إلى الشمال السوري في ربيع العام 2018، ومن بينهم قيادة جيش الإسلام وجزء من مقاتليه، لينتقل التنظيم إلى مناطق سيطرة تركيا وحلفائها في ريف حلب.

وليس ثمة مجال للشك في أن جزءاً من قيادة جيش الإسلام وبعضاً من عناصره يعرفون تفاصيل الجريمة ويعرفون مصير المُغيَّبين، لكن أياً منهم لم يَقُل شيئاً حتى اليوم، في استمرار لسلوكهم الإجرامي بالغ الدناءة. وفوق هذا، لم تَقُم هياكل المعارضة السورية الرسمية طوال هذه السنوات، قبل مقتل زهران وبعده، وقبل الخروج من الغوطة وبعده، بأي ضغط على قيادة جيش الإسلام، بل واصلت احتضانهم في مؤسساتها وهياكلها، رغم سجلّهم الإجرامي الرهيب، الذي يشمل حروباً داخلية ذهب ضحيتها المئات، واغتيالات وأعمال خطف، وإنشاء منظومة قمع وشبكة سجون مروعة في الغوطة الشرقية، وفشلاً ذريعاً على كل صعيد، وأمثولة عن الشبق للسلطة والمال، وعن احتقار كل مبادئ العدالة والحرية والديمقراطية. ومن بين هؤلاء كان محمد علوش، عضو المكتب السياسي في جيش الإسلام، الذي سبق أن تم تعيينه «كبيراً للمفاوضين» في أحد وفود المعارضة، وهو الذي سبَقَ عن أن حرّضَ على رزان زيتونة قبل اختطافها بأسابيع.

لم تَقُم أي جهة ذات سلطة ونفوذ بمساءلة قيادة جيش الإسلام أو الضغط عليها من أجل تحطيم عالم الغيب الذي يحيط بالمخطوفين الأربعة، ولا بخصوص بقية الجرائم المروعة التي ارتكبوها في الغوطة ويبدو أنهم يواصلون ارتكاب مثيل لها في عفرين، بما في ذلك الفصائل التي تزعم أنها استمرارٌ لثورة السوريين ضد نظام الأسد، والسلطات التركية صاحبة اليد الطولى في مناطق تواجد جيش الإسلام الجديدة. وفوق هذا، يتم احتواء جيش الإسلام في مشروع «الجيش الوطني» الذي ترعاه تركيا، فيما تواصل قيادته بناء إمارتها الاقتصادية والعسكرية، وتشارك بحماس في معارك تركيا في الشمال السوري.

لا تسقط قضايا التغييب بالتقادم، ولن نسمح أن يلفّ النسيان هذه القضية وغيرها من جرائم التغييب والاختطاف في سوريا. من أجل العدالة، ومن أجل كرامة السوريين وقضيتهم، سنواصل بإصرار مطالبتنا بالكشف عن مصير رفاقنا، وسنواصل العمل بشكل حثيث على محاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة، وعلى تذكيرهم وتذكير العالم بالعار الذي يجلّلهم، عار ارتكاب واحدة من أكثر الجرائم بشاعة، وعار الشراكة مع نظام الأسد في تحطيم حياة السوريين وآمالهم.

لقد راهن المجرمون على أن تضيع جريمتهم وسط زحام القتل والتدمير والتشريد الذي انسكب على سوريا خلال هذه السنوات، وليس صعباً أن نجد بين أنصارهم والمدافعين عنهم من يمتعضون من «التركيز» على قضية المخطوفين الأربعة بالذات، وسط كل هذه الأهوال، أسوةً بالزعيم المؤسس للجماعة المجرمة، زهران علوش، حين أجاب على الأسئلة عن مصير المخطوفين بإبداء امتعاضه من نسيان «نساء المسلمين» في سجون النظام. «جريمةٌ في وجه جريمة، جريمةٌ مقابل أخرى، وطالما أن هناك مجرماً آخر فلنكن كلنا مجرمين إذن»؛ يقول لسان حالهم.

في الواقع، تحمل رمزية قضية رزان وسميرة ووائل وناظم كلّ المعاني المناهضة لهذا المنطق الإجرامي، فهُم ناشطون مديدون ضدّ الطغيان والاستباحة، ومن غيّبهم يُساءَل لا يُسأل. لسوء حظّ الخاطفين، لسنا قليلين نحن الذين لم ولن ننسى، الذين نضع قضية رفاقنا المخطوفين في قلب قضيتنا الكبرى من أجل حريتنا وكرامتنا وذاكرتنا. أجزاءُ من كلٍّ منا مخطوفة مع سميرة ورزان ووائل وناظم، وستبقى أجزاؤنا الناجية مُكرَّسة لملاحقة من غيّبهم، مهما طال الزمن ومهما تبدّلت الأحوال، من أصغر «مُعفِّش» في عفرين، وحتى «كبير المفاوضين» الأسبق.