لا يمكن لأي مختّص في المشهد الثقافي في العالم العربي أن يتجاهل الحراك الثوري الفنّي الذي شهدناه منذ الأيام الأولى لانتفاضة لبنان في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والذي يتمظهر -كما في باقي ثورات المنطقة- بتعبيره المبدع ويتميّز بخصوصيته، ويتحدّى في الوقت نفسه آليات القطاع الفنّي في التغيير والاستجابة لمقتضياته.

وقد كانت الريادة في هذا الحراك الثوري الفنّي للحوارات الفكرية التي لمّت الثوار من الفّنانين، وأساتذة وطلاب الجامعات، ومحامين، وخبراء نفسيين، وأخصائيين تبرّعوا بوقتهم في خدمة الخيم المنظمّة التي تغّطي كل لوازم الشارع في أيام الثورة. وكما لو أن لبنان كلّه قد أصبح كرّاسة ليوميات وشعارات الثوار، فقد رافق حركة التعبير انتشارٌ واسعٌ لأنواع الغرافيتي من بيانات وشعارات التغيير في كل زاوية من زوايا المدن، بالإضافة للرسوم وطلاء بعض المباني، كما في جدارية ساحة النور التي أصبحت هي بدورها حلبة لرقص التكنو على أضواء فلاشات الهواتف النّقالة، وعروض الـ «بيرفورمانس» المتنوعّة، الارتجالية منها والمنظّمة. فمن غرفة جلوس تتصّدر وتغلق المتّحلق الطرقي السريع في بيروت، محوّلةً إياه إلى خشبة مسرح؛ إلى مهرجان من عروض القفز والسباحة الاستفزازية في البحر أثناء نزهة وتخييم على شاطئ الزيتونة-السان جورج للمطالبة باستعادة الشواطئ كأملاك عامّة؛ إلى مسرح الشارع الأكثر كلاسيكية والرقص التعبيري والعزف والغناء داخل مبنى التياترو الكبير وعلى بابه وفي الحارات الفرعية للمدن. ومن صدى مدينة بأكملها تقرع الطناجر كل ليلة في الساعة نفسها؛ إلى زخرفة الإسفلت بالشموع، والسماء بالمناطيد المشتعلة؛ والدرونات التي تصّور تشكيلات الموزاييك البشرية (السلاسل منها، والمتراصّة، والدائرية، وحتى الاستعراضية الكرنفالية كما في ذكرى يوم الاستقلال). وشهدت الساحات عروض إسقاط بصرية- سمعية على الأبنية والمنشآت الحكومية والشاشات العملاقة. كما لم تَخلُ الثورة من الفّن المفاهيمي بتعبيره المعاصر، وربمّا أجمل أشكال تعبيره تلك هي المرايا الموزعّة على سياج حديدي في ساحة رياض الصلح وقد كتب عليها «أنا قائد/ أنا قائدة الثورة»، لتؤكد على وحدة موقف الشارع في مواجهة الحكم الاستبدادي الذي يسعى لإسقاطه. يحاول «بيان الكيوريتر» هذا طرح مجموعة من الأسئلة التي تساعدنا، على وجه الخصوص، في تأمل حدث احتلال الثوار اللبنانيين للأماكن الثقافية العامة، والمطالبة باستعادتها وإعادة تأهيلها، حيث يتعمّق في قصّة احتلال الفنانين لـ «البيضة» أو «المبنى البيضاوي» في بيروت، ويدعونا للاستجابة للتغيير الذي تقترحه الثورة وشعاراتها في العلاقة مع طموحاتها من خلال إعادة النظر في دور كل من المؤسسات الفنية ومبرمجيها، والفضاءات الفنيّة، و«الكيوريتر» -أو القيّم/القيّمة-، في لحظة الفعل الثوري.

البيضة

في الستينيات من القرن الماضي، صّمم المهندس جوزف فيليب كرم سينما غومون بالاس (Gaumont Palace) بقبّتيها (الدوم)، وعُرفت باسم مبنى «البيضة» نسبة لشكلها الهندسي البيضوي. ويعتبر المبنى تحفة عالمية من تحف العمارة «الوحشية» أو البروتالية (Brutalism)، وهي حركة معمارية ازدهرت في منتصف القرن الماضي، وعُرفت خصوصاً في بريطانيا، حيث حاولت إيجاد أشكال بناء وظيفية لتؤوي لاجئي الحرب العالمية الثانية وتؤمّن لهم عيشاً لائقاً من دون أن تأبه كثيراً بالشكل الخارجي للمبنى الذي يعيشون فيه. اشتّق اسم الحركة المعمارية «بروت » من الخرسانة الخام (Béton Brut)، وتشير لاستخدام كتل من المقطع الخام الثقيل في البناء. وقد كان من المقرر أن تكون البيضة جزءاً من مجمّع سيتي سنتر في بيروت، الذي بناه آل صمدي وآل صالحة عام 1965، أي أن المبنى لم يُستخدم كله كَسينما كما يعتقد البعض، بل كان مقرراً تشييد مبنى يضمّ خمسة طوابق تحت الأرض ليكون أول «مول» في المشرق. كما كان من المفترض أن يرتفع إلى جانب البيضة برجان يضمّان مركزاً تجارياً ومكاتب. وصُمّمت السينما التي تتخذ شكل بيضة لتحوي 1000 مقعد.

يعتبر المبنى، برمزيته، شاهداً من شواهد الحرب اللّبنانية، حيث كان مكان السينما خط تماس يفصل بين منطقة بشارة الخوري وساحة الدبّاس، ثم صار مركز قنص باتجاه كنيسة الأرمن في الساحة نفسها وصولاً إلى منطقة التباريز. وبعد انتهاء الحرب استولت عليه شركة سوليدير، لكن محافظة بيروت أصدرت قراراً بالحفاظ على مبنى البيضة والإبقاء عليه كما هو، وأدخلته على لائحة الجرد لقيمته الهندسيّة، وجرى الحديث عن وعودٍ كثيرة لترميمه -مع الكنيسة التي تجاوره- من ضمن مخططات إعادة إعمار وسط بيروت، إلا أن ذلك لم يحصل.

بقيت قضبان أسوار البيضة الحديدية، على الرغم من هشاشتها، حاجزاً فاصلاً أمام أهل المدينة لم يجرؤ سوى قلّة من المغامرين على تجاوزه، وبسريّة. ومن الجدير هنا أن نذكر نضال ناشطي الحفاظ على الأبنية التراثية في السنوات الماضية من أجل حماية البيضة من محاولات البيع التجاري ومشاريع الهدم، ومنهم مجموعة «أنقذوا البيضة» (Save the Egg).

البيضة وانتفاضة 17 اكتوبر

منذ الأيام الأولى لاندلاع الاحتجاجات الشعبية، اقتحم ما يقارب مئة شخص -معظمهم من الطلاب، والأكاديميين، والفنانين- المبنى، ولوّنوا جدرانه بعبارات الثورة، من «إسقاط النظام» إلى «إسقاط الفّن المعاصر». ومنذ يومها أصبحت حيطان المبنى المرقّطة بآثار الرصاص ورشة فنية مستمرة لطبقات من الغرافيتي والجداريات التي تمحي بعضها بعضاً. وأصبحت أروقة البيضة صالونات للحوار وعروض السينما، وسواها من الفعاليات. كما اقتحم المتظاهرون أيضاً دار الأوبرا، أو «التياترو الكبير» المجاور لمبنى البيضة في شارع المير بشير، بين مبنى العازارية وساحة رياض الصلح، وشاهدنا توثيقاً لذلك الحدث الاستثنائي في فيديو باسم «لبنان ينتفض» حيّت فيه الشابة منى حلّاب الثورة بأغنية. لكن الجيش اللبناني أعاد إغلاق المسرح من جديد بسبب مخاوف متعلقة بسلامة البناء. ترك الفنانون دار الأوبرا، وإن استمروا فيما بعد بتنظيم الفعاليات الموسيقية في الشارع مقابل سياجها الجديد، واستقرّوا في تلك المرحلة في البيضة، جاعلين منها مقرٌهم.

احتفى كثيرون بهذا الفضاء الثقافي الجديد الذي يجاور ساحة الشهداء -ساحة الثورة في بيروت- و افترضوا أن الثوار الذين احتلوه وأعادوا فتحه كمكان عام هم في تناغم وانسجام وعلى اتفاق. يتعاونون في العناية بالفضاء، وينظّمون الفعاليات الفنّية، ويديرون الحوارات الرديفة لحراك الشارع. حيث نقلت رويترز في 31 تشرين الأول (أكتوبر) تحت عنوان «الاحتجاجات تُعيد الحياة إلى مبنى ‘البيضة’ المهجور في وسط بيروت»: «دخل المحتجون غرفة الصوت بالمبنى، وبدأوا في تنظيم حفلات بشكل ارتجالي، والتقاط صور وإلقاء محاضرات».

لم يستمر الأمر بتلك العفوية والرومانسية، ففي حين كنا نشاهد صور بعضهم وهم ينظّفون المكان، وفيما كانت وكالات الأخبار تنقل لقطات ومقابلات لآخرين من الأساتذة الجامعيين والأكاديميين وقد نقلوا محاضراتهم الجامعية إلى البيضة، كان الخلاف في أروقتها بين محرّريها قد بدأ بعد أسبوع واحد فقط من احتلالهم للمكان مع ظهور صفحة فيسبوك جديدة تحت اسم Eggupation. حيث بدأت إدارة تلك المجموعة تسيطر فكرياً على مساحة البيضة تحت عنوان الحاجة للتنظيم. ولم يكتفِ القائمون على المجموعة بمحاولة التنظيم، بل وضعوا أنفسهم في موقع اللـ «كيورتير»، أو القيّم الذي يصمّم البعد المفاهيمي للبرنامج اليومي فيها، فيقومون هم باختيار ما يتقدم به الآخرون من الثوار من أفكار، وقد يوافون أو لا يوافقون على مقترحات من سوف يتحدّث، وماذا يُقدَّم في مساحة البيضة الرئيسية من عروض وحوارات في هذا اليوم أو ذاك.

وقد وجدتُ نفسي في معمعة معركة على تلك الصفحة بين بعض الثوار الذين انتقدوا طريقة إدارة المجموعة للفعاليات التي ترعاها في البيضة، بغّض النظر عن أهميتها. وفي حين يعتبر الارتجال أمراً طبيعياً في أوضاع فوضى كهذه، لفتني موقف بعض الثوار، خصوصاً من الفنانّين الناقدين ليس فقط لمحتوى المحاضرات التي يتم برمجتها في البيض، بل أيضاً لتوقيتها، حيث اعتبروا أن كلا من المحاضرين والحضور قد أعطوا أولوية للنظرية على حساب واقع وآنية ما يجري من أحداث في الشارع، وعبّروا عن مشاعر الخذلان مما اعتبروه «تعالياً على عيش اللحظة التاريخية والهروب من مسؤوليتها باللجوء الى استعارة دروس الماضي». فقد صادف توقيت بعض تلك المحاضرات مع اللحظات نفسها التي كان الثوار فيها يطلقون نداءات لدعم إغلاق الشوارع، وكان بعضهم يُعتقلون ويُضرَبون أو تدّمر خيمهم في الشارع المجاور للبيضة وعلى أبوابها، كما حصل ليلة إسقاط الحكومة في 28 تشرين الأول/ أكتوبر.

كيوريتر

بغض النظر عمّا كانت تلك الآراء تعّبر عنه، بما يخص التزام الفنانين بالانحياز المتطّرف للشارع ومواقفهم تجاه الجدلية المعرفية بين أهميّة «ثقافة الشارع» أو «ثقافة الكتاب»؛ أو بما يخص معضلة مشاعية «الفن للجميع» أم حصرية «الفّن في غاليريهات النخبة التي تفهمه»، فقد بدا لي، خلف قشرة هذا الخلاف الكلاسيكي، مسألة جديدة أكثر إثارة للقلق، ولم أجد مفراً من البحث في سؤال: ما هو جذر الخلاف بين الثوار حول ما يجب عرضه في البيضة؟ وهل لعبت مهنتي، مهنة الكيوريتر، دور حجر عثرة، فكانت عقبة أمام إلتقاء الثوار في اللحظة الثورية؟ أم على العكس، فقد ساهم الكيوريتر في كشف الاختلافات الفكرية التي لا بد لها أن تظهر على الرغم من «يوفوريا» طوباويتها؟

كيوريتر: تترجم مهنة الكيوريتر إلى اللغة العربية بكلمة ‘قيّم’ أو ‘قيّمة’، ولا تزال ترجمة الكلمة إشكالية بسبب البعد السلطوي لها. أمّا عن المهنة فهي حديثة العهد، وتعتبر تطوراً معاصراً عن مهنة أمين المتحف، ويقصد بها الجماعة الفنيّة المختّصة بخلق مفاهيم المعارض الفنيّة، والبحث الفني كأرضية لها، واختيار موضوعاتها، وصناعة الحراك الفكري حولها، والتسويق لها. ويعتبر موقع الكيوريتر في عالم الفنّ موقعاً ريادياً وموازياً للناقد الفنّي، فهو من يملك مفاتيح العلاقة مع المؤسسات الفنية، سواء كانت مهرجانات مثل البيناليات، أو المتاحف، أو الغاليريهات، أو الفعاليات الفنية الكبرى حول العالم، حيث يتم استقدام القيمّين بحسب اختصاصاتهم إليها. كما لدى الكيوريتر السلطة في اختيار الموضوعات ودعوة الفنانين المشاركين في المعارض، وفي إقرار تمويل بعض الأعمال الفنية الجديدة، ومن بين القّيمين نجد الأكثر معرفة بتاريخ الفن، أو أسواقه، أو مستجّداته، ومنهم الأكثر حضوراً في العواصم الفنيًة؛ ومنهم الأكثر التزاماً بقضايا مجتمعاتهم الاجتماعية منها والسياسية؛ أو بالبحث المعّمق ودراسة الأرشيف وعرضه؛ ومنهم الأكثر نجومية والأوسع انتشاراً وعالمية. ومن الأخطاء الشائعة اللغط بين وظيفة المدير الفنّي والقيّم، حيث لا يعتبر عمل الكيوريتر إدارياً بل هو عمل فنٌي بامتياز وله جزئيته في منظومة الفعل الإبداعي. هذا وقد بدأت قلّة من الجامعات حول العالم بفتح أبواب تدريس هذا الاختصاص، من ضمن قطاع الفّن البصري بشكل رئيسي.

إلى بيروت

قررتُ الذهاب إلى بيروت.

كتب روجيه عوطة في مقالته في المدن بتاريخ 23 تشرين الأول/ أكتوبر تحت عنوان «فن الثورة في لبنان يُسقط الفن المعاصر»: «كتبت إحدى الثائرات على جدار من جدران بيروت ‘يسقط الفن المعاصر’. وبهذا، كانت تشير إلى أن الثورة، وحين تُسقط النظام، أو تُفلت من حطامه، تخلص أيضاً من ذلك ‘الفن’ كمؤسسة من مؤسساته».

وعليه، كانت أول خطوة في بحثي عن شرعيتي كـ «كيوريتر» بعد إسقاط الفنّ المعاصر على جدار البيضة في بيروت هي في شراء بطاقة طائرة -ذهاب فقط- إلى بيروت دون تردد، والنزول ليلة وصولي في 28 تشرين الأول/ أكتوبر مباشرة إلى الساحات للمشاركة في التظاهر. ولكن ذلك لم يكن كافياً لإرضاء ضميري المهني وواجبي في الاستجابة للتغيير الفكري الذي أنتجته ثورة لبنان في منطقتنا في أول شهر لها فقط، لتكون كما كانت دوماً ‘منارة الشرق’، فكان السؤال البديهي: ما الذي يجب علينا تغييره في ممارساتنا؟

قبيل سفري من كندا، حيث أقيم، راسلت مجموعة Eggupation عبر البريد الإلكتروني، أمانة منّي، لمحاولة الوصول لفهم أعمق لتفاصيل علاقتهم بالمكان، وأخبرتهم بنيّتي القدوم الى بيروت على جناح السرعة لمحاولة الإجابة على أسئلتي، كما طلبت منهم «منحي» مساحة للعرض، فكان جوابهم التالي: «مبنى البيضة كبير، اعرضي حيث شئت وأرسلي لنا المعلومات عن المعرض كي ننشرها على الصفحة».

لكن بعد جوابهم المنفتح ذلك بيوم واحد، قامت إدارة الصفحة الفيسبوكية بمسح الكثير مما كُتِب من انتقادات وُجِّهت لها بسبب احتكار حصرية القرار فيما يتًم برمجته في البيضة، وفي هذه المرحلة غادرها غالبية الثوار وسقطت مصداقية المجموعة واتهمًت بالإلغائية، ولم تنجح بالاستمرار في حيازة المكان وفشلت أمام امتحان المشاركة في المساحة العامة والثورية المحررّة، مع الحفاظ على خياراتها البرامجية. ويبقى السؤال: هل انتهت المجموعة إلى قمع الأصوات الجديدة في البيضة تحت عنوان «الكيوريشن»؟ وهل بسبب رغبتها بذلك أجبرت على ترك المكان وتنظيم فعاليتها في أماكن أخرى من المدينة، أم لسبب آخر؟

في لقاء معه في بيروت يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، أخبرني الفنان سمعان خوّام -المنخرط في الثورة والمشهود له بأعماله وممارسته الفنيّة التي ترسّخ المشاعية الإبداعية، وهو أحد أوائل الثوار الذين حرّروا مبنى البيضة في الأيام الأولى للانتفاضة:قمنا نحن، مجموعة (Sleeping with the Enemy) الفنّية بإعادة تحرير البيضة من الثورة المضادة -على حدّ تعبيره- مع تأكيده على رفض الإلغائية. ويعني بذلك، بالطبع، إعادة التحرير الفكري لها كمساحة عامة ومفتوحة للجميع ولتعبيرهم الثقافي والفنًي الحر.

شكلّت قضية خلاف الفنانين في البيضة لديّ سؤالاً حول ديموقراطية مكاني، وعدالة دوري، ومهنتي، ووضعتني أمام مسؤوليتي في الدفاع عن حرية التعبير الفني ومساحاتها في إطار التزامي بثورات المنطقة منذ اليوم الأول لها. وكان السؤال الذي لم أعد أستطيع الهروب من مواجهته: هل الأمر الذي شكل ضغطاً على بعض الفنانين الثوار بعد أول احتلال للبيضة عائد الى أسلوب «الكيوريشن» غير التشاركي لدى مجموعة (Eggupation)، أم هو بسبب إقحام دور الكيوريتر بشكل عام في غير مكانه في لحظة الفعل الثوري؟

شكل لي هذا السؤال استفهاماً، كون عملي يعنى بالفن المرتبط بالحريًات، وحملنّي مسؤولية جديدة كوني أسسّت وأطلقت حديثاً مشروع متحف الحريّة The Freedom Museum بمنصتيه الافتراضية والجّوالة، وبرسالته المرجّوة في أن يخبر قصص الحريّات في «العالم العربي» والجاليات العربية حول العالم من خلال تعبيرها الفنيّ المعاصر والمتنوّع، وفي تقاطعها مع حركات التحرر عبر التاريخ، والجغرافيا.

والمقصود بالعالم العربي هنا هو التعريف الثقافي له بكونه المنطقة الجغرافية التي تحوي ثقافات متعددة ولغات متنوعة ذات ارتباط تاريخي وثيق باللغة العربية وبالناطقين بها.

بُني المتحف على نظرية «الفضاء الثالث» المكانية، الذي تبدو فيه كل أشكال الثقافة في حالة من الحضور المزدوج (Hybridity)، مما يجعلها قادرة على تغيير سرديّات التاريخ التي تشكّلها، وأن ترسي بنى جديدة من السلطة ومبادرات سياسية جديدة؛ كما تخلق مراحل ومعالجات الثقافة ذات الحضور المكاني المزدوج شيئا جديداً وغير معرّف، وشيئا مختلفاً عنها، وتصبح مساحة جديدة للتفاوض حول المعنى والتمثيل. ويدعو متحف الحريّة إلى تحدي التعاريف المتشنجّة لمفاهيم الهويات، والاستحالة، والاستقطاب، والاغتراب، عن طريق تعريف مفهوم جديد للانهائية المكانية؛ بكونه فضاءً شاملاً جذرياً يشمل علم المعرفة، وعلم الأنطولوجيا، والحركية التاريخية المستمرة، والتي تتجاوز الثنائيات، والإشارة إلى «آخر-الآخر»، المنفتح جذرياً إلى الغيرية، وإلى التوسيع المستمر للمعرفة المكانية.

حين يعجز الفنان عن التجوال من أجل حيازة مساحته الفنيّة المرغوبة، تستطيع أعماله الفنّيّة القيام بذلك.  وينشد مشروع المتحف، بذلك، أن يكون منصّة مستّقلة للبحث في الفّن المعاصر وعرضه، تعمل على توسيع المفاهيم بعلاقتها مع كل من الخيال والواقع بالنسبة للفنانين والجمهور.

لذلك، تضيف إشكالية دور الكيوريتر في قضية البيضة سؤالاً جديداً حول ضمان استجابة مساحات الفنّ المعاصر كأداة ثورية، كونه يسعى من خلال نظريته الفنيًة لمنح الفضاء الحرّ للفنّانين، وبعدالةٍ تنبع من هدفه الأول، أي «الحريّة بلا حدود».

كما يطرح هذا التحدّي سؤالاً: ما هو دور الكيوريتر بوجود آليات استكشاف مساحات جديدة للفنون الرقمية، والفنون الافتراضية، والفنّ الإعلامي المنتشر عبر الإنترنت، وأشكال التفاعل المبتكرة مع الأحداث الراهنة؟ وفي الوقت الذي تشكّل فيه مساحةٌ فيزيائيةٌ كالبيضة تحدياً حول عدالة المساحة الفنيًة، كيف يمكن تحقيق هذه العدالة في الوقت نفسه في الأماكن الافتراضية أو غير المرئية؟ وكيف يمكن لمشروع مثل متحف الحريّة  وسواه اليوم أن ينجح في تحفّيز المحادثات المحرضّة للتفكير وكسر كل أشكال التابوهات، واقتحام الأبعاد غير التقليدية، وتحدّي استمرار السرديّات السائدة حول الفنون والتراث؟

كيف نتأكد من تبنّي منصّات متحف الحرية دعم الأصوات غير المسموعة وحرّية التعبير الفنّي كي ينجح في تعريف الجمال كحق أساسي من حقوق الإنسان، وكيف نتأكد من تمكين أي منصّة للفنون المعاصرة بآليات السؤال، والتغيير، والبحث، والانخراط، والتشاركية، والتعليم، والنقد، والعرض، والمقاومة من خلال الفنّ؟

والأهم من ذلك كله: كيف نؤطّر المكان الفنّي كي يكون مساحة للفعل السياسي بامتياز، ويكون في الوقت نفسه مُحصَّناً ضد التسييس وتحويل الفنّ إلى بروباغندا؟ فيكون الفن، حينها، قادراّ على تجاوز كل أشكال الحواجز من خلال دعوة الجميع للانخراط في تغيير الواقع، والعمل معاً على تحفيز حركات فكرية وفنيّة ريادية جديدة تساهم بطرق «مبدعة» في فهم وتغيير مفهوم المكان بالنسبة للحياة الانسانية، ويصبح اللقاء الفنّي في الحالة الثورية شكلاً خاصاً من الوعي السياسي والمكانيّ الملائم للمنظور المتجدد للحظة التحرر وانهيار الأنظمة الشمولية كمفاهيم؟

بيان

في حين انتقل الحوار اليوم في أروقة الفن في لبنان من صراع بين الفنانين حول ما يجب عرضه داخل البيضة إلى نقاش عام حول وجوب تلوين جدرانها أم لا، حيث أعلن رسام الغرافيتي محمد أبرش -وهو من رسم العلم اللبناني على البناء المطل على ساحة النور في طرابلس- عن رغبته في رسم العلم اللبناني على واجهة من واجهات مبنى البيضة، وعن نيتّه إطلاق حملة تبرعات لشراء الدهان. ويدور السجال مع المعترضين حول سؤال هل نمحو آثار الحرب كي لا تتكرر؟ أم نُبقي عليها كي نتذكر؟ هذا وقد انتقد المشروع كلٌّ من الناشطين الثقافين زينة زيادة وجاد غريب وزياد مطران وسواهم، رافضين مشروع تلوين مبنى البيضة، حيث يعتبرونه شاهداً على الحرب اللبنانية باعتباره مصنفاً كإرث عام معنوي، كما سبق وناضل هؤلاء وسواهم كي لا يتم بيعه، ولا ترميمه، بل ليبقى كشاهد رمزي على تاريخ بيروت.

وفي الوقت الذي يرّحب فيه أغلب النّقاد بالأعمال الفنيّة الحديثة العهد «عن» انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر)، يبقى التحدّي الذي في عهدتنا، نحن العاملون في المجال، هو كيف نضمن أن يكون فضاء العرض في لحظة الثورة «كوكبياً» (constellational)، على حد تعبير المنظرّة في علم الكيوريشن (بياتريس ڤون بيسمارك (Beatrice von Bismarck) في معرض حديثها عن كون الأفراد من فنانين وجمهور بخلفياتهم المختلفة هم الذين يحققون المكان الفنّي، لا العمل الفنّي فحسب. ومع كامل الاعتراف بحق الفنّ في أن يكون من أجل الفنّ فقط في حال كان ذلك هو خيار الفنان -وليس لذلك الجدل الأزلي حول أدوار الفنّ مكانٌ هنا – بل يبقى السؤال كيف نصنع في زمن الثورة فناً منخرطاً يكون بحد ذاته «أداة تغيير»، محققاً مجال النفوذ التي يسعى إليه، مُسقِطاً بذلك كافة أنواع الجدران، والخوف من الآخر المختلف الذي هو في صميم رسالة أي ثورة في دعوتها الى الحرية؟ عوضاً عن أن ندعم فناً «عن» الثورة يتعالى عليها ويمأسسها متفرجاً عليها، وهو منفصل عن مطالب شارعها الذي لم يُسقِط «الفن المعاصر» فحسب، بل أسقط «الپروپوزال» كذلك؟

للحّق، وبحكم المهنة، وفي لحظة تاريخية كهذه، يجد «الكيوريتر» المتفّرج من الخارج نفسه تلقائياً أمام سؤال كيف أقدّم عرضاً فنيّاً يعبّر عن الثورة؟ لكن ما أن وطأت قدمي شوارع لبنان حتى أصبح مفهوم «الفن» و«العرض» بحد ذاته بالنسبة لهذا التوقيت قناعاً وتعامياً عن آلام الشارع و مآلات مطالبه، ففي حين يجمّد العمل الفنّي اللحظة، تقوم الثورة بتسريع عجلة الزمن. وفَرَضَ هذا التناقض في الديناميكيتين عليَّ تغيير سؤالي من ماذا أعرض إلى سؤال من أنا وكيف أعيش الثورة، وما الذي عليَّ تغييره في ممارستي المهنية كي أكون «كيوريتر» أكثر عدالة؟

انتهيتُ بثورة على نفسي، وعلى سلطوية مهنتي، وقُبيل سفري ببضع ساعات عائدة الى منفاي القسري في بلاد الشمال، بعد ثلاثة أسابيع قضيتها في شوارع بيروت طَرِبةً لصدى طناجرها وغناء ثوارها، اشتريت عبوة بخاخ أسود وكتبت على جدار البيضة: «يسقط الكيوريتر».