«ماذا تفعل كل هذه السيارات هنا على ساق الشجرة؟ ولماذا هي موجودة هنا في هذا المكان بالتحديد؟»؛ هذان السؤالان كانا بداية تعرّفي على أعمال الفنان السوري محمد خياطة، عندما صادفتُ لأول مرة أحد أعماله الفنية في بيروت، الذي كان جزءاً من مشروع فنيّ حمل اسم «تخلّي» عام 2018، وكان اتساقاً وانسجاماً مع أحد أكثر المشاهد المألوفة في بيروت خلال ساعات الازدحام المروري الخانق، التي يصبح فيها ازدحام السيارات ضاغطاً على الفرد وطاغياً على الطبيعة في آنٍ معاً.
من مشروع «تخلّي»، محمد خياطة
محمد خياطة فنانٌ سوري، درس في كلية الفنون الجميلة في دمشق وتخرج من قسم التصميم الداخلي فيها، وبدأ بعدها العمل في المجال ذاته إلى جانب التصوير الفوتوغرافي. انتقل إلى بيروت عام 2012، وله العديد من المعارض والأعمال الفنية في مجال الرسم، والتجهيز الفني التجهيز الفني هو أحد أشكال الفنون ما بعد الحداثية، يركز فيها الفنان على علاقة العمل الفني (لوحة أو منحوتة أو فوتوغراف) بالفضاء المكاني الذي يعرض فيه، كما يشكل المُشاهد عنصراً هاماً في بناء معنى العمل الفني. وهو أحد أهم أشكال الفنون المعاصرة التي تعمل على ربط الفن بالمجتمع. «Installation»، والتصوير الفوتوغرافي.
في ما يلي حوار أجريته معه، يجيب فيه على عدد من الأسئلة المتعلقة بتجربته الفنية:
تنوعت الأشكال الفنية التي يعبّر الفنانون السوريون من خلالها عن ذواتهم وعن تجربتهم في دول الشتات واللجوء؛ كيف انعكس انتقالك من دمشق إلى بيروت على مهنتك وعلى أعمالك الفنية، وعلى الأسلوب الفني في لوحاتك؟
مع الانتقال إلى بيروت تبدلت مهنتي، وليس الأسلوب الفني فحسب. أثناء دراستي في كلية الفنون الجميلة في دمشق تخصّصتُ في مجال التصميم الداخلي، وعملتُ فيه بعد التخرج إلى جانب مشروع التصوير الفوتوغرافي الذي كنت أعمل عليه، لكن بعد أن انتقلت إلى بيروت، قرّرتُ التركيز على الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وتقاعدت إن صح التعبير من العمل في مجال التصميم الداخلي. قبل العام 2011، كان مشروعي المهني مشروعاً خاصّاً، أما الآن فإنني أشعرُ أن هناك شيئاً أكثر أهمية، شعرتُ أن وظيفتي تبدلت، وصرتُ أتطلّعُ أكثر إلى العمل الفني في علاقته مع المجتمع وتأثيره على الناس.
في استديو في باب توما في دمشق، بدأتُ العمل على مشروع المَدَّة، أو البساط الذي اعتادت الأمهات حياكته من بقايا الملابس والأقمشة لتفرش به الأرض، أو حتى ليكون غطاء بسيطاً مُعاد التصنيع، وكان لكل قطعة من هذا البساط ذكرى وحكاية. كان هذا مشروعاً فوتوغرافياً، ولكن بعد أن بدأت بالرسم، شعرت أنني بحاجة أكبر للبورتريه والتشخيص والتركيز على الوجوه، وبدلاً من العمل على الذاكرة والماضي، شعرتُ بحاجة أكبر للبحث عن هويتي ومن أنا، كما أن كل تقلبات الحياة في بيروت تجسدت بشكل أو بآخر على مواضيع معارضي وأعمالي الفنية.
في العام 2013 كان معرض «أجزاء وقطع» في بيروت، الذي يتمحور حول فكرة الذاكرة والتوثيق، وفي الأعمال التي تلته صرتُ أفكّرُ أكثر في معاناة الأشخاص المعيشية، وفي الحقوق التي حُرمنا منها هنا في بيروت، وهو ما تجسّدَ في مشروع «المشي على الخيط» عام 2015. بعدها توجّهت اهتماماتي نحو البيئات السورية التي أجهلها، وتحديداً في منطقة حوض الفرات، ومنها بدأت بالرسم والتعرّف على الحياة في الشرق السوري، وترافق ذلك مع بحث موسيقي عن أغاني المنطقة الشرقية التي استلهمتُ منها أعمال معرض «أم الزلف» عام 2017.
من مشروع «المشي على الخيط»، محمد خياطة
في مشاريعك الفنية محاولات للخروج إلى الفضاء العام، إما من خلال التجهيز الفني، أو حتى من خلال تصوير اللوحات في الفضاءات العامة مع أشخاص مختلفين. ماهي إمكانيات التدخل في شكل الحياة العامة من خلال الفن التشكيلي أو التجهيز الفني؟
في الوقت الذي يحاول فيه السوريون في لبنان التخفّي عن الحياة العامة، إخفاء هويتهم وتبديل لهجتهم أحياناً، رغبتُ بالخروج إلى الشارع والحياة العامة من خلال مشروع التجهيز الفني «تخلّي»، الذي هو عرضٌ لمجموعة من الأعمال الفنية التي قمت بتصميمها وتنفيذها في خمسة عشر مكاناً عاماً في بيروت، بالإضافة إلى أماكن شبه عامة وكافيهات. كانت ثيمة هذا العمل هي الخوف، الخوف من الموت، من الحرب، من التلوث البيئي. في ذاك العمل حاولتُ الانفتاح على الفضاءات العامة، والوصول إلى أكبر عدد من الناس، وحاولت دفع الأشخاص إلى تبني فكرة العمل الفني. على المستوى الشخصي، وطّدَ هذا العمل علاقاتي مع الجيران في الحي على سبيل المثال، صاروا يسألونني عن أعمال محددة، ومنهم من حفظ لي بعض الأعمال عنده بسبب عدم توفر المساحة الكافية لها في بيتي. يساعدنا هكذا نوع من الأعمال على توطيد علاقاتنا الإنسانية بالدرجة الأولى، وأحلم بتوريط الأشخاص أكثر في أعمالي الفنية، مثلاً أن أترك لوحة لي عند البّقال في الحارة وأجعله يقدم العمل للآخرين، ويجيب على أسئلتهم حتى.
أما شكل التدخل في تصوير اللوحات الفنية في الفضاءات العامة فهو أمرٌ مختلف، لأنني أسعى لأن أكمل معنى اللوحة من خلال علاقتها مع أشخاص عاديين من الحياة العامة، وبذلك أسعى لخلق نوع من التضامن مع قصص شخوص اللوحة، وأُخرِجُ اللوحة من وجهة النظر الخاصة عبر تحويلها إلى الرأي العام.
يحتل البورتريه في لوحاتك حيزاً خاصاً، وأحياناً يترافق مع عنصر آخر مثل كأس الماء، أو أدوات الطبخ، كما نلاحظ تشابهاً بين هذه البورتريهات؛ الخلفية البيضاء والخيوط البسيطة والواضحة، وكذلك الاختيار اللونيّ البسيط. كيف توظف هذا التبسيط في شرح اللحظات المعقدة في حياة شخصياتك؟
أحب التقشّف اللوني، وأحياناً أرسم بلون واحد، وأحاول التركيز على الخطوط بدلاً من التركيز على الألوان. أمّا التشويه الذي أجريه على شخوص اللوحات، الرأس المنفوخ والأقدام والأيدي الصغيرة، فأشعر أنه يُعبّر عن حقيقة مخاوف هذه الشخصيات وتوترها وأفكارها الكثيرة، وفي الوقت ذاته يعبر عن محدودية قدرتها بسبب الظرف الحالي الذي تعيش فيه. البعض يقولون لي إن كل هذه البورتريهات تشبهني، من الممكن أن يكون ذلك صحيحاً؛ أنني أحاول أن أرسم نفسي.
عموماً أفضّلُ ألّا أركز اهتمامي على الأسلوب الفني، بل أكثر على الفكرة التي ينطلق منها العمل، كما مثلاً في مجموعة «المشي على الخيط»، والشخوص التي يصل بينها خط في وسط اللوحة، يضغط على الشخصيات فيجعلنا نشعر بأعبائها الكثيرة التي حاولتُ أن أُجسِّدَ بعضاً منها.
للشخصية النسائية في لوحاتك حضورٌ طاغ، كما أنه يوجد شبه بين الشخصيات النسائية عموماً في لوحاتك، لكنها تختلف باختلاف الفعل أو العنصر المرافق لها في كل لوحة. هل هناك مشروع محدد تعمل عليه في لوحاتك، يتوجه للنساء تحديداً؟
شخصياً وعلى مستوى عائلتي، أشعر بامتنان كبير لأختي التي تحمّلت قدراً من المسؤولية لم أكن أنا قادراً على تحمّله. ألاحظ في الحياة هنا أن المرأة صارت تلعب كثيراً من الأدوار والوظائف الاجتماعية، وصارت تحمل أعباء كبيرة من المسؤولية بعد اللجوء إلى لبنان. لا أنطلق من افتراض محدودية الأدوار الاجتماعية للنساء، على العكس تماماً، ما أود قوله هو أن النساء اليوم أصبحن يتحمّلن أعباء الحياة القاسية إلى جانب العطاء العاطفي الذي يقدِّمنه للعائلة. أشعر أن هذا أقلّ ما يمكن أن أفعله تقديراً وشكراً وتضامناً مع النساء في منطقتنا.
من مشروع «أم الزلف»، محمد خياطة
ما هي أبرز التحديات التي تواجهك شخصياً، وتواجه الفنان السوري عموماً، في لبنان؟
أهم التحديات التي تواجهني في بيروت هي التحديات القانونية، الإقامة التي أجد نفسي مضطراً للتقديم عليها كل عام، والإجابة على أسئلة معقدة وتبرير وجودي في لبنان، وفي الوقت ذاته لا يحق لي العمل حالي كحال أغلب السوريين في لبنان، عدا عن انعدام حقوق الطبابة والسكن. أعاني مثل كل السوريون في بيروت، لكني ربما أحاول أن أكون الراوي، وأنقل معاناتهم في أعمالي ولوحاتي.