يحظى مصطلح «النِسوية» بغموض كبير في الثقافة العربية، نظرًا لأنه لا يتم عادة تمييز المُشترَك والمُتمايز بين الفلسفات والتيارات النِسوية المتنافسة، بالإضافة إلى عدد من المُعالجات والخطابات الرائجة التي يتم تقديمها أحياناً للمصطلح، خاصة في أوساط الإعلام المرئي ذات الانتشار الجماهيري الواسع، وفي الدوائر الثقافية المرتبطة بإيديولوجيات دولتيّة، أو سلطوية، أو مُحافظة دينيًا. لذلك فضّلتُ استعادة أطروحة نِسوية كلاسيكية، وليدة الفلسفة الليبرالية، هي أطروحة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مِل في كتابه خضوع النساء، التي تُمثِّل أحد الدفاعات المتماسكة المُبكّرة عن المساواة بين الجنسين، والمُوجَّهة بغرض نقد السلطة الذكورية.
هي أطروحة حداثية ضمن الإطار الإنساني الليبرالي، أي إطار الذات الإنسانية العقلانية المُوحّدة (تلك الذات التي نجد عند مِل سعيًا لتحريرها من هويتها الذكورية الحصرية الموجودة لدى فلاسفة التنوير)، والإطار الديمقراطي-البرجوازي للدولة (التي كان مِل من أكبر مناهضي سلطتها). إلا أنني إذ أستعيد تلك الأطروحة، فإنني أعي السياق الذي أضعها فيه، وهو سياق أرى من الضروري فيه العمل على إحلال خطاب الحقوق الكاملة غير المنقوصة، والمؤسَّسَة على جدارة واستحقاق المرأة البديهي والمبدئي لتلك الحقوق، وليس على العطف، والرفق، والإحسان، وهي بعض المفاهيم الأساسية التي تستند إليها خطابات ترتبط عادة بالنخب الاقتصادية والقانونية الدولتية، والحركات الدينية الأصولية.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يُمكن في رأيي قراءة تراث الفلسفة النِسوية دون قراءة الجناح الليبرالي منه، للوقوف على البذور المُبكّرة للأطروحات النِسوية، إما بغرض استعادتها (كلها أو بعضها)، أو بغرض تجاوزها. لكن ما يهم في الحالتين، هو أن تُعرَف تلك الأفكار، وتُناقَش وتُنتقَد، دون أوهام سطحية، أو شعبوية تخنقها. وهي الغاية التي يسعى لها هذا المقال، أي تقديم تلك الأفكار، ونفض الغبار عنها، كي تتضح بإنصاف لمعتنقيها ونقّادها/ناقداتها المُحتملين/ات.
الليبرالية: نظرة عامة
نشأت الليبرالية كتقليد فلسفي متماسك لدى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، الذي صكَّ مصطلح «الحق الطبيعي» الذي ينص على أن الإنسان يمتلك حقوقًا: الحياة، والحرية، والملكية، بمجرد أن يُولد، وليس عبر امتياز وراثي اجتماعي، أو عرقي، أو ديني. وقد نشأت الليبرالية السياسية داخل إطار نظرية «العقد الاجتماعي»، التي طُوِّرت أيضًا بواسطة لوك، إلى جانب توماس هوبز، وجان جاك روسو، وإيمانويل كانط. وقد جادلوا بأن الحكومة في أفضل حالاتها هي شرّ لا بد منه، وبالتالي فإنه يجب عليها تبرير نفسها دائمًا، عبر ضمان مهمتها الرئيسية وهي تأمين الحماية المتساوية لحرية المواطنين عبر القانون، الذي يضمن للمواطنين الحريات الأساسية، كحرية التعبير، والعقيدة، واختيار من يحكمهم.
بدأ تطبيق المبادئ الليبرالية داخل إنجلترا عبر «الثورة المجيدة» في القرن السابع عشر، حين صدر «إعلان الحقوق» الذي أَقرّ بأن الشعب، وليس الله، هو مصدر سلطة الملك، كما أقرّ بحرية الرأي، وبسلطات البرلمان في إقرار القوانين. ثم تبعتها الثورتان الأميركية والفرنسية في القرن الثامن عشر، وهكذا ظلّت الليبرالية في تصاعد، بالتوازي مع حلول البرجوازية كطبقة سياسية حاكمة، وحلول النظام الرأسمالي محلَّ الإقطاع. وصولًا إلى القرن التاسع عشر، حين دافع جون ستيورات مِل (أهم فيلسوف ليبرالي في ذلك القرن) في كتابه الحرية عن أنه «إذا كان الجنس البشري كله، باستثناء شخص واحد، مُجمِعًا على رأي، وشخصٌ واحدٌ فقط مُخالفًا لهذا الرأي، ما كان الجنس البشري مُحقًا في إسكات هذا الشخص الواحد، أكثر مما لهذا الشخص الواحد من حق في إسكات الجنس البشري، إذا كانت لديه القوة»في الحرية، ترجمة عبد الكريم أحمد، ص 44..
كان مِل من رواد الفلسفة التجريبية، الذين حاولوا مواءمة البحث في فروع السياسة والأخلاق والاقتصاد مع المناهج العلمية. وبرغم الأهمية الكبرى التي يتمتع بها كتابه الحرية، الذي كَتبه بالاشتراك مع زوجته هاريت تايلور، حيث يُمثل أحد أعمدة الفلسفة السياسية الليبرالية، والفلسفة السياسية عمومًا، إن لم يكن «إنجيل» الليبرالية؛ إلا أن لمِل كتاب آخر لا يقل عنه أهمية، بل يزيد إذا ما وضعنا في الاعتبار وقت كتابته ونشره، وهو كتابه الراديكالي خضوع النساء، الذي يُعَدّ العمل الكلاسيكي المُؤسِّس للنِسوية الليبرالية. لقد مَدّ مِل أفكار أسلافه الليبرالين لأقصى مداها، متجاوزًا رجعيتهم أحيانًا، وطموحاتهم المتواضعة في أحيان أخرى حيال المرأة، مُصرِّحًا بأن «المبدأ الذي يُنظم العلاقات الاجتماعية بين الجنسين -الإخضاع القانوني لجنس لصالح الآخر- مُخطِىء في ذاته، وهو يشكل أحد العوائق الرئيسية التي تَحول دون التقدم البشري، ويَتعيّن أن يُستعَاض عنه بمبدأ المساواة الكاملة، بحيث لا يُسلَّم بأية قوة أو ميزة لطرف، ولا بعجز عند الآخر». كما حاول تفسير الأصول الاجتماعية والتاريخية لاستعباد النساء، ونَقدَ بشكل جذري الادعاءات حول اختلاف طبيعة المرأة، التي تجعلها في الرأي الشائع غير مؤهلة لنيل حقوقها كاملة، أو تولّي أدوار ووظائف معينة.
أطياف العبودية
ينفي مِل أن تكون النظم السياسية، والقوانين المُنبثقة عنها، والتي شَرْعنت لخضوع النساء، قد قامت على محاولات فكرية تهدف إلى الخير الحقيقي للمجتمع ولكلا الجنسينخضوع النساء، ترجمة عبد الكريم أحمد، ص 6.. فقد قامت تلك القوانين على الاعتراف بعلاقات القوى القائمة بالفعل، ولم تكن سيطرة الرجال على النساء نتاجًا لمقارنة واعية بين الأساليب المختلفة لتنظيم المجتمع، وإنما نتيجة لحُكم تعسفي مُسبق، أي أن ذلك النظام المُؤسَّس على التمييز بين الجنسين، وعلى إخضاع أحدهما للآخر، لم ينشأ بعد دراسة كافة أشكال التنظيم الاجتماعي بهدف تقرير أفضلها، حيث معيار تلك الأفضلية هو رفاهية وكرامة كلا الجنسين، بل تم إقراره تعسفيًا دون اختبار قدرته على تحقيق ذلك. وحجّته في ذلك هي أن الأساليب التي سبق تطبيقها في الماضي عقب خضوعها لاختبار عملي أثبت صحتها، قد تكون غير صالحة للتطبيق في وقت لاحق نتيجة زوال الظروف التي سمحت بتطبيقها أول مرة، فماذا عن تلك الأساليب التي لم تخضع لأي اختبارات عملية مُنصفة في الماضي، ويتم فرضها رغم ذلك على الحاضر بصفتها أكثر الأساليب مُلاءمة له؟
يُقدم مِل تفسيرًا تاريخيًا للأسباب المؤدية لترسيخ العبودية بواسطة القانون قديمًا، مقارنًا إياه بترسيخ عبودية النساء القانونية كذلك، فهو يرى أن الوقائع المادية السائدة حينئذ، والمتمثلة في علاقات القوى كما يصفها، أو الإنتاج/الملكية كما نُفضّلُ وصفها، انعكست في صورة قوانين، كي تخدم مصالح المُلّاك ضد العبيد.
لقد كان الإرغام القائم على القوة المادية هو مصدر القوانين التي سادت في العصور القديمة والوسطى، وقد كان أيضًا مصدر تصورات الحق والعدالة في الجزء الأكبر من التاريخ البشري، حيث «أولئك الذين أُرغِموا فعلًا على الطاعة يصبحون بهذه الطريقة مُلزَمين بها قانونيًا». لقد عبّرَ القانون عن مصالح السيّد ضد العبد، مُستلهِمًا شرعيته من حقيقة واحدة، وهي سوط الأول المُسلَط على رقبة الأخير، ضمن مؤسسة العبودية، والتي يتضامن شركاؤها (مُلّاك العبيد) فيما بينهم «لتوفير الحماية المشتركة التي تضمنها قوتهم الجماعية، لممتلكاتهم الخاصة، بما فيها عبيدهم»Ibid,7.، عبر سلطة القانون الأخلاقية والاجتماعية، التي تُقِرّ مصلحتهم الخاصة في إخضاع عبيدهم بوصفها مصلحة عامة/كونية.
لكن ما المانع من أن يُخضِع السادة عبيدهم، أو أن يُخضِع الرجال النساء، طالما أنهم يمتلكون القدرة لفعل ذلك؟ تقوم الليبرالية كما ذكرنا على افتراض الحقوق الطبيعية للبشر، فالإنسان بنظرها يُولَد حُرًا، ولا يصير كذلك بموجب عفو أو تنازل من إنسان آخر أو جهة ما، وبالتالي فإن قدرة أحدهم على إخضاع الآخر تُمثِّلُ اعتداءً على تلك الحقوق. فليست الغاية الأخلاقية الليبرالية من امتلاك القوة هي إخضاع الآخرين، وإنما حماية النفس من تدخّل الآخرين المادي والمعنوي الذي يُقيّد حرية الفرد، وبالتالي فإن استغلال فردٍ ما لقدرته من أجل إخضاع الآخرين هو أمر مرفوض يسعى الليبراليون من حيث المبدأ إلى تجفيف منابعه، وذلك بالسعي لأن يمتلك الآخر الخاضع القدرة، والضمانات الكافية، للتخلص من ذلك الخضوع، أو تجنّبه حال حدوثه في المستقبل.
لكن على الرغم من استناده إلى علاقات القوى في تفسير العبودية، لم يَمُدَّ مِل الخط على استقامته، مطمئنًا إلى أن المدنية الرأسمالية الحديثة السائدة في زمانه داخل المجتمعات «المتحضرة» كما يصفها؛ قد تخلّت عن مبدأ القوة في تنظيم العلاقات الاجتماعية لصالح مبدأ التعاقد. لكن هل يعني ذلك تخليه عن الاعتقاد بأي فاعلية لعلاقات القوى/الإنتاج؟ لقد تحوَّلَ القانون كما يرى مِل تدريجيًا، وعلى مدار التاريخ، إلى أشكال أكثر إنسانية، وقد كانت سيادة المصلحة العامة والمساواة كإطارين للقانون نتيجةً لمقاومة الطبقات الأضعف لنيل الاعتراف، وكذلك لإدراك الطبقات الحاكمة بأن مصالحها طويلة الأمد تتمثل في تقديم التنازلات والاعترافات، ما ساهم تدريجيًا في تحول التنظيم الاجتماعي نحو مزيد من التنظيم والإنصاف القائمين على حاكمية القانون، وليس على القوة المُجرّدة.
على الرغم من ذلك، لم ينجرف مِل إلى الإقرار بأن نموذجاً إصلاحياً هو ما أتاح ذلك التحول تجاه علاقات اجتماعية خاضعة للتعاقدية القانونية، وأقل اعتمادًا على القوة المُجرّدة، فهو يؤكد على أن ذلك التحوّلَ لم يتم، ولم يكن ليتم، دون القوة نفسها كوسيلة، ففي كل حقبة تاريخية استمر خضوع المضطهَدين حتى «حصلوا على قوة تجعل في وسعهم الانتقام لأنفسهم»، وقد كانت هزيمة الإقطاع والكنيسة كما يؤكد نتيجةً لـ«نمو البرجوازية الغنية شبه الحربية في المدن المُحصّنة، ونمو الجيوش الشعبية التي أثبتت أنها أقوى في الميدان من الفرسان الذين لا يخضعون لنظام»Ibid, 12.. وكنتيجة لذلك، فإن خضوع النساء يعني أنهنَّ لم يمتلكنَ بعد القوة المادية الكافية لـ«الانتقام»، أو للتغلب على إخضاعهنَّ المادي من قبل الرجل.
لم يتجاوز مِل الإطار البرجوازي، حيث سَلَّمَ بداهة بأن المجتمع البرجوازي قد حقَّقَ بالفعل التحوّلَ الكامل من التنظيم الاجتماعي القمعي إلى التنظيم القانوني العادل، وبأن الصراعات السياسية الدائرة في ذلك الإطار يُمكن توظيفها بواسطة الديمقراطية البرلمانية والتقدم الإصلاحي في الإطار الجمهوري البرجوازي، وبأنه لم يتبق من أشكال التنظيم الاجتماعي والقانوني القمعي القائم على القوة، سوى تنظيم علاقة الرجل بالمرأة، وبأن تلك العلاقة القمعية هي آخر ما سيختفي من أشكال الحق/الشرعية القانونية القائمة على القوةIbid, 9.. هكذا، وافق مِل كل المفكرين من النِسويين/ات الراديكاليين/ات من بعده، الذين اعتقدوا بأن آخر أشكال العبودية المُنحلّة ستكون عبودية المرأة للرجل، إذ اعتقدوا، مثله، أن السلطة المفروضة على النساء، مُتجذِّرة، وممتدة عميقًا في مؤسسات اجتماعية راسخة، ومشاعر ليست حِكرًا على طبقة أو فئة واحدة من الذكور، وإنما على جنس الذكور بأكمله. لكنه خالفَ الاشتراكيين /ات والشيوعيين/ات منهم/هن، إذ اعتبر أن سلطة الدولة، والطبقة البرجوازية الحاكمة، مثّلَت ذروة منحنى التنظيم السياسي، وذلك في صورة سلطة قانونية مُجرّدة من كل قوة مادية.
إن سلطة الرجال على النساء هي أعمق أنواع السلطة، وأكثرها تغلغلًا في المجتمع البشري، فلا سلطة أخرى تُنافسها في الرقابة المستمرة على الخاضعين لها، فبينما تخترق الثغرات كل أشكال السلطة الأخرى، تظل السلطة الذكورية أكثرها مناعة. فما من نبيل إقطاعي، أو حكومة بوليسية، مهما بلغت قوتها، يمكنها أن تتحكم عن قرب في الخاضعين لها، بمثل ما يُمكِن للرجال تجاه النساء، فصاحب الملكية قد يغيب عن ملكيته لبعض الوقت، أو يُوكلها لشخص آخر، على عكس الرجل، الذي كان مُوكلًا مثلًا (في ذلك الزمان الذي عاش فيه مِل على الأقل) باختيار من يحكم المرأة نيابة عنها دون اعتبار يُذكر لرأيها.
إن قسوة السلطة الذكورية تتمثل في أن ممارسيها «لا يريدون من النساء الطاعة فحسب، بل يريدون مشاعرهنَّ أيضًا»Ibid, 20.، فأي أشكال السلطة الأخرى تُطالِبُ بالمشاعر إلى هذا الحد؟ صحيحٌ أن الحكومات، وأي مؤسسة سلطوية أخرى، قد تطالب تابعيها بالحب أو التعاطف، أو تتلاعب بوعيهم من أجل أن تنالهما، لكن ليس كأولوية، فالحكومة التي تعتمد على أن يُحبها المواطنون قبل أن يهابوها، لن تصمد لدقيقة أخرى في الحكم، بينما يريد الرجال من النساء الحب في المقام الأول، بل الحب المتفاني الصادق، حتى وهنَّ خاضعات لهم. الشيء الذي تكفله التربية، عبر تلقين المرأة أن دورها الحقيقي هو العيش لأجل الآخرين، وهؤلاء الآخرون بالطبع هم رجالٌ دائمًا، وحتى لو كُنَّ نساءً، فإن العيش لأجلهن (تربية ابنة مثلًا) يجب أن يصب في المُحصّلة لصالح الرجل.
تصبح النساء أسيرات لعواطفهنّ، سواء نحو «الرجال الذين يرتبطن بهم، أو نحو الأطفال الذين يعدون رابطة إضافية لا تنفصم بينهنَّ وبين الرجل»Ibid,21.. ويتم الحكم على مسيرة المرأة العملية والعاطفية، وفقًا لما أنجزته لصالح الرجل الذي ترتبط به، والذي يصبح مقياس ما حققته في كل تجاربها؛ إن نجاعة تجاربها بالأساس مرتبطة بأن تَروق للرجل، سواء ذلك الذي ترتبط به مباشرة، أو بالمجتمع الذكوري ككل. يُقارن مِل ذلك ساخرًا من أنه لو كان للأشراف الرومانيين، أو الإقطاعيين القروسطيين، أن ينجحوا، مثلما نجح الرجال مع النساء، في اختزال هدف كلِّ واحد من العامة أو الأقنان في أن «ينال الحظوة الشخصية» لدى سيّده، أو أن يتطلَّعَ إلى «الإقامة معه تحت سقف واحد، والحصول على نصيب من عطفه الشخصي» بوصفه «الجائزة التي ينبغي عليهم جميعًا أن يتطلعوا إليها»، فما كان للتفرقة بين السادة والعامة، أو السادة والأقنان، أن تنتهي أبدًاIbid,22..
العالم القديم انتهى، ولو مُؤقّتًا
تتميز العصور الحديثة عن الوسطى، بأن الأولى لم تعد تُلزِم الإنسان بمركز مُحدَّد مسبقًا في الحياة، ذلك هو جوهر الطرح البرجوازي الليبرالي عن الإنسان «الفرد الحر العقلاني» الذي بإمكانه صياغة مصيره، على عكس إنسان العصور الوسطى، المولود في مركز اجتماعي أزلي لا يمكن تغييره.
أتاح إحلال البرجوازية إمكانية أن تسعى لخلق ذاتك (ولو نظريًا فقط)، وذلك عبر المنافسة، بصفتها وسيلة الحكم الملائمة لتقييم ومكافأة الأفراد، فلم يعد المصير الفردي إذًا مرتبطًا بالحالة، أو الوضع الاجتماعي والمادي الذي وُلد فيه الفرد، الذي صار له الحق في أن يصبح ما يشاء، دون الالتفات إلى انتمائه الطبقي أو العرقي أو الجنسي. فلا يمكن تقرير قيمة، ولا وظيفة، ولا مكانة أحدهم الاجتماعية، إلا وفقًا لكفاءته/ها السلوكية والعملية، أو ما يحققه من خير أو قيمة (مادية أو معنوية) لنفسه/ها وللآخرين. فإذا أمكن لمن وُلد قِنًّا أن يصير صاحب أرض، ولمن وُلد فلاحًا أن يصير حرفيًا، أو أستاذًا جامعيًا، إذًا يمكن للمرأة أن تصير نفسها، أي تلك الإنسانة الحرة العقلانية، وأن تخلق ذاتها خارج سيطرة الرجل، وتصير ندًا له. ومن هنا نشأ الدفاع الليبرالي عن حقوق المرأة.
هكذا تداعت النظرية القديمة التي تدبر أمور الفرد وفقًا لـ «حكمة أسمى»، أو لحكم مُسبَق محسوم أمره تجاه حالة بشرية معينة متعلقة بلون البشرة، أو الجنس، أو الوضع الاجتماعي… إلخ، لتحلَّ محلَها النظرية الجديدة، التي تمنح الجميع حقوقهم/هنّ الطبيعية المتكافئة (الحياة والحرية والتملك) بمجرد الولادة، والقائلة أيضًا بأن «الأشياء التي يكون الفرد فيها صاحب المصلحة المباشرة، لا تستقيم أبدًا إلا لو تُرك له أن يفصل فيها»Ibid, 24.. واستتبع ذلك أن للمرأة الحق في التصرف في حياتها الخاصة، واختيار أي النشاطات يمكنها أن تبذل فيها جهدًا، أو أن تعيش لأجلها، بهدف إرضاء ذاتها، بصفتها الفردانية الحرة العقلانية، وليس لإرضاء غرور ومعايير الرجل. لكن لم يتحقق ذلك على أرض الواقع (في الوقت الذي عاش فيه مِل على الأقل)، حيث ظلَّ التمييز القانوني تجاه النساء قائمًا، واستمر حرمانُهنَّ من التصويت في الانتخابات، ومن تولّي العديد من الوظائف، وأيضًا حرمانُهنَّ من الاعتراف بهنَّ كمفكرات ذوات شأن أو رأي سديد في أي من فروع المعرفة البشرية.
وهمُ الطبيعة الخالدة
تأسّست حجة مِل ضد استعباد النساء ومظاهره، مثل حرمانهنّ من العمل الفكري ومن وظائف عملية معينة، على نقد أعمق لتصورات الطبيعة البشرية، التي تُميز الرجال عن النساء.
كيف لنا أن نتأكد وفقًا لمِل من وجود طبيعة جنسية متأصلة تسمح للرجال بمهام، ولا تسمح بمثلها للنساء؟ وذلك إن لم يكن قد وُجِدَ من قبل مجتمعٌ يتكون من الرجال وحدهم، أو من النساء وحدهنّ، أو من كلا الجنسين ضمن مساواة تامة. المقصود من ذلك هو أن القدرات الطبيعية لكلا الجنسين قد تطورت حتى الآن تبعًا فقط لنظام تخضع فيه النساء للرجال، وليس لدى البشر بحكم الضرورة التاريخية، أية معرفة حول طبيعة تلك القدرات، أو ما كانت لتصير عليه، لو أنها تطورت في ظل نظام يضمن المساواة بينهما. لقد تم إنماء بعض القدرات لدى المرأة، وقمع أخرى، قمعٌ أخذ طابع التشويه والسحق الكامل لإمكانية نمو تلك القدرات، بواسطة المؤسسات الاجتماعية التاريخية (من الملكية إلى الزواج… إلخ)، تلك المؤسسات الخاضعة لمعايير الرجل. فالمسألة كلها تتعلق بأنه إذا ما تم منع المرأة تاريخيًا من مزاولة نشاطات معينة، وسدُّ الطريق أمامها بكل القيود والعقبات الممكنة، فسيكون الحكم بأنها غير صالحة لمزاولة تلك النشاطات حكما تعسفيًا بالأساس، ويصح وصفه كما قال الشاعر «ألقاه في اليم مكتوفا وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء».
فالحديث عن أن طبيعة متأصّلة تمنع المرأة من أشياء تتيحها للرجال، ليس سوى نتاج تاريخي لأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية مفيدة لأصحاب مصلحة معينة (يمثلهم هنا جنس الذكور) وليس نتاجًا طبيعيًا، مثلما كان الرِق نتاجًا تاريخيًا اعْتُقِد في يوم من الأيام أنه نظامٌ طبيعيٌ/إلهيٌّ خالد. والدليل على ذلك أن النساء تمكّنَّ في فترة قصيرة من عمر الحضارة من تحقيق مُنجزات قادرة على منافسة، بل والتفوق، على منجزات الرجال في كافة مجالات المعرفة والعمل الإنسانية.
يخاف الرجال من أن تَحرُّرَ النساء سيُمكنهنّ من فعل ما يخالف طبيعتهنّ، وينسون أنه إذا ما وُجِدت تلك الطبيعة حقًا، فلن يمكن لصاحبتها أن تفعل ما هو ضدها، وإن أيَّدَها العالم كله في ذلك. فمن منا يستطيع الطيران مُستخدمًا ذراعيه غير المؤهّلتين بيولوجيًا للطيران؟ لقد وقفت الحجج البيولوجية في الماضي ضد اشتراك المرأة في الحرب، أو التفلسف، أو البحث العلمي… إلخ، بحجة أن مزاولة المرأة لتلك النشاطات هو أمرٌ مخالفٌ لطبيعتها، فلو كان ذلك صحيحًا، لما أثبتت المرأة استحقاقها لتلك النشاطات كما حدث بالفعل، فالطبيعة قادرةٌ (لو أنها حقًا أرادت ذلك) على أن ترفض ممارسة المرأة الجِراحة مثلًا، أو أن تحكم بأن المرأة أقلّ ذكاءً وحكمة من الرجل، بالسهولة التي ترفض بها أن يطير القرد مُستخدِمًا ذراعيه.
ثم هل هناك حاجة إلى دفع إنسان لفعل شيء يدرك هو من تلقاء ذاته أنه يجيد فعله؟ فلو كانت المرأة تجيد بالفعل بعض الأعمال أكثر من الرجل، أو العكس، وذلك بحكم الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة، وظروف النشأة، فإن كلاهما سيتوجه تلقائيًا إلى النشاط الذي يجيده أكثر، من أجل خيره الخاص. لذلك لا داعي، كما يقول مِل، لتقييد الحقوق والنشاطات والوظائف الإنسانية المختلفة عبر القوانين التي تظن أنها تحفظ خير المجتمع، بينما هي تدمره في الواقع، أو على الأقل تحرمه من كفاءات بحجة أن المرأة لا تُجيد نشاطًا لم يُتَح لها أن تتعلمه أو تتدرب عليه أصلاً، أو تحرم نصف الجنس البشري من حقوقه بحجة أنها لا تناسب طبيعته المُتوهمة.
أما من الناحية الاقتصادية، فلو سلّمنا (اعتباطًا) بصلاحية الرجال لوظائف أكثر أهمية وتعقيدًا، لا تصلح لها النساء، فإنها لخسارة حقيقية مخالفة للإنصاف إذا تسبّبَ ذلك الحظر القائم قانونيًا في فقدان امرأة واحدة فقط صالحة لتلك الوظيفة، ولو كان ذلك يحدث كلَّ فترة كبيرة من الزمن. الحل إذًا هو إزالة القيود المؤسَّسة على النوع، بحيث يمكننا الاستفادة، ولو بالحد الأدنى، من تولّي امرأة واحدة لوظيفة على مدار فترة زمنية كبيرة، وعدم القلق من تولّي غير الأكفاء (رجالًا أو نساءً) لوظيفة ما أيًّا كانت، طالما أن القائمين على الاختيار أو الناخبين قادرون بالفعل على اختيار الأشخاص المناسبين. لأنه لو كان هؤلاء غير مؤهلين أساسًا للاختيار، سينعدم الفرق بين ما إذا كان المرشحون رجالًا فقط، أم نساءًا فقط، أم الاثنين معًا، لأنه سيتم في النهاية اختيار غير الأكفاء من بين جميع هؤلاء.
إن الحديث عن أن الحضارة البشرية حقَّقت ما وصلت إليه عبر ذلك النظام المبني على خضوع النساء تاريخيًا للرجال، يُهمِل حقيقة أنه لم تتم قط تجربة نظام حضاري آخر قائم على المساواة بين الجنسين، فكيف يُمكن الحكم ببطلان أو عدم كفاءة شيء لم تُتَح له الفرصة كي يُوجد في الواقع؟ خاصة بالنظر إلى الارتباط الوثيق بين كل خطوة تقدمية تخطوها الحضارة وبين تحسّن وضع النساء، فكل «خطوة في التحسّن البشري، كانت مصحوبة باستمرار بخطوة في رفع الوضع الاجتماعي للنساء»Ibid,29..
لماذا لا نفهم المرأة؟
إن العلاقة المحكومة بسلطة طرف وخضوع الطرف الآخر، لا يمكن أن تُولِّدَ معرفة صحيحة ومقبولة من قبل الطرف المُتسلِّط تجاه الطرف الخاضع، وذلك لأن تلك المعرفة بحاجة للتعاطف الصادق من قبل الأول، وبالتالي الثقة التي تجعل المرأة تُفصِح عن دوافعها. لكنها لن تفعل ذلك، كما يعتقد مِل، في ظل علاقة السلطة-الخضوع؛ هذا في رأي مِل هو السبب الذي تحت تأثيره لا يفهم كلُّ الرجال تقريبًا شيئًا موثوقًا عن النساء، حتى أقربهنَّ إليهم، ولو كانت زوجة الرجل التي يعايشها أكثر من أي شخص آخر. لذلك يتوصل مِل إلى استنتاجِ أنه لن تكون معرفة الرجل بالمرأة سوى معرفة سطحية، وغير كاملة، وذلك حتى «تقول النساء كل ما لديهنّ»Ibid, 35.، ولن يحدث ذلك إلا في نظام لا تخضع فيه المرأة لسلطة الرجل بصورة تمنعها من اكتساب الثقة لقول كل ما لديها، فكيف للرجال، بينما لا يمتلكون أقل المعرفة الكافية بالنساء، أن يضعوهنّ في مرتبة قانونية أقل؟ فارضين ما هو متاح وما هو محظور، بناءًا على أوهامهم المُتصوَّرة ضمن نظام شديد السطوة لا يسمح للمرأة بأن تثبت لهم بأنها عكس تلك الأوهام.
إن رضا كثيرات من النساء عن خضوعهنّ، وهو رضا مشكوك فيه بحكم كونه نتاجًا للقسر والرقابة وتشويه الحقائق، لا يمكنه رغم كل شيء تبرير واقعة خضوعهنّ، مثلما أن رضا كثيرٍ من العبيد والأقنان عن عبوديتهم في الماضي، بل وتعاطفهم أحيانًا مع أسيادهم، ليس مبررًا للعبودية بحال.
صحيحٌ أن المرأة المتزوجة مثلًا قد تقاوم أو تحمي نفسها، وقد تؤثر أو تتحكم في سلوك وقرارات الرجل، وذلك عبر ما يسميه مِل «الزجر» أو «السلاطة»، أي المشاكسة والمقارعة المستمرة، إلا أن ذلك السلوك لا يؤثر سوى في الأقل تسلّطًا من الرجال، وهي وسيلة يخفت تأثيرها كلما زادت حدة وطغيان الرجل، فلا تصير نافعة بشيء تقريبًا مع الرجال الأشد تسلّطًاIbid, 52..
في المقابل، يقترح مِل تقسيم السلطات بين الرجل والمرأة بطريقة تشاركية، وكذلك مسؤوليات التنفيذ واتخاذ القرارات في الجوانب المختلفة، على أساس الرضا المتبادل، لكن بشرط ألّا تكون تلك السلطات والمسؤوليات مُقرَّرَةً مُسبقًا بواسطة القانون، أو الُعرف الاجتماعي، أو الرأي العام، وألّا تكون خاضعة أيضًا للتصورات المُسبَقة عن الطبيعة الجنسية للطرفين. لكن أن تكون لأحد الطرفين السلطة المُطلقة (الصريحة أو الضمنية) على كل شيء، فإن ذلك يُقيد الحرية الفردية. يدّعي البعض أن الأسرة تحتاج بالضرورة إلى حاكم، مثلما يحتاج المجتمع إلى دولة/حاكم، ويُشبّه مِل ذلك الرأي بشركة «يكون لواحد من الشركاء فيها سيطرة مطلقة على المشروع، دون اعتبار لباقي الشركاء». صحيحٌ أن بعض الرجال قد يكونون بطبعهم أكثر قدرة على اتخاذ القرارات، أو أقوى شخصيًة من غيرهم من الرجال والنساء، والعكس صحيح تمامًا، أي أن بعض النساء هنَّ أقدر على ذلك، وأقوى شخصيًة من شركائهم الرجال، لذا فإنهنَّ يمتلكنَ بالضرورة الحكم في الأشياء المهمة داخل العلاقة أو الأسرة. فليست كل إدارة تسلّطًا، ولا كل قبول خضوعًا، وبالتالي ليس ذلك عيبًا، سوى في حالة أنه قد تأسَّسَ على أعراف أو قوانين مسبقة، تُقرّ سيطرة طرف على الآخر برغبة في التحكم التعسفي، وليس على أساس الظروف المُحيطة بهما، وطبائعهما الخاصة التي تختلف بالضرورة عن طبائع غيرهم من الشركاء والأزواج.
يحكم مِل أيضًا بعبثية اشتراك الزوجين في أموالهما، إن لم يكن ذلك على أساسٍ من الاختيار الحر المشترك، ووحدة المشاعر، فليس بإمكان طرف التصرف في ممتلكات آخر بمجرد عقد الزواج، وإنما عبر التراضي والاتفاق الحر، لأنه عادة ما تكون المشاركة التعاقدية السائدة، التي تسمح للرجل بالتصرف في أموال المرأة، أنانية للغاية، ومن طرف واحد، وهي أقرب للسرقة أو الاستباحة. يَلزم كذلك أن يُؤمَّنَ القدر الكافي من أموال الشريكين لصالح الأطفال. أما عن الادعاء بأن السلطة المنزلية من حق الرجل بداعي أنه من ينفق على البيت، فإن مِل يعزو أهمية مساوية للعمل المنزلي الذي تقوم به المرأة وحمل وتربية الأطفال، مانحًا إياه القيمة الاقتصادية نفسها.