صباح هذا اليوم، أرسل مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، الأوتشا، رسائل عبر البريد الإلكتروني إلى المنظمات العاملة في إدلب، يقول فيها إنه تمكّنَ من الحصول على موافقة على إيقاف مؤقت لاستهداف طريقين رئيسين في إدلب؛ الطريق M5 الذاهب من معرة النعمان شمالاً إلى سراقب، والطريق الذاهب من معرة النعمان إلى أريحا في الشمال الغربي، وذلك حتى الساعة السادسة من مساء هذا اليوم الرابع والعشرين من كانون الأول 2019، داعياً إلى مشاركة هذه المعلومات حتى يتمكن أكبر قدر ممكن من الناس من الاستفادة منها، والنزوح من المناطق المستهدفة خلال المهلة المحددة.
تشير المعلومات المتوافرة إلى أن الأمم المتحدة كانت تفاوض روسيا على إقرار هدنة إنسانية، لكن يبدو أن هذه المفاوضات قد فشلت، وتمت الاستعاضة عن الهدنة بتعهدات روسية بعدم استهداف هذين الطريقين فقط، ولعدد قليل من الساعات فقط. لكن طائرات النظام السوري استهدفت طريق معرة النعمان سراقب ظهر اليوم نفسه، بعد إرسال هذه الرسائل وقبل نهاية المهلة المحددة، كما أن الطائرات الحربية الروسية استهدفت مركزاً لإيواء النازحين في قرية جوباس قرب سراقب على مقربة من الطريق M5 في الوقت نفسه تقريباً، ما أسفر عن سقوط ثمانية ضحايا من المدنيين، منهم خمسة أطفال.
يبدو هذا المشهد تكثيفاً بليغاً للسلوك الروسي، ولفعالية الأمم المتحدة وفعالية هيئاتها الإنسانية في المسألة السورية، فالمنظمة الأممية التي تأخذ على عاتقها مهمة رعاية السلم الدولي تبدو عاجزة تماماً حتى عن إصدار إدانة علنية لسلوك يحتقرها هي بالذات، ولعلّ هذا يكون السبب الذي دفع مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة إلى عدم الإعلان للعموم عن اتفاقه مع روسيا بخصوص إيقاف القصف على الطريقين، والاكتفاء بإرسال بريد إلكتروني، إذ سبق لروسيا أن خرقت سائر التعهدات والالتزامات والقوانين الدولية، وسائر التفاهمات التي أبرمتها في الشأن السوري مع الأمم المتحدة أو جهات تابعة لها، بما في ذلك استهدافها المتعمد للمستشفيات المدرجة ضمن آلية التحييد الإنسانية، التي يقوم مكتب الأوتشا بموجبها بمشاركة مواقع المستشفيات مع أطراف النزاع، والتي لم تنجح في تجنيب المستشفيات المدرجة فيها غارات الطائرات الروسية وطائرات النظام السوري.
تبدو واقعة الإعلان عن هذا الاتفاق المؤقت عبر رسائل إلكترونية، تم إرسالها باللغة الإنكليزية إلى منظمات جلّ موظفيها من الناطقين بالعربية وتعمل في بلد يتحدث سكانه العربية، واقعةً بالغة الدلالة على كيفية تعامل الأمم المتحدة ومؤسساتها مع الكارثة السورية. لم يكلّف مكتب الأمم المتحدة نفسه عناء الإعلان عن هذا الاتفاق للعموم، على الأرجح لأنه يعرف أن النظام وحلفاءه لن يلتزموا، ليبدو الأمر كما لو أنه فضّلَ إلقاء العبء على المنظمات المحلية، التي ستتحمل المسؤولية أمام من ستبلغهم بهذا الاتفاق. وفوق هذا، يشير هذا الاتفاق إلى أن الأمم المتحدة تعرف أن الطيران الروسي والأسدي يقطعان الطرقات أمام أرتال النازحين، ويمكن أن يستهدفا أي سيارة تتحرك دون محاولة بذل أي جهد في معرفة ما إذا كانت سيارة مدنية أم عسكرية، لكنها تعجز عن القيام بشيء، بما في ذلك الإدانة العلنية.
ولكن الأهم، أنه حتى في حال افتراض أن هذه الخطوة جدية فعلاً، فإنها خطوة متأخرة جداً وتكاد تكون فاقدة لأي معنى، إذ نزحت خلال الأيام الماضية الغالبية العظمى من سكان معرة النعمان والقرى القريبة منها. قبل بدء الحملة العسكرية، كان يقطن في مدينة معرة النعمان وحدها نحو 100 ألف شخص، وذلك بحسب أرقام المجلس المحلي في معرة النعمان، أما عند إرسال الرسائل المتضمنة لهذا الاتفاق، فإن مصادرنا تؤكد أن عدد الباقين فيها كان أقلّ من خمسة آلاف شخص.
لقد نزح عشرات الآلاف من معرة النعمان وريفها خلال الأيام الماضية في ظروف بالغة القسوة، ويواصل عشرات الآلاف نزوحهم من عشرات القرى والبلدات في ريف إدلب الجنوبي وأطراف جبل الزاوية. تعرف الأمم المتحدة جيداً هذه الوقائع، وهي في الوقت الذي تعجز فيه حتى عن ضمان سلامة النازحين على الطرقات، تواصل عجزها عن تأمين المتطلبات اللازمة للاستجابة الإنسانية، التي تتكفل بها منظمات محلية متواضعة الإمكانات، وشبكات التضامن الأهلي المحطمة أصلاً جراء الحرب والظروف الاقتصادية القاسية.
تثير الفيديوهات والصور القادمة من ريف إدلب الجنوبي الفزع في النفس، تستهدف الطائرات والصواريخ وقذائف المدفعية كل شيء يدب على ظهر الأرض، بما في ذلك أرتال النازحين، بعد أن دمرت خلال الأسابيع الماضية كل المرافق الحيوية في المنطقة، وأخرجت عن الخدمة جميع المستشفيات والنقاط الطبية والمخابز والمدارس والمرافق العامة.
بعد جولات القصف المدمر، باشرت قوات النظام تقدمها في ريف إدلب الجنوبي الشرقي خلال الأيام القليلة الماضية، مستولية على عشرات القرى والبلدات إلى الشرق والجنوب من معرة النعمان، بعد معارك مع المقاتلين المنضوين في صفوف فصائل المعارضة وفصائل إسلامية، ولم يحصل أن دخلت هذه القوات بلدة أو قرية إلا بعد إفراغها بالكامل من سكّانها. يهيم الناس على وجوههم نحو الشمال والغرب، وينتشرون في محيط القرى والبلدات الأكثر أمناً، يبيت كثيرون منهم في العراء، تحت الأشجار وفي الأراضي الزراعية، إلى جوار عشرات الآلاف من الذين سبقوهم قبل أشهر قليلة عند سيطرة النظام على ريف حماة الشمالي وخان شيخون في جنوب إدلب.
هذه حرب تهجير وإبادة معلنة في وضح النهار، يستمد العالم ذريعة السكوت عليها من وجود فصائل جهادية في صفوف المقاتلين المناوئين للنظام، مقاتلين جهاديين دفع سكان المنطقة الأثمان الكبيرة في مواجهتهم أكثر من أي أحد آخر في الدنيا كلها؛ مدينة المعرة بالذات، كانت قد دخلت في مواجهة طويلة مع جبهة النصرة خلال العام 2016، ويتم اليوم تدميرها وتهجير أهلها بذريعة القضاء على جبهة النصرة.
تأتي الأمم المتحدة في ذروة واحد من فصول حرب التهجير، لتؤكد على معرفتها بتفاصيل وقائع هذه الحرب، محاولةً أن تقول إنها تسعى لتأمين طريق آمن يسلكه المهجّرون دون أن يتعرضوا للموت، لكنها تفشل حتى في أداء هذه المهمة؛ تفشل الأمم المتحدة في كل شيء تقريباً، لكنها تنجح فقط في الشهادة الصامتة على مذبحة معلنة.