«نعم، نحب القرآن لأننا كلما سمعناه استحضرناه بأصوات جداتنا»؛ لم أعد أذكر من قال هذه الجملة، ربما لا أحد، ولكي لا يكون الحديث عن الجدة منطلقاً تماماً من هذا القول، ومؤطراً بجداتنا… لنتحدث عن جدات الآخرين أيضاً.

الجدة لا تموت

حقيقة واحدة لا تتغير في كل التفاصيل المتغيرة في قصة ليلى والذئب، والتي لا يمكن تحديد ما إذا كانت بالفعل تسهم في إطلاق مخيلة الطفل، أو إصابتها بمقتل، أو تحريضها على اتخاذ الطرق اللامنطقية في التحليل والتركيب. تلك الحقيقة هي أن الجدة لا تموت، يمكن التعميم هنا والقول «الجدات لا يمتن». ولا يمكن بناء هذه القصة دون خلود الجدة، أنّى كانت طرق تعامل الذئب معها، ففي سيناريو قيام الذئب بوضع الجدة في الخزانة وتهديدها بالأكل إن أصدرت صوتاً ريثما يأكل ليلى، ستأتي ليلى وتكتشف الحيلة، وتنادي للصياد الذي سيقتل الذئب ويُخرِج الجدة من الخزانة، وتبقى الجدة حية. في هذا السيناريو الذي لا تعتمده كل الجدات، الجدة ترضى، أي تفضّل حماية حياتها المتبقية -وهي مريضة هنا- على حماية حياة حفيدتها. تروي الجدات هذا السيناريو دون أي قلق على قيمتهنّ في نفوس الأحفاد.

وفي السيناريو الآخر القائم على أن الذئب يأكل الجدة بالفعل، وينام مكانها بعد ارتداء ثيابها، تتغلب ليلى على الذئب بمساعدة الصياد، فيقتلان الذئب، ويبقران بطنه ويُخرجان الجدة حية سليمة، بل وتتعافى بسرعة وتأكل الطعام الذي أحضرته لها ليلى، هذا في السيناريو القائم أصلاً على أن زيارة ليلى لجدتها «كانت بهدف نقل الطعام لها».

في إيران تَجري تعديلات جذرية على القصة فتصبح ليلى ذكراً، على اعتبار أن الفتيات لا يمشين وحدهن في الشارع، فكيف في الغابة. في بعض دول إفريقيا الذئب هو ضبع، وفي شرق آسيا أسد أو نمر. جدتك، والدة أمك، ترى خطأ ليلى في أنها لم تتّبع نصائح أمها… ووالدة والدك ترى أنها اتّبعت نصيحة أمها.

الجدة نمط

الجدة نمط أكثر مما تتخيل، بكل صفات جدتك الاستثنائية والمختلفة عن جدة زميلك في المقعد الدراسي الذي لا يشبهك بشيء، وربِّ عملك المتكبّر، وجارك تاجر الحشيش. إلا أن هذا الاختلاف بين الأحفاد لا يُحصّن الجدة من النمطية. هل تعتقد أن قدرتها على خرق قانون قطع المصروف عنك، الذي أصدره والدك بسبب اكتشافه تدخينك، أو كثرة مراهناتك في لعبة الفيشة، هو استثناء؟ لقد خرقت ملايين الجدات قرار الآباء بقطع المصروف عن أبنائهم.

بالتأكيد، تعرف أن كل الجدات قادرات على أن يقنعن الأحفاد بجمال حكاياتهن، رغم تكرارها، ونطق بعض الكلمات بشكل خاطئ فيها. ولا بد أنك مقتنع بأن تقديم جدتك لساعة الحائط يدوياً مدة ربع ساعة، لتوهم الجميع أن أمك -أو أي شخص آخر تستهدفه- تتأخر دائماً وتتسبب في التهام الطعام بارداً عند دعوتها لكم إلى الغداء، هو تصرف استثنائي أيضاً ينم عن ذكاء بالقدر الذي ينم فيه عن احتيال. لكن لا، لقد أخَّرت أكثر من نصف جدات الكوكب ساعات الحائط لهذا السبب ولغيره، بل إن أكثر من يستطيع اللعب بعقارب الساعات لأهداف استراتيجية ولتغيير معادلات وخرائط السيطرة الأسرية، بطريقة تخلد حتى بعد وفاة الجدات، هُنّ الجدات… ربما يدعم ذلك الحقيقة الأولى؛ أنهنَّ «لا يمتن».

نمطية الجدة لا تشبه بمكان نمطية الأب، أو الأم، أو الأخ الأكبر. فالأب ليس بنمط، هناك الكثير مِن الآباء لا يعطون الأمهات مصروف البيت أمام أعين الأولاد، ليُظهروا مدى تضحيتهم لأجل بناء أسرة سليمة، وهناك أيضاً آباء لا ينشغلون يوم العطلة، بل على العكس يوم العطلة لديهم وقت فارغ للنوم والأكل فقط. وهناك سواهم لا يجرون إصلاحات في البنية اللوجستية للمنزل باستخدام مفك صالح لكل الأجهزة الكهربائية، وهناك آباء لا يكتشف الأبناء كذبهم. وكذلك الأمهات ليسوا نمطاً، فهناك أمهات لا يذكّرنَ أبنائهنّ بطريقتهم المضحكة في نطق الأحرف والكلمات عندما كانوا صغاراً، أو على الأقل يذكّرنهم بها مرة واحدة أسبوعياً لا أكثر.

لا يمكن للأب أن يكون جدةً فيحكي حكاية ويستعجل في إنهائها، أو يدخن أثناء روايتها لك، أو يغمز والدتك. لا يمكنه التركيز بسهولة على القيمة الحقيقية من هذه الحكاية، هل هي الخير والشر، أو الكرم، أو الإيثار. القيم بالنسبة له تُتلى تلاوة، هذا هو الخير وهذا هو الشر، لا داع لأن تكون للقيمة شخصيات خيالية تقدمها. الواقع يُقال كما هو على لسان والدك.

كل ما قالته الجدة يمكن تأويله 

«لو كان العمر لحظة كنا منقول عنه طويل» هذا ليس مَثَلاً شعبياً، ولا جملة مقتصة من أدبيات عربية أو أعجمية، هذا قول جدة أحدٍ ما. لا يدري هو تماماً إن كانت ابتكرته أو نقلته عن سواها، لكن هذه الجملة تحضر على لسانه مع عدة جمل أخرى، تماماً بعد أن يقول «ستي كانت تقول:..»، إلا أن المشكلة الحقيقية أنه لا يعرف بالضبط مكان استخدام مقولة جدته، كونها مرنة ويمكن تأويلها، فهل يمكن استخدام المقولة السابقة «لو كان العمر لحظة…» عند وفاة أحدهم؟ عند وجود مشكلة أسرية بين الأخ الأكبر والأب؟ عند حدوث كارثة طبيعية؟ عند زواج الفتاة الأصغر في البيت؟ عند ارتفاع الأسعار؟ لا أحد تماماً يدرك المكان الأنسب لمقولات الجدات، خاصةً الحصرية منها، تلك التي لم يقلها أحد سوى جدتك. أما تلك التي «قالها المَثَل»، قد لا تكون مرنة إلى هذه الدرجة.

الأم والتحوّل إلى نمط

ليس تراجعاً عن المبدأ السابق الذي يقول بأن الجدة نمط، بينما الأم ليست نمطاً، إنما هو اعتراف بمسيرة الحياة الطبيعية التي تؤدي إلى تحوّل الأم إلى جدة، عند تحول أبنائها إلى آباء وأمهات، وتلبُّسها النمط رويداً رويداً، لتكون جدة بكل معنى الكلمة مع تعدد الأحفاد. وتلبُّسِ النمط ليس بالأمر الهيّن، بمعنى أنه ليس نتيجة نمو طبيعي وتقدم في السن، وظهور علائم الجدة شكلاً على وجه وقوام الأم، إنما هو نتيجة مجهود ذاتي تقوم به الأم في إطار التحوّل إلى جدة، من استعادة تفاصيل لسلوكيات كانت تمارسها أمها التي كانت جدة لأبنائها، ولسلوكيات جدتها أيضاً، مع بدء التميز بين دور الأم ودور الجدة في حياة الطفل، حيث تتخلى بحرفية عن دور الأم تاركةً إياه للأم الحقيقية، وتأخذ أول نمطية للجدة وهي «المعلم» للأم والأب بطريقة التربية. ومن ثم وبعد تعدد الأحفاد، أو على الأقل بلوغ أحد منهم عمراً يقدر فيه على التحليل والمحاكمة العقلية بشكل فردي، تكون الجدة قد أصبحت نمطاً كاملاً، فتبدأ القدرة على وضع الأمثال والقيم تتبدى، وكذلك اللعب بسيناريوهات الحكايات، واللعب بعقارب الساعة، وما إلى ذلك من تفاصيل سبق ذكرها… نعم والخلود أيضاً.

الجدة .. التاريخ بوجهيه

الجدة ليست شاهدة على التاريخ، بقدر ما هي التاريخ ذاته، بمعنى أنك لا بدَّ شعرتَ أن جدتك ليست مجرد شخص يروي قصصاً مرَّ بها في حياته، وأخرى لم يمر بها، وإنما هي ذاتها تاريخ كامل موازٍ للتاريخ الذي تعرفه أو تدرسه، يلتقي معه بنظريات وحقائق، ويختلف معه كلياً بأخرى.

يروي عماد، الذي يعيش مع جدته منذ 19 عاماً، أن جدته في إحدى ليالي كانون الثاني الباردة جداً، وعند عدم توفر وقود للمدفأة في منزلهم بسبب سوء في التنسيق مع تاجر الوقود، وحين قال أمام جدته إنه يشعر أن البيت بارد جداً، قالت له إنه في شتاء 1920، فقدت قريتها ربع سكانها نتيجة عاصفة ثلجية ألمّت بها. وعندما سألها ما هي وسائل التدفئة التي كان سكان القرية يستخدمونها في ذلك العصر، قالت إنهم كانوا يحرقون ما لا يستخدمونه من أدوات المنزل ضمن أوعية معدنية كبيرة تشبه البراميل ويحاولون تلقف الدفء منها، وأنها قضت وأسرتها ليالٍ طويلةً دون أي وسيلة تدفئة، ولم يكن أحد منهم يصاب بنزلة برد جراء ذلك، «لقد كانت لدى الناس مناعة مختلفة عن مناعات العصر الحالي»، بحسب الجدة.

بعد يوم واحد اشترى عماد الوقود، واستطاع تشغيل التدفئة في المنزل وجلس إلى جانب جدته متمتعين بالدفء. تحدثت عن قَصر جدها الذي سكنت فيه حتى زواجها من جده متعدد المهن، في القصر تفاصيل كان يصعب على عماد ذاته تخيلها، لعدم وجود أمثلة مشابهة في الحاضر لها، بألوانه المتضادة، وعدد غرفه التي لا تحصى، وعدد العاملين فيه، وأساليب التدفئة، وطبيعة العلاقات ضمنه.
لم يكن ما واجهه عماد تناقضاً، بل هو دلالة علمية على أن الجدة ليست شاهداً على التاريخ، إنما هي تاريخ، بتناقضاته، واختلاف أوجه رؤيته، وصدقه وكذبه، وإمكانية تفسيره وفق مدارس تختلف في أبجديات قراءة التاريخ.

الجدة لا تنام

كلهم يستسلمون للنوم إلا الجدة، ولعل المتعة التي كثيراً ما يتحدث عنها أفراد العائلة عن وجود الجدة معهم في كل سهراتهم، هي متعة مزيفة، إذ لطالما اشتهى الأحفاد والآباء نومها باكراً، فحضورها الجميل في سهرة اليوم، لا يعني حضورها الجميل في سهرة كل يوم. إن قنوات التلفزة التي تحترم ذوق المشاهد كانت تقدم فيلماً واحداً في الأسبوع. بكل الأحوال وبغض النظر عن استمتاع الأسرة بذلك أو عدمه، فإن الجدة آخر المستسلمين للنوم، ولعلها تقوم بنشاطات عديدة قبل النوم، قد تؤدي إلى استيقاظ أحدهم، على الرغم من الحذر الشديد الذي تتوخاه عند إغلاق علبة السكّر خوفاً من النمل، ومسح الزجاج الرطب تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ووضع المتبقي من الطعام في الأوعية بأوعية أصغر منها، وترتيب الأحذية عند الباب، وما إلى ذلك من الأنشطة التي من الصعب تمييزها دون أن نتذكر الجدة.

في الصباح الباكر، الجدة أيضاً هي أول المستيقظين، ولعلها تستيقظ قبل أول المستيقظين بساعة أو ساعات طوال، فقد أدت الكثير من النشاطات الصباحية، بعضها نسيت أن تؤديها ليلاً قبل النوم، وبعضها يتناسب مع الصباح، كإعداد شاي أو قهوة لمن سيستيقظ لاحقاً، وإعادة تعبئة الطعام في أوعية أصغر من أوعية الليل، ففي الليل قد لا تساعد الإضاءة على معرفة مساحة الصحن المناسبة للغذاء المتبقي.

ما بين نوم متأخر بعد كل أفراد العائلة، وبين استيقاظ مبكر قبلهم جميعاً، من رأى الجدة نائمة؟ سيقول الجميع «لا أحد»، بالتالي ليس هناك شاهدٌ أصلاً على نومها، فهي ربما لم تنم، وهو ما يبدو منطقياً، إذ يستغل الإنسان آخر سني عمره بالاستيقاظ لا النوم، ما يضاعف فترة الحياة المتبقية بين يديه.

رحمها الله

الجدة هي مشروع موت، كل ما حولك كحفيد يقنعك بذلك، كلمات أمك وأبيك التي تتضمن جملة «بعد عمر طويل»، وفاة جدات أصدقائك، كلمات جدتك ذاتها «بعد ما موت»، والتي أغلبها تصب في أن عدم اقتناعك فيما تقوله اليوم، ستتذكره مقتنعاً به بعد موتها. هذه الرميات التمهيدية، ستجعل موت جدتك شأناً لا يفاجئ أحداً، ولا يفاجئها هي، كونها تعيش ترقباً له، واقتناعاً بأمراضها وعُلب أدويتها المتزايدة يوماً بعد يوم.

في موت الجدة، قد تكون أنت أكثر من يبكيها، كونها تجربتك الأولى مع حدث الموت. أما سواك، فسيؤدي واجباته بمحض قناعة والتزام بضرورة تأدية الواجبات تجاه الميت، سيصمت في الساعات الأولى، وسيكمل حديثه ذاتَه الذي بدأ قبل وفاتها بطريقة عادية. سيرمي أحدهم ضحكة ثم يقتنع بأنها غير متناسبة مع الحدث، في اليوم الثاني للوفاة سيطلقها بشكل عادي، فقد مضى يوم على الوفاة وبإمكانه الضحك بسبب شأن يومي بسيط، أو بسبب نكتة. بعد يومين وأكثر سيكون ذلك طبيعياً للجميع، حتى بالنسبة لك. بعد ذلك ستبدأ أنت باستحضار الذاكرة، وترقُّبِ الرائحة، والالتفات للتفاصيل التي ستغيب يوماً بعد يوم. سيجمع أحدهم الأدوية ليعطيها لمحتاج أو ليرميها، هي والملابس. سيأكل الذئب جدة ليلى في سيناريو القصة الخاص بك. سيتلاشى النمط، ولن يمسح أحد رطوبة النافذة، ولن ينتقل الطعام المتبقي في صحون كبيرة إلى صحون أصغر… ستدرك حينها أنك بلا جدة.