هناك شعور بالمهابة لدى الشروع في الحديث عن ذلك العالم. العالم البعيد، الذي نبدو فيه ملطخين بالطين ومشدوخين بالحجارة. تلك اللطخات الباهتة من الصور والأماكن التي عبرناها حفاة بين شتائل الورد. نتراكض في الأحراش مملوئين بالحماسة لشيء مبهم، فيما يقف في الركن الأقصى ظل امرأة تدير الماء على الأحواض. عالم الجدات الذي يسلخ نفسه عن العالم الحقيقي بما يحمله من الشعرية والرهافة والبطء. العالم الذي يظل ومضات بالأبيض والأسود، رغم اللون الحارق للحنّة وشجر البرتقال والقطط المرقّطة. هو عالم يعود الشخص لدخوله وهو يخوض في عواصف الحياة، لاستدراك الأنفاس وتحديد نقطة التمركز الأولى، في فوضى تبدّل العوالم والوجوه والبيوت.
كان ثمة قطبان لحياتي في الطفولة. بكرة خيطان تمتد في اتجاهين: الأول ينتهي في يد عَليا الوحش، أم أبي، والآخر ينتهي في يد عائشة عليّان، أم أمي. عَليا وعائشة تتقاسمان خصالاً مشتركة في مسيرتي حياتيهما. هما فلسطينيتان، نزحتا من فلسطين، وكانتا وحيدتين لدى تربية أطفالهما بعد الزواج الأول. في قصّتيهما تتقاطع سوريا وفلسطين، هذان البلدان اللذان ضاقا بأهلهما، وكُتب تاريخهما الحديث بالقهر والدموع والهجران القاسي. أتخيلهما تسيران في درب طيني، بأنفاس متقطّعة وعيون تحاول قراءة المصير المبهم، غير أنهما كانتا أمّيتين، ولا تستطيعان القراءة. لقد حصّنتهما هذه الأمية من معرفة مرارة المخبوء في الطالع، حيث ستتكرر هذه الحكاية أكثر من مرة وبأكثر من شكل، وستمرّ مدية الأقدار المسنونة على الحبال التي شدتاها إلى الأوتاد، وستتراكم الخسارات كندف الثلج وتصبح جبلاً، وستقضيان خريف العمر وحيدتين وناظرتين إلى التاريخ بمرارة من لا بأس له.
عائشة عليان
أتذكر عن عائشة عليان، التي توفيت عام 2006، بيتها في الحارة الشرقية في حي جوبر. خريطة هذا الحي في ذهني كانت تنتهي عند بيتها، وكان كل شيء بعد هذا البيت يُعتبر هامشاً، حتى الأحلام التي أراها في تلك الحارة، لا يتجرأ شخوصها على اجتياز الشادر الذي سدّت عائشة به الحارة. لم يكن مسموحاً لأحد بعبور هذا الشادر، سوى نحن، الأحفاد، والقطط والعصافير. كان لعائشة موقف حادّ وهجومي ضد كل الناس، خلقته المرارة والظروف القاسية التي تنُشب الأظافر وتسن الأنياب، ترجمةً لقول المتنبي: «كيف الرجاء من الخطوب تخلصاً.. من بعد ما أنشبن فيّ مخالبا».
كان الناس يخشون كلام عائشة اللاذع. حتى الجيران القريبون، أصحاب البيت الذي تسكن به، كانوا يهابونها ولم يحصلوا على البيت الذي كانوا يريدون الاستحواذ عليه، إلا بعد أن توفيت. كان غضب عائشة الدفين يتجلى في التمرد على كل شيء: على زوجها الثاني سليم الذي حرمته من رؤية الأولاد، وجيرانها الذين ترميهم بحمم الكلام، وبناتها فريال ووفيقة وشفيقة وكوثر، اللواتي ورثن هذا التمرد عنها. كان هذا الغضب وليد حياة، هُجِّرت فيها من بلادها، بعد أن تزوجت وهي في الثالثة عشرة. حياةٌ كانت فيها أمّاً لثلاث بنات قبل أن تبلغ السن القانوني، وحُرمت خلالها من رؤية ابنها إلى الأبد، بعد أن قرر الذهاب إلى مصر، بسبب التروما، التي دفعته إلى رفض القدوم لرؤيتها حتى وهي تموت، لأنه اعتُقل في سوريا شهوراً في السابق، بسبب تشابه الأسماء مع شخص آخر. بين «نخلة» و«نحلة» كان الفرق نقطة واحدة في الكنية، حرمت أم زياد من رؤية ابنها البكر، زياد، لمدة ثلاثين عاماً. كانت تحاول تخيّل شكل وجهه وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، دون أن تفلح ذلك… كان حاجباها معقودان كأنها تحاول التذكّر.
هذا الغضب الذي راكمته عائشة، الملقّبة بـ«أم هرّو» في حارتها، كان ينقلب رأساً على عقب حين أطرق بابها أنا وأخواتي، ويتحول إلى ملبّس لوز وسكاكر تناولنا إياها من خزانة الملابس، مع ابتسامة حب وطمأنينة، وهي سكاكر تأتيها من قافلة الإعاشة التي توزع المعونات على اللاجئين الفلسطينيين. كان غضب الجدة يتلاشى أمام الأحفاد.. كنا التعويذة السرية لتهدئة البراكين في عينيها.
ما بقي من سيرة عائشة، اعتماداً على الذكريات المفككة التي تحاول أمي ربطها ونفض الغبار عنها، هو أنها تزوجت بسليم «الدرزي»، الذي «حلف لها الأيمان المغلّظة بأنه مسلم». والذي كان، بحسب بنات عائشة، صديقاً قريباً لفهد بلّان، ويحفر معه الآبار: «كان أبي يحفر وفهد بلان يحمّل»، تقول أمي، مشيرة إلى أن آخر مرة رأت فيها والدها، سليم المسكين، كانت حين جاء ملثماً إلى حي جوبر لرؤية أبنائه، حيث ستصرخ عائشة، ببديهتها الحاضرة للأذى، دافعة أهالي جوبر لمطاردته، بعد أن ادعت أنه «اسرائيلي»، مستغلة زرقة عينية البادية من اللثام.
نتذكر عن عائشة أيضاً أنها رفعت سريرها على قطع خشبية، اضطرتها لتسلقه بواسطة كرسي عند الصعود والنزول، لأنها «تريد رؤية الله من النافذة». الله الذي كانت تستيقظ لتحدثه في جوف الليل، وتأخذ منه الجبروت مقايضةً بالدمع. تقول أمي إن عائشة «ما كانت تعرف تحبّ حدا»، مشيرة إلى أنهم ورثوا عنها هذه الخصلة، التي جعلت التعبير عن الحبّ شبيهاً بإزاحة الجبال. إلا أنني أحار في أمر هذا العطف الذي كُنّا نتلقاه منها. الحصون والجدران تنهار في علاقة الجدة بأحفادها، فعائشة لم تُقبّل أحداً سواهم في حياتها. هناك سرّ ما يمنع سهام النار والغضب من التوجه إلى صدور الأحفاد. سرّ يعاكس حركة المنطق والتاريخ ومحاولات الفهم.
لا نعرف بالضبط ما الذي كانت ستفعله عائشة إذا كانت على قيد الحياة في ظل البراميل المنهالة على حي جوبر. أكتبُ هذا ويداي ترتجفان من المشهد: عائشة تتشبث بشجرة الأكادنيا، وتلعن هذا العالم بلسانها السليط، فيما تنهال شظايا البيوت الطينية المُذنّبة بالدخان الأبيض على باحة دارها. إلا أن الأقدار وفّرت عليها مسيرة نزوح جديدة ومواجهة أسئلة المصائر مرة أخرى، وجعلتها تغادر هذه الحياة، بعد أن تقلص وزنها إلى ثلاثين كيلو غراماً في مواجهة السرطان. لم يبق في المشهد العريض من بعد عائشة إلا سِيَرُ النزوح، وأسئلة المصير، والخوض في الدروب الطينية، والمنظمات التي تقدّم السكاكر لضحايا الحروب، إضافة إلى كيس من الصور، جمعوه لدى وفاتها، وظنّ أحدهم أنه كيس قمامة، فتناوله بيمناه وحمله إلى المكبّ.
عَليا الوحش
خلقت عليا، دون أن تدري، عالماً سحرياً سيظل معنا طيلة الحياة. صور ومشاهد لا تحتاج إلى رمنسة لتصبح فيلماً شاعرياً بطيء الوقع، تظهر فيه بجدائلها المُحنّاة في شبوب الفجر أمام المرآة، أو في الحوش بين الأشجار في ساعة المغيب الحمراء، التي تُشعل الأفق من جبال «الباردة» إلى حي «الإذاعة».
بعد النزوح الأول من فلسطين، والاتجاه إلى الجولان، والنزوح الثاني نحو دروشة في ريف دمشق، سارت عليا بأبنائها اليتامى إلى حي جوبر. كبر الأبناء، محمد وغازي وغازية وعبد الله وأحمد، يتذكرون نهراً جارياً في دروشة، وسيراً طويلاً من جوبر إلى المدارس الداخلية في حي الميدان. دفع البؤس المادي محمد ثم غازي، الذي هو والدي، إلى السفر نحو السعودية، حيث سيرسل القصائد إلى أمي، والتحايا والأخبار إلى بقية أفراد العائلة، من خلال الكاسيتات المسجّلة. بعض الكاسيتات لا زال موجوداً في سوريا اليوم، يتحدث فيها غازي عن آخر المستجدات، ويؤكد أن هذا الفِراق القاسي مؤقتٌ ولن يطول كثيراً. إلا أن دوامته التي ستطول لتصل إلى 35 عاماً، لا زالت مستمرة، وستبتلع أحمد أيضاً، آخر عنقود عليا. ليظل عبد الله، الذي درس الطبّ في حلب، هو الوحيد القريب منها، إضافة إلى غازية التي تزوجت مصطفى العيق وذهبت إلى عين ترما.
انتقلت عليا إلى مخيم سبينة، أواخر الثمانينات، ظانة أن هذا سيكون الانتقال الأخير بالأحمال والهموم إلى طرف قصي، بعيد عن غضب العواصم وتقلبات التاريخ النزقة. في سبينة، خلقت عَليا مجالاً حيوياً جديداً، وهي في الستين، لم تلبث أن غزته القطط والأشجار والورود وحكايا الدواوين مع الفاكهة المقشرة ورائحة القهوة المرّة.
تحوَّلَ بيت الجدة في سبينة، كما هو الحال في جميع العائلات، إلى وجهة أفراد العائلة في عطلة الأسبوع. ولن أدرك غزارة الحمولة الشعرية التي سأرثها من هذا المكان، إلا بعد أن تنقطع سبل الوصول إليه.
في محاولاتي الفضولية العديدة لتقصي الحكايات من بداياتها، كنت أواجه ضبابية في سرد أبي أو أمي لقصص حدثت قبل أربعين أو خمسين عاماً. آلاف الأيام والأحداث لا يرشح منها إلا رؤوس أقلام وجمل خاطفة، وهو ما يفتح الباب واسعاً لإطلاق عنان المخيلة، ولكنه، في الوقت ذاته، يثير القلق من تحول حاضرنا الرهيب إلى ومضات في أذهاننا، بعد أن يرميه الوقت من النافذة كمنديل مُدمّى.
كانت عليا، على خلاف عائشة، تحب الناس وتودّهم وتشاركهم الحديث. ويبدو أن نصيباً من الحكمة كان لها في هذه الحياة، وكانت أقدر على فرض سلطتها على أبنائها وجيرانها بالمودّة لا بالتعنيف. ولطالما صمت الجميع وهي تتحدث، وانهارت سطوة الآباء الصارمين لدى التجاء أبنائهم إليها والاحتماء في كنفها، والتشبث بعباءتها السوداء. كانت هذه العباءة موطن اللجوء الأول من البطش، الذي يخفض العصيّ ويعيد الأحزمة إلى الخصور. سوف نتذكر هذا الشعور بالأمان طويلاً، بعد أن توازعتنا القارات وافتقدنا الشعور بالحصانة من الأذى.

كنت، في مرحلة من المراحل، أظن أن عليا تمثل السقف الأقصى للقدرة على تحمل الآلام. قيل كثيراً إن أحداً لم يرها وهي تبكي في الجنائز أو لحظات الوداع. سيظهر هذا جلياً وهي تتوسط الناس في أوقات كهذه، فيما تتجه العيون إليها، وهي تتحدث عن القدر وقلة الحيلة في مواجهته، فالظروف عوّدتها على ترك الأشياء تسير في مجراها دون تدخل واعتراض، توخياً للدخول في معارك خاسرة. ولكنني كنت شاهداً على لحظة استثنائية، رأيت فيها الدموع تنهال من عينيها بغتة، وهي لحظة كان فيها تدفق العاطفة أسرع من القدرة على السيطرة عليه ومعالجته نظرياً. تلك اللحظة التي جاء فيها غازي بشكل مفاجئ بعد أعوام طويلة من الغياب، ودخل عليها إلى الديوان وهي تقشر تفاحة. شهقت باسمه وبكت دون أن تشعر. كانت هذه دموع الظفر بما سبق أن تصالحت مع خسارته. كان هذا خرقاً مباغتاً للاتفاق المبرم بالتراضي مع الحياة بأخذ الأشياء. بإمكاننا القول إن لمسة الحياة الحانية على الكتف، في تلك اللحظة، أحدثت اختراقاً عجزت عن فعله الصفعات.
انتظمت أيام عليا في سبينة على إيقاع الصلوات الخمس ونوافلها، والاهتمام بأشجار الحوش، وإطعام القطط، وانتظار أيام العطل لاستقبال الأحفاد. كان في جوارها عبد الله، طبيب الحيّ، وابنه أحمد، الذي يعرف من أين يشتري الدخان المهرّب الذي تفضله، إذا نفذ من السوق، ويقرأ لها لافتات السرافيس، والأخبار العاجلة بالخط العريض، ويحضر طعام القطط من عند اللحام.. كان يدها اليُمنى وعكّازها البشري.
كانت عليا تستيقظ قبل أن ترسل الشمس أشعتها الأولى من وراء «جبال الباردة»، وتتوضأ، وتمشط شعرها المحنّى أمام المرآة، ثم تعقد ضفيرتين، وترتدي زيها الجولاني، وتلف العصبة المنقّشة بالورد على رأسها، بيديها المنقّشتين بالوشوم والمُزدانتين بالذهب، ثم تتناول فاكهة أسقطتها أشجار الحوش وتدخن سيجارة الصباح، بعد أداء واجب الرب في الظلمة الخافتة. فوق المرآة التي تنظر إليها ، هناك صورة لعلي الوحش، شقيقها، ممتطياً فرساً أبيض، وحاملاً بندقية. هو في الأصل علي النميري، ولكنه لُقّب بالوحش بسبب ضراوته في القتال ضد جنود الاحتلال الاسرائيلي، حيث عاد فرسه وحيداً ذات يوم، بعد أن تحول فارسه الفلسطيني إلى أشلاء، وصار بطلاً أسطورياً، سُمي شارعٌ باسمه في حي السيدة زينب في دمشق. «شارع علي الوحش» هذا، صار الأشهر في المنطقة.
لدى البحث عن شارع علي الوحش على غوغل، ستظهر معلومات جديدة عنه، تُحيل إلى الامتزاج المثير للأسى مرة أخرى، بين تاريخي سوريا وفلسطين. فبعد أن أصبح «فرع فلسطين» قريناً لنزع الأظافر، سيقترن اسم علي الوحش بكلمة جديدة إلى الأبد. ستكون «مجزرة شارع علي الوحش»، هي الأكثر رسوخاً بعد تاريخ 5-1-2014، حيث أعدمت ميليشيات عراقية وإيرانية أكثر من 250 مدنياً رمياً بالرصاص لدى محاولتهم الخروج من المناطق المحاصرة جنوبي دمشق، بعد إعطائهم الأمان، إضافة لاعتقال نحو 1500 مدني، كثيرون منهم لا زالوا مجهولي المصير حتى اللحظة.
12-12
في تاريخ 12-12-2012 تحققت لدى عليا نبوءة المايا بالقيامة، ذلك أنها ستتلقى خبر اعتقال ابنها عبد الله، الوحيد الذي بقي قربها، وحفيديها، أحمد (عكّازها البشري) وربيع (ابن ابنتها)، على حاجز للنظام السوري، لتختفي أخبارهم وترد أسماؤهم منذ ذلك الحين، بين المفقودين ومجهولي المصير والمغيبين قسراً. كان هذا بعد نزوح عليا الأخير من سبينة إلى صحنايا، الذي تركت فيه الديوان للعسكر، والقطط للمجنزرات، والأشجار للعطش والرصاص الطائش، والصور للحريق، والخراب للمرايا.
بعد اعتقالهم ونزوحها، بدأ الانكسار بالتسرب إلى نبرة عليا أثناء الحديث على الهاتف، وهي نبرة تكابر عليها، وتحاول، متجاهلة النيران التي تأكل أيامها، سؤالي بلهفة عن أحوالي، والاطمئنان عليّ، وإن كنت قد تزوجت أو وجدت «بنت الحلال». سيُضاف إلى هذه الخسارات المتراكمة أمام عليا، وفاة زوجها، أبو هاني، بعد أن كُسر حوضه وبقي وحيداً لأيام في بيت سبينة، الذي حاول زيارته أثناء الحصار. ثم انقطاع أخبار زوج حفيدتها أثناء محاولته السفر عبر البحر إلى أوروبا. إضافة إلى وفاة أبو ربيع، زوج عمتي، قبل أيام، الذي كان فدائياً فلسطينياً جميل المُحيا وضخم الجثة، والذي كُسر قلبه على ابنه المُعتقل والمجهول المصير، ربيع، مع عبد الله وابنه أحمد.
تجاوزت عليا الثمانين عاماً، وأجرت عملاً جراحياً في حوضها مؤخراً، أقعدها عن الحراك. وبدأ يتضح من كلماتها، للمرة الأولى في حياتها، أن الألم أكبر من القدرة على احتماله، وأن البلوى أقوى من الصبر، وأن الأقدار أوخم من الطالع.لم تحمل معها الكثير لدى مغادرتها المنزل آخر مرة. تُدلّك يديها بقشر الليمون، وتظهر عروقها من تحت الوشوم. تتناول المسبحة وتهمس بلسان صابر، بعد حياة مليئة بالنزوح والهرب وجور التاريخ، وقد انقطعت الآمال برؤية جميع أولادها ومعظم أحفادها، رغم حاجتها الشديدة ليد تسندها للوقوف. تحاول عليا قراءة وجه هذا العمر العابس، الذي حوّلها، هي وجميع نساء العائلة في محيطها، إلى ثكالى وأرامل، وخطف أغلى ما يملكن، بضربة واحدة، لتنعكس الأيام في عيونهن حطاماً، ويكنّ، مثل ملايين السوريات والفلسطينيات واليمنيّات والمصريات، اليوم، مادّة الفصول الأكثر فداحة في تاريخ البشرية الحديث، والشاهدات عليها. هذا التاريخ الذي ترسمه القسوة وتحطيم الأضلاع والضرب على النواصي، وتحاول محوه الأيدي الملوِّحة للراحلين. التاريخ الحافل بالخسارات، والذي تُقتنص فيه لحظات المسرّة اقتناصاً، كما هو الحال لدى عليا، التي تحاول الرضا بما تبقى بين يديها اليوم، مثل سجائر الـ«كِنت» التي تتغزل بها، وأبناء أحفادها الذين يشبّون ويتعلمون الركض والكلام، وتمدّها وجوههم، التي تحمل ملامح آبائهم، بما يلزم من الصلابة والأمل للبقاء على قيد الحياة دون تذمر.
تطلب عليا اليوم من محدثيها -أبناؤها المغتربون أو أحفادها الراحلون- تكرار ما يقولونه أكثر من مرة. ولا نعرف إن كان هذا سببه ضعف سمعها هذه الأيام، أو رغبتها في تفادي الأخبار السيئة، أو أنها، بحيلة لا تحمل خُبثاً، تريد سماع أصواتهم قدر المُستطاع، وترسيخ العبارات التي يكررونها دون أن يعنوها كثيراً، لتتحول إلى حقيقة لديها، تعيش معها وتربّيها كما كانت تربّي شتائل الورد: «نحن بخير يا جديدة. نحنا مناح».