طفلة ترتدي قبعة ولا يظهر وجهها، تبحث بين التراب، تنتزع حشائش من الأرض، لتأكل. يظهر هذا المشهد في فيديو صوّره رامي السيد في حي الحجر الأسود، أثناء حصار مخيم اليرموك وأحياء جنوب دمشق، وهو كان المشهد الأول الذي خطر في بالي عندما قُتل سليماني بصواريخ أميركية قرب بغداد.

في لقاء قيل إنه الوحيد، أجراه التلفزيون الرسمي الإيراني مع قاسم سليماني، روى القتيل شهادته عن حرب العام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، وقال إن الخطة الإسرائيلية الرئيسية كانت تقضي بتهجير شيعة الجنوب لتغيير المنطقة ديموغرافياً، لكنها فشلت. بعد هذه الحرب بخمس أو ست سنوات، بدا أن سليماني يواجه معركة مصيرية في سوريا، فقد كان نظام الأسد، الذي يشكل حلقة رئيسية في التحالف الذي بنته طهران طوال ثلاثين سنة من خلال دعم ميليشيات وأنظمة في المنطقة، على وشك السقوط كما جرى مع حسني مبارك وزين العابدين بن علي. لم يكن سليماني ليقبل بالأمر الواقع، ولذلك شرع مع حلفائه في تنفيذ الخطة التي قال إنّ تل أبيب كانت تُبيتها للجنوب.

بدأت موجات الحصار الخانق في سوريا بشكل تصاعدي، بعد أن كانت المناطق التي تحتضن التظاهرات الكبرى ضد النظام قد تعرضت للعقاب الجماعي من خلال تقطيع الطرقات ومنع الخدمات الرئيسية كالكهرباء والهاتف والمياه، ومن خلال حملات مداهمة قامت بها قوات أمنية وعسكرية. في إحدى تلك الحملات، داهمت دبابتان وعشرات الجنود حيّنا في حرستا عام 2011.

لكن الحصار الممنهج الذي استُخدم أداة رئيسية في الحرب تطور بشكل استراتيجي منذ العام 2013، حيث بدأت قوات النظام بمنع دخول أي شحنات غذائية أو طبية من أي نوع إلى مناطق بعينها مثل الغوطة الشرقية ومخيم اليرموك وأحياء جنوب دمشق وداريا والمعضمية في الغوطة الغربية وريف حمص الشمالي وبعض قرى القلمون الشرقي، ما أدى في الواقع إلى حدوث مجاعة حقيقية في بعض تلك المناطق في شتاء 2013-2014. كان الناس يموتون فعلاً بسبب سوء التغذية في مخيم اليرموك وغيره، وكان هذا النموذج غير معهود من نظام الأسد، إذ لم يكن موجوداً في دفتر تعليمات حافظ الأسد عن الإبادة، الذي يتضمن القصف والمجازر، لكنه لم يكن يتضمن الحصار الطويل والتجويع كاستراتيجية لتحقيق الإخضاع وممارسة الترهيب.

على الأرجح، كان سليماني أحد الأشخاص الذين يقفون وراء هذه الاستراتيجية، التي استُخدمت بقسوة شديدة تجاه مضايا والزبداني وقرى وادي بردى على يد ميليشيا حزب الله التابعة لإيران.

لم يكن الخضوع لنفوذ النظام والقبول به حلّاً بالنسبة للمحاصرين، فقد دُفعوا دفعاً للهجرة عن بلداتهم وبيوتهم؛ كان الحصار ينتهي دائماً بالتهجير، بِدءاً من داريا وحلب، ومن ثم الغوطة والقلمون وريف حمص الشمالي. كان سليماني أحد مهندسي التغيير الديموغرافي في سوريا.

يتضح يوماً بعد آخر أن سليماني، الذي حولته صواريخ الهيل فاير الأميركية إلى أشلاء غير واضحة المعالم، كان الشخص المسؤول والمشرف الرئيسي على عمل ميليشيات إيران في منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن بنية العلاقة غير واضحة تماماً بدقة، إذ ليس معروفاً ما إذا كانت هرمية الشكل فعلاً أم أنّها كونفدرالية ميليشيات شبيهة بكارتيلات المخدرات في أميركا اللاتينية، أم أنها مزيجٌ مُتغيّر من الإثنين، إلا أن دور سليماني فيها كان رئيسياً بالتأكيد، وهو ما يؤكد سليماني بنفسه، عندما قال إنه كان موجوداً على الطاولة مع حسن نصر الله وعماد مغنية لإدارة العمليات العسكرية خلال حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله. لقد كانت خططه تحظى دوماً بدعم المرشد الإيراني علي خامنئي، إلى درجة أنه أصبح في مركز أقوى حتى مِن مَن يفترض أن يكون رئيسه (أي قائد الحرس الثوري)، إذ كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني يقود وينسق عمل ميليشيات منتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويدخل في خطط مع مافيا دولية لتنفيذ عمليات إجرامية، مثل العملية التي تمّ الكشف عنها في الولايات المتحدة لاغتيال دبلوماسي سعودي بمساعدة من كارتيل مخدرات مكسيكي.

في ليلة الخميس-الجمعة، الثاني والثالث من كانون الثاني (يناير) 2020، انطلقت ثلاثة صواريخ من طائرة درون عسكرية أميركية لتستهدف موكباً كان قد خرج منذ دقائق قليلة من مطار بغداد الدولي. الصواريخ التي أصابت الهدف بِدقة، حولت السيارات إلى حطام والركّاب إلى مِزَق، اتضح أنها لقاسم سليماني وأبي مهدي المهندس القيادي في الحشد الشعبي العراقي وعدد من مرافقيهما.

ستغيّرُ هذه اللحظة التاريخ فعلاً، كما قال زعيم ميليشيا حزب الله حسن نصر الله، فالرجل الذي كان عامل ربط بين الميليشيات الإيرانية في المنطقة ويقود معظمها، ويعرف خفاياها الدقيقة ونقاط ضعفها وقوتها وموقعها وحجمها الحقيقي، قد تم محوه من الوجود على درجة ألف مئوية، وهي الحرارة التي يتسبب بها انفجار صاروخ هيل فاير الأميركي.

تصاعدت تصريحات القيادة الإيرانية، وقيادات الميليشيات في العراق ولبنان؛ الانتقام قادم حسب تلك الميليشيات، وقد بدأت مرحلة جديدة من المواجهة مع الولايات المتحدة كما يزعمون. ومن دون شك، سيكون هناك رد إيراني عبر إحدى الميليشيات على الأغلب، لكن التطور الأبرز أن تصريحات حسن نصر الله التي تضمنتها كلمته الأخيرة خلال العزاء الذي أقيم لسليماني في لبنان، كانت تشبه إلى حد بعيد في مضمونها تصريحات أسامة بن لادن نهاية التسعينات، تلك التصريحات التي كانت بداية حرب أميركية على المنطقة قامت إيران باستغلالها لبدء علاقة شديدة التعقيد مع واشنطن، التي احتلت العراق وأحسّت بالورطة في وقت متأخر، حتى جاء الإنقاذ من طهران التي طوعت لبوش القيادات السياسية الشيعية في العراق.

تصريحات حسن نصر الله، التي تضمنت إشارة واضحة إلى عزم المحور الإيراني إنهاء الوجود العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، ليست سوى تكرار مذهل لكلمات بن لادن، بما في ذلك ربطه انهيار إسرائيل بخروج واشنطن من المنطقة؛ «ربما لن نحتاج إلى حرب مع إسرائيل بعد ذلك… سيخرجون لوحدهم» قال نصر الله، في تبنٍ واضح لفكرة القاعدة المركزية، وهو ما يعني تغيير قواعد الصراع في المنطقة.

لقد كانت الرغبة في توقيع اتفاق نووي مع إيران، وفي إنهاء الوجود الأميركي في العراق، هي ما قاد أوباما إلى التغاضي عن تحركات سليماني في المنطقة، وعن إنشائه شبكة معقدة من الميليشيات التي عاثت فساداً وقتلت وجوعت المدنيين في سوريا واليمن والعراق، لكن أياً من ذلك لا يبدو ممكناً اليوم، وإذا لم يكن نصر الله يكذب مجدداً، فإن التفاهم الإيراني-الأميركي الذي سمح طوال العقدين الماضين لطهران بتوسيع نفوذها العسكري والطائفي، قد وصل إلى نهايته.