هذه حكايات مُدنٍ عاشت تجربة الحرمان من الموسيقى، بعضها تحررت من السلطة القمعية التي حرمّت عليها الموسيقى، لكن أخرى ما تزال تعيش قسوة وصعوبة الحرمان من الفن الموسيقي. تحاول هذه المواد أن ترصد الأسباب السياسية والإجتماعية والفنية التي أدت إلى أن تُفرض على مدن قريبة من حولنا تجربة الحرمان من الموسيقى، كما أن المقارنة بين مدينة وأخرى من اللواتي حُرِمنَ من الموسيقى تسمح لنا برصد ظواهر متماثلة، وحكايات متشابهة تُمكّننا من الوصول إلى بعض الاستنتاجات والتصورات لما تكون عليه تجربة عصيّة على الخيال، ألا وهي تجربة العيش من دون موسيقى.
المدينة تسترد حقها بالتمتع بالموسيقى
في العام 2005، أنتجت قناة BBC البريطانية، فيلماً وثائقياً من 60 دقيقة بعنوان كسر الصمت، الموسيقى في أفغانستان، من إخراج سيمون برغتون. يتابع الوثائقي سكان العاصمة الأفغانية كابول، وهم يستعيدون رويداً رويداً حقهم في الإنصات إلى الموسيقى، وعزفها، ويتابع التحضيرات للحفلات الغنائية الأولى على مدرجات بعض المسارح التراثية في البلاد بعد أن خرجت من سنوات حكم نظام طالبان، وعادت فنون الغناء والموسيقى مباحة. إنها المدينة حين تستعيد حيويتها وذاتها عبر الاحتفاء بالموسيقى، هذه الظاهرة، أي ظاهرة استعادة المدينة حيويتها بالحفلات، ستتكرّر في كل المدن التي ستمر معنا وقد عاشت تجربة الحرمان من الموسيقى.
في العام 1979، اجتاح الجيش السوفييتي أفغانستان، وأصبح لقب «المرحلة الشيوعية لأفغانستان» هو الذي يطلق على تلك الفترة التي شهدت نشاطاً في بث الأغاني والموسيقى، لكنها كانت خاضعة لرقابة وذائقة النظام السوفييتي، ثم ما لبث أن اقتصرت الأغاني في تلك الفترة على تمجيد النظام السوفييتي، فاضطر الفنانون الأفغان للامتثال للبروباغندا السوفييتية وتقديم الأغاني والأناشيد الموسيقية التي تفرضها، أو الرحيل عن البلاد، ما أدى إلى هجرة عدد كبير منهم.
في العام 1980، بدأت الحركات المناهضة للاحتلال السوفييتي تتبنى الخطاب الديني الجهادي، وبدأت تنتشر الأغاني الجهادية؛ «المجاهد ينتصر… المجاهد يتقدم». ويرى الوثائقي أن المجاهدين استطاعوا مقاتلة السوفييت بالاتكال على المعتقدات المستمدة من الإسلام، واعتبروا أن الموسيقى عامل تفرقة لا توحيد، وأنها تستوجب التحريم.
الغناء بين سلطتين
تتحدث الفنانة نغمة عن التغيرات السياسية الحادة في ذلك العام، فتروي: «لقد طلب مني السوفييت أن أغني لتمجيدهم، ثم طلب مني المجاهدون أن أغني لصالحهم، طبعاً دون أن أظهر على المستمعين. وهكذا كان السوفييت يريدون مني الغناء معهم، والمجاهدون أيضاً من الناحية الأخرى. تعرضت لإطلاق نار في حفلاتي لأكثر من مرة، ورغم شعوري بالخطر إلا أنني تابعت الغناء وتقديم القليل من الحفلات، إلى أن تم اغتيال أختي في إحدى الحفلات؛ أطلقوا عليها النار ظناً منهم أنها أنا، ففارقت الحياة، وتوقفتُ أنا عن الغناء».
بين عامي 1996 و2001، خضعت العاصمة الأفغانية كابول لحكم حركة طالبان، وقد تم تدمير كل الأمكنة الموسيقية في المدينة عريقة التراث الفني، كما تم تدمير مبنى التلفزيون الوطني، وقاعات المسارح، ومبنى الراديو الرسمي. فالتأويل المتشدد لنصوص إسلامية جعل سلطة طالبان تمنع الموسيقى عن الشعب الأفغاني، وقد خضع بث التلفزيون «الداعر» حسب تعبير الحركة إلى عقوبات ورقابة مشددة؛ أشرطة الكاسيت تم إتلافها في كل الأسواق، والآلات الموسيقية أيضاً كانت عرضة للملاحقة، للتحطيم، والحرق، ولذلك وجد الموسيقيون أنفسهم أمام حتمية الصمت أو حتمية المنفى.
ما سبق يدلنا على أنه ليس لسلطة وحدها أن تمنع الموسيقى عن مدينة أو عاصمة، لكن لا بد أيضاً من خطاب إيديولوجي تعتمده السلطة، وتتبناه جماعات أهلية تساعد على تحقيق التحريم أو المنع. لقد خفتت الموسيقى تماماً في كابول طيلة تلك السنوات، وذلك يبدو منطقياً أمام الأعداد الكبيرة من الموسيقيين الذين هاجروا وتركوا البلاد. خالد آرمان هو واحد من الموسيقيين الأفغان الذين هاجروا إلى جنيف في سويسرا، وهو عازف على آلة الرباب، التي تُعد في أفغانستان الآلة الأكثر خصوصية وتعبيراً عن تراث الموسيقى الأفغانية. يروي خالد آرمان عن حفلاته في أوروبا: «كان الجمهور الأفغاني في أوروبا يبكي حين يسمع الرباب، وذلك بسبب الشوق إلى صوت الآلة التي حرموا منها لسنوات».
مدينة الموسيقى تتحول إلى خراب
تحولت كابول إلى مدينة مدمرة في تلك الفترة من تاريخ أفغانستان، كانت الحرب مع النظام الشيوعي في روسيا بدايةً، وحين تحوَّلَ المجاهدون إلى الحكم، وتحت ذريعة «استعادة روح البلاد»، منعوا الفتيات من الذهاب إلى المدارس، ومنعوا النساء من العمل، وأجبروا الرجال على إطالة اللحى. يقول أحد المواطنين الأفغان الذين عايشوا تلك الحقبة: «لم يكن يُسمح لنا بالإستماع إلى الراديو، حتى فقد الناس الإيمان بحقهم في الرقص والفرح. حتى في الأعراس العائلية، لم يكن بالإمكان تمرير أغنية مسجلة واحدة بالسر، فما بالك بالحصول على آلة موسيقية والعزف عليها؟!».
تجول كاميرا الوثائقي برفقة شيراز صديقي في منطقة كارابات لين، وهي المنطقة التي كانت سابقاً ولّادةً بالمغنين والموسيقيين، ومنهم المغني سارهاد، أحد أشهر موسيقي أفغانستان الذين حاولوا أن يمزجوا بين الموسيقى التقليدية ورياح الحداثة الموسيقية التي حملتها الفترة التي نشط وأنتج فيها، وقد كانت إحدى أشهر أغانيه مهداة لمدينته الأم؛ كارابات لين.

سُميّت كارابات لين بمنطقة الموسيقى، لكنها الآن في حالة أخرى، فحين تجول الكاميرا فيها بعد آثار سنوات حكم طالبان، تظهر المنطقة عبارة عن أحياء مهجورة وبقايا أبنية صخرية مهدمة. بتأثّر وجداني شديد، يقول شيراز صديقي أمام الكاميرا: «ها هي منطقة الموسيقى الأفغانية خاوية. ما زلت ذاكرتي تلحّ عليَّ بالصور والسماعيات القديمة، حيث كانت الموسيقى هنا تصدح من كل حي، والغناء يصدح من أغلب المنازل».
غياب أجيال المستقبل من العازفين
كل تغير في السلطة الحاكمة في أفغانستان في تلك الفترة كان يؤدي إلى تضخم في أعداد المهاجرين من البلاد، انتقل منهم 30 مليون إلى باكستان وحدها، وتمركزوا في مدينة بيشاور التي تختلط فيها العوائل العريقة بين الأصل الأفغاني والباكستاني. وقد جعلت هذه الهجرة من بيشاور مركز الموسيقى الأفغانية البديل، لكن الموسيقى الأفغانية فقدت كثيراً من مبدعيها، وعلى سبيل المثال، لم يعد هناك من يعزف على آلة الـ Dirluba التراثية الأفغانية إلّا الأمرودي، وهو العازف الأخير بعمر 62 عاماً، ولا خلف له يُحيي الأداء والتعليم على هذه الآلة الوترية الجميلة.
يروي الأمرودي: «حين استولى المجاهدون على مزار شريف، كنتُ أعمل في مخزن لبيع الآلات الموسيقية، التي راح المجاهدون يحرقونها ويدمرون كامل أسواقها. لم أقوَ على فراق واحدة من آلات Dirbula، تلك التي كان قد أهداها لي والدي، وكان عليَّ الهروب إلى مدينة هيرات. لقد أردت الاحتفاظ بآلة الـ Dirbula حتى لو كلفني ذلك حياتي. ولكن على الطريق كان هناك كثيرٌ من نقاط التفتيش للمجاهدين. نزعتُ الأوتار من الآلة، وفكّكتُ القطع إلى أجزاء يمكن إخفاؤها داخل الملابس، ولكن حين وصلتُ هيرات تمكَّنَ صبيٌ صغير من اكتشاف الآلة، فحطم قطعها بالكامل، وهكذا فقدتُها نهائياً».
استمر الصراع بين خلايا المجاهدين المتعددة، حتى بدأت سلطة طالبان بالبروز على أنها الأقوى، وأعادت بعضاً من الهدوء إلى العاصمة، ولكن طبعاً مع تطبيق تأويلات متشددة للإسلام. الأفلام والأشرطة أحرقت بالكامل، ودمر الأرشيف البصري الأفغاني بطريقة ممنهجة. كانت رغبة حركة طالبان ألا ينشأ جيل على علاقة بالماضي، وراحوا يدخلون إلى المكتبات ويطلبون كل المطبوعات الخاصة بالتاريخ الأفغاني، ثم يقومون بإحراقها مباشرةً. وجعلوا من اسم الراديو الأفغاني «راديو الشريعة». هذه ظاهرة ثانية تتشابه فيها المدن المحرومة من الموسيقى، وهي أن أولئك الذين يُحرّمون الموسيقى، تتملكهم رغبة موازية في إلغاء التاريخ.
حكاية أخيرة من أفغانستان
بعد خمس سنوات من حكم طالبان، تحررت كابول من هذه السلطة الشمولية، ولكن تبقى ذكرى حكايات سكان المدينة عن حقبة تحريم الموسيقى، مثل حكاية الفنان عزيز غاهزناوي، حين استدعاه حاكم كابول من المجاهدين للقائه، وسأله: «أصحيح يا عزيز أنك خائفٌ منا؟ لماذا لا تغني؟ ألا يعجبك حكمنا؟»، فتحجج عزيز بأنه لم يحدث أن دعاه أحدٌ للغناء وقام هو برفض الدعوة، فقال له حاكم المجاهدين: «وها أنا أطلب منك أن تفعل»، ثم قدم له كلمات الأغنية التي طلب منه أداءها وتسجيلها: «حينما تشرق كتائب الشعاع، تجلب النور إلى العتم».
حين وصل عزيز إلى منزله، أطلع زوجته على الكلمات التي طلبوا منه تسجيلها كأغنية، كان عزيز يشعر عند غنائها وكأنه يخون كل مبادئ ماضيه، ولكنه إن لم يسجل الأغنية فعليه مغادرة أفغانستان، هو الذي لم يكن يملك ما يكفي من المال اللازم لطُرُق المهربين إلى خارج البلاد. كانت عائلة عزيز مؤلفة من 15 طفلاً، وقد توفيت والدته منذ فترة قصيرة. قالت له زوجته: «لا خيار لديك… يجب أن تغني»، وفعلاً، اضطر عزيز لتسجيل أغنية في أصعب ما يذكره من تجربة وجدانية قاسية، وهو ينشد ما ليس في قناعته بتاتاً: «طُردَ الشيطانُ من مُلكِ الديار، لأن الشمسَ أشرقت مع المجاهدين».