أحبُّ العودة إلى سنوات طفولتي الأولى والغوص فيها، علّني أجد تلك الخطوط التأسيسية لما أنا عليه الآن. أبحث عن تفسيراتٍ لأشياء وتصرفاتٍ قد تبدو تافهةً بالنسبة لغيري، وتافهةً بالنسبة لي أيضاً في بعض الأحيان، لكنّها مفصليّةٌ جداً في غالب الوقت، ولذا لا بدّ أنّ ماضياً مفصلياً قد أسّس لها برأيي، وهو قادرٌ على تفسيرها وتقديم إجاباتٍ عنها. ولكن ما الحاجة إلى تفسير هذه الأشياء والتصرفات والمشاعر والمخاوف؟ إنها ببساطةٍ تحكم حياتي وتسيّرها. في هذه اللحظة مثلاً أشعر بالحاجة لمعرفة السبب الذي يجعلني أرتجف بعد كتابة سطرين من الكلمات التي يبدو أنها بلا معنىً لمن يقرأها، وأعتقد أنّ بحثاً في الماضي الشخصي سيساعدني في الوصول إلى بعض الإجابات، ولكنّي أَعدِلُ عن فكرة البحث في شريط ذكرياتي، لأنها ستأخذ وقتاً طويلاً لا أستطيع، رغم الضرورة، صرفه الآن.

تبدو العملية إذن أشبه بالركون إلى المنهج التاريخي الذي يستعمله الباحثون لتفسير ظاهرةٍ ما من أجل بلوغ المعارف والحقائق، وذلك عن طريق مُطالعة المعلومات أو البيانات التي دُوِّنت في الفترات الماضية، ثم إعادة بلورتها للتوصل إلى نتائج مقبولة مُدعّمة بالقرائن والبراهين. ذاكرتي مجموعةٌ من البيانات التاريخية الانتقائية، وتصرفاتي هي الظواهر، وأنا الدارس والمدروس. جميعنا نستخدم هذا التكنيك/المنهج بطريقةٍ أو بأخرى، وجميعنا نودّ معرفة لماذا نحن على ما نحن عليه الآن بطريقةٍ ذاتيةٍ لا تجعلنا مكشوفين ومُستباحين أمام مبضع الآخرين. هذه أنجع الطرق وأكثرها احتراماً للخصوصية في إطار اكتشاف الذات، وهي طريقةٌ يدأب على توظيفها الأطباء النفسيون أيضاً. بالمناسبة، هذا المنهج التاريخي يعتمد في الدرجة الأولى على الفطرة البشرية، ولذا ليست مصادفةً أن نلتجئ إليه لفهم طبائعنا.

مثلاً، أنا أعاني من رُهاب القطط (أيلوروفوبيا) بشكلٍ مرضي، ودائماً ما يسألني الآخرون إذا ما كنتُ قد مررتُ بحادثٍ ما أسّس لهذا الرهاب. أحياناً أقول لا، وأحياناً نعم. رُهابي من القطط يمنعني حتى من استعادة مشاهدها في تاريخ حياتي البعيد، ولذا لا يسعني توظيف المنهج التاريخي الخاص بي، الذي صار بمثابة لعبةٍ ألعبها، لفهم مبعث هذا الرهاب. أما بالنسبة لباقي المشاعر التي تتملكّني والتصرفات التي أنتهجها، وحتى بالنسبة للأشياء والأمور التي أخافها، يبدو توظيف هذا المنهج أقلّ عسراً.

مناسبة هذا الحديث هي أنّي أعاني اليوم من رُهاب الطائرات، وبإمكاني دون كثير عناءٍ ونبشٍ في الذاكرة أن أعرف سبب هذا الرهاب الطارئ، ولكنّي أفضّل العودة إلى الوراء كثيراً، وهذه المرة ليس لأني أريد أن أعرف السبب، بل لأنّي فكّرتُ ملياً بالطائرة، ولأنّه كان من المُقدّر أن تكون حياتي متعلقةً بها في يومٍ ما، وكذلك لأنّ للطائرة حضوراً عميقاً في حياة الملايين من السوريين، كما هو الحال بالنسبة لملايين من شعوبٍ أخرى عاشت وما تزال حروباً. أقول إنّ رُهابي من الطائرات طارئٌ لأنه قريب العهد، ويعود إلى حدثٍ «مفصليٍّ» لم يمضِ عليه كثيرٌ من الوقت، ولكنّي على الرغم من ذلك سأنبش في ذاكرتي عن الطائرات الموجودة فيها وأطاردها.

*****

في طفولتي لم يكن لديّ كثيرٌ من الألعاب، بل ربما يقتصر الأمر على مجموعةٍ من مُكعّبات الحروف والأرقام وبعض السيارات الصغيرة. ببساطة، لم يكن لديّ طائرة. أتذكّر أنّ صديقاً لي كان يعمل والده في الكويت، وكان يملك طائرةً بجهاز تحكمٍ عن بعد، غير أنها طائرةٌ تشبه السيارة، وتسير مثلها على أربع عجلات؛ لم تكن تطير، وهي بذلك لم تكن تختلف عن السيارة ذات جهاز التحكم عن بعد التي يملكها أخي الصغير سوى في شكلها، ولأنه كان بوسعي اللعب بسيارة أخي، فإنّي لم أحسد صديقي يوماً على طائرته. في الحقيقة لم أكن من هواة لُعب الأطفال، كرة القدم وحدها كانت لعبتي وعالم اللعب الذي يُغويني، وكانت متوفرةً جداً.

أيضاً كان يصدف أن نكون في باحة المدرسة الابتدائية وتعبر فوقنا طائرة هليكوبتر أو طائرة مدنية. النتيجة آلافُ العيون المحدقة بتركيز إلى السماء. بعض الأطفال كان لهم خيالٌ يستطيع تحديد عدد الركاب داخل الطائرة بكلّ ثقة، وليس بإمكان أحدنا أن يقول إنه لم يرَ الطائرة أو ملامحها وتفاصيلها الدقيقة لو قضت الحاجة، فهذا يُخرجه من حوارٍ سيمتدّ حتى نهاية الدوام. كان عبور طائرةٍ فوق رؤوسنا حدثاً قد يتكرّر أو لا يتكرّر مرّةً كل عام، فلا مطار في مدينتنا الصغيرة. لا يجدر بك كطفلٍ أن تقول إنك لم ترَ الطائرة، أو أنك كنت داخل الصفّ أو الحمام حين عبرت، فهذا ليس جيداً.

مشهدٌ آخرٌ تحضر فيه طائرةٌ لا تطير ينبغي عدم تفويته، إنّه هيكل الطائرة المحوّل نُصباً تاريخياً بالقرب من المدخل الرئيسي لمطار دير الزور. حين نسافر يتحتّم المرور بجانبه، وكنا نخاف الغرق في النوم داخل الحافلة قبل أن نحظى برؤية هذه التحفة التي يُقال إنها جزءٌ من تقاليد القوى الجوية، وتوضع كنوعٍ من الاعتزاز بقوة السلاح. رمزيٌّ وذو تقاليدٍ جيشُنا الباسل. تحضرني هنا بعض التقاليد الأخرى لدولة الأسد، ومنها التقليد الرمزي المتعلق بصراعنا مع الكيان الصهيوني، والذي دفعنا إلى عدم إعادة إعمار مدينة القنيطرة المُحرّرة «لكي تظلّ شاهدةً بدمارها على إجرام العدو الصهيوني»، حسب ما أخبرتنا به نجاح العطار في أحد كتب القراءة في الصفوف الابتدائية. أن تتحوّل مدينةٌ كاملة إلى نُصُبٍ متهدّم هو بلا شك نَصْبٌ على الذاكرة والحاضر والمستقبل.

حين أنهيتُ البكالوريا اخترتُ الدخول إلى كلية هندسة الطيران بجامعة حلب، ودخلتها. لا أجد اليوم مبرراً لذلك الخيار سوى أنّ الاسم قد أغراني. بقيت ثلاثة أسابيعٍ في الكلية قبل أن أقرّر التحوّل عنها إلى كليةٍ أخرى لم أكن قد اخترتها بعد. كان سبب ترك الكلية يعود إلى مزيجٍ من أمرين؛ الأول هو الخشية من إغلاق القسم بعد أن أتورّط فيه، تماماً كما حصل مع طلاب كلية الهندسة النووية في الجامعة نفسها، والتي أُغلقت أبوابها في العام 2005، ولم تُفتح من جديد حتى بداية العام الدراسي 2013-2014 لأسبابٍ لم تُوضَّح بشكلٍ دقيقٍ. أما الثاني فهو مروري بالقرب من الهنغار الذي يحوي طائرات الدروس العملية. في حظيرة الطائرات كان هنالك مجسمان لطائرتين حربيتين، مبخوخٌ عليهما أنهما هديةٌ من وزارة الدفاع في الجمهورية العربية السورية إلى كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة حلب، ولا تختلف هاتان الطائرتان كثيراً عن الطائرة المنصوبة على باب مطار دير الزور.

في العام 2013 التقيتُ أحد زملائي القليلين من كلية هندسة الطيران، وسألته عن حال الكلية وطلابها. أخبرني أنه انتقل هو الآخر إلى كلية الهندسة المعمارية، ولكن ليس دون تكلّف البقاء في كلية هندسة الطيران عامين من دون طائل. أحسستُ يومها بسعادةٍ ناتجةٍ عن الخيار الصائب، فالذي أدركته خلال أيام كلّف غيري أعواماً. ما بدا لي غريباً في كلية هندسة الطيران حين دخلتُها هو أنّ معظم طلابها كانوا من السوريين الذين حصلوا على الثانوية العامة من إحدى دول الخليج. لقد كانت العلامات المطلوبة لدخول هذه الكلية حينها تعادل الحد الأعلى للعلامات التي يتحصّلون عليها بعد معادلة شهاداتهم في الثانوية العامة.

أحاول الآن تخيّلَ مصيري في حال بقيت في تلك الكلية، لا بدّ أني سأكون واحداً من ثلاثة أشخاص؛ الأول هو موظفٌ حكومي في دائرةٍ لا يربطها بالضرورة رابطٌ بالطيران، في حين تتكوّم على طاولته المعدنية مجموعةٌ من الصحف الحكومية والقصص القصيرة التي سيرويها لأطفاله حين يعود إلى المنزل. والثاني مهندسٌ في مطارٍ عسكري ينبغي عليه التأكد من قدرة الطائرة الحربية على سحق أعمار مئات الناس، والعودة إلى مربضها دون حدوث أيّ خللٍ ميكانيكي. أما الثالث فهو المحظوظ الذي سينعم بفرصة عملٍ في شركة طيرانٍ محترمة خارج الديار. أستطيع هنا المجازفة بالقول إن كليةً تافهةً كتلك الموجودة في حلب لن تُخرّج هذا الثالث.

*****

لم أصعد طائرةً طوال سنين حياتي التي قضيتها في سوريا، وقد كانت أولى رحلاتي على متن طائرةٍ متجهةٍ من غازي عينتاب في الجنوب التركي نحو إسطنبول. كنت سعيداً ومستمتعاً بالتجربة الأولى، ولم أرغب بأن تنقضي الرحلة بالسرعة التي انقضت بها. كان ذلك في العام 2015، وفي العام نفسه سافرت مراتٍ عديدة بواسطة الطائرة، وكانت رحلاتٍ لطيفةً لا يكدّرها، بالنسبة لي على الأقل، الانتظار الطويل في سماء مطار أتاتورك حتى تتمكن الطائرة من إيجاد مهبطٍ لها.

ولكن، بما أنّ الأمر كان كذلك، فمتى بدأت أخاف من صعود الطائرات؟ يرجع ذلك إلى رحلتي من إسطنبول إلى بيروت في العام الماضي. كنتُ صحبة أربعةٍ من زملائي في الجامعة على متن طائرة تابعة لشركة بيغاسوس التركية ذات رحلات التكلفة المنخفضة. فجأةً بقينا لمدة دقيقةٍ كاملة شبه ضائعين في السماء، والطائرة تهتزّ صعوداً وهبوطاً بطريقةٍ عنيفة. لا ندري ما الذي حصل حينها، هل هو مطبٌّ هوائيٌّ أم شيءٌ تقنيٌّ تمكّن الطيارُ من السيطرة عليه لاحقاً. معظم المسافرين كانوا لبنانيين، وهذا ما جعل الموقف أكثر سوداويةً، لأنّ أصوات التضرعات وصرخات الاستغفار كانت بلغةٍ آلفها وأفهم عمق الخوف الذي تحمله، وكان أشدّ من ذلك عليّ بكاءُ الأطفال الذين لم يُرعبهم ما حدث للطائرة بقدر ما أرعبهم صراخ المحيطين بهم. أحسستُ بالموت يومها يمسح على رأسي، وقطعاً ليس هذا المكان الذي أفضل الموت فيه. انقضى بعدها الأمر وعادت الطائرة إلى وضعها الطبيعي، لكني بقيت أحسها غير ثابتةٍ في السماء، ومرشحةً للسقوط في أي لحظة. منذ ذلك الحين صرت أخاف الطيران وأواظب على البحث في خصائصه وطبيعة الحوادث وسبل واحتمالات النجاة.

بعد وصولي إلى بيروت قرأتُ تقريراً لشبكة إي بي سي الأميركية يقول إنّ المرء يحتاج في المتوسط إلى الطيران يومياً لمدة 55000 عامٍ حتى يكون طرفاً في حادث طائرةٍ مميت، ولكنّ هذا لا يقنعني، فبما أنّ الأمر مجرّد احتمال، فقد يحصل ذلك في اليوم الأول أو العاشر أو الألف… من يدري! طريق العودة من بيروت، وعلى متن الطائرة نفسها في الغالب ومع فريق المُضيّفين نفسه، لم يكن مسليّاً أبداًـ تصحّ تسمية هؤلاء بالباعة الجوالين للمشروبات والدخان في بطن السماء أكثر من أيّ اسمٍ آخر.

إلى الطائرة من جديد

قبل شهرٍ ونيف ركبتُ الطائرة مجدداً في رحلة ذهابٍ وإيابٍ من ليون الفرنسية إلى برلين مروراً بمطار فرانكفورت، وهو ما يعني أربع رحلاتٍ في أربعة أيام. يكفي أن أُلخّص شعوري في رحلةٍ واحدةٍ فقط لتوصيف ما حصل. في الطريق السماوي من برلين إلى فرانكفورت، ورغم أن الرحلة كانت طبيعيةً جداً، إلا أني كنت خائفاً جداً، وفوق ذلك غالباً ما أعاني من ألمٍ شديدٍ في البطن أثناء الطيران، وهذا في العادة ألمٌ طبيعيٌّ يعاني منه عددٌ كبيرٌ من المسافرين نتيجة عوامل طبيعية تتعلق بالضغط والأوكسجين واختلاف طبقات الجو، إلا أنّ حالة الانقباض التي أبداها جسمي كلُّه نتيجة الخوف جعلت من هذا الألم غير طبيعيّ. أسمعُ أثناء الإقلاع الأصوات الصادرة عن جناحي الطائرة نتيجة استخدام الفلابس لتكبير حجم الجناحين، ورغم أني أعرف مصدر الصوت وسببه، يتهيّأ لي أن شيئاً ما يُعيق دوران محركات الطائرة أثناء إقلاعها، وأنّ النار ستشبّ عمّا قريبٍ موديةً بنا وبالمحرك. بعد دقيقتين أو ثلاثٍ يختفي الصوت، ولكني أظلّ مرتعداً. أثناء الطيران، لا يحتاج المنديل الورقي الموجود في يدي أكثر من دقائق قليلة حتى يذوب نتيجة العرق المتصبّب من كفّي.

أحاول التفكير بأشياء شتّى كي أمنع عقلي من التركيز في أمور الطائرة وساعة سقوطها، فأخرج من فكرةٍ سوداء إلى أخرى أشدّ قتامة حتى تنقضي الرحلة بالسلامة. لقد وصلنا، لم نستغرق أكثر من خمسين دقيقة في الطائرة التي ستتوقف لساعتين في مطار فرانكفورت قبل استكمال طريقها مجدداً.

أنظر بينما تمشي الطائرة على الأرض لتتوقف إلى الشاب الذي يجلس بجانبي. لقد أنهى حلقةً من مسلسلٍ لا أعرف اسمه لمّا وصلنا. الأمر سهلٌ وبسيطٌ إلى هذه الدرجة بالنسبة له. أما أنا، فقد شاهدت مسلسل حياتي كاملاً وبالعرض البطيء في أقلّ من ساعة. من بين الأفكار التي راودتني هي ما الذي سيحصل في حال حدث أمرٌ طارئٌ للطائرة واضطُررنا للقفز منها بينما كانت معلقةً في السماء؟ أحاول تلخيص احتمالات الموت؛ هل سيتوقف قلبي بينما أنا في الهواء؟ هل سيصادف أننا فوق مياهٍ باردةٍ سأتجمد فيها؟ هل سأكون طعاماً للأسماك الكبيرة؟ هل سأموت غرقاً بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من ألم؟ بالرجوع إلى زميل مقعد الرحلة، لقد كنتُ أسترقُ النظر إليه بين لحظةٍ وأخرى، تخيلته يفتح باب الطائرة لتهوي بنا جميعاً، ولعلّ أكثر ما أغاظني منه هو أنه، وبينما كنتُ أخشى فتح عيوني والتحديق في أيّ شيء، كان متبسّماً يراقب النافذة ويلتقط الصور.

*****

نفَّذ نفَّذ

في عالمٍ آخرٍ اسمه سوريا، صار الطيران ركناً من أركان الحياة أو فقدانها منذ قرّر النظام الأسدي أن سلاح الجو هو أداته الأنجع لقتل السوريين الرافضين لحكمه. كان حضور الطائرة في السماء، وما يزال، رمزاً لاجتثاث السوريين وعمرانهم وأحلامهم، ولا أظنّ أنّ حرباً في التاريخ كله قد عرفت عدد الطلعات الجوية التي شهدتها سوريا. يمكن أن أقول إن صورة طائرةٍ حربية أو مروحية يمكن أن تلخّص مشاهد الدمار الهائل الذي حلّ ببلدنا. وبدوره، يمكن لمن عاش تحت ضربات الطيران أعواماً أن يتصوّر عشرات ألوف الأجساد السورية التي حُوِّلَت إلى ملايين الأشلاء. الموت الذي تجلبه الطائرات يعني أن الجثة لن تُدفن كاملةً، ففي مدننا العابقة بالموت لا يوجد متسعٌ لتحليل الأشلاء ونَسبِها ومطابقتها. الموت الذي تحمله الطائرات يعني أنّ رأسك قد يُدفن مع قلب شخصٍ آخر في حال حظيت بقبرٍ تختصّ به دون غيرك. الطائرة تعني مجزرة، والمجزرة تعني أُسراً بأكملها لن تعيش مجدداً، وهذا قد يعني بدوره أمتاراً كثيرةً من المقابر الجماعية.

أتساءل، لماذا كان الناس ووسائل الإعلام ينشغلون بتحديد نوع الطائرة التي هدمت حياً وقتلت عشرات الناس، فما الفرق بين الميغ بأجيالها المتعاقبة والهيلوكوبترات وطائرات اليوشن والسوخوي إذا كانت النتيجة تلالاً من حطام الأجساد والبيوت والأرزاق؟ إنّ حضور الطائرة في حياتك يعني ارتفاع عتبة أداة القتل التي تخيفك حتى لو كانت النتيجة واحدةً. أذكر مرةً أن كتيبة المدفعية الموجودة على مقربةٍ من مدينة الميادين كانت تُلقي بقنابلها على أحياء المدينة بشكلٍ جنوني بعد أن تعرّضت للهجوم، وبينما كنت أُسرع الخطو للدخول إلى بيت أهلي لألوذ بسقفه، شاهدتُ رجلاً يخرج من الجامع المقابل، طلبتُ منه الدخول معي إلى البيت، أجابني ضاحكاً: «يابا تعودنا عالميغ، هاي المدفعية صارت ملبّس».

كنا نهتف في المظاهرات «يا بشار ويا ابن العفنة، طياراتك ما تخوفنا»، كما كانت إحدى «هوسات» الثوار، التي كانت طابعاً لمظاهرات دير الزور، تقول في مقطعٍ منها: «بالبَرنو نِحْدِر طيارة» في استحضارٍ لقصة طائرة أباتشي أميركية شاعَ أنّ فلاحاً عراقياً أسقطها بواسطة بندقيته الشخصية (البرنو) في منطقة السنيّة قريباً من كربلاء. من الهتافات أيضاً «جيب الطيارة والمدفع، غير لـ الله ما رح نركع». لقد سحقتنا الطائرات، سوّت جماجم السوريين بالأرض، لكنهم لم يركعوا.

من المشاهد التي ستظلّ محفورةً في رأسي إلى الأبد، من بين مشاهد عديدة حضر فيها الطيران، هو يوم قصفت طائرات بشار الأسد، راعي العلم والتعليم، كلية العمارة بجامعة حلب وجانباً من السكن الجامعي في أول يومٍ من امتحانات الفصل الدراسي الأول لعام 2013. كنتُ يومها قريباً من دوار الشرطة في حيّ الفرقان الحلبي. ما زال صوت الانفجارات واختراق الطائرة لجدار الصوت عالقَيْن في أُذنيَّ إلى اليوم. لم يسعني يومها سوى أن أتكوّم على نفسي على أحد أدراج كلية الاقتصاد وأبكي. أيّ عتبةٍ من الإجرام قد وصلها بشرٌ يقتلون طلاباً يؤدّون امتحاناتهم؟ يبدو السؤال ساذجاً إذا عرفنا أن اليوم نفسه من ذلك العام شهد استهداف أكثر من ثلاثمئة هدفٍ مدنيٍّ في سوريا بالطيران والمدفعية الثقيلة. هؤلاء المجرمون ليسوا بشراً. من بين الأكاذيب التي حاول النظام ترويجها لشرح طبيعة المجزرة التي تسبّب بها طيرانه هي أنّ أسباب الانفجار بالوناتٌ وصواريخ حرارية أطلقها الإرهابيون. بالونات حرارية يا أولاد الكلب!

مما لا يغيب عن البال أيضاً صورةٌ قريبة العهد للعسكري رامي البراميل، أو بالأحرى صورة صباطه التي التقطها من طائرةٍ مروحية كانت تقصف خان شيخون. هذه الصورة تكثيفٌ بالغٌ لمنهج جيش الأسد: أيها السوريون؛ حيواتكم وبيوتكم وأحلامكم تحت البوط.

*****

يخشى عددٌ من السوريين، ومن بينهم أنا، من الطائرة المروحية التي يستعملها النظام لإبادة الناس أكثر من الطائرات الحربية. المروحي يعني البراميل العمياء التي لا تُستعمل إلا لأنه يُراد منها أن تقتل أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس، وأن تدمّر أكبر قدرٍ من البيوت. البرميل هو أشد الأسلحة التي عرفها البشر خساسةً ووضاعة. إنه يشبه النظام الذي ابتكره؛ نظام البرميل، هو صنوه ومكافئه التعريفي. أما بالنسبة للطيران الحربي، فثمة انطباعٌ كان سائداً بأنه قادرٌ على تحديد الأهداف، وبالتالي لن يوزّع الموت عشوائياً، وقسمٌ من العتاد المُستخدم فيه قديمٌ وتالف. كان ذلك تصوّراً قديماً، فالأسلحة التالفة التي كنا «نخبئها» لإسرائيل نفدت. اليوم عتادنا جديدٌ وقاتلٌ نخبّئه في صدور السوريين على صيغة شظايا حارقة، وما تعجز عنه طائرات الجيش الباسل ستتكفل به طائرات روسيا.

إزاء كلّ ما فعله الطيران بأهلنا، هنالك بشاعةٌ جبلت قلوب خصومنا، وصلت بهم إلى حد أن عيّرونا وعابوا علينا قليلاً من الفرح الذي يمسّ قلوبنا عقب إسقاط الطائرات «التي دفعنا ثمنها من جيوبنا»! نعم هنالك من عيّرنا بذلك، هذه ليست نكتة! ولكن، ألم يكن لهؤلاء أهلٌ وأحبابٌ سحقت رؤوسهم الطائرات!

في الشمال السوري، وتحديداً في إدلب، انتشر عددٌ كبيرٌ من «مراصد الطيران» التي تراقب تحركاته والوجهات التي ينوي تنفيذ طلعاته ضدها من خلال فكّ شيفرات الأوامر الصادرة بشكلٍ رئيسيٍّ عن مطار حماة العسكري، فضلاً عن مراقبة تحركاته في السماء، ونتيجةً لذلك انتشرت أعدادٌ كبيرةٌ من أجهزة الاتصال اللاسلكية المعروفة سوريّا بالقبضات في أيدي المدنيين. يمكنك أن تستعلم أيضاً، بواسطة القبضة، من العاملين في المراصد إذا كان طريقك من بلدةٍ إلى أخرى خالياً من الطيران. مع مرور الوقت، صار لبعض المراصد مجموعاتٌ في تطبيق واتس آب يزوّدون من خلالها الناس بمعلوماتٍ عن حركة طيران النظام في الأجواء. أحد أصدقائي كان يستغلّ القبضة ليلاً ليُطرب الناس بغنائه، فقد يخلو البيت من مسجلةٍ صغيرة، لكنه لا يخلو من قبضة.

السوريون الذين عاشوا في مناطق سيطر عليها تنظيم الدولة هم الذين خبروا حمم أكبر عددٍ من الطائرات التي تعود ملكيتها لجيوش نصف دول العالم: دولة الأسد وروسيا وفرنسا وأميركا وغيرها. يقول الناس الذين عايشوا تلك المرحلة إن الرعب الذي يسببه اختراق الطائرات الأميركية لجدار الصوت لا يقلّ حجماً عن الغارات التي تنفّذها؛ إنها نفخة إسرافيل في الصُّور. بإمكان عددٍ ليس بقليلٍ من السوريين اليوم تحديد نوع الطائرة الموجودة في السماء من صوتها، فالروسي ليس كالأميركي وليس كطيران النظام.

أما الطائرة المدنية التي أخافها اليوم، فقد ظلّت حلماً عصيّ المنال بالنسبة لملايين السوريين الذين طردتهم الطائرة الحربية من بيوتهم نحو العدم. كم من السوريين حلموا، وما يزالون، بأن تقلّهم طائرةٌ إلى حيث يجدون الأمان بدلاً من أن تتعلق أرواحهم بزورقٍ مطاطيٍّ لا تزيد نسبة النجاة فيه عن نسبة الموت؟ الطائرة خلاصٌ منشودٌ لم ينله إلا قلةٌ قليلةٌ من السوريين، والطائرة المتجهة إلى الأمان عصيّةٌ على السوري، تماماً بعكس الطائرة التي حوّلت حياته إلى جحيم. ربّما أخاف من الطائرة، ولكنه خوفٌ سينقضي بعد عددٍ قليلٍ من الرحلات، بينما سيظلّ كرهي لها مقيماً إلى آخر عمري. ما الذي كان سيحصل لو ظلّت الطائرة ذلك الحدث السنويّ العابر الذي يبشُّ له الأطفال!

ليس من الجيد أن تكون سورياً وتلعب مع نفسك لعبة المنهج التاريخي، ذلك مؤلمٌ جداً، لا سيما أنك ستصلُ إلى نتيجةٍ مفادها أنّك لا زلت تعيش كلّ بيانات الماضي في الزمن الحاضر، وأنّ هنالك كثيراً من الأمور التي كنت تتعمد تجاهلها قد قفزت إلى صدارة قلبك وعقلك.