في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، صرّحت الحكومة الكندية عن نية بلدها استقبال مليون مهاجر على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة. تناقل الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذا الخبر السعيد عن لسان الرئيس الكندي الوسيم المحب للاجئين جاستن ترودو، وأنهوا العام 2019 وكلّهم أمل بإمكانية تحقق الحلم، لا سيما السوريين الذي قدموا فعلاً على برامج الهجرة أو اللجوء إلى كندا، وما زالوا حتى اللحظة ينتظرون اتصالاً هاتفياً من السفارة يبشرهم بالموافقة على ملفّهم. لكن، وبالعودة إلى النسخ المتعددة من الخبر، نجد أنه قد تم استبدال كلمة مهاجرين بكلمة لاجئين عشوائياً في حالات كثيرة، في حين أن التصريحات لم تتضمن تحديداً أو تفصيلاً حول نسبة اللاجئين من بين المهاجرين الذين تستعد كندا لاستقبالهم، كما لم تتضمن أي تفصيل آخر يخصّ نسب توزعهم على جنسيات العالم أو غير ذلك من التفاصيل.
وبالرغم من الترحيب الذي أظهره الرئيس الكندي باللاجئين السوريين في مناسبات عدة، إلا أنه وكما يعرف اللاجئون السوريون، فإن هذا الترحيب مشروط بأرقام ونسب ومناخ سياسي، وهي عوامل تتغير تبعاً لحاجات الدول المستضيفة بما يتوافق مع مصالحها، سواء كان في كندا أو غيرها من الدول التي استقبلت اللاجئين. وعلى أي حال، فقد اعتاد اللاجئون السوريون في سنوات لجوئهم الأخيرة هذا الوضع المتقلب وغير المستقر، وبعد أن نجوا من الموت على طريق لجوئهم براً وبحراً، بدأت تواجههم التعقيدات البيروقراطية غير المنتهية من أجل استصدار أوراق ثبوتية أو إقامات شرعية في البلاد التي لجأوا إليها، وتحسين ظروفهم المعيشية الرهينة بظروف سياسية واقتصادية أكبر من منهم، وتفوق طاقتهم على التحمل أحياناً.
كان العام 2019 عاماً عسيراً على اللاجئين السوريين، ومع العلم أن أعداد اللاجئين السوريين الواصلين حديثاً صارت خلاله أقل مما كانت عليه في الأعوام السابقة، إلا أن أوضاع اللاجئين المسجلين وغير المسجلين واجهت خلال العام المنصرم مجموعة من التهديدات والتعقيدات والقوانين الجديدة التي تصدر من هنا وهناك من أجل تقييد حركتهم ونشاطهم، بالإضافة إلى لحظات أخرى حرجة بدأت تواجههم في بحثهم عن الاستقرار، وسط مناخ عام متشنج سياسياً واقتصادياً من وجودهم أصلاً في الدول التي لجأوا إليها، وفي ظلّ تخبط دولي وفشل في إدارة قضية اللاجئين على كافة المستويات، واشتباكها بشكل رئيسي مع صعود اليمين المتطرف في المشهد السياسي العام.
يمكن أن يتصدر لبنان قائمة البلدان الأسواً بالنسبة للاجئين، حيث أن سياسات الدولة اللبنانية تجاه اللاجئين السوريين اتصفت، وفي مراحل مبكرة منذ بداية الثورة السورية، بالرفض والتضييق عليهم، وذلك بدءاً من الشروط المعقدة التي فرضت على السوريين الراغبين أو المضطرين لدخول الأراضي اللبنانية، وصولاً إلى الأوضاع المعيشية الكارثية في مخيمات اللجوء وصعوبة حصول هؤلاء اللاجئين على أوراق قانونية تثبت لجوئهم أو هويتهم. وقد شحنت هذه السياسات بعضاً من أوساط الشارع اللبناني، التي كانت تجتهد بين حين وآخر في ممارسات أقل ما يمكن أن يقال عنها عنصرية وفاشية بحق السوريين، وذلك إما من خلال تزايد اللافتات التي تحذر السوريين من الخروج من بيوتهم بعد الساعة السادسة مساءً في بعض المناطق، أو من خلال حوادث عنيفة تضطهدهم بدنياً ونفسياً، ما دفع بعضهم إلى العودة إلى الأراضي السورية هرباً من العنصرية والظروف بالغة القسوة التي يتعرضون لها، وليس طوعاً كما صورت بعض وسائل الإعلام اللبنانية، ذلك فضلاً عن ثبوت مئات حالات الترحيل القسري، التي تحدث عنها جهات صحفية وحقوقية عدة.
في العام 2019 تصاعد التضييق على اللاجئين السوريين في لبنان، وتحديداً مع التصريحات التي أعلن فيها الرئيس اللبناني ميشال عون عن ضرورة عودة السوريين إلى بلادهم التي صارت آمنة، والتي تلتها تصريحات الوزير جبران باسيل حول العمالة السورية والفلسطينية، ومفادها أن اليد العاملة اللبنانية أولى بالعمل في لبنان من اليد العاملة الأجنبية. لم يترتب على هذين التصريحين إجراءات قانونية جائرة فحسب، من إلقاء القبض على سوريين أو تعرضهم للإذلال من قبل السلطات اللبنانية بسبب ممارستهم حق العمل، بل أيضاً ساهم هذا النوع من التصريحات في شرعنة خطاب الكراهية والعنصرية ضد اللاجئين السوريين في لبنان، وهو الخطاب الذي حاولت مؤسسات وفعاليات المجتمع المدني اللبناني مواجهته ومقاومة مخاطره، التي كان يمكن أن تنفجر في أي لحظة بسبب الاحتقان الشعبي الذي يقابله خوف وتوتر من طرف اللاجئين.
أما في تركيا، فقد واجه اللاجئون السوريون حملات ترحيل واعتقالات تعسفية تركزت في مدينة اسطنبول. وتناقلت وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي أخباراً مكثفة خلال شهري تموز وآب من العام 2019 عن اعتقال كل من لا يحملون بطاقة الإقامة المؤقتة «الكيملك»، أو من يحملون بطاقة صادرة عن غير ولاية اسطنبول، ومن ثم ترحيلهم إلى الشمال السوري، أو بأفضل الأحوال ترحيلهم إلى الولايات التي استصدروا منها وثيقة الكيملك. وقد ترافقت عمليات الترحيل تلك في بعض الحالات مع ممارسات عنيفة ضد اللاجئين المقبوض عليهم. وبالإضافة إلى هذه التشديدات القانونية، كان من أبرز القرارات الجديدة التي صدرت ضد اللاجئين في تركيا توقف الدولة التركية عن تقديم الخدمات الطبية مجاناً للاجئين السوريين، حيث صار عليهم أن يدفعوا مبالغ لقاء الخدمات الطبية والأدوية. وتزامنت كل هذه الضغوط من أجل إعادة اللاجئين السوريين قسراً إلى بلادهم مع اتفاق سياسي عسكري بين تركيا والولايات المتحدة، أسفر عن عملية عسكرية تركية في الجزيرة السورية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، تعتبر تركيا أن الهدف منها إقامة منطقة آمنة على الحدود السورية التركية، وهو ما يعني وفق الرؤية التركية نقل عشرات آلاف اللاجئين السوريين إلى تلك المنطقة، وفي استمرار لسلوك الدولة التركية حيال اللاجئين السوريين، الذي يتعامل معهم بوصفهم ورقة ضغط سياسي.
في أوروبا، اتخّذ التخبط والضغط الذي عانى منه اللاجئون السوريون أشكالاً أقل عنفاً بالمعنى المباشر، لكنه لا يقلّ استفزازاً من الناحية النفسية، وتحديداً في ألمانيا المنقسمة سياسياً حول قضية اللاجئين، حيث انتشرت في شهر نيسان (أبريل) 2019 في العاصمة الألمانية برلين ملصقات إعلانية تحمل رسائل عنصرية، وضعتها «حركة الهوية» اليمنية الألمانية، وتحثّ على عودة اللاجئين السوريين بحجة أن الأراضي السورية صارت آمنة، وأن الحرب قد انتهت. هذا وقد سبقتها إعلانات تشجّع على برامج عودة اللاجئين الطوعية إلى الأراضي السورية، وتمويل السنة الأولى للعائدين إلى سوريا من أجل البدء بحياتهم من جديد هناك. وترافقت هذه الممارسات المستفزة والضاغطة مع اقتراح مسودة قانون من وزير الداخلية الألماني زيهوفر، حمل اسم «قانون العودة المنظمة»، يهدف إلى إيجاد ذريعة قانونية لترحيل أكبر عدد ممكن منهم، لكن صعوبة تحديد المناطق الآمنة في سوريا، ومع الأخذ بعين الاعتبارات تعقيدات الحالات الفردية للاجئين الهاربين من النظام أو من خطر الاعتقال أو من خدمة العلم، كانت أبرز العوائق التي حالت دون إمكانية التوصل إلى اعتماد قرار رسمي بهذا الخصوص.
لا تتوقف برامج العودة الطوعية على ألمانيا فحسب، بل أيضاً في الدنمارك انتشرت دعوات رسمية استهدفت اللاجئين الجدد، وحتى الذين أتوا إلى الدنمارك منذ عقود طويلة، ووعدت بتقديم مساعدة مالية تصل إلى 20 ألف يورو للشخص البالغ والراغب بالعودة إلى بلاده الأصلية. يقف وراء برامج العودة الطوعية هذه بشكل رئيسي حزب الشعب الدنماركي اليميني، ولاقت هذه الدعاوى استجابة طفيفة من اللاجئين السوريين، الذين من المرجح أن خيار العودة بالنسبة لهم كان أرحم من صعوبات التأقلم مع الحياة الجديدة والشروط الصعبة لدخول سوق العمل وتأسيس حياة جديدة، أو انتظار إجراءات لم شمل عائلاتهم البطئية. ويمكن أن ينسحب هذا المناخ المستفز على أوضاع اللاجئين في أوروبا عموماً، حيث من الممكن أن تختلف بعض الشروط والتفاصيل المعيشية والقانونية في لجوئهم من بلد لآخر، لكن تجمعهم وحدة الحال والظروف بالغة التعقيد التي يختبرونها بين حين وآخر.
هذا على الصعيد الممارسات المباشرة والقوانين، لكن ذلك لم يكن منفصلاً عن المستوى الثقافي والاجتماعي الذي أثارته قضية اللاجئين في العالم، وما طفا على السطح معها من جدالات أعمق وأقدم، تدور بشكل أساسي حول استخدامات سياسات الهوية، التي تؤثر في سياسات الاندماج في أوروبا، وتفسّر جانباً من العنصرية التي يتعرض لها اللاجئون في بلدان اللجوء. ومن جهة أخرى وجد اللاجئون أنفسهم في معركة طويلة الأمد مع أشكال تمثيلهم السياسية والاجتماعية والثقافية، التي لا تكتفي في كثير من الأحيان بتأطيرهم اجتماعياً واتخاذ قرارات مصيرية نيابة عنهم، بل ترسم لهم هويات جديدة في المجتمعات الجديدة، لا تتوافق مع تطلعاتهم أو مع رغباتهم بالضرورة.
لكن السؤال الأهم يبقى متعلقاً بما ينتظر اللاجئين السوريين في العام 2020؟
يمكن لمن يتابع أخبار اللجوء أن يدرك كم العوائق الشائكة التي تنتظر اللاجئين في المستقبل، على المستوى الأوراق والإقامات وكل ما يتعلق بتمثيلهم القانوني في الدول التي لجأوا إليها، لا سيما اللاجئين غير المسجلين منهم وما يلاحقهم من تهديدات الترحيل، وذلك في ظل الترويج لسوريا الآمنة، والدعوات لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، وزيارات أعضاء الأحزاب اليمينية المتطرفة للنظام ولسوريا في سبيل إثبات انتهاء الحرب. كما يشمل الخطر بشكل أشد اللاجئين المحتملين الهاربين من الحرب المستمرة حتى الآن في سوريا، والذين يرزحون تحت ضغط هائل من التحولات السياسية والعسكرية التي تؤثر عليهم بشكل مباشر، والتي من المتوقع أن تدفعهم للجوء إلى دول الجوار الأقرب (تركيا أو لبنان)؛ دول الجوار حيث يواجه اللاجئون مستوى آخر من الصعوبات في ظل انعدام أي أفق لأي قرار يقضي بمنحهم إقامات نظامية، ما يعني أنهم مهددون دائماً ودون تمييز بحملات الترحيل التعسفي.
أما بالنسبة للاجئين المسجلين الذين حصلوا على إقامات لجوء، فهناك مستوى آخر من الصعوبات في مرحلة ما بعد النجاة إن صح التعبير، سواء على المستوى الاجتماعي في علاقاتهم الإنسانية مع الآخر السوري أو الأوروبي، أو على مستوى علاقة كل فرد مع ذاته بعد ما شهدته من تغيرات وارتجاجات عنيفة، أو على المستوى الاقتصادي الذي يشمل صعوبات العمل وتعلم المهارات المختلفة الجديدة التي تناسب أسواق العمل، بما فيها أيضاً تعلم اللغات الأم في دول اللجوء وغيرها من التحديات المعيشية، التي تتطلب في المراحل المقبلة جهداً مضاعفاً بالنسبة للاجئين الذين تخطّوا صعوبات اللجوء القانونية، وبدأت عندهم صعوبات البحث عن الاستقرار.