في تغريبتي، منحتني فرنسا فرصة الاحتفال للسنة الرابعة على التوالي بيوم الموسيقى، الذي أعتبره حالياً عيديَ المفضل. تضج الساحات بالغناء والرقص والعزف، وتصير الشوارع منصّات للفرح الجماعي. لكن ما لن أنساه هو عيد الموسيقى الأول لي في دمشق! ذاك العيد الذي رعته السفارة الفرنسية في حديقة تشرين العام 2004، حيث غنت أختي مع فرقتها التي تعزف الميتال. في ذاك اليوم، عزفت بعض الفرق في حديقة تشرين، وكانت من بينهم فرقة أختي. امتلأت الساحة بجمع ميتالجيّ حاشد، وقد دعتنا يومها أختي للحضور مع أمي. كان واضحاً اختلافنا المضحك عن الحشد الميتالجيّ السعيد بحصوله على فرصة الاحتفال في ضوء النهار، كما يتوجب لو كنا في عالم آخر. أخذت أختي تُغني Zombie متلعثمة في البداية أمام الحشد، وتحت نظرات والدتي التي بدت لي وقورة مقارنة بضوضاء الشباب الذين بدأوا بالـ«تبنيك». في تلك اللحظات، وعيناها تبحثان عن الأمان، وقفت صديقتنا وبدأت تساعدها على تذكر الكلمات، بترديدها بحركات شفاهها. عندها استعادت أختي ثقتها، وانطلقت تغني بصوتها الجميل. لم تكن أختي محترفة ولم تسمح لها ظروفنا بتعلّم الغناء، لكني شعرت بفخر كبير يومها، وتمنيت أن أذوب في حلاوة تلك اللحظة حيث لا شيء يعلو على صوت غنائها وموسيقى Cranberries.
هذا النوع من الموسيقى ما يزال محور جدل إلى هذه اللحظة، إذ أن صراخ السيدات في هذا النمط الفني يستمرّ في إثارة استغراب البعض. يقدم هذا الفيديو رد فعل مشاهدين مستغربين من صراخ Growling، مغنية الميتال في فرقة JINJER، التي تستطيع التنقل من طبقة غناء رقيق إلى طبقة صراخ قوي. يستنكر بعضهم أن تتمكن فتاة برقتها من إصدار صوت يرتبط في رأيهم بطبقة ذكورية، لا يمكن للنساء إصدارها.
أستذكر مع هذا الفيديو ردة فعلي لمعرفة أن أختي بدأت الغناء في فرقة ميتال في دمشق في الـ 2003. كيف نرسم للآخرين معايير معينة نفرضها عليهم دون وعي، بحسب ردة فعلنا على ما يرغبون أو يحلمون به. لم يكن لي يوماً ذلك الولع بالموسيقى، كنتُ الأخت الكبرى المتشنجة، وكانت أختي تلك الصغيرة المليئة بالطاقة مرهفة الحس. في الظهيرة، بعد عودتنا من المدرسة في ضاحيتنا المنسية في عدرا قرب دمشق، وقبل عودة أمي من العمل، كان منزلنا يعبق بألحان الموسيقى التي تختارها أختي. كاسيتات مُدمَّرة ومسجلة مهترئة نرقص عليها ونحن نرتب الفوضى التي أحدثناها قبل مغادرتنا صباحاً. عند حصولنا على بوستر جديد لـ Backstreet Boys أو Boy Zone، كان يغمرنا فرح عارم، نُزيّن جدران غرفتنا بها رغم امتعاض أمي من رؤية هؤلاء الشباب الشقر بسراويلهم المتهدلة وصدورهم العارية.
في فترة التسعينات، وقبل ثورة الستلايت الذي ملأ أسطح المدينة، لم يكن القليل الذي تعرضه محطاتنا يكفينا. كنا ننتظر بتلهف ما يقدمه لنا نضال الوسيم صاحب محل الكاسيتات الكائن، فيما يسمى، بالجزيرة الأولى من الضاحية، حيث لا بحر ولا خضرة في محيط صحراوي ملقى على أوتوستراد حمص-دمشق. تضحكني فكرة أننا كنا كـ fan للفرق والموسيقى الغربية نشعر بتغريبة عمّن هم في سننا من أصدقاء المدرسة، المنقسمين بين معجبي مصطفى قمر وأولئك المعذبين عاطفياً من محبي كاظم الساهر. كنا من رواد الأمركة، ومن معجبي الأفلام والثقافة المؤمركة، رغم ادعائنا عكس ذلك حسب مراجعتي للأمور. وبرغم عدم توافر هذه الأفلام والتسجيلات، كنا نتابع بتعطش ما تقدمه لنا المحطة الحكومية التي تُعرف بالقناة الثانية. سهرة الخميس مع أمي، ونحن نقضم البزر ونتابع فيلماً أجنبياً غير حديث نسبياً، هو طقس نهاية الأسبوع المعتاد لعائلتنا الصغيرة. كما كان يشمل متابعة برنامج الأغاني الأجنبية المُسمّى Rainbow، وهو البرنامج الأسبوعي الوحيد الذي يبث بعض الأغاني الأجنبية، ويكررها بشكل دوري حتى نحفظها عن ظهر قلب. أمي كانت تفضل القناة الثانية الأردنية، التي كانت تقدم برامج أجنبية أحدث نسبياً؛ كنّا نعيد توجيه اللاقط لاستقبال بثّ تلك القناة.
كانت أختي تصرف جزءاً من طاقتها في غناء وديع. صوتها العذب لا يتفق مع طبيعتها الصبيانية المشاكسة التي تتسبب لها بمتاعب مع محيط عدائي تجاه الأطفال. يكبر أطفالنا في شح الحدائق العامة وفي ظرف اجتماعي يطالبهم بوعي مبكر يثقل على طفولتهم التعامل معه. في الموسيقى، كانت تجد مساحتها الخاصة، وتشرد بخيالها بعيداً عن واجبات لا تنتهي. لم تكن الموسيقى بجميع الأحوال جزءاً من قائمة الأنشطة التي ترعاها والدتنا، وكذلك لم يتوفر مثل هذا النشاط في ضاحيتنا الملقاة على ناصية الأوتوستراد. فبينما كانت القراءة مَنفذي، كانت الموسيقى ملاذها، علّنا نجد لنا ملجأً، في فترة عمرية نعجز فيها عن التعبير عن ذواتنا.
جزءٌ من ثقافتنا الموسيقية الضئيلة في أواخر التسعينات، في الموسيقى الغربية أو ما يصلنا منها، كانت ترتبط بفرقة Linking Park، إحدى فرقها المفضلة في فترة الجامعة في بداية الألفينات. شاركتُها الإعجاب بهذه الفرقة، وبفرقتيّ Cranberries وEvanescence، ولكن لم أستطع في ذلك السن أن أستسيغ الـ heavy metal. مثل أغلب الأطفال من عائلات الطبقة الوسطى ذات الفكر اليساري، أذكر أن الأغاني الثورية طبعت ذاكرتنا؛ أغاني مارسيل «ياعلي نحن أهل الجنوب»، وجوليا بطرس «منرفض نحن نموت»، تلك الأغاني التي يصيبني مغص معوي عند تذكرها اليوم. أكثر ما تسبب لي بتروما حقيقية من ذلك الزمن، الموسيقى الكلاسيكية التي كان يستمع لها أحد أقربائنا، في طقس يشبه الجنائز، نُجبَر جميعاً فيه على التزام الصمت وعدم إصدار أي صوت. هذا القريب لم يمتلك من الحس الموسيقي سوى ديكتاتورية قمعنا ومنعنا عن الحركة، فأصابنا برعب من بيتهوفن وأي سيمفونية مباغتة. وبالتأكيد، لا ننسى قمعية النظام الذي كانت تحاصرنا قناته الرسمية بأغاني فيروز صباح مساء، وفي المناسبات الرسمية، علماً أن ذلك لم يلغي محبتي لفيروز. وفي ذاك الخواء الموسيقي، من حسن حظي أن أختي كانت تمدني بقليل من دفء، فوجدت الموسيقى بتنوعاتها طريقها إلى بيتنا من خلالها.
في إحدى سنوات الجامعة في العام 2003، بعيداً عن رقابتي أنا وأمي، التي كانت غالباً ما تقف ضد المشاريع غير الدراسية، شاركت أختي كمغنية رئيسية في فرقة ميتال، وهو ما أصابني بصدمة، أعزو أسبابها الآن إلى ذاك النوع من التعليم الإيديولوجي الذي يصنف الفنون إلى فن سخيف وآخر راقٍ! أو ربما لأنني مثل جميع الجهلة أخاف مما أجهله؟ أشعر في هذه اللحظات بالسعادة أنها امتلكت من العناد ما يكفي لتتجاهل استغراب الأخت الكبرى لتستمر بمشروعها. وعلى طريقتنا في سوريا بالتسميات، صارت أختي ميتالجية كما نلقب من يغني في فرقة metal. فرقتها هي مجموعة من شباب الجامعة، أغلبهم تعلّم العزف سماعياً، وأتقن تقليد أسلوب الفرق الغربية. عزفت هذه الفرق موسيقى غربية، ولم تقدم إنتاجاً خاصاً بها في أغلب الحالات. لم تجد أختي الاهتمام الكافي بموهبتها ضمن ظروف عائلتنا التي كانت والدتي المعيل الأساسي فيها، لكن إيمان أصدقائها بصوتها أعطاها مساحة لم نستطع منحها إياها.
في باب شرقي وغيره من أحياء دمشق القديمة، شكلت ثقافة الكافيه والبارات، خاصة مع بداية الألفينات، عامل جذب للشباب من كافة فئات المجتمع، فقد قدمت جواً منفتحاً يجمع السهر والغناء، وصارت بعض البارات تعطي مجالاً بسيطاً لأصوات شابة للغناء فيها. ورغم أن طابع الغناء كان يشتمل على الغناء الشرقي الذي يصاحبه العود، لكن بعض البارات سمحت لأصوات تقدم الغناء الغربي بالظهور. ومما كان غريباً، وفي حفل رأس السنة في العام 2003، وعلى غير عادة البارات التي تقدم موسيقى البوب العربي مثل أغاني نانسي عجرم وغيرها، أن أختي وعصابتها وجدوا مساحةً لهم في بار «كهف بعل»، الذي أعطاهم فرصة عزف موسيقى الميتال في جو اقتصر على محبي هذا النمط من الموسيقى.
كان الميتالجيون في الجامعة يتعرضون للتنمر بسبب أشكالهم وشعرهم، وكان البعض يدعي أنهم عبدة شيطانِ! مجموعة من الشباب تملأ وقتها بالموسيقى وشغفهم بها، يحاصرهم المجتمع بعنف ويقوم بتجريم رغباتهم. لم يكن حظ الميتال كما حظ موسيقى الروك البديل، الذي كان أحد رواده فرقة كلنا سوا، قبل أن تركز على التراث السوري وتقديمه بمزيج مع الموسيقى الغربية، فقد تم النظر للميتالجيين بحالة من الشك من قبل المجتمع السوري. الميتالجيون في المقابل، كانوا يتجمعون ويعبرون عن غضبهم بضجيج موسيقاهم. رسائل يتبادلها ميتالجيّ من اللاذقية مع ميتالجيّ من دمشق حول اجتماعات وغضب يطلقونه بعزف غيتار إلكتروني مجنون. لم يكن هؤلاء الشباب جاهلين بالاضطهاد المضاعف الذي يعيشونه، فإلى جانب عدم القبول المجتمعي لهم وتنميطهم وتكفيرهم، كان الأمن الجنائي يتابع هذه التجمعات عن قرب ويحقق مع أعضاء الفِرَق. في العامين 2003 و2004، كثيراً ما كان يتم توقيف أعضاء الفرق والإساءة لهم. ويقوم الأمن باتهامهم بالمثلية، والتجمع عند المقابر، وشرب الدماء، وعبادة الشيطان، وكثير من الصور النمطية والإساءات التي قد تُعرّض صاحبها للإقصاء الاجتماعي والتهميش.
وقد جاء هذا التعنيف المجتمعي غالباً بسبب أشكالهم المختلفة، شعورهم الطويلة وارتدائهم الأسود، وبسبب ما توحي به موسيقى الميتال من عنف، وذلك للمتلقي غير المعتاد على هذا النمط. ولم تساهم المسلسلات السورية بتحسين صورة هذا الفن ورواده، فقد جاءت مسلسلات، مثل الخط الأحمر، لتعزز الوصمة ضد فِرَق الميتال في سوريا، إذ تم تنميط الميتالجيين بتعاطي المخدرات وربطهم بالإصابة بمرض الإيدز. في الحلقة الأخيرة من المسلسل، يقدم فريق العمل سيمفونية وطنية تجمع الميتال والأغنية الوطنية وأغاني التراث في مزيج متلاحم مصهور. هذه السيمفونية تدّعي التنوع وانسجام العناصر الموسيقية المختلفة، في ترميز لوحدة وطنية لا تطابق الواقع الذي يتم فيه اضطهاد الأفراد لمجرد اختيارهم نمطاً مختلفاً من الموسيقى للتعبير عن الذات!
كان للميتال حضور أقوى في مدينة حلب. من الفرق الحاضرة في ذاك الوقت فرقة Just Pain وفرقة Nuclear Dawn وغيرهما من الفرق. وفي دمشق كانت فرقة Winter Thorn وBlack Castle والمزيد من الفرق التي لا تتسع هذه الشهادة لذكرها. في حفلة في سينما راميتا، عزفت فيها فرقة Just Pain التي من بين عازفيها، خالد عمران، حضر نحو ألفي شخص ينتمون لأعمار وطبقات مختلفة. كانت تجارب الفرق الموسيقية يغلب عليها طابع عزف أغاني الفرق الغربية الكبرى مثل Metallica وغيرها من فرق الـheavy metal. رافق هذا الحضور كما العادة، حضور أمني، انتهى باعتقال مجموعة من الشباب الذين أخذوا بالتخريب على الحفل والفرق المشاركة وخلق حالة من الفوضى بتكسير الأثاث وقاعة الحفل. هؤلاء الشباب، بحسب ماأخبرني به عمران، لم يكونوا راضين عن عزف الفرق المشاركة، إذ اتهموها بعدم مجاراة الفرق الغربية في العزف بل بمحاولة تقليدها بشكلٍ أعمى. في حزيران (يونيو)، وبذريعة عبادة فرق الميتال للشيطان، تأهبت الأجهزة الأمنية واعتقلت كثيراً من الميتالجيين، وقد تم اعتقال قسّ بالخطأ لارتدائه الأسود!
بحسب عمران، كان الميتال مَنفذاً له يعبر من خلاله عن غضبه وانفعالاته، ولم يكن سوى نمط من الموسيقى يعطيه هو ومحبي هذا الفن مساحة شعورية عالية. وقد عبّر عمران عن أسفه لعدم تفهم مجتمعه لحاجة الشباب لهذا النمط من الموسيقى، الذي لا يعدو كونه أحد وسائل التعبير. عشقه للموسيقى بكل أشكالها دفعه للتجريب، فلم يكن راضياً عن استمراره بتقليد الفرق الغربية دون السعي للابتكار. ومن جهة أخرى، كان يشعر بتنمر بعض زملائه من محبي الميتال عند معرفتهم لحبه للطرب والفن الشرقي موسيقى أم كلثوم. فقد كان بعض الميتالجيين متعصبين لهذا النمط، وكردّ فعل على عنف المجتمع ضدهم، قام بعضهم بإقصاء محبي الأنماط الموسيقية الأخرى.
فيما بعد ترك عمران فرقة Just Pain لرغبته بالتجريب أكثر والتبحر في كافة أشكال الموسيقى. عزز عمران رغبته بإثراء تجربته في عمله فيما بعد مع فرقة طنجرة ضغط، التي بدأت بحالة تجريبية منذ الـ2008 وتحولت إلى الروك. اختار الفريق هذا الاسم إشارةً إلى حالة الضغط والغليان التي تشتعل في صدور الشباب. يساعدنا تلمّس تجربة الميتال في سوريا في بداية الألفينات، على فهم حالة الغليان التي كانت تتشكل في قلب الشباب والشابات الراغبين في التغيير، والذين وجد بعضهم في الميتال طريقة للتعبير عن شعورهم بالخذلان، كما أننا نرى في عمقها آليات القمع والإقصاء والتنميط لكل من يسعى للتغيير والتنويع.
الآن، توجد كثيرٌ من الفرق التي نجحت بالاستمرار من خلال تصميم أعضائها، الذين استطاعوا تغيير النظرة التي أحاطت بالميتال في بدايات الألفينات، ومنهم أنس أبو قوس، الذي يقول في إحدى المقابلات إنه استطاع إيجاد مساحة لهذا النوع من الموسيقى من خلال تقريب وجهات النظر بين الدولة والفِرَق التي تقدم موسيقى الـheavy metal والروك. وقد تمكّن نتيجة ذلك من إقامة حفلات بالتعاون مع وزارة الثقافة ووزارة الإعلام. كما كانت أيضاً فرقة جين التي تعزف الروك، وفرقة رَواد عبد المسيح، وعدد من الفرق التي عملت على مزج الفنون الشرقية بالفن الغربي، ساعية للابتكار بعيداً عن محاولة تكرار تجارب الفرق الغربية الكبرى.
يظل ذاك الحفل المتواضع في حديقة تشرين حفليَ المفضل، فقد تعلمتُ من أختي معنى أن ننتمي للموسيقى كهوية تلغي الاختلاف. أختي منحتني احتفاليَ الأول في عيد الموسيقى. أستعيدُ صوتها تغني، وأفكّرُ في هؤلاء الذين لم نسمع بقصص تعنيفهم، وتهميش أحلامهم، في أجواء تُجرّم الابتكار والأحلام.