(١) رحلة إصعاد اللا مرئي
طَرَّسَهُ من طرَسَهُ، شُدِّد للمبالغة. طَرَّسَ الكِتَابَ: كَتَبَهُ، أَوْ أَعَادَ الكِتَابَةَ عَلَى الْمَكْتُوبِ الْمَمْحُوِّ. طَرَسَ الْخُطُوطَ: مَحَاهَا. طَرَّسَ الْجِدَارَ: سَوَّدَهُ. طَرَّسَ الشيء: أفسده. والطِّرْسُ هو الكتابُ الذي مُحِيَ ثم كتِبَ.
– كولاج تعريفات من قواميس متعددة.
«هون كان واقف شخص، بس ما عاد موجود منو شي».
ترد العبارة المفتاحية في فيلم غسان حلواني طِرسْ، _____رحلة الصعود إلى المرئيّ (2018). خلال الحرب الأهلية اللبنانية، قبل إنجاز الفيلم بأكثر من ثلاثين عامًا، شهد غسان حلواني على اختطاف والده أمام عينيْه. كبر الولد، وغُيِّب الوالد. في العام 2007، ماشيًا في أحد شوارع بيروت، خُيِّل لغسان أنه رأى نثارًا من وجه والده في ملصق لأحد معارض الصور على أحد الجدران. ورغم أنَّ الوجه لم يكن كاملًا، عرفه غسان. هو الوجه نفسه من الصورة التي ألِفها عن والده. الغريب، أنَّ شيئًا في الصورة كان مختلفًا. كأنَّ من في الصورة لم يعد الرجل نفسه. تمويه الصور خدمةً للملصق، أثار في نفس الرسَّام وصانع الفيلم غضبًا. لقد أدخل تراكم الوجوهِ المفقودينَ في طور ثانٍ من الإخفاء، بعد اختفائهم الأول. لحظتها، عرف حلواني، وقرَّر، أنه سيعمل يومًا ما على استرجاع هذه الوجوه.
في العام 2013، بعد ست سنوات من قراره الذهني المدفوع بغضب آني، وبعد أن شارك في ورشة عمل عن المقابر الجماعية، بدأ حلواني العمل على فيلمه الذي سيُعرض بعد أعوامٍ خمس. بدأ بلا خطوات محسوبة. قرَّرَ أن يُفتِّش عن الملصق على جدران بيروت، وأن يوثِّق عملية نبش الجدران. بعد نبش إحدى عشر جدارًا عثر حلواني على جدارين يحويان الملصقات. ظهرت الوجوه وتوقَّف العمل. فشل حلواني في المضي بمشروعه لفترة. ظهر اللا مرئي وكان ذا سطوة. لقد كان نبش الحائط إجابة عن سؤاله: كيف نمثّل الغياب والغائبين، الحاضرين في عائلاتهم ومجتمعاتهم؟
(٢) لكن ماذا ترى؟
هكذا إذن يموتون.
يا إلهي.
يا إلهي.
– هدى بركات، حجر الضحك
بالطريقة نفسها، انطلق حلواني لصناعة باقي أجزاء فيلمه: وضعَ أسئلة تهمه، وبحثَ وراءها.
في بداية الفيلم، نرى صورة ثابته لمساحة في منطقة المدينة الرياضية ونسمع حوارًا بين حلواني والمصوِّر الصحفي مملوءًا بفترات صامتة كافية للتمعن في فضاء الصورة. يسأل حلواني المصوِّر عمَّا يراه في الصورة أمامه. «هون كان واقف شخص، بس ما عاد موجود منو شي»، يقول حلواني. تظهر بضعة عناصر في الصورة على مهل رادمةً فجوات الصمت بين المتحاورين. هذا التمهُّل يجعل المشاهد ينتظر. لكنَّ المكشوف يبقى محدَّدًا، كبابٍ مواربٍ يُفضي إلى حجرة لا نعرف ما بداخلها. وحدهما المتحاوران يريان ما لا نراه. الصورة أمامنا في الفيلم هي غير تلك التي يراها المصوِّر. «أوف كيف جبتا هاي»، يسأل المصوِّر. «إنت عطيتني ياها»، يجيب حلواني، لنعرف بعدها أنّ الصورة التقطها المصوِّر، وهو لا يتذكر.
العناصر المموَّهة في الصورة تجعل منها صورة جديدة. وصورتنا غير الصورة التي يراها المتحاوران. أمَّا استرجاع بعض عناصرها ببطء يفتتها أكثر مما يبنيها، لكنّها ينتشلها بالرغم من ذلك من ثباتها الباهت، لتعود للصورة راهنيتها حتى تكاد تقول للناظر فيها أو السامع للحديث حولها: «نحن نرى ما لا تراه، وأنت أيضًا ترى ما لا نراه».
(٣) أنا حي!
هذه يده يعرفها
عيناه تريان يده.
عيناه تريان وهذه يده مرفوعة أمام عينيه.
تحرَّك إذن جسده قبل أن يعرف. وارتفعت يده أمام عينيه.
(…)
أنا حيّ.
يبكي. يبكي. يبكي دون صوت.
– هدى بركات، حجر الضحك
يأخذ غسان في التمعن في صور المفقودين. يقصُّها عند أطرافها. يضع فوقها العدسات المكبرة ويتفحَّص أدق تفاصيلها، ثمّ ينتقي صورة جورج منها، ويعيد رسمه مُعيدًا طرح السـؤال على نفسه: كيف نمثِّل الغائبين ولا نغيَّبهم من جديد؟ رسم جورج يتتابع. الباهت بالرصاص يصير ملونًا بالأسود، من صورة شمسية أمامية، ينتج حلواني الجهات الأربع للوجه، ومن ثم للجسد. يمشي جورج، يلتفت، ويخرج من صورته الرسمية إلى البَرَاح. تُطيِّر نسمة هواء جزءًا من جاكيته، وتعيد تأكيد خروجه من الصورة الثابتة ومن التحريك الميكانيكي، ومن الغياب القسري.
(٤) زمن انتقال
لو أستطيع أن ألغي ذاتي، أولد من جديد في مكان آخر وزمان آخر؟ زمان آخر.. زمان آخر.. ربما ولدتُ في الزمان الخطأ..
– الحب والصمت، لعنايات الزيات
قبل أكثر من خمسة عشر عامًا من تجوُّل غسّان في أحد الشوارع ببيروت، سارت شاعرة في أحد شوارع القاهرة، وعثرت بالصدفة في إحدى بسطات الكاتب على رواية «الحب والصمت» لكاتبة لم تعرف عنها شيئًا. الكاتبة هي عنايات الزيات، والشاعرة هي إيمان مرسال، التي ستحقق بعد عشرين عامًا على اكتشافها هذا كتابًا عن الروائية المجهولة: «في أثر عنايات الزيات». ستستغرق كتابة الكتاب أربع سنوات تقضيها مرسال في رحلة تدقيق بين المكتوب والشفوي، والدقيق والخاطئ، والمُحتمَل والمبالغ به.
عنايات، الكاتبة صاحبة الرواية الوحيدة، أنهت حياتها قبل صدور روايتها. ونادية لطفي، الفنانة المعروفة، كانت صديقتها الأقرب. وعبر نادية، سنسمع الشفوي الباقي من حكاية عنايات. «كلنا كنا ثوريات، كانت فترة انتقال»، تقول نادية لمرسال واصفةً نفسها وعنايات والزمن الذي عاشت فيه الصديقتان. ولحاقًا بهذه الإشارة، تنبش مرسال زمنًا كاملًا، لطالما استُعيد نوستالجيًا، لكونه -بحسب المرويات الكلاسيكية- الزمن المعظَّم الذي حدثت فيه كل الأشياء، لكنه وللمفارقة الزمن نفسه الذي كتبت فيه عنايات روايتها، وانتحرت.
(٥) كاهنا ثقافة في غرفة حارة
توقف كل شيء.. تجمَّد كل معنى. تحوَّلت الدقيقة الواحدة إلى زنزانة أدبية.
– الحب والصمت، لعنايات الزيات
مرسال التي تعيش بعيدًا عن مصر، ستعود للتدقيق في شخصيات رواية عنايات وخياراتها مع كل اكتشاف في بحثها. ستجد مرسال أنَّ الرواية عن موت يومي تحاربه الشخصية النسائية (نجلاء) في داخلها. إنه زمن خاطئ ونجلاء معطلة، تبدأ أشياءَ ولا تنهيها. تنهمك قليلًا في موت أخيها، لكنها لا تلبث أن تخرج إلى الحياة، خروج لا يلبث أن يذكرها بعطب الخارج والعودة إلى داخل اكتئابي، إلى عطبها الشخصي. لكن ما الشخصي، وما العام في هذا الرواية وفي رحلة البحث عن عنايات؟ «الحب والصمت» رواية البحث عن المعنى في زمن عظيم، زمن الانتقال الذي أشارت إليه نادية. لكنَّ بحثًا عن المعنى في زمن حُسمت عظمته وهو يتشكَّل لم يكن كافيًا لتدخل الرواية قوائم الأدب العربي، ولا كتابات المرأة. فرواية عنايات ستنشر في عام الهزيمة، وسيتم اختصارها بالكتابة عن أحداثها في كتابات متناثرة هنا وهناك من قبل كتّاب أكثرهم ذكور.
مصطفى محمود، الذي قدَّم للرواية، سيتحدث عن «سيلان الرقة والعذوبة» ويترحم على «روحها النقية» و«فنها الرفيع». أما أنيس منصور سيكتب في مقالة كيف كانت عنايات تنتظر رأيه فيما تكتبه وتقرأه، وكيف أطلعته على مسودة روايتها بالرصاص وكيف شجعها على الكتابة، وكيف أعطاها ملاحظات لم تأخذ بها قبل أن تختفي.
يسرد منصور في مقالته حادثة شديدة الدلالة عن تواجده في غرفة بسفينة جوها شديد الحرارة في الطريق إلى اليمن مع يوسف السباعي عام 1963 (أربع أعوام قبل صدور الرواية)، يصف منصور نفسه في مقالته بغاندي على حافة السرير حيث يستعيد أمام السباعي جملة من رواية عنايات: «توقف كل شيء.. تجمَّد كل معنى. تحوَّلت الدقيقة الواحدة إلى زنزانة أدبية». يكتشف بعدها منصور أن السباعي يعرف عنايات وأنه قرأ إنتاجها ووعدها بالنشر، والسباعي بدوره سيخبر منصور في هذه الجلسة بانتحار عنايات قبل أسابيع، وأن عنايات لم تكن تثق بنفسها ولا تصدق أنها كاتبة موهوبة.
في زمن مقيم لم ينتقل ولم يتزحزح ولو قليلًا، يكرر هؤلاء، من ذوي الموقع المميز في ذلك الزمان منصبًا ومقروئية، أفعال المنظومة الثقافية الذكورية. فأي منهم لم يأبه في مساعدة عنايات جديًا في حياتها على نشر روايتها، وهم حتى في حديثهم وكتابتهم عنها بعد رحيلها، لا يجدون في ذكرها إلا وسيلة للحديث عن أنفسهم وعلاقاتهم ببعضهم وآرائهم.
(٦) يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر
أيتها الجميلة في النافذة، أيتها الحزينة، إلى نظرتك الشاردة البعيدة، إلى دوائر الحزن تحت عينيك الجميلتين المسكينتين، عينيك الممتلئتين تعاسة وألمًا وحزنًا، أكتب هذه القصيدة…
– من يوميات غير منشورة لعنايات الزيات
تترك مرسال التاريخ العام الذي تحدده مقالات منصور وكتابات غيره في الصحف والمجلات، وتنشغل في الحديث مع نادية. وعبر هذه الأخيرة تصل إلى من تبقى من عائلة عنايات. ستغرق مرسال في خرائط وشوارع الدقي بحثًا عن ميدان أُعدم اسمه، وستتحدث مع البوابين، وستبحث عن مصنع ألبان أسس في زمن الإرشاد القومي الذي كان هدفه صناعة المواطنين الصالحين والمواطنات الصالحات. وبين بيتي نادية وعائلة عنايات، سيتسنى لمرسال الاطلاع على أوراق منشورة وغير منشورة لعنايات، بعضها يومياتها، وأخرى تحضيرية لرواية ثانية، ما يحتِّم عملية بحث أخرى عن شخصية الرواية الثانية.
في أحد الأوراق التي اطلعت مرسال عليها: ترد عبارة غامضة: «يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر».
رحلة البحث عن قبر عنايات ستبوء بالفشل لزمن ليس قليلاً، قبل أن تكتمل دائرة اقتفاء الأثر، ويعيد الكتاب القارئ إلى المقابر في مدينة الموتى من جديد، بعد أن بدأ منها، لكن هذه المرة مع نهاية كاسرة مجازيًا للموت.
(٧) الذكرى والذاكرة
يتخطى عملا حلواني ومرسال مسألة التذكر. إنهما مفسدا حفلات، يقفزان بلا مواربة من المتن الرسمي إلى الهامش المقموع وقت حدوثه، والمبتلَع من رواية رسمية في زمن تالٍ. الذكرى شيء والذاكرة شيء آخر، لكنَّ كلاهما خيار سياسي. الأولى (الذكرى) توأم المنظومة الحاكمة سياسةً وثقافة، والثانية (الذاكرة) فعل تمرد في المقام الأول. في قفزتهما، لا ينزلق العملان باتجاه الرواية الضحيوية المعهودة، لأنَّها ستنتهي حكمًا في حدود المتاح المنظومي، أي في خانة الذكرى. يشتغل العملان خارج المتاح، حيث التساؤل نفسه نقيض الرسمي وغريمه. ولذا، لا يكتفي العملان بالمرور فوق العناصر من صور ووثائق وشوارع ومبانٍ، بل يخوضان، حلواني بشفرته وكتاباته وخيطانه حول صور المفقودين على الجدران، ومرسال بإعادة مساءلتها لكل تفصيل حول عنايات الزيات حدَّ ردم فراغات يومياتها.
استرجاع الهامش غير ممكن من دون إفساد المتن، لأن المتن لم يكن ليصبح متنًا لولا نفيه لما هو على هامشه، وبصقه له حتى خارج الدائرة، لا على حدودها. المتن هو القاتل، والهامش هو المقتول. المتن هو الطامر، والهامش هو المطمور. المتن هو الرواية الرسمية، والهامش هو الأرشيف المفقود. لذا فإنَّ استرجاع الهامش غير ممكن إلا عبر إعادة بعثه بالتخييل. نحن أمام أعمال تحاول أن تبعث الروح في المخنوق والمغيَّب بعيدًا عن ملل الخبر، وخبرية الأرشفة، ورتابة الزمن الخطي. الشعور هنا أبدى من احترام الرواية الرسمية.
يعيد كلٌ من حلواني ومرسال تعريف ما يمكن اعتباره «اقتفاء أثر» لحيوات الآخرين. مرسال تتساءل في كتابها ومع قارئها عن مشروعية وحدود ما تفعله في بحثها. هل تحصر البحث بالمتأكَّد منه، وأين يمكن التخييل، ومتى يجب التوقف، ولماذا.. تجد مرسال في ما تعلمته إليزابيث يانج بيرول خلال كتابتها سيرتي حياتي حنة أرنت وآنا فرويد ملاذًا لما تحاول فعله: «الكليشيه الذي يقصر تعاطفك مع الشخص موضوع السيرة، على أن تتخيل نفسك مكانه، يبدو لي خطأ فادحًا. التعاطف يتضمن، أن تضع الآخر داخلك، أن تصبح شخص الآخر، لكن دون أن تذيب هذا الآخر بداخلك، دون أن تهضمه. أنت حامل نفسيًا. لست حاملًا بحياة محتملة لشخص، بل، بحياة كاملة- بشخص له تاريخ. لهذا يعيش الشخص موضوع السيرة بداخلك، مما يعني أنَّ عليك الامتنان لدوره في تكوينك. هذا الوضع، هو ما يعطيك القدرة على أن تفرق بين ما تريد لنفسك، والذي قد تكون تبحث عنه في هذه الشخصية، وبين ما تريده هي لنفسها».
هذا هو الفارق بين الذكرى والذاكرة. وهذا بالضبط ما يتطلبه نبش الهامش من هلاكه. فالإهلاك، مقصودًا أم غير مقصود، هو في هوية المتن الحاكِم. ونفيُ الإهلاك غير ممكن إلا بالهجوم التخييلي، مرسال في الكتابة، وحلواني في الرسم والتحريك.