عقرب الساعات يقف عند الرابعة بتوقيت الساعة الجديدة وسط مدينة حمص، العقرب متوقف في مكانه منذ شهور، قيل إن الساعة تخربت أثناء محاولة بعض الشبان والشابات تزيينها خلال حملة «سرطان الثدي»، عندما امتلأت الجدران بالرمز الزهري لحملات مكافحة المرض. يبدو أن بعض الشبان صعدوا إلى أعلى الساعة، وحاولوا أن يعلّقوا زينة متعلقة بالحملة فكان هذا سبب تخريبها؛ لكن ذلك لا يهم، المهم أنها الرابعة دائماً بتوقيت الساعة الجديدة في حمص.
على طول شارع القوتلي، وطريق الشام، وطريق طرابلس، يمشي الناس بتثاقل مُتّجهين إلى المركز الثقافي لحضور الفعاليات التي تقام هناك. رجال، سيدات، أطفال، صبايا يرتدين ثياباً تصلح للسهرة، كعوب عالية وشفاه مطلية بألوان مغرية، شبان وشابات متشابكو الأيدي يضحكون بلا اكتراث، سيارات سوداء مفيمة يترجل منها مسلحون أمام الباب الرئيسي لمسرح المركز الثقافي لحماية شخصية مهمة ستحضر الحفل. المنظر يزيد إغراء الناس للتزاحم والقدوم، والمحافظ يأتي كثيراً للحضور أيضاً. تتصل بي صديقتي وتدعوني لحضور إحدى الفعاليات، ومع أنني كنتُ قد أخذتُ موقفاً من الذهاب للمركز الثقافي منذ سنوات، لكن الازدحام الذي رأيته مراراً على باب مسرح المركز، حيث تجمعات الناس الحثيثة الدورية هناك، أثار فضولي فعلاً. غير أن الأمر لم يكن بهذه البساطة.
في أواخر العام 2011، حَصلَ أن شاباً، كان يمشي في شارع فرعي يؤدي إلى المركز الثقافي، لكنه وقع في أيدي حاجز طيّار، وحين طلبوا منه جواله للتفتيش، وجدوا عليه صوراً للمظاهرات فاعتقلوه فوراً واقتادوه إلى المركز الثقافي، بالتحديد إلى «مستودع أو كراج» المركز، الذي استُخدم لفترة كمكان للتعذيب كما تردَّدَ حينها، بل قيل إن بعض الناس كانوا يسمعون أصوات التعذيب قادمة من الأسفل.
على باب مسرح المركز الثقافي، يقف عسكريان أو ثلاثة، أحدهم أشقر بعيون ملونة وجسد ضخم، تجاوز الأربعينات، يبتسم بسخاء للداخلين بعد تفتيشهم وتفتيش حقائبهم. فتَحَ حقيبتي ونظر إلى داخلها، ثم أزاح بارودته من على كتفه ودعاني للدخول. الصالة تغصّ بالناس عن آخرها، المقاعد ممتلئة بما في ذلك الطابق العلوي للمسرح، أسألُ سيدةً تجلس إلى جانبي وقد أحضرت أطفالها معها عن سبب حضورها، فتقول فوراً: «للتسلية»؛ أسأل أخرى فتقول إن أحد المشاركين من أقاربها وقد دعاها؛ وتقول ثالثة إن المركز الثقافي هو المكان الوحيد المتبقي في حمص للترفيه، وهو يبقى أفضل من البقاء مع الكهرباء المقطوعة. في أعلى الحائط الأمامي للمسرح عُلّقت صورتان ضخمتان لحافظ الأسد وابنه، كل واحدة في جهة، الضوء مسلّطٌ عليهما دائماً، بحيث أن بؤبؤك لا بدّ أن يراهما لحظة دخولك. انفتحت الستائر أخيراً، ظهرت صبية رقيقةٌ من يمين المسرح، ثم ظهر شاب متأنّقٌ من يساره، وبعد الترحيب بالجمهور، قالت الصبية الرقيقة وهي ترتجف: والآن نقف دقيقة «شمت» إحياء لذكرى شهدائنا، ضجَّ المسرح بالضحك حين تعثرت الفتاة بكلمة «شمت» بدلاً عن «صمت»؛ نكزتني صديقتي وقالت لي إن ظهرها يؤلمها ولا تريد الوقوف، قلت لها وأنا أيضاً، ولم نقف.
موسيقى ورقص وأغانٍ، أصوات أطفال يبكون، كاميرات كثيرة، أشخاص معتبرون كالعادة في الصف الأول، رجال الأمن يتجولون بثقة بين الناس، تحيات كثيرة للضيوف، فتيات يصرخن لعدة دقائق عند دخول مغنّ لا أعرف اسمه. يغير المغني لازمة إحدى أغانيه لتصبح موجَّهة للجيش بدلاً من الحبيبة الخائبة، تتعالى الصيحات هادرة في المسرح «الله محيي الجيش… الله محيي الجيش»؛ كل ذلك كان أشبه بالـ«شمت» المغبش الذي تعثرت به الفتاة، أما الصوت الحقيقي الوحيد فقد كان صادراً عن الصورتين اللتين تتصدران حائط المسرح الأمامي.
خرجنا قبل نهاية الفعالية، مسحتُ بعيني الناس المتكدسين على الكراسي، هم أنفسهم الذين يتكدسون في طوابير الخبز والغاز والبنك وغيرها، وهم أنفسهم الذين تتجهّمُ وجوههم كَمَداً حين ينظرون إلى لافتات الأسعار الكاوية. كيلو البندورة بستمائة ليرة، جرة الغاز بأحد عشر ألفاً في السوق السوداء، إن وجدت، وجاكيت شتوي طويل على أكمامه بعض الفرو الاصطناعي بخمسة وخمسين ألف ليرة. سيارة المازوت تقف أمام فيلّا رجل الأعمال عصام أنبوبا، وتملأ الخزانات حتى آخر نقطة. يقول كهل يترجل من «سوزوكي» عتيقة إن «رائحة المازوت مثل رائحة العطر»، ثم يسحب من على ظهر سيارته بعض الصناديق والكراسي البلاستيكية المتكسرة التي سيستخدمها كحطب لمدفأته، وهو يراقب باستسلام كامل حماسة العاملين على سيارة المازوت وهم يملأون الخزانات الضخمة للفيلّا.
يقول بعض رجال الحي، وهم يشربون الشاي عند موزع الخبز، إن كل ما يحدث هنا نشاز وغير طبيعي و«مسخرة بمسخرة». يمشي أحد الرجال وهو يحدّث نفسه بصوت عالٍ، ثم يعترض أحد المارة طريقه ويقول إن ثمن دوائه ارتفع أربعة آلاف ليرة، وهو لا يملك شيئاً منها، ثم ينفجر باكياً في الشارع مثل الأطفال. يجمع بعض الرجال والنساء ما تبقى من قروشهم البيضاء التي خبأوها لهذه الأيام السوداء، ثم يذهبون إلى المول الذي يبيع بضاعة أرخص من غيره ليشتروا بعض المونة من الرز والبرغل والعدس والسكر والشاي، لأن القادم لا بدّ أعظم. يقف رجال ونساء في صف طويل عند فرن حي الملعب البلدي، لكن صاحب الفرن يفتح شباكه ليعطي أفراد الجيش والأمن أرغفة الخبز الناضجة، ثم يغلقه عابساً في وجوه الناس؛ يغضب أحد الواقفين من طول الانتظار تحت البرد، فيطلق شتيمة بحق الإله وبحق صاحب الفرن ويركب دراجته الهوائية ثم يمضي؛ تغضب إحدى الواقفات كذلك فتدعو الإله أن يذلّ صاحب الفرن وأولاده وذريته كما أذلّها اليوم ثم تمضي؛ وأنا بدوري أمضي وأنا أحاول جاهدة أن أتخيل شكل القادم الأعظم، فلا تزور رأسي سوى الحاويات والمطاوي وسرقات منتصف الليل ومنتصف النهار.
الساعة الثامنة صباحاً على ساعتي، يجتمع عدة موظفين وموظفات في غرفة تعتبر الأدفأ في مكان العمل، تقول زميلتي إن فرقة تكّات ستقيم حفلاً في مسرح المركز الثقافي، الحفلة مأجورة، وهي تقول إن هذا لا يجوز، إذ يجب أن تكون مجانية، فالمركز بنته الدولة لـ«الشعب»، ويجب أن يكون الحضور مجانياً. أتذكر برنامجاً على إحدى القنوات يدعى «معالي المواطن» وأبتسم، يوافق الحاضرون على كلام زميلتي، ثم يذهب الحديث كالعادة إلى الأزمة الاقتصادية وتبدأ التحليلات في أسبابها، وبالطبع أحداث لبنان من أهمّها، فهي حسب قولهم من أثّرت على ارتفاع سعر الصرف الدولار ومن ثمّ غلاء الأسعار.
نحن الآن عدة أشخاص من أديان مختلفة نعمل في مكان واحد، ونتحلّق حول مدفأة مطفأة في البرد، في غرفة لا كهرباء فيها ولا دفء، البرد ينخر عظامنا بلا رحمة، وجميعنا كنا منذ لحظات نشتكي من المعاناة في تحصيل أبسط الاحتياجات اليومية، ومن الفقر الذي ينتظرنا في الأيام القادمة. يلتفت أحد الجالسين إلى فئة منّا فجأة، ويقول لنا بعيون تكاد تكون دامعة «إنتو وقت طلعتو كان بدكم حرية وتغيرو سياسة وهالحكي… بس هلأ نحن بدنا نقوم مشان لقمة الأكل»؛ يروم صمتٌ في الغرفة، ويتردد صدى الحكي الذي ذكره الزميل بين الجدران الباردة، لكن بعد دقائق تعود الأحاديث بيننا نحن الجالسون كما العادة، تلتفت زميلة لي وتهمس ضاحكة وتقول: «وهني لما يقوموا، نحنا جكر رح نوقف مع بشار».
التاسعة مساء على ساعتي، نشرة الأخبار، إدلب تحت النار، قصف وتهجير وموت تحت الأنقاض، الكثير من الصور الأليمة القادمة من هناك، وبالمقابل صور عبثية قادمة من هنا. تقول طفلة لأمها: «اطلعي للسماء وأحضري أبي، ثم ارجعا معاً إلى البيت»؛ يقوم شاب خرج حديثاً من السجن وهو شبه مجنون بمغافلة أهله وحرق عين أخته التي لم تتجاوز الست سنوات بسيكارة كانت في يده؛ تقوم فتيات في عمر الصبا ببيع البسكوت في الساعة الحادية عشر والثانية عشر ليلاً، في مشهد لم تألفه المدينة؛ ويقوم رجل باستغلال أنوثة فتاة قاصرة متسولة «على البركة» بإعطائها سيكارة ليمد يده على جسدها تحت أجنحة الظلمة. كل ذلك حدث ويحدث ببطء ساحقاً أزماننا المتعبة، بينما الزمن المذروف على توقيت الساعة الجديدة في حمص لا ينقضي.