لم يكن أحد بانتظار بريمو ليفي (1919-1987) في بيته في تورين في ذلك اليوم الخريفي، التاسع عشر من تشرين الثاني (أكتوبر) عام 1945. يومها، احتاجت عائلة الكيميائي الشاب بعض الوقت قبل أن تتمكن من التعرّف على هوية ذلك الوجه الملتحي والنحيل والغارق في علامات الإجهاد، إذ كان عامان قد مرّا على آخر مرة رأوا فيها ابنهم، وكان وقت طويل قد مرّ على آخر خبر تلقوه عنه. في أيلول من عام 1943، وفي سياق التضييق والملاحقة التي عاناها اليهود الإيطاليون منذ إقرار بينيتو موسوليني القوانين العِرقية عام 1938؛ ومع إنشاء جمهورية سالوالجمهورية الاجتماعية الإيطالية (1943-1945): كيان تابع للنازيين قاده موسوليني في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية في شمال إيطاليا، تأسس بعد سيطرة قوات الحلفاء على القسم الجنوبي من شبه الجزيرة الإيطالية. (المترجم). ، كان ليفي قد قرر الانضمام إلى مجموعة عديمة الخبرة من البارتيزان، حاملاً مسدساً لم يكن يجيد استخدامه، ليقع في أسر ميليشيا فاشيّة قبل نهاية العام، ويُرسل إلى معسكر اعتقال فوسولي دي كابري إثر الإقرار بهويته اليهودية، قبل أن يُرسل إلى أوشفيتز في شباط (فبراير) عام 1944. بعدها بعام ونصف، وبعد كم هائل من الأهوال المُعاشة، عاد بريمو ليفي إلى بيته في إيطاليا. لم يكن من المُستغرب ألا يتوقع أحد عودته، فبالكاد رجع أحدٌ من ذاك الجحيم.
خورخي سيمبرونخورخي سيمبرون (1923-2011): كاتب ومثقف وسياسي إسباني. نشط في الحزب الشيوعي الإسباني وفي الأوساط الثقافية لليسار الفرنسي. كتب في السياسة والذاكرة واليسار، وكذلك عُرف ككاتب سيناريو، خصوصاً مع المخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس. تولى وزارة الثقافة الإسبانية بين عامي 1988 و1991. (المترجم).، الناجي بدوره من ماكينة القتل النازيّة إثر مروره بمعسكر اعتقال بوخنفالد، كتب في عمله المميّز الكتابة أو الحياة أن النجاة من الوحشية ليست إنجازاً يُحسب للناجي وإنما نتيجة لحظٍّ وفير، وهي فكرة لطالما وافقه ليفي عليها. فالإيطالي أقرّ دوماً أنه وصل إلى أوشفيتز في مرحلة متأخرة، عام 1944، حين كان الرايخ الثالث قد قرر إطالة حياة أولئك الذين جُلبوا كي يموتوا، وذلك بسبب النقص الحاد في اليد العاملة لديه. كذلك، ساهمت دراسته للكيمياء في أن يعمل طوال عدّة أشهر في مختبر الـ «لاغر»، متفادياً بذلك العمل المضني الذي كان مفروضاً على المُحتجزين المُستعبدين، عمل يستدعي مجهوداً فوق- بشري يُترجَم موتاً، بالإجهاد أو نتيجة أمراض مرتبطة بالإرهاق الشديد، خلال أشهر قليلة. كذلك، حظي ليفي بمقدرته على فهم اللغة الألمانية، ما عنى فهماً سريعاً لأوامر حرس الـ SS. رغم ذلك، كان الممكن لأي سهو أو حادث أن يؤديا للموت، لكن لم تكن تلك حالة ليفي، الذي كان أحد ناجين قليلين للغاية، فمن ضمن 650 شخصاً أُرسلوا في دفعة بريمو ليفي إلى معسكر الاعتقال الواقع في بولندا، كان ليفي واحداً من ثلاثة عائدين فقط.
خلال أيامه الأخير كـ «هيفتلنغ» (معتقل) رقم 174517، وبانتظار التحرير حين كانت الهزيمة الألمانية واقعاً معروفاً، وكذلك خلال الأشهر التسع اللاحقة التي قضاها تائهاً في أوروبا قبل عودته إلى تورين، نمت داخل ليفي فكرة أن واجبه المستقبلي سيكون رواية ما عاشه، وتقديم شهادة للعالم عن الفظاعة التي قاساها هو وآخرون كثر. اهتمّ ليفي ببناء ذاكرة تسعى نحو تقديم الحقيقة، والتغلّب على الماضي، و-ما هو أهم- التحذير من ألا تتكرر فظاعة كالتي عاشها في المستقبل. هكذا، صارت كلماته ترياقاً صد النسيان، وأعماله -لا سيما ثلاثية أوشفيتز، المكوّنة من هل هذا هو الإنسان اعتمدتُ في ترجمة هذا النص على عنوان الترجمة العربية المتوافرة إلكترونياً لتسهيل البحث على القارئ، لكن الترجمة الأدق للعنوان هي «لو أن هذا إنسان». (المترجم). (1947)؛ والهدنة (1963)؛ والغارقون والناجون (1986)- صارت معالم رئيسية في الـ«شواه»الاسم العبري للهولوكوست، ويعني «الكارثة». (المترجم).، ومصادر عظيمة لبناء حقيقة ما حصل في معسكرات الإبادة النازية، فهي ذاكرة ناجٍ لا ينطلق كلامه من الحقد والكره، بل من العقلانية وإرادة إحقاق الحق. لذلك، تشكّل أعمال الكاتب التوريني ذخراً أساسياً في العمل من أجل الإضاءة على قرن، العشرين، حمل -والهولوكست أبلغ مثال- كمّاً هائلاً من الشرّ. وعند مرور مئة عام من ميلاد بريمو ليفي -في 31 تموز/يوليو- نرى من الضروري العودة إلى كتبه، فكما يذكّر بريمو ليفي في خلاصات الجزء الأخير من ثلاثيته: «لقد حصل، وبالتالي يمكن أن يحصل مجدداً».
يقول الفيلسوف ريجيس ماتي إن رواية شهادته على ما حصل كانت الدافع الأساسي للبقاء على قيد الحياة لدى بريمو ليفي خلال احتجازه. فليفي نفسه أقرّ أنه على الأغلب لم يكن ليتحوّل إلى كاتب لو لم يمرّ بتلك المحنة الفظيعة. وحين عودته إلى بيته، لم يستغرق ليفي وقتاً طويلاً قبل كتابة شهادته، مركّزاً بنزاهة شديدة على ما عاناه هو، وطالباً من القرّاء ألا يشكّوا بصراحة كلماته. ولم يكن هذا الطلب المُلحّ مجرد كلام، فقد كتب ليفي في مدخل شهادته أن كابوسه الأكبر خلال أيامه في المعسكر كان أن يعود إلى بيته، ويروي ما عاشه، ويكتشف أن أحداً لا يصدّقه. كان هدف ليفي، كما تشرح ميريام أنسيموف في سيرته بريمو ليفي أو مأساة متفائل، هو نشر ما حصل على أمل أن يوفّر للقضاة الأدلة اللازمة لمحاسبة المذنبين. كان يجب لصوته أن يكون مكبّر صوت لكل أولئك الذين لم يحظوا بالنجاة، أولئك الذين اعتبرهم ليفي الشهود الحقيقيين. أوشفيتز كان يحرقه، وكان بحاجة لأن يروي، ولأن يُسمع.
في كانون الثاني (يناير) عام 1946، باشر ليفي العمل كتقني كيميائي في معمل طلاء، مخصصاً الوقت الفائض في عمله للجلوس والكتابة. كتب كذلك في القطار، وفي بيته، وفي أيّ مكان سُنح له فيه أن يستذكر مُعاشه المؤلم ويكتب. وهكذا صيغ عمله الأول هل هذا هو الإنسان، الذي أُرسلت مسودته إلى دار نشر إيناودي عام 1947، ورُفضت هناك من قبل كاتبة ممتازة، يهودية ومناضلة ضد الفاشيّة، اسمها نتاليا غينزبرغرُفضت المسودة في عدّة دور نشر بعدها، في إيطاليا والولايات المتحدة. وكما تشير دراسات عديدة تطرّقت لأعمال بريمو ليفي، كان التبرير المطروق حينها هو أن ظروف أوروبا في أواخر الأربعينات، والحرب بالكاد انتهت، لم تكن تسمح بنشر هكذا كتب. (المترجم)، ليتم نشره في دار نشر مغمورة، بطبعة صغيرة الحجم، ودون أن يحظى باهتمام يُذكر. بالتالي، رغم نشره، وقع هل هذا هو الإنسان في النسيان طوال عشر سنوات. وفي عام 1958، وإثر توقيع عقدٍ معها قبلها بثلاث سنوات، تراجعت دار إيناودي عن رفضها السابق وأعادت نشر الكتاب، الذي أحرز نجاحاً وانتشاراً كبيرين. رغم ذلك، لم يترك بريمو ليفي عمله كتقني كيميائي ويتفرغ للكتابة حتى عام 1977، إذ جمع وظيفته ونشاطه الكتابي طوال ثلاثة عقود.
ومن المثير للاهتمام أن نجد، إثر التفحّص الذي يتيحه لنا مرور الزمن، أن كتابة ذاكرة المعاناة بسرعة لم يكن قرار جميع الناجين من الهولوكوست الذين تشكّل شهاداتهم مكتبة الشهادة على تلك الفظاعة اليوم. بريمو ليفي كتب سريعاً، وكذلك روبرت أنتيلمي في كتابه المميّز الصنف البشري (1947). لكن آخرين احتاجوا أخذ مسافة من الفظاعة، وبناء ضربٍ من النسيان الضروري للبقاء أحياءَ بعد العودة. تلك كانت حالة خورخي سيمبرون، الذي تحدّث عن رهانه على مرحلة من «النسيان الإرادي» في سبيل ابتعاده عن الموت. ولذلك، يروي مَن صار لاحقاً وزيراً للثقافة في حكومة فيلبي غونثالث في كتابه الكتابة أو الحياة -الذي سبقت الإشارة إليه- أنه حين عاد من بوخنفالد ورأى نفسه مُخيّراً بين الكتابة والحياة، اختار الحياة على حساب الكتابة. وكتابه الأول المعني بذاكرته عمّا قاساه في المعسكر لم يصدر إلا بعد مرور أكثر من ثمانية عشر عاماً على التحرير: الرحلة الطويلة (1963)، والذي حاز على جائزة فورمينتور، وكتبه سيمبرون باستخدام آلة كاتبة متداعية خلال مرحلته كناشط شيوعي متوارٍ في مدريد خلال حكم فرانكوتسلل خورخي سيمبرون إلى إسبانيا من فرنسا بأمر من الحزب الشيوعي الإسباني مراراً بين عامي 1953 و 1962، حيث نشط تحت اسم «فيدريكو سانتشيث» في الداخل الإسباني، وله كتابان عن تلك المرحلة. (المترجم).، في مخبئه في شارع كونثبثيون باموندي.
لم يحتج بريمو ليفي لأي مرحلة نسيان، بل على العكس: كان متلهفاً لرواية ما جرى له، إذ كان أوشفيتز يستهلكه. وهناك العديد من الأسباب التي تجعل من هل هذا هو الإنسان أحد الأعمال الأهم خلال القرن العشرين، وأهمية سرد الشهادة في سبيل الوصول إلى الحقيقة هي، بلا شك، سبب أساسي. لقد رفض الكاتب التوريني أن يلتزم الصمت، وصار حارساً للذاكرة وصوتاً لأولئك الذين لقوا حتفهم في المعسكرات. لكن طريقة سرد الشهادة لم تكن شأناً ثانوياً على الإطلاق بالنسبة له، فأسلوبه الكتابي ابتعد عن الطابع المتفجّع لجان أميري، أو النمط الشعري لإيلي فيسيل. لا يحتاج عرض الفظاعة للتوكيد ولا للصور الخيالية الشعرية حسب رأي ليفي، ولذلك اختار نبرة كتابة مسترخية وهادئة، وتميز أسلوبه بالوضوح والدقّة، وكلماته لم تقع أبداً في أسر المظلومية اللينة، وابتعدت عن أي سطحيّة في سرد المجريات. وقد كان التعاطي المبتذل المُمارس تجاه الهولوكوست في السينما والأدب والفكر سبباً لغضب شديد لدى ليفي، الذي عبّر عن ازدرائه لفيلم حارس ليلي (1974)، إذ اعتبر أن مخرجة الفيلم، ليليانا كافاني، قد تعاملت باستخفاف مع التاريخ عبر تقديم مبتذل لطبع تدميري- ذاتي لضحية، بخلفية سادو-مازوشيّة. ومن المشروع الاعتقاد بأن ليفي، لو عاش حتى عقد التسعينات، لم يكن ليثني على قائمة شندلر (1993)، الفيلم الذي انتزع ستيفن سبيلبرغ بفضله دموع المشاهدين عبر تمثيلٍ، مفرطٍ في شاعريته في بعض الأحيان، للفظيع؛ مثل المعطف الأحمر للطفلة، الذي يبرز فوق الأبيض والأسود الطاغيين في الفيلم؛ أو بمنح نازيٍ ثري دوراً مشكوكاً به كمخلّص. ومن الأمكن افتراض نقدية أقسى لليفي لفيلم الحياة جميلة (1997)، بسبب الشاعرية المفرطة التي أضفاها روبرتو بينيني على المأساة عبر التورية المستحيلة للواقع التي يحاول الأب ممارستها مع ابنه؛ مستحيلةٌ لأن الحياة في المعسكر -كما خبِر بريمو ليفي جيداً- لم تكن، ولم يكن من الممكن أن تكون، «جميلة» بأي شكلٍ من الأشكال. ومن المرجّح أيضاً أنه لم يكن ليرضى على تصوير فرانشيسكو روسي لكتابه الهدنة عام (1998)، فالصور التي يقدّمها الفيلم تبتعد عن جوهر نصّ ليفي التأسيسي هذا. لا شك أن ترجمة عمل مثل الهدنة إلى السينما ليس بالعمل السهل على الإطلاق، لكن خيارات اتخذها المخرج، مثل الاستخدام المبالغ بعاطفيته للموسيقى، أو إقحام قصة حب، أو المشاهد الأخيرة، المبالغ في «جماليتها»، لوصول ليفي -تقتضي الأمانة قول أن الممثل جون تورتورو يلعب دوره باقتدار- إلى تورين، كلها جعلت من الشريط غير قريب من نبرة بريمو ليفي وأسلوبه.
وقد كان الأسلوب الأمثل لرواية الهولوكوست وتمثّله موضع سجال منذ البداية، أي منذ تحرير المعسكرات عام 1945. ففي مقولته، الشهيرة بقدر كونها موضع سوء فهم، يتحدث تيودور أدورنو عن استحالة كتابة الشعر بعد أوشفيتز. شهادات الناجين بدأت بالظهور حينها، وسينمائياً قدّم آلان ريني ليل وضباب (1955)، الفيلم الوثائقي العظيم الذي يراجع مخرجه -ومخرج روائع أخرى مثل العام الماضي في مارينباد (1961)، أو الحرب قد انتهت (1966)- برِقّة واحترام كبيرين لضحايا سياسات الإبادة في معسكرات النازيّة. لكن توجّبَ الانتظار حتى عام 1985 كي يظهر أكبر صرح سينمائي عن الفظاعة: شُواه، الفيلم الوثائقي ذو التسع ساعات ونصف، الذي أخرجه كلود لانزمان. وأسوةً ببريمو ليفي، كان للانزمان مواقف حادة ضد أي ابتذال للهولوكوست، لكن المخرج الفرنسي خطا أبعد حتى من الكاتب الناجي من أوشفيتز، إذ اعتبر أن كلمات الشهود هي الأدوات البشرية الوحيدة المؤهلة لرواية الفظيع وتمثّله، وذلك بسبب تفوّق الوحشية على قدرة التوصيف، وبسبب فداحة المجزرة. انتقد لانزمان بقسوة أولئك الذين استخدموا الخيال للسرد عن الإبادة اليهودية، والذين استخدموا مشاهد أرشيفية لرواية الفظيع، فبرأيه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة إلا عبر شهادات الضحايا. لذلك، نجد في شواه أن الأبطال هم، بشكل أساسي، الناجون الذين يروون شهاداتهم، مثل أبراهام بومبا، الحلاّق المكلّف بحلق رؤوس الذين كانوا بعدها سيموتون في قمرات الغاز. وهذا الرهان الحاسم للانزمان على الشهادة يقرّبه من بريمو ليفي، باعتبار أن الأخير قد سَخَّرَ نفسه بإخلاص لسرد شهادته على الجحيم، مانحاً صوتاً للذين لم ينجوا، ومتفكّراً في ما عاشوه.
من الواضح أن الشهادة كانت الهدف الأسمى لليفي في أعماله حول الهولوكوست، لكن ليفي لا يتوقف عند السرد المجرّد للوقائع، ففي هل هذا هو الإنسان يُدخِل الكاتب بعض النقاط التي ستتحوّل إلى عناوين تفكّرية أكثر نضوجاً في الغرقى والناجون، الجزء الثالث من ثلاثيته عن أوشفيتز، والمنشور قبل عامٍ من نهاية الكاتب الحزينة. في الواقع، تروي أنسيموف أن الكاتب أراد في البداية أن يعنون كتابه الأول «المُبتلَعون والناجون»، وهذا العنوان البديل يوضّح أحد أهم مواضيع أعمال الكاتب-الكيميائي. بالنسبة لليفي، في المعسكرات نوعان من البشر: «الغرقى» و«الناجون». هؤلاء الأخيرون هم الذين سيتفادون الموت، وهم في غالبيتهم من أصحاب امتيازات- الـ«بروميننز»، ومن بينهم يذكر الكاتب مدير المعسكر، الـ«كابو» مُحتجزون في معسكرات الاعتقال يُكلّفون بمهام إدارية ورقابية وتنظيمية صغرى، يحصلون لقاءها على بعض الامتيازات (Funktionshäftlinge). (المترجم). ، الحراس الليليون، وحتى الطبّاخون. يشرح ليفي أن عدد الناجين من بين غير أصحاب الامتيازات هو قليلٌ حدّ الندرة، وقد نجوا نتيجة تضافر مجموعة صعبة الالتقاء من العوامل والصُدف، ويقول بقطعية لافتة: «أصحاب الامتيازات، أولئك الذين حازوا على امتيازاتهم بفضل خضوعهم لسلطات المعسكر، لم يقدّموا شهاداتهم لاحقاً لأسباب واضحة، ومن فعل منهم فقد قدّم شهادات مليئة بالثغرات، أو مشوّهة، أو مزيفة». من جهتهم، كان «الغارقون» شخصيات بلا قصة، أولئك الذين اصُطلح في لغة المعسكر على تسميتهم «مسلمين». وقد شكّل هؤلاء الأكثرية الساحقة، جمهرة مجهولة، متجددة باستمرار، من رجال بلا هوية فعلياً.. أشخاص هزيلون، بأوجةٍ عظميّة ودون ملامح، مقوّسو الظهور، وبعيون ومظهر فارغين لدرجة استحالة ملاحظة أدنى علامات التفكير. المسلمون، أولئك المحتجزون المنهكون والمستهلَكون بشكلٍ لا عودة منه، كانوا في الواقع «جثثاً حيّة». ومن أجلهم قدّم ليفي شهادته، ولهم، للغارقين، قدّم ليفي كلمته الأخيرة.
ويُشتق من هذا النقاش المهم مصطلح آخر يمكن تحليله واستخدامه في أيٍّ من الإشكالات الراهنة: «المنطقة الرمادية». أشار بريمو ليفي في الغارقون والناجون إلى أن شبكة العلاقات الإنسانية داخل المعسكرات كانت شديدة التعقيد، ولا يمكن أن تُتخزل إلى كتلتي الضحايا والجلاّدين. في «المنطقة الرمادية»، إذاً، نجد جميع أولئك الذين، نتيجة سلوكهم وأفعالهم، يتموضعون في الفضاء الغامض الموجود ما بين الجلاّدين الخالصين والضحايا كاملي البراءة. في عمل مسرحي فذ، هيملفيغ، يدخل الكاتب المسرحي خوان مايورغا -أحد المفكرين المهمين في مجال الهولوكوست، بدوره- في صلب هذا الموضوع، إذ يضع على خشبة المسرح شخصية واقعية، موريس روسل، وهو مفتش تابع للصليب الأحمر يدخل إلى الغيتو اليهودي النموذجي في تيريزن، بعد أخذ موافقة السلطات الألمانية، لتقصّي الأوضاع هناك. وبعد إجراءه التفتيش، يكتب روسل في تقريره أنه، عدا الصعوبات المعتادة لزمن الحرب، لم يجد في تيريزن مخالفات تُذكر. تمثّل شخصية المفتش هذا، الذي استسلم بتواطؤ للخداع المسرحي الذي أدّاه أمامه المسؤولون النازيون عن معسكر تيريزن، القاطن النموذجي لـ «المنطقة الرمادية»، حسبما يكتب مايورغا في كتابه كسوفات: «حاولتُ أن أبحث في مسؤولية إنسان يُفترض أن مهمته قائمة على مساعدة الضحايا، وينتهي به الأمر لأن يتواطأ مع الجلاّدين». وتكمن عظمة وأصالة وراهنية مصطلح «المنطقة الرمادية» في إمكانية استخدامه بسهولة في أي قضية من قضايا عالمنا الحالي، ما يشكّل دعوة للمواطنين للتفكير به. ولكي نذكر مثالاً على ذلك، بإمكاننا التفكير بمأساة اللاجئين: هل تقوم أوروبا بكل ما في استطاعتها لإنقاذ حيوات اللاجئين في المتوسط؟ أم أن هناك جملة من القرارات المتخذة في هذا المجال تضع المؤسسات القارّية في المنطقة الرمادية، المبهمة المعالم؟ بإمكانية تطبيقه على الكثير من القضايا، لا شك أن مفهوم «المنطقة الرمادية» يشكّل ذخراً فكرياً مهماً تركه لنا بريمو ليفي، الكاتب الذي يمكن إسقاط الكثير من أفكاره، كما يشير مايورغا، على قضايا أخرى خارج موضوعة معسكرات الموت النازية.
مجموعة أخرى، اختارها ليفي بأسىً خلال تعمّقه في مفهوم «المنطقة الرمادية» العريض هي الـ«زوندركوماندو»، هذه الوحدة، «الوحدة الخاصة»، تكوّنت من معتقلين أوكِلَت إليهم مهمة العمل في المحرقة، وكانت مهمتهم هي سوق الذين حُكم عليهم بالموت في قمرات الغاز كالغنم، وانتزاع مقتنايتهم الشخصية منهم وتصنيف ثيابهم ومحتوى حقائبهم؛ ثم إخراج جثثهم من القمرات بعد موتهم ونقلها إلى المحارق؛ والتخلص من الرماد الناتج عن حرق الجثث فيما بعد. وبحكم الطبع البغيض لمهمتهم، وخشية إفشائهم تفاصيل ما يقومون به، كان من المعتاد أن يتم قتل أفراد الوحدة بشكل دوري لاستبدالهم بوحدة جديدة. ومن ضمن 12 «وحدة خاصة» عملت في أوشفيتز، فقد تجرأت واحدة منهنّ على التمرد على الـ SS وقامت بتفجير أحد المحارق، لكن تلك المغامرة لم تستمر طويلاً وعوقب جميع أفراد المجموعة بالقتل. وقد كان هذا التمرّد ثيمةً لفيلم ممتاز ،ابن شاؤول أخرجه الهنغاري لازلو نيميس عام 2015، فبطل الفيلم، شاؤول أوسليندر، كان عضواً في الـ «زوندركوماندو» المتمرد، وقد نال الفيلم جائزة أوسكار عن أفضل فيلم بلغة غير إنكليزية. بالنسبة لليفي، كان إنشاء هذا النوع من الوحدات يشكّل أحد أكثر الجرائم المرتكبة من قِبل النازية بغضاً وشراً، لأن أعضاءها كانوا مقتولين وقَتلَة في آنٍ معاً: لم يُعانوا تدمير الجسد فقط، بل أيضاً تمزيق الروح.
من هنا، يمكننا تفحّص مكانة موضوعة الذنب ضمن التفكّرات الكبرى التي قدّمها ليفي. فرغم أن أعماله وتصريحاته خلت من تعبيرات الكره، الشعور الذي لطالما اعتبره ليفي بهيمياً وتخبطياً، إلا أن الكاتب التوريني ثبت على رفض الصفح عن المذنبين المسؤولين عن ارتكاب تلك الفظائع. ليس فقط المنفذين المباشرين، بل أيضاً جمهرة المتواطئين الذين كانوا يقبعون في «المنطقة الرمادية». وهذا حال المجتمع الألماني في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، فليفي صرّح أنه لم يكن يمكن جهل ما يحصل دون اتخاذ قرارٍ واعٍ بالجهل. بالكاد يتطرّق لهذه المسألة في هل هذا هو الإنسان، لكنه يعالج الموضوع في الغرقى والناجون، وأيضاً، بشكل خاص، في الهدنة، عمله الثاني ضمن ثلاثية أوشفيتز، والذي يروي فيه وصول الجيش الأحمر السوفييتي لتحرير أوشفيتز في 27 كانون الثاني (يناير) عام 1945، وتيهه اللاحق بين معسكرات اللاجئين والقطارات في القارة العجوز، وضياعه بين مدن مثل كاتوفيس، ستاريى، دوروغي، لاسي، براتيسلافا، أو ميونخ، قبل وصوله إلى شمال إيطاليا في تشرين الأول (أكتوبر) 1945. يصف ليفي هذه الأشهر التسعة بالتشرّد على هوامش الحضارة، في زمنٍ معطّل، لا زالت فيه الحرب ساخنة جداً، دون أن يكون بالإمكان تلمّس الحرّية بشكل واضح. وقد تم نشر الهدنة عام 1963، وعلى عكس الطبعة الأولى، الهزيلة، لـ هل هذا هو الإنسان، فقد نال الكتاب انتشاراً واهتماماً سريعين. فكما يقول أنطونيو مونيوث موليناكاتب وروائي إسباني شهير، وواضع مقدمة ثلاثية أوشفيتز، الطبعة الإسبانية الجديدة الجامعة لكتب بريمو ليفي الثلاث عن أوشفيتز في مجلد واحد، والتي أصدرتها دار نشر بينينسولا عام 2019 في مئوية مولد ليفي. (المترجم) ، لم يتمكن أحد من رواية الجحيم بعمقٍ ووضوح كما فعل بريمو ليفي.
لكن ليفي لم يكتب فقط عن ما عاشه في أوشفيتز. بالإضافة لثلاثيته، التي ترفعه إلى مصاف الكتّاب الأساسيين في فهم القرن الماضي، كتب الكيميائي أعمالاً في مجالات أخرى تستحق، على الأقل، الإشادة، مثل عمله الجدول الدوري (1975)، الذي يمزج ليفي فيه معايشات ذاتية ومعارف استقاها من دراسته للكيمياء، جامعاً العناصر المختلفة من الجدول الدوري في واحد وعشرين فصلاً، ومقدّماً أصالة ملفتة في الأسلوب. وقد خاض ليفي في مجال الخيال العلمي أيضاً، مثالٌ على ذلك عيب شكلاني (1971). أيضاً، تجدر الإشارة لـ أنا، محدّثكم، والذي جُمعت فيه ثلاث مقابلات مطوّلة أجراها معه جيوفاني تيسيو في كانون الثاني (يناير) عام 1987 بقصد إنجاز سيرة ذاتية متوافق عليها لليفي.
وقد كانت هذه المحادثات مع الصحفي الإيطالي آخر التصريحات العلنية لليفي، ففي الحادي عشر من نيسان (أبريل) من العام نفسه، انتحر ليفي برمي نفسه في فراغ المصعد. لم يكن الانتحار المُفترض -توجد روايات معترضة على فرضية الانتحار- مُتوقعاً من قِبل أحد. وكناجين آخرين، مثل بول سيلان في 1970، وجان أميري بعد سيلان بثمان سنوات، انتحر بريمو ليفي آخذاً معه آثار مرضٍ سامٍ تسبب بتآكل جسمه واهتراء روحه: أوشفيتز. وبعد مرور مئة عام على ميلاد بريمو ليفي نُشر المقال صيف عام 2019 في مئوية ميلاد بريمو ليفي (وُلد في 31 تموز/ يوليو 1919). (المترجم).، يحيي عالم الفكر والثقافة ذكرى أحد أهم كتاب المئوية السابقة، كاتب ساهم بشهادته الصلبة في التغلّب على الماضي الفظيع.
لكن العودة باستمرار إلى أعمال ليفي هي أفضل تحيّة توجّه له، وهي أفضل طريقة للحفاظ على ذخره وعلمه حاضرين وراهنين دوماً كذلك. وكما يقول في الغرقى والناجون، لا يجوز أن نسمح بنسيان أن أوروبا لم تعش في تاريخها إبادة كهذه، لعدد هائل من الناس وفي فترة زمنية قصيرة، بفضل مزيج من الذكاء التقني والتعصّب والوحشيّة، كما عاشت في معسكرات الموت النازيّة. الذاكرة والشهادة هما أهم أدوات تفادي أن تتكرر فظاعة كهذه، كان هذا هو الفهم الذي وصل إليه ليفي، فهل وصلنا إليه نحن أيضاً؟