الغرض من المقالة: المشروع الحواري المعرفي
إن الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، والتي أعقبت ما سمي بالربيع العربي، تهدف إلى الوصول إلى الدولة والسيطرة عليها، على مؤسساتها وسلطاتها ومواردها، باعتبارها أسّ الوجود الجماعي. تفترض هذه الصراعات أن لا وجود للجماعة دون الدولة، وأن الدولة تحدد وتتحكم بنوعية حياة تلك الجماعة، ما نسميه هنا «الهناء»؛ لذلك فلا بد من الوصول إليها والسيطرة عليها. في بعض الحالات حسم الجيش هذا الصراع كما في تونس ومصر. وفي حالات أخرى تدهور الصراع إلى حرب تعددت فيها الأطراف كما في ليبيا وسوريا واليمن. في تلك الحالات، تفككت الدولة القائمة إلى مجموعة وحدات أو دويلات أو إمارات حرب مؤقتة تقوم على حمايتها وإدارتها تشكيلات عسكرية غير رسمية وبنيات حكم غير مؤهلة. ولا تزال خارطة هذه الدويلات أو إمارات الحرب تتغير، فتتفكك وحدات قديمة وتنشأ وحدات جديدة. هذه الفوضى أعادت طرح أسئلة أولية، وقد نقول بدائية، كنا نتخيلها محسومة: ما هي الدولة؟ متى تنشأ؟ متى تدوم وتستقر؟ ما هو الغرض منها؟ ما هو دور العنف العسكري في عملية النشوء والاستدامة؟ ما هو دور المجتمع الأهلي والمجتمع المدني في تلك العملية؟ ؟ من يجب أن يتولى إدارتها وقيادتها؟ ما هو نمط الحكم المناسب، أو شكل الدولة؟ ما هي العلاقة بين ثقافة المجتمع وبين نمط الحكم؟ ما هو تعريف «الأنسب»؟ هل هناك إطار نظري نستطيع من خلاله مناقشة هذه الأسئلة، وربما الإجابة عليها؟
هذه المقالة جزء من مشروع حواري يشمل عدة مقالات ويشارك فيه كتّاب متعددون. الغرض من الحوار هو إنتاج معرفة عن الدولة. أو بكلمات أكثر مباشرة، هذا الحوار هو محاولة لإيجاد إطار نظري لتحليل وفهم الصراعات التي نشهدها على ساحة الشرق الأوسط منذ بدء الربيع العربي، والتي تدور حول محور رئيسي وأساسي هو الدولة.
لابد من الإشارة هنا إلى الافتراض غير المعلن، ولكن ليس الخفي، لمشروع الحوار هذا وهو أن الدولة الديمقراطية هي النمط الأنسب لتحقيق المهمة الثقيلة، أي إنشاء الدولة واستدامتها بما يحافظ على وجود الجماعة ويحقق «هناءها». في هذه الحالة، فإن الصراعات القائمة اليوم بعيدة في طروحات أطرافها (والتي يمثلها النمطان القومي والإسلامي) كل البعد عن النموذج الأمثل، أي الديمقراطية. هذا هو التناقض الذي بين أيدينا، ولهذا نحتاج إلى هذا الحوار. أي أن مشروع الحوار قد أجاب على بعض الأسئلة السابقة، وأهمها «نمط الدولة الأنسب»؛ وبالتالي أعطى الأولوية لسؤال «كيف نصل إلى الديمقراطية انطلاقاَ من الأيديولوجيات السائدة، القومية والإسلامية، والتي هي غير ديمقراطية؟» وضع المشروع إطاراً نظرياً مبسطاً للدولة، يقوم على مفهومي السيادة والشرعية، ليناقش من خلاله كيف تتم صياغة الدولة تحت كل واحدة من الأيديولوجيات الثلاثة المطروحة على الساحة، القومية والإسلامية والديمقراطية. والسؤال المضمَر هنا هو:هل تتناقض الصياغتان القومية والإسلامية مع الصياغة الديمقراطية للدولة؟ ما هو شكل هذا التناقض؟ وهل يمكن أن يفيدنا فهمه في رسم طريقة الإنتقال نحو الديمقراطية؟ أو في أسوأ الحالات، هل يمكن التأكيد على استحالة الوصول إلى الديمقراطية انطلاقاً من النمطين السائدين؟
قد لا يعبر هذا الفهم بدقة، أو بأمانة، عن أفكار طارحي مشروع مجموعة المقالات التي بين أيدينا. لكن يمكن القول بأن هذا الفهم ينطبق على مشروع حواري آخر ذي وجود حقيقي وقوي على ساحة الصراعات السياسية الجارية اليوم في الشرق الأوسط. يمكننا متابعة هذه المقالة بقبول هذا الإفتراض، وحينها تصبح المقالة نقداً لهذا المشروع ومحاولة لطرح مشروع حواري بديل من خلال تقديم إطار نظري تحليلي جديد وأسئلة جديدة.
فيما يلي سنقوم بمهمتين: الأولى تفترض المشروع المطروح وتحاول السير به إلى ما يمكن وصفه بأنه أزمة، أزمة نظرية وأزمة تطبيقية؛ الثانية تقترح مشروعاً بديلاً يتفادى الأزمتين المذكورتين. لغرض التنظيم، نقسم كل مشروع حواري إلى ثلاثة عناصر: الإطار النظري لتحليل الدولة (النموذج التمثيلي)، الهدف الواجب تحقيقه (أو نمط الدولة الأنسب)، الوصفة العملية للفعل أو الأفعال التي ستحقق الهدف وتعالج العقبات.
المشروع الحواري المطروح: في سبيل الديمقراطية
النموذج التمثيلي للدولة
نعيد تلخيص المشروع المطروح: الهدف هو الوصول إلى نمط الدولة الديمقراطية إنطلاقاً من أحد النمطين، القومي أو الإسلامي؛ الإطار النظري لتحليل الدولة يشمل مفهومي الشرعية والسيادة؛ والوصفة العملية ستكون أحد منتجات التحليل والحوار. يجب التنويه هنا إلى أن المشروع المطروح لا يزعم إمكان اختزال الدولة بهذين المفهومين، وإنما يعتمدهما كقاعدة للمقارنة بين الأنماط الثلاثة الموجودة على ساحة التحقيق وساحة النقاش، أي الدولة القومية والإسلامية والديمقراطية. كيف يتصور كل نمط للدولة مفهومي السيادة والشرعية؟ أين يكمن الاختلاف بين تلك الأنماط؟ وإذا فهمنا الإختلاف، فهل نستطيع رسم طريق للوصول إلى الديمقراطية انطلاقاً من النمطين الآخرين؟ أو هل يمكن، وهو أضعف الإيمان، أن نعلن استحالة هذه الإنتقال؟
ظاهرياً، المشروع المطروح لا يبدأ بنمط الدولة الأنسب، وإنما يبدأ بالنموذج التمثيلي؛ فمن منطلق علمي يجب أن يسبق التحليل أية محاولة لاختيار الهدف وإيجاد الطريق لتحقيقه؛ لكن هناك افتراض ضمني أن الهدف واضح ولا يحتاج إلى إعلان مستقل. سنحاول فيما يلي المحاججة بأن مثل هذا الافتراض الأولي يؤثر في النموذج التمثيلي، أي أن الهدف يقود التحليل منذ البداية. وهذا يعني أن ترتيب عرض الحجج بهذا التسلسل (هدف، ثم تحليل، ثم تطبيق) ليس الغرض منه التنظيم فقط، وإنما إجبار الفرضية المبطنة على الظهور لأنها فعلاً هي البداية الحقيقية للمشروع. بالنسبة للمشروع المطروح، النموذج التمثيلي الأبسط للدولة يقترح حداً أدنى من العناصر المكونة، ويضع تعريفاً لها، ويحدد العلاقات القائمة بينها من خلال السببية . إذن لدينا مفهومان أساسيان لفهم الدولة، السيادة والشرعية. ولدينا ثلاثة أنظمة حكم، ونعني الدولة الديمقراطية والقومية والإسلامية؛ يعرّف كل نظام فيها المفهومين المذكورين ويستخدمهما بطريقة مختلفة عن النظامين الآخرين من خلال ربطهما بعلاقات سببية يختص بها ذلك النظام. المقارنة بين أنظمة الحكم هذه ستكون عبر مقارنة التصور الخاص لكل نظام مع تصور النظامين الآخرين لمفهومي السيادة والشرعية وللعلاقة بينهما.
النمط الأنسب أو الهدف: النمط الديمقراطي للدولة
بالنسبة للمشروع المطروح، في الدولة الديمقراطية «الشرعية مفهوم مركزي»، «تنبع الشرعية من العملية الديمقراطية (التعيين بالانتخاب والتشريع بالاقتراع)»، «السيادة في الديمقراطية هي للشعب، الذي هو منبع السلطات ومنبع التشريع».
فما هي السيادة وما هي الشرعية وما هي العلاقة بينهما في الدولة الديمقراطية؟ تعرَّف الديمقراطية على أنها حكم الشعب للشعب وبالشعب. إنه ثالوث يصعب فهمه كما يصعب فهم ثالوث المسيحية، واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد. إن الشعب لا يحكم نفسه بنفسه، وإنما تحكمه مجموعة منتقاة بحيث تمثله تمام التمثيل، حسب الزعم، فتكون متماهية معه. السيادة هنا هي احتكار الشعب لصلاحية اتخاذ القرارات التشريعية والتنفيذية، واللتان يشكل اجتماعهما ما نسميه اختصاراً بالحكم. أما الشرعية في الدولة الديمقراطية فهي قبول الشعب بالقرارات التي اتخذها من خلال سيادته، أي عبر ممثليه، والانصياع لها، دون الحاجة إلى قوة قاهرة من باب أنها قراراته وبالتالي فلا حاجة لرفضها والتمرد عليها. بالطبع الشعب، صاحب السيادة، لا يتخذ إلا القرارات التي تحقق مصالحه؛ فمن الجنون أن يتخذ المرء قرارات تضره أو لا تعبر عنه.
لكن الأمر أعقد من هذا التصور. فالشعب أكثر عدداً من أن يجتمع كله ليناقش مشاكله ويتخذ قرارات بشأنها. ولهذا فإنه يقوم، ومن خلال سيادته، بانتقاء مجموعة من الأشخاص الذين يمثلون رغباته وحاجاته ومصالحه؛ ومن ثم، يفوضهم باتخاذ القرارات نيابة عنه. تنقسم هذه المجموعة المنتقاة إلى قسمين: قسم تشريعي يتخذ القرارات بالتفاوض والإتفاق، وقسم تنفيذي يضعها موضع التنفيذ باستخدام مهارات تقنية. اجتماع القسمين يسمى الحكومة لأنها الحاكم الفعلي. ويُفترض أن التمثيل بالانتخاب كامل، أي أنه يعكس كالمرآة الشعب ومصالحه. فعندما تتخذ المجموعة المنتقاة القرارات وتنفذها فإنها تعبر عن مصالح الشعب وتحققها، وبالتالي فإن الشعب ينصاع لهذه القرارات لأنها قراراته هو نفسه. أما القضاء والشرطة فهي مجرد ضابط لبعض الأفراد المتمردين الذين تدفعهم غرائزهم غير العقلانية لعدم الإنصياع؛ فهم إما سفهاء لا يفكرون ولا يعرفون مصالحهم أو أنهم مرضى خرجوا من نطاق الشعب السيادي بسبب غرائزهم المرضية المنحرفة والمهددة لأمن الشعب؛ ولذلك تسحب بعض الولايات في الولايات المتحدة مثلاً حق التصويت من المجرمين الصادر بحقهم حكم جنائي من المحكمة.
يسمى القسم التشريعي في الحكومة الديمقراطية بالبرلمان أو مجلس النواب أو مجلس الشعب. البرلمان كلمة فرنسية انتقلت إلى الإنكليزية في العصور الوسطى، وهي تحيل إلى الحديث والمشاورة وليس إلى التمثيل. الكلمة استخدِمت للدلالة على مجلس استشاري منتقى من طبقة النبلاء لمساعدة الملك في اتخاذ القرارات التي تمس في النهاية هؤلاء النبلاء، مثل الضريبة والخدمة العسكرية. وبالطبع، متخذ القرار في النهاية هو الملك. تطورت هذه الأنواع من المجالس حتى انتهت في القرن التاسع عشر بأن تكون عضويتها مشروطة بتمثيل العضو لسكان منطقة جغرافية معينة من خلال انتقاء هؤلاء السكان له عن طريق الانتخاب من بين عدد من المرشحين. أما القسم التنفيذي، أو مؤسسة الرئاسة أو رئاسة الوزراء، فيُنتخب رأسه فقط وليس مجموع أعضائه. تاريخياً، القسم التنفيذي هو سحب لسلطة التشريع من الملك، وقصر صلاحياته وصلاحيات وزرائه على تنفيذ قرارات القسم التشريعي فقط. لكن كل الديمقراطيات تعطي القسم التنفيذي صلاحيات تشريعية إما من خلال تعميمات رئاسية أو من خلال تفويض البرلمان للوزارات المختصة بتفصيل القوانين، هذه التفاصيل التي نسميها المعايير لتمييزها عن القوانين أو التشريعات التي يقرّها القسم التشريعي للحكومة.
إن التماهي بين الشعب وتمثيله، بشقيه التشريعي والتنفيذي، أساسي لاستمرار صلاحية مفهوم الشرعية. فالشعب لا يقبل إلا بقراراته هو التي تعبر عن مصالحه ورغباته، وبالتالي فعلى ممثليه أن يعكسوا هذه المصالح والرغبات بدقة وفي كل لحظة. أي أن الدولة الديمقراطية (الحكومة بشقيها) هي مجرد مجموعة سلطات ووظائف وإجراءات مفروض عليها في كل لحظة أن تثبت أنها تنبع من الشعب وتمثله وتخدمه، وبالتالي تحقق سيادته على نفسه، مما يدفعه حتماً لإعطاء الدولة دمغة الشرعية، التي هو المالك الوحيد لها، من خلال قبول القرارات والانصياع الاختياري لها. باختصار، الديمقراطية هي تحقيق لنرجسية الشعب وهوسه بكفاية حاجاته من خلال الدولة التي يعطيها صلاحيات وسيادة مؤقتة ومشروطة عليه وعلى مقدراته؛ وبالطبع فإنه يستطيع أن يسحب هذه الصلاحيات ويعطيها لمن يشاء، حسب الزعم.
إن الإنتقال من حكم الشعب لنفسه وبنفسه إلى حكم ممثليه و الانصياع لهذا الحكم يحتاج إلى عدد كبير من الفرضيات. ويزاد عدد هذه الفرضيات إذا حاولنا التشكيك بمفهوم الشعب وحقيقة وجوده. هل الشعب هو مجموع سكان البلد؟ ومن يضع حدود البلد ويحدد شروط الإنتماء إليه؟ هل مجموع رغبات الأفراد ومصالحهم هو ما نسميه برغبات ومصالح الشعب؟ هل هذا المجموع محدود في كل لحظة أم أنه لا متناهٍ؟ هل يمكن لمجموعة منتخبة من السياسيين والتقنيين أن تحيط برغبات الشعب ومصالحه في كل لحظة وبشكل آني مهما كان عددها؟ وهل انتخاب الشعب لها هو اللمسة السحرية التي تعطيها مهارة الإحاطة بتلك الرغبات والمصالح؟ أم أنها تعتمد في عملها على مهارات أخرى ويستطيع الشعب بالإنتخاب إيجاد أفضل المالكين لهذه المهارات؟ ثم هل بالفعل تريد هذه المجموعة عكس مصالح الشعب، وهل للشعب رقابة مستمرة عليها؟ ومتى وكيف يستطيع الشعب، في حال خذلته تلك المجموعة، أن يستبدل بها مجموعة أخرى خيراً منها وأكثر كفاءة؟
ومن أجل إثبات تفوق نظام الحكم الجمهوري على النظام الملكي، حاجج منظرو التنوير الأوروبي الليبراليون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأن ذلك المخلوق الأسطوري المسمى بالشعب موجود، وقادر على التفكير العقلاني، وله رغبات ومصالح محددة ومحدودة العدد، وأن الإنتخاب يُنتج أفضل المؤهلين لتمثيل الشعب، وأن هؤلاء الممثلين قادرون دوماً على عكس رغبات ومصالح الشعب الحقيقة، وأنه يرغبون بذلك وليس لهم همّ إلاه. كان من السهل الاقتناع بمثل هذا التصور للشعب تحت الملكية، فالشعب ببساطة هو كامل السكان ناقص الملك المستبد والنبلاء أصحاب الإمتيازات. الشعب معرّف بالتضاد مع الملك وفئة النبلاء، ورغبته ليست إلا التخلص من المستبد وامتيازات النبلاء. أما سيادة الشعب فينقلها طوعاً إلى مجموعة ممثليه بعقد اجتماعي ملزم. الشعب يتفرغ لتنمية أملاكه والسعي وراء سعادته ويخول ممثليه، بعد القضاء على الملكية، باتخاذ القرارات نيابة عنه، تلك القرارات التي تضبط هذا السعي، التنافسي أحياناً، بما يضمن سلامة الممتلكات الفردية ويؤمن شروط الحرية اللازمة لاستمرار هذه السعي وتناميه. ويتعهد الشعب بالمقابل بالانصياع لتلك القرارات مادامت تعكس مصالحه ورغباته؛ وفي حال فقد ثقته بهؤلاء الممثلين فإنه يتعهد بأن لا يتمرد على قراراتهم وأن ينتظر دورة الإنتخابات المقبلة لينتقي مجموعة أخرى أنسب وأكثر كفاءة ومدعاة للثقة. الافتراض غير المعلن لتلك الليبرالية القديمة هو أن أفضل من يمثل الشعب هم أفراد الطبقة الوسطى من المتعلمين والمهنيين، القادرين على التفكير العقلاني والموضوعي والمتجرد من الأهواء الشخصية، والمتمسكين بقيم وأفكار التنوير. ولذلك فقد اقتصر حق الإنتخاب حينذاك على فئة المتعلمين والمالكين القادرين على دفع الضرائب، والتي تربطها ملكياتها بالدولة الحامية لتلك الملكيات. إنه التعريف الروماني القديم لعضوية الجسم السياسي، أي لأهلية التصويت؛ فباعتقادهم، من لا يملك شيئاً لن يهتم بمن يحكمه؛ لا بل لن يهتم بالدفاع عن الدولة لأنه لا يملك أولاً ثمن سلاحه (أبسط أنواع الضريبة) وليس لديه ثانياً ما يحارب من أجله. ولذلك كان من الأفضل لليبرالية في البداية الحديث عن النظام الجمهوري المستقى من المثال الروماني. لم يكن من الممكن الحديث عن «جنة» الديمقراطية، ذات الأصول الإغريقية المزعومة، إلا بوجود الإقتراع الشامل وتوسيع مفهوم الشعب ليشمل جميع السكان، عدا طبعاً المجرمين الغرائزيين والسفهاء ممن لا عقلانية لهم.
بالطبع، هذا الفهم الليبرالي للدولة يعتقد بأن الشعب يحقق هناءه بنفسه من خلال السعي وراء مصالحه، الافتصادية غالباً. ويمكن القول بأن الديمقراطية تاريخياً كانت من منتجات الليبرالية الاقتصادية. أما الدولة فهي مجرد ضابط لتنافس الأفراد وضامن لسلامة ممتلكاتهم وحامٍ لحرياتهم. يجب أن ننتظر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى لنشهد تحولاً في الفهم الأوروبي لدور الدولة في تحقيق هناء الشعب. بين الحربين، وبعد الحرب العالمية الثانية إلى أوائل سبعينات القرن العشرين، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة توجه الدولة نحو الإعالة والضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى تغير طبيعة دورها الضابط والضامن والحامي من ضابط لتنافس الأفراد إلى ضابط لجشع الرأسماليين، ومن ضامن لسلامة الملكيات الخاصة إلى ضامن لسلامة الملكيات العامة، ومن حام لحريات الأفراد إلى حام لحقوق العمال وكل من يمسهم جشع الرأسمالية. نظرياً، هذا يجعل الدولة نقطة التوازن بين الرأسمالية وبقية الشعب من العاملين، ويلغي ذلك العقد الإجتماعي الرومانسي بأن يجعل الدولة حلبة الصراع بين الرأسمالية والعاملين. هذا كان أول اعتراف بأن الشعب ليس كتلة واحدة متجانسة وإنما مصالح مختلفة ومتضاربة. لكن الصراع الطبقي المستعار من الأفكار الاشتراكية الماركسية حافظ على فكرة وجود رغبات محددة ومحدودة، ليس لعامة الشعب بل لكل طبقة. بالطبع لم يفكر أحد بالفلاحين وغيرهم من العاملين في أعمال فردية غير صناعية، وهو جزء لا يستهان به من السكان. هؤلاء إما رأوا الملك والكنيسة في الدولة (الفلاحين وسكان القرى) أو أنهم عارضوا فكرة الدولة من أصلها (الأناركيين من سكان المدن). في تلك الفترة أيضاً نشهد توسيع نطاق الانتخاب ليشمل النساء وغير الملاكين من الطبقات العاملة، أي ليشمل، وياللمفارقة، بقية الشعب. الآن يمكننا أن نتحدث عن النظام الديمقراطي دون اختزاله المجحف بالنظام الجمهوري التمثيلي.
وبما أننا وصلنا في رسمنا لتطور الليبرالية إلى نقطة الإعتراف بعدم وجود شعب، أو على الأقل شعب موحد في رغباته ومصالحه، فلنحاول أن نتوسع في تفصيل هذا المفهوم الغامض (المفهوم غير المفهوم). من مقولاتنا الأساسية التي نعمل على توضيحها في هذه الورقة أن النماذج التمثيلية للدولة (أو لأية ظاهرة اجتماعية)، والتي تبدأ بتعريف مفاهيمها الأساسية كماهيات وتكتفي بعلاقات سببية بين تلك المفاهيم، لا تستطيع أن تضبط حدود هذه المفاهيم ولا هذه العلاقات. إن أقل ما يمكن أن يقال عن هذه المفاهيم أنها غامضة، أو غير مفهومة بالضبط، أو يصعب تعريفها بشكل لا لبس فيه، أو يجب على كل باحث أن يبدأ بوضع تعرفه الخاص لها عند كل بحث، مما يجعل النقاش بين المفكرين السياسيين صعباً ومنتجاً لكم هائل من سوء التفاهم. إن تعريف الشعب كمجموع السكان القاطنين ضمن حدود جغرافية معينة يحيلنا مباشرة إلى قضيتين شائكتين: العضوية في جماعة الشعب، ورسم الحدود وضبطها. نحن بحاجة إلى حدود لنعرّف الشعب، وبحاجة إلى سيادة الشعب على التشريع لرسم تلك الحدود. وكذلك العضوية، فإننا بحاجة إلى تعريف العضوية لنعرّف الشعب، الذي يفترض أن يكون، وقبل كل شيء، صاحب السيادة في إصدار التشريعات التي تحدد العضوية. لكن غالباً ما نعتبر الحدود والعضوية كمعطيين أوليين مفروضين بقوة الدولة. إننا بحاجة إلى الدولة لنعرّف الشعب، قبل أن نحتاج إلى الشعب ليعرّف لنا الدولة ويحدد صلاحياتها بالتفويض. إن دمغة الشرعية التي يعطيها هذا الشعب للدستور والقوانين لاحقة لوجود الدولة وليست سابقة لها. بعبارة أدق، نحن بحاجة إلى السيادة لنعرّف الشعب، فكيف يستطيع هذا الشعب أن يملك السيادة أو يعطيها لأي كان.
إذا تخطينا تجاوزاً هذه المعضلة، وقبلنا بوجود تعريفين مسبقين للحدود والعضوية، وإذا قبلنا أن الشعب هو مجموع السكان، فإننا لا نزال بحاجة إلى قوة القانون لنحدد أفراد الشعب القادرين على التصويت (أي الشعب المفيد سياسياً). لو رفعنا سن حق الإنتخاب من 18 إلى 21 فإن الشعب المفيد سياسياً قد ينقص بنسبة معتبرة قد تصل إلى 5%. فمن يحدد أهلية أي فرد للتصويت، إنه القانون؟ ونعود هنا إلى حجة العقلانية المرتبطة جذرياً بالديمقراطية الليبرالية، فسن الـ 18 يعتبر السن التي يصل فيها الإنسان إلى بداية النضوج والتفكير العقلاني. لا أعتقد أن هذا الاعتقاد يعتمد على أية أبحاث علمية. المشرعون في فترة تاريخية ماضية قرروا أن عدد الناخبين ونوعيتهم المناسبين لاستقرار المنظومة السياسية يتحقق باعطاء حق التصويت لمن هم في الـ 18 فما فوق. لكن جميع الأحزاب، ومنذ أن نشأت الأحزاب في القرن التاسع عشر، تعرف أن طبيعة الناخبين تختلف بين من لديهم عمل ينفقون منه ومن لا يزالون عالة على أهلهم. كما أن الشباب بين سن الثامنة عشرة والخامسة والعشرين يشكلون قرابة الـ 40% من الناخبين؛ وهؤلاء لا يزال عدد كبير منهم على مقاعد الدراسة تحت التدريب، أي لا عمل لهم يعتاشون منه. فما هو نوع العقلانية التي نتحدث عنها في تحديد الشعب المفيد سياسياً، هل هي عقلانية معرفة الصح من الخطأ حسب الأعراف؟ أم هي عقلانية معرفة المصلحة الفردية، ما ينفعها وما يضرها، أم هي عقلانية معرفة المصلحة الجمعية؟ وما دمنا في حديث العقلانية، فمن هم السفهاء الذين لا عقل لديهم ليفكروا به ويعرفوا به مصلحتهم ومصلحة غيرهم؟ المجرمون أم القاصرون عقلياً، أم الإثنان؟ وما هو تعريف كل واحد منهما؟
إذا كان الشعب المفيد سياسياً هو مجموع السكان فوق حد عمري معين، فمن المنطقي أن نتوقع رغبات ومصالح بعدد أفراده. فكيف يمكن إنتاج مطالب شعبية يمكن لممثلي الشعب أن يحيطوا بها ويعبروا عنها؟ من خرج في مظاهرات 2011 في سوريا يعرف تماماً صعوبة تجميع الناس حول أية مجموعة من المطالب. ويعرف أيضاً أن المطالب التي قدمتها أية مجموعة من السكان إلى الدولة (في اجتماعهم مع بشار الأسد مثلاً) لم تكن مطالب يمكن ترجمتها مباشرة إلى منافع فردية؛ وأن هذه المطالب نتجت عن مجموعة من الحوارات الصاخبة، ومقترحات من النخب الموجِهة المحلية، وجلسات طويلة من الإقناع بأن المطالب التي سيقدمها ممثلو المجموعة بداية طيبة ومدخل جيد لعملية تغيير طويلة الأمد. وكذلك هو الحال في مشاريع القوانين التي تناقشها أية برلمانات؛ إنها مقترحات قدمتها نخب من أنواع مختلفة وجيشت حولها الدعم الشعبي. هذه المقترحات ليس لها في الغالب أي تأثير مباشر وآني على أي فرد لوحده، وإنما تأثير على البيئة المحيطة بالأفراد والتي تجعل حياتهم بالمحصل يسيرة أو عسيرة، هانئة أو كالحة. ومهما كانت الإنتخابات ناجحة في عكس مطالب نسب مختلفة من هذا الشعب، أو في التخلص من الممثلين المعيقين لتلك المطالب، فإن هذا النجاح لا ينتج عن معرفة الشعب بمصالحه ككتلة واحدة، وإنما من عملية التنافس بين المرشحين للوصول إلى مناصب الدولة من خلال إقناع الناخبين بأن أجندتهم تتطابق مع أجندة عدد كاف من الناخبين يضمن نجاح هذا المرشح أو ذاك. وهذه العدد الكافي من الناخبين غالباً ما يكون كتلاً مهنية أو أيديولوجية أو مصلحية وصلت إلى صياغة تقبل بها لمصالحها (غالباً من خلال أيديولوجيا)، مما جعلها قادرة على التصويت بهذا الاتجاه أو ذاك ككتلة (وهنا مربط الفرس، ككتلة). أي أن الشعب المفيد سياسياً (أي الذي يحقق أغلبية الناخبين البسيطة) هو نسبة بسيطة من عدد الناخبين الإجمالي. هذه النسبة تتوزع على تيارات أيديولوجية عامة، وتقوم بالتصويت وفق هذه التيارات. لا بل إن الإنتخابات في الولايات المتحدة، مثلاً، أثبتت أن الشعب المفيد هو تلك الفئة التي ترجح كفة هذا المرشح أو ذاك؛ أي أن الكتل الأيديولوجية أحياناً كثيرة لا تستطيع تحقيق الأغلبية البسيطة، فتكون السلطة كلها في تحديد نتيجة الاتخابات بيد مجموعة قليلة من الحياديين، أو الذين ينوون نقل قناعاتهم من هذه الكتلة إلى تلك. فإذا كانت نسبة الناخبين مثلاً %60 بالمئة من مجموع السكان، وكانت نسبة المصوتين في انتخابات ما نصف عدد الناخبين (أي 30% من السكان)؛ وإذا توزع المصوتون على أيديولوجيتين رئيسيتين بنسبة 40% من المصوتين لكل أيديولوجيا؛ فإن نسبة الذين يحددون نتيجة الإنتخابات هي 10% من مجموع السكان؛ وهم أولئك الأفراد الذين يقفون على الحدود بين أيديولوجيتين، لا يعرفون أيهما تحقق مصالحهم (والتي هي بعبارة أدق مصالحهم حسب ما تمليها عليهم الأيديولوجيات التي يتبعونها). الخلاصة التي نصل إليها هي أن نسبة الشعب المفيد سياسياً في أية انتخابات نسبة قليلة من مجموع السكان؛ وأن هؤلاء لا يستطيعون أن يقيموا الحجة العلمية المنطقية على ما يعتبرونها مصالحهم، لأنهم اعتمدوا في صياغة هذه المصالح (أو المطالب، وهذا مصطلح أفضل) على أيديولوجيا تعلموها من أهلهم.
ويعرف كل ناخب في الديمقراطيات القائمة حالياً أن الناخبين لا ينتقون الأفضل للوظيفة من خلال الانتخاب، وإنما ينتقون واحداً مما هو معروض عليهم في سوق الترشيحات. هذه السوق لا يدخلها إلا من ملك المال والدعاية وأدوات التجييش الأيديولوجي، وليس بالضرورة من ملك المؤهلات التقنية أو التفاوضية. وأخيراً، كيف تكون الديمقراطية حكم الشعب إذا كان على 49% من الناخبين أن يقبلوا ما اختارته أغلبية 51% من هؤلاء الناخبين. وكيف لتلك الأقلية الانتخابية أن تعيش حتى دورة انتخابية قادمة مع ما لم ترضه ولا اختارته. وليس من الغريب أن تعتقد هذه الأقلية أنها المحقة وأنها مجبورة على قبول ما اختاره «السفهاء منهم» وبما يناقض ما يرونه مصالحهم. طبعاً الجواب هو، كالعادة، فلينظّموا أنفسهم حتى يربحوا في الدورة القادمة؛ أي أن عليهم أن يعملوا بجد واجتهاد يفوق اجتهاد الأغلبية الإنتخابية حتى يستطيعوا التعبير عن مصالحهم؛ ولن يملكوا هذا الحق، الذي هو أس السيادة، إلا للحظات عند رمي الورقة في الصندوق الاقتراع. إن الناخبين لا يمارسون ما تبقّى لهم من سيادة مزعومة إلا كل دورة انتخابية، كل سنتين أو أربع أو خمس سنوات. وبعد أن يقترع الناخب فإنه يفقد أية سيادة لديه إلى حين الدورة الإنتخابية القادمة. فما دامت الحكومة قائمة فلا سيادة له عليها لأنه تنازل مؤقتاً عن هذه السيادة عندما ألقى بصوته في صندوق الاقتراع.
لا يسع المنظّر هنا إلا أن يقرّ بما يسمونه «نواقص أو عيوب الديمقراطية»؛ لكنه لن يتخلى أبداً عن الديمقراطية نفسها وسيعيد علينا تعريفها كما ذكرناه أعلاه وكأنه كلام منزل من السماء. لا مانع عندي من «قبول تلك العيوب»، لكن يجب أن لا نسميها مصالح وإنما مطالب أيديولوجية، وأن لا نسميه الشعب، وإنما الناخبون المفيدون الذين يرجحون الانتخابات، وأن لا نسميه تمثيلاً وإنما إقرار، وأن لا نسميها سيادة وإنما قبول، وأن لا نسميها شرعية وإنما أمر واقع. إن الفرضية الغائبة في النموذج التمثيلي للديمقراطية هي أن الدولة موجودة ولا يستطيع الشعب أن يطردها نهائياً بحيث يتحمل أعباء سد حاجاته بنفسه. الدولة موجودة، والشعب موجود، ولا يمكن لأيهما أن يتخلى عن الآخر؛ الشعب بحاجة للدولة ومفروض عليه أن يعترف بحتمية وجودها وسرمدية اعتماده عليها. فكيف إذن يكون للشعب أي سيادة على الدولة، إلا كل فترة محددة ولساعات قليلة حين يضطر، وبكامل قواه العقلية، لنقل اعترافه من مجموعة قائمين على الدولة إلى مجموعة أخرى. وحتى هذه السيادة اللحظية ليست كاملة، لأنها سيادة الأغلبية الانتخابية التي تفرضها على الأقلية الانتخابية. لا بل إن الناخب لا يمارس أية سيادة في عملية التصويت، بل يقامر عساه أن يكون من الأغلبية فيمارس سيادة لحظية بمفعول رجعي. إن النموذج التمثيلي الذي نتعامل معه هنا للدولة الديمقراطية بمفاهيمه وعلاقاته بينها ليس نموذجاً لواقع قائم، وإنما تبرير أيديولوجي لمنظومة حكم لا نزال بحاجة إلى دراستها موضوعياً. إن ما نسميه الديمقراطية، ونحسبه واقعاً ممكنا ومخالفاً لادعاءات قومية أو إسلامية أيديولوجية، ليس إلا أيديولوجيا أخرى نؤمن بها أو لا نؤمن، لكننا لا نستطيع أن نثبت صحتها.
أنماط منافسة أو عقبات: النمط القومي للدولة
بالنسبة للمشروع المطروح، في الدولة القومية «السيادة مفهوم مركزي»، «السيادة هنا مرتبطة بالجغرافيا، أي بالأرض التي تملكها الأمة ككل وعبر التاريخ، بأرض الأجداد»، «الأمة-الشعب مصدر السيادة»، «شرعية الدولية تنبع من تمثيلها الحقيقي للأمة-الشعب».
فما هي السيادة، وما هي الشرعية، وما هي العلاقة بينهما في الدولة القومية؟ في البداية، لا بد لنا من تعريف مفهوم الأمة بالنسبة للأيديولوجيا القومية. الأمة مفهوم غامض أكثر من مفهوم الشعب؛ فالشعب مبني على الحاضر، أما الأمة فمفهوم مبني على الماضي. أي يمكن أن نعتبر الشعب الآن، وأن نأخذ أجداده لقرون، وأن نجمع كل هذه الأجيال في مجموعة بشرية واحدة ومستمرة، عضوياً وثقافياً، فتكون تلك هي الأمة. الأمة لها روح أزلية تحملها وتعبر عنها اللغة والثقافة والوطن (أرض الأجداد)، وأحياناً الدين (وهي روح لها آمال ومستقبل ومصير، ككتلة واحدة)؛ أي أن الأمة كائن موجود وحي، كان ويبقى وسيبقى. حوامل الأمة هذه، وإن وقع عليها بعض التغيير، فإنها تحمل جوهراً واحداً لا يتغير عبر العصور هو روح الأمة. لكن الأمة تبقى تعيش في حالة جنينية مادامت تفتقد إلى دولة تحمي وطنها ولغتها وثقافتها. في الحقيقة، بالنسبة للقومية، الأمة لا توجد دون الدولة. الدولة هي التعبير الأمثل عن الأمة؛ هناك تماهٍ بين الأمة والدولة؛ والأمة ككائن حي تتوق لتحقيق نفسها من خلال دولتها السيادية. السيادة بالطبع ملك الأمة وحدها، وتشمل حماية أرضها وأحقية اتخاذ القرارات التي تحقق مصالحها وتضمن بقاءها. وبسبب التماهي بين الأمة والدولة تنتقل هذه السيادة مباشرة إلى الدولة-الأمة (الدولة-الأمة، تعبير غريب فعلاً نضمه إلى بقية المفاهيم غير المفهومة). هذا يعني أن الدولة، وبالدرجة الأولى، هي أداة عنف لحماية الأرض التي ملكتها الأمة منذ الأزل؛ ثم بالدرجة الثانية هي أداة إدارية لتأمين استمرار الأمة، بما يشمله هذا الاستمرار من تأمين المعاش والتعبير عن اللغة والثقافة والتطلعات (للأمة تطلعات مشتركة وموحَدة!). الأمة-الدولة لها أصدقاء قلائل، لكنها محاطة دائماً بالأعداء الذين يريدون سرقة أرضها، التعالي عليها أو أسرها، إيذاء شرفها وسمعتها، وسرقة مقدراتها. الأمة هي الأسرة والدولة هي الأب، الأب المسيطر والحامي والمعيل والقائد. وكالأسرة، الأمة لها أرض تملكها وتاريخ وأجداد وأولاد وسمعة وشرف وإرث؛ ولأولادها حمية ورغبة في الدفاع عنها وفدائها بالأرواح والدماء. وهي بحاجة دائمة إلى الأب، الأب الفذ الذي يقودها إلى بر الأمان، والأب الحامي الذي يصون شرفها ويعلي اسمها، والأب المسيطر الذي يقوّم مسارها ويؤدب أولادها، والأب الرحيم الذي يعيل أسرته ويضمن لها كرامتها. القومية أيديولوجيا تعشق الرموز الذكورية الأبوية، وتعيش في بارانويا دائمة مليئة بالمؤامرات والأعداء الخفيين والخوف من فقدان الهيبة والشرف، وبالتالي العذرية. ولذلك فهي دائمة مهووسة بالجيش والدفاع والفداء بالأرواح والتاريخ والأصول والأجداد والتقاليد والواجبات (الواجبات قبل الحقوق) والطاعة (طاعة الأب والقادة والدولة، ونقيض الطاعة أي التمرد والخيانة) والانضباط والتحكم بكل شيء؛ وبالطبع كل ذلك يجب أن يتم عبر الدولة.
أما الشرعية فتعطيها الأمة مباشرة للدولة-الأمة؛ وأية دولة تحمي الحدود واللغة والثقافة هي الدولة-الأمة. الدولة غير الشرعية هي تلك التي تعجز عن حماية حدودها؛ أو التي تفقد سيادتها على بعض أراضي الأمة؛ أو التي تفقد هيبتها أمام شعبها أو أمام الأعداء الخارجيين؛ أو التي لا تسعى لجمع شمل الأمة كلها تحت مظلتها؛ أو التي ترضى بأن تُحكى لغة أخرى على أرضها. أية دولة تتفادى هذه السيناريوهات، ولو كانت سيئة الإدارة، فهي دولة شرعية ويجب الاعتراف بسيادتها على شعبها. الشرعية نتيجة حتمية للسيادة الكاملة على الأرض، أي للقدرة على استخدام العنف للحفاظ على الأرض وصدّ الأعداء وملاحقة المتآمرين ومعاقبة الخونة.
وكما واجهتنا صعوبات في تحديد مفهوم الشعب في النمط الديمقراطي للدولة، فإننا سنصادف صعوبات مماثلة في تحديد مفهوم الأمة؛ فالأمة أزلية وبالتالي لا يمكن الإنتماء إليها بمجرد الحصول على أوراق تثبت الإقامة واحترام القانون؛ الإنتماء هنا لا يكون إلا عضوياً بالولادة وشجرة النسب. لكن ماذا عن الأقليات الإثنية التي تعيش على نفس الأرض وتحت سلطة نفس الدولة؟ إنهم ضيوف ويجب أن يحافظوا دائماً على أدبهم وولائهم. لكن هل يمكن لهم المشاركة باتخاذ القرارات أو على الأقل المشاركة في الدفاع عن الوطن (أي الخدمة العسكرية)؟ وماذا عن الأفراد والمجموعات الذين يتحدثون نفس اللغة لكنهم يعيشون على أرض غير تلك التي تسيطر عليها الدولة؟ إنهم أسرى في أيدي أمم ودول أخرى. لكن هل يجب إعطاؤهم الجنسية وقبول مشاركتهم في اتخاذ قرارات الدولة؟ هل هم مواطنون غير مقيمين، لكن لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات التي يفرضها الانتماء إلى الأمة؟ الأمة لا تعترف بالمهاجرين والمتجنسين؛ إنها لا تعرف إلا الضيوف والمستعمرين الأجانب.
كيف تنتقي الأمة دولتها؟ في أوروبا القرن التاسع عشر كان الاعتقاد السائد هو أن الأمة بحاجة إلى برلمان يمثلها. لكن هذا لم يمنع الفرنسيين من القبول بنابليون الأول امبراطوراً محبوباً عليهم (ولاحقاً القبول بنابليون الثالث امبراطوراً أيضاً)، ولم يمنع الألمان من التوحد تحت قيادة قيصر بروسيا، ولم يمنع الإيطاليين من التوحد تحت قيادة ملك بيدمونت. لا بل سارت عدة شعوب وراء قادتها المستبدين مثل هتلر وموسوليني، فقط لأنهم أعادوا للدولة هيبتها وكرامتها. من المسلّم به أحياناً حتمية إنتاج الأمة الحية لقائد فذ، لأب قائد تتبعه الجماهير كما تتبع الخرفان حداء الراعي، لأب مهيب يبسط سيطرة الدولة ويدافع عن حمى الأمة. من السهل جداً على الأيديولوجيا القومية اختزال الدولة بشخص قائدها (الملك أو الرئيس) بغض النظر عن كيفية وصوله إلى الحكم أو كيفية إدارته للدولة؛ فعيون القومية موجهة دائمة إلى الحدود وإلى أعداء الخارج أو الخونة في الداخل. القومية تشبه الإسلام السني القروسطي، فهي تضع الشروط المثالية للقائد، لكنها تقبل دائماً بالقائد ذي الشوكة الذي يفرض نفسه كأمر واقع. أي أن السيادة، والشرعية الآنية التي تتبعها، هي دائماً أمر واقع وليس اتفاقاً أو قراراً تتخذه الأمة. القومية لا تفكر حتى في اختراع آليات لاتخاذ مثل هذا القرار، فهي تنتظر القائد الملهم لتتبعه؛ وحين يظهر ويفرض نفسه فإنها تقبل به كما تقبل إناث الخيل بالذكر الشرس الذي يغلب الذكور الآخرين ويمنعهم من الإقتراب من إناث القطيع.
إلى اليوم، ينظر الأميركيون إلى جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، وإلى ثلة الذكور البيض من ملاكي العبيد الذين كتبوا الدستور الأمريكي (الذي لم يتغير إلى اليوم) على أنهم الآباء المؤسسون. وإلى اليوم، يبجل الفرنسيون ذكرى شارل ديغول، الصوت الذي قادهم أثناء الحرب العالمية الثانية من مقر الإذاعة البريطانية. وإلى اليوم، لا يطيق كثير من السوريين المساس بذكرى جمال عبد الناصر، رئيس دولة الوحدة لأربع سنوات تقريباً، لأنه دغدغ مشاعرهم بخطاباته الحماسية من على منبر «صوت الشعب من القاهرة». شكري القوتلي وهاشم الأتاسي لا يزالون آباء الإستقلال، الذي جاءت به طبعاً القوات الإنكليزية. حافظ الأسد، الديكتاتور الدموي، كان بطل الصمود والتصدي ضد إسرائيل والهجمات الإمبريالية. وابنه بشار الأسد، عندما ثار عليه نصف شعبه، أصبح بالنسبة لهم «بائع الجولان»، أي خاسر الشرعية لأنه فرط بأرض الوطن. أما بالنسبة لمؤيديه، فالأسد الابن هو «بطل الممانعة» (تلميح إلى مؤامرات إسرائيل)، و«قائد الجيش»، و«حامي ‘سوريتنا’» من الأعداء الداخليين الخونة. منذ بدايات الثورة السورية وإلى اليوم، لا يزال رجالات نظام الأسد يرددون بهوس عبارات «إعادة هيبة الدولة» و«معاقبة الخونة» و«عودة سيادة الدولة ووحدة أراضيها». لا بل من المضحك أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبناءاً على تجربتهم في العراق كما يزعمون، لا يزالون يدعمون وجود الأسد لأنه حافظ على «بقايا» الدولة. والأمم المتحدة أعطت الحكومة السورية التي تقتل شعبها مليارات الدولارات من أموال الإغاثة لأنها «دولة سيادية». وكما بيّنا في النمط الديمقراطي، فالدولة في النمط القومي تسبق الشعب وتملك السيادة بقوتها وتبني الشرعية من خلال الدعاية والتعليم. لا بل يمكن القول بأن الدولة هي التي تبني الأيديولوجيا القومية كوسيلة لشرعنة وجودها (وهذا موضوع لمقالة أخرى).
هل القومية معيقة للديمقراطية؟ هل يمكن الجمع بين الدولة القومية والدولة الديمقراطية؟ ذكرنا أن الأيديولوجيات القومية ظهرت تاريخياً بالتوازي مع الأنظمة البرلمانية في الحكم واعتبرت البرلمان المنتخب ممثلاً حقيقياً للأمة، أو بلغة الديمقراطية الليبرالية ممثلاً للشعب. القومية تقبل بالدولة الديمقراطية مادامت تلك الدولة قادرة على حماية حدودها، لكنها لا تشترطها. في البلدان الغربية ذات التقليد الديمقراطي، أصبحت الديمقراطية جزءاً من تعريف الأمة؛ خاصة وأن الديمقراطية تميز شعوب هذه البلدان عن بقية شعوب العالم وتعطيها إحساساً بالتفوق القومي، وهذا الإحساس هو في صلب الأيديولوجيا القومية. لكن حتى بعض تلك الدول الغربية، مثل ألمانيا وإيطاليا، أعلت في مرحلة من مراحل تاريخها من شأن حكومات غير ديمقراطية من منطلق قومي بحت. وشعوبها اليوم تعود إلى انتخاب حكومات يمينية قومية الخطاب (معادية للمهاجرين وللعالم الخارجي ومهووسة بأمن الحدود والحرب على الإرهاب) من خلال صناديق الاقتراع الديمقراطية. أما بالنسبة لبقية دول العالم فإن النخب الحاكمة تعود دائماً إلى اللعب على وتر الهجمة الخارجية كلما ضعف القبول الشعبي لها؛ أي أنها تبني شرعيتها القومية متى ضعفت شرعيتها الديمقراطية. الهند عندها الخطر الباكستاني، والصين عندها الخطر التايواني، وإسرائيل عندها خطر حماس، وإيران عندها خطر إسرائيل، وتركيا عندها خطر الإنفصاليين الأكراد، والجزائر عندها خطر المغرب، والمغرب عنده خطر البوليساريو في الصحراء الغربية، والسعودية عندها الخطران الإيراني والقطري، وسوريا بشار الأسد عندها الجماعات المسلحة الإسلامية التابعة لتركيا، وهكذا..
القومية تحيلنا دائماً إلى الشمولية والديكتاتورية لأنها تختزل الدولة بالقائد الرمز، وتعلّق القانون بدعوى الخطر الخارجي، وتقمع النشوز عن الإجماع بدعوى الخيانة أو المساس بالتقاليد ووهن روح الأمة، وتلغي حقوق الأقليات القومية والمهاجرين بدعوى النقاء القومي، وتقبل بميزانيات خيالية للقوات العسكرية بدعوى الخطر الخارجي الداهم، وتركز على هيبة الدولة وطاعة أولي الأمر بدعوى وجود خونة داخليين. الديمقراطية تحافظ على مظهر حكم الشعب للشعب، أما القومية فسرعان ما تضحي بذلك المظهر أمام مزاعم الخطر الخارجي أو الداخلي. ويمكن القول بأن أكبر خطر تتعرض له الديمقراطيات القائمة حالياً هو تصاعد الشعور القومي. وهذه الديمقراطيات استخدمت دائماً القومية كإحدى أدوات شرعيتها (التحويل من الشرعية الديمقراطية إلى الشرعية القومية كما أوضحنا سابقاً) باعتبارها الديمقراطية أحد منجزات الأمة وثقافتها وليس نموذج حكم يمكن عزله عن الثقافة. وللمفارقة، فهذه الديمقراطيات تدعو للديمقراطية كنظام حكم يمكن تصديره كأداة إمبريالية لتعظيم سلطة الأمة على الأمم الأضعف. يبدو أن هناك تناقض بين الديمقراطية والقومية في العصر الحديث، عصر العولمة، إذ لا تنمو الواحدة إلا بضمور الأخرى. أما نموذج السيادة والشرعية في الأيديولوجيا القومية فلا يشرح إلا القليل من ديناميكية الدولة كإدارة لأنه يركز على وظيفة الدفاع. وتبقى الدولة هي الواقع الذي يفرض نفسه، وليس على الشعب إلا القبول والإذعان وإلا تحوّل إلى مجموعة من الخونة والمتمردين والأعداء الداخليين المتآمرين مع الأعداء الخارجيين.
أنماط منافسة أو عقبات: النمط الإسلاموي للدولة
بالنسبة للمشروع المطروح، في الدولة الإسلامية «السيادة لله فهو المشرّع الوحيد»، «الأمة مجموعة دينية تخضع للإله الواحد وشريعته»، «الشرعية تنبع من فرض الدولة للتشريع الإلهي»، «وهي تفرض هذا التشريع من خلال قوة السلطان».
فما هي السيادة وما هي الشرعية وما هي العلاقة بينهما في الدولة الإسلامية؟ في الحقيقة، فإن السيادة كمصطلح غريبة عن الأيديولوجيا الإسلاموية. فالشعار الذي تطرحه هذه الأيديولوجيا هو فقط «الله هو المشرّع الوحيد»، وهو شعار يدل على رفض القوانين الوضعية، أي القوانين التي يضعها البشر، والقبول فقط بالقوانين التي وضعها الإله. لا تستخدم الإسلاموية مصطلح السيادة إلا حين تتكلم عن الديمقراطية، وخاصة النظام البرلماني في التمثيل والتشريع. وباعتبار أن الديمقراطية تركز على كون سيادة الشعب هي سلطته في اتخاذ القرارات وإدارة شؤونه (عبر ممثليه في البرلمان)، فإن الإسلاموية وضعت نفسها دائماً، بوعي منها أو بدون وعي، في تضاد مع الديمقراطية لأنها ترفض أن يكون الشعب مصدر التشريع، أي ترفض تعريف السيادة الذي تطرحه الديمقراطية. أما شرعية الدولة الإسلاموية فتنتج عن فرضها للشريعة الإلهية. السيادة هنا توجد بنفسها، فهي متعالية ولادنيوية ولا يملكها إلا الإله، لا الدولة ولا الأمة. أما الشرعية فتنبع من القدرة على فرض سيادة الإله بقوة، أو عنف، الدولة (وليس بقوة الإله) هنا في هذه الدنيا.
هنا يجب التنويه إلى أن الشريعة الإسلامية لا تفرّق بين الدولة وبين شخص السلطان. المعنى المعجمي للدولة يحيل إلى انتقال القوة الضاربة المسيطرة من شخص إلى آخر أو من مجموعة إلى أخرى. هذا الإنتقال (أو التداول، الأمر دولة بينهم) يعيدنا إلى الفكرة القديمة عن «دولاب الحياة» الذي يعلي من شأن البعض ليعود فيحط من مكانتهم، يعطيهم الثروة والسلطان ليعود فيأخذهما منهم. فنقول «دولة المأمون» أو «دولة بني العباس» أي انتقال السلطان إليهم وبقائه فيهم. أما الدولة بتعريفها الحديث، أي المؤسسات والدستور والوظائف والصلاحيات، فلا تزال الشريعة الإسلامية بعيدة عن فهمها وإدخالها في منظومتها الفكرية. ولذلك فإن الحديث عن الدولة عند الإسلامويين لا يعني الحديث عن الدولة عند المفكرين المسلمين القدماء أو عن الدولة في الشريعة الإسلامية. الإسلامويون يجابهون الدولة الحديثة كل يوم ويتعاملون معها ويثورون عليها بأدوات حديثة، لكنهم لم يطوروا أية أدوات تحليلية خارج إطار فهم كتب الشريعة القديمة لـ«دولة السلطان». يمكن القول بأن الإسلامويين هم فقهاء السياسة الشرعية في العصر الحديث، لكنهم ليسوا فقهاء الشريعة. وهم الذين يتصدون، ضمن إطار المعتقدات الإسلامية العامة ومفاهيم الشريعة عن «دولة السلطان»، إلى مهمة التعامل مع الدولة الحديثة وإعادة تعريفها على أسس يعتقدون أنها إسلامية، لكنها في الحقيقة أسس مستحدثة.
بالنسبة للإسلاموية، لا توجد أية علاقة بين السيادة والشرعية؛ ولا يمكن للدولة أن تملك السيادة، لكنها تستطيع امتلاك الشرعية أو فقدانها. وفي الحقيقة، لا نعرف بوضوح الحد الفاصل بين امتلاك الشرعية وفقدانها. فقهاء الإسلام السني، وهو المعني في هذه المقالة، فصّلوا شروط الإمامة أو الخلافة على مقاس الحاكم الذي كتبوا مؤلفاتهم من أجله، واعترفوا دائماً بسلطة الأمر الواقع. فإذا فرض السلطان نفسه بالعنف فهو مقبول ما دام يحمي الأمة ويطبق الشريعة. وحتى هاتين الوظيفتين تتلاشيان أمام خطر الفتنة، أو اقتتال المسلمين بسبب الإختلاف على شرعية الحاكم. ولا توجد هناك مساحة كبيرة تفصل بين عدم احترام القانون (وهو هنا نقد السلطان) وبين تحدي شرعية السلطان (أو ما يسمونه «الخروج على الحاكم»). هذا يعني أن حوار الشرعية سرعان ما يخفت تماماً أمام خطر الفتنة، وتصبح طاعة السلطان فضيلة وضرورة. التركيز دائماً على شخص السلطان بحيث يتماهى مع الدولة. وبالرغم من ضخامة مؤسسات الدولة الحديثة، إلا أن الإسلامويين لا يتخلون عن الأدوات المفهومية القديمة التي ذكرناها، حيث يتماهى السلطان مع الدولة، وحيث يقتصر الحكم على عدالة السلطان من خلال تطبيقه للعدالة الإلهية (سنعود إلى هذه النقطة لاحقاً). ولذلك يجب التمييز وبوضوح بين الإسلاموية والإسلام، وبين القانون والشريعة، وبين السلطان ومؤسسات الدولة، وبين «السياسة الشرعية» والسياسة الإسلاموية، وبين إعادة الخلافة وبناء الدولة الحديثة. هذه الإنتقال الحر بين المصطلحات الحديثة والمصطلحات القديمة للشريعة، واعتبارها متساوية في المعنى والدلالة، هو الذي يخلق المساحة الفكرية التي يتحرك ضمنها الإسلامويون ويستطيعون ضمنها نقل مفاهيم السيادة والشرعية من الدين الإسلامي إلى السياسة الحديثة.
نأخذ هنا كمثال الانتقال الحر، أو المماهاة، بين مصطلحي الشريعة والقانون. الشريعة هي الأحكام (الأخلاقية والجنائية والتجارية والأسرية والعقائدية) التي ذكرها القرآن وصرحت ببعضها السنة، واستنبطها الفقهاء، بناءاً على القرآن والسنة وبعض المبادئ العامة، على مر العصور. الشريعة الإسلامية ليست مقولات مسلسلة ومرقمة (لتسهيل الإحالة إليها) ونصها ثابت ومضمنة في كتب معروفة وتشمل كل نواحي نشاطات المجتمع والدولة ويدرسها المحامون والقضاة والسياسيون والبيروقراطيون. هذا التعريف ينطبق على مصطلح القانون ولا ينطبق على مصطلح الشريعة. مواضيع الشريعة أشمل من مواضيع القوانين؛ القوانين لا تشمل الأخلاق إلا في حالات قليلة (مثل التعري علناً، الدعارة، أو الكذب تحت القسم وأمام محكمة مكلفة)؛ والقوانين لا تشمل الشعائر الدينية ولا الزكاة ولا الزنا (إلا كأساس للطلاق) ولا العقيدة ولا أنفال الحرب. الشريعة تقبل الاختلاف بين الفقهاء ولا تجبر القاضي على الالتزام بنص محدد؛ ولا تضبط عمل الدولة إلا من خلال معان غامضة عن العدالة والشورى والإمامة التي تنطبق على أشخاص وليس على مؤسسات. الشريعة تحتاج إلى أن يختص الفقيه في نصوص مقدسة محددة (وبعض الأدوات المنطقية البسيطة مثل القياس الأرسطي) ولا تقبل التشريع بالتفاوض أو التصويت أو الاتفاق (رغم قبولها بمفهوم غامض، يسمونه الإجماع)؛ كما لاتعير اهتماماً للفلسفات الحقوقية والقانونية والأخلاقية والسياسية التي طورتها البشرية خلال القرون القليلة الماضية. لكن الشريعة لا تدرس ميزانيات، ولا تضع معايير للأبنية السليمة والطرقات والأدوية، ولا تضبط حركة السير، ولا تقرّ اتفاقيات دولية، ولاتفصّل في النظام القضائي (المحاماة، الاستئناف، النقض، النقض العليا)، ولا تحدد صلاحيات الرئيس والوزراء والبرلمان وكيفية تعيينهم، ولا تفصّل الضرائب، ولا تضبط عمل البنوك أو أسواق البورصة أو الشركات أو المؤسسات العامة. لكن كل هذا لا يهم، فبالنسبة للإسلامويين، القانون من وضع البشر (أي متغير حسب أهوائهم) والشريعة من وضع الإله (أي ثابتة حسب السنن الكونية التي وضعها هو نفسه). إنهم يريدون الدولة الحديثة أن تفرض الشريعة الإسلامية، وهذا ما يسمونه بالسياسة الشرعية (وهو نقل آخر لمفاهيم قديمة). مفهوم «السياسة الشرعية»، أي قيادة المجتمع والدولة حسب أحكام الشريعة الإسلامية، كان فكرة مستحدثة قال بها ابن تيمية في القرن الثالث عشر الميلادي. ولم يكن الغرض من هذه الفكرة الحد من صلاحيات الملك، بل بالعكس، فإنها استُحدِثت لشرعنة الدولة المملوكية وللحض على الإذعان لقرارات حكامها العسكريين. ثم استخدمها الإسلامويون لتعني كل أمور ومؤسسات ووظائف الحكومة الحديثة. بأن جعلوا القانون هو الشريعة ومجلس الشعب هو مجلس الشورى والرئيس هو السلطان.
لكن الإسلاموية لم تكن دائماً على تناقض مع النظام البرلماني في سن القوانين. مصلحو القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ونسختهم الحركية المتمثلة بجماعة الإخوان المسلمين، لم يكونوا يرفضون البرلمانية. كثير منهم عادوا السلطان عبد الحميد الثاني لأنه عطل الدستور وحل مجلس النواب (مجلس مبعوثان). وبعض هؤلاء المصلحين شاركوا في مشاريع لتقنين الشريعة الإسلامية، أي كتابتها على شكل قوانين يمكن للقضاء في الدولة الحديثة استخدامها والإحالة إليها دون لبس أو آراء فقهية متضاربة. الدولة العثمانية، ومنذ بداياتها، كانت تطبق نوعين من التشريعات: «الشريعة الشريفة» التي كان يعمل بها القضاء الشرعي (وهي اليوم محتواة في قانون الأحوال الشخصية ضمن القانون الموصوف بالوضعي)، وما كان يسمى بـ «القانون» الذي كانت تعمل به المحاكم التجارية والعسكرية، والذي كان يتضمن أحكام السلطان (ومن هنا جاء لقب السلطان سليمان، أي القانوني). منذ بداية الإسلام اعترف الفقهاء بحاجة الملك إلى سن قوانين إجرائية لتنظيم دولته، واعترفوا بضرورة الإذعان لصاحب الشوكة ولو كان مستبداً ما دام يحارب الفتنة ويحمي الأمة.
اليوم، الدولة، بما هي أداة فرض بالعنف، تشكل مركز الأيديولوجيا الإسلاموية. أينما حلت الإسلاموية يحتدم الصراع على القوة الضاربة للدولة. لقد جعلت الإسلاموية الدين حبيساً للدولة، لا يمكن أن يقوم ويستقيم إلا بها، وأخضعت المجتمع بالكامل لسلطة الدولة-الدين (الدولة=الدين). إن الإسلاموية أكثر شمولية من أي نظام سياسي شمولي حديث لأنها «دين ودولة» (الإسلام الجديد)، أي لأنها تزعم امتلاك الشريعة والقانون (من حيث أن الشريعة تشمل القانون)، أي صلاحية تنظيم وضبط كل شيء من الأفكار الشخصية والمعاملات بين الناس إلى وظائف مؤسسات الدولة. باعتقادي، تعبّر الإسلاموية عن قلق عميق تجاه التغييرات الجذرية والشاملة التي بدأت مع الثورة الصناعية في أوروبا. إنه قلق وجودي لا يستطيع أن يرى الفرد إلا ضمن الجماعة (تصور معين للجماعة كتوسيع للأسرة، أي الجماعة كحارة أو كقرية)، ولا يستطيع أن يتصور الجماعة دون الشريعة الإلهية (الثابتة) التي تضمن هناءها في الحياة وخلاصها في الآخرة (لكنه قلق عبرت عنه أيضاً أنظمة شمولية مثل الفاشية والشيوعية). إنه قلق معنى؛ أي ما معنى حياة الفرد في مجتمع لا تجمعه التقاليد وتضبطه خشية الإله، وإنما يجمعه احترام القانون وخشية قوة الدولة المؤسساتية غير المشخصنة؟ ما معنى حياة الفرد ضمن هامش حرية عريض تحدده قوانين متغيرة (أي غير إلهية)؟ حدود الله (كتشريعات) كانت حدود المجتمع التي تضمن بقاءه، أما اليوم فما هو ضامن بقاء المجتمع؟ كيف ستتغير تحت الدولة الحديثة معاني العدالة، الحرية، الأخلاق؟ إن الدولة السلطانية القديمة متعالية وبعيدة تضمن الأمان ولا تطلب إلا الطاعة والضريبة، ويمكن دائماً فهمها من خلال المثال الأسري (أي السلطان يساوي الدولة وهو نفسه الأب، والرعية هم الأولاد). أما الدولة الحديثة فتدخل في كل تفصيل من تفاصيل حياة الإنسان ولا يمكن فهمها بالمثال الأسري؛ مما يسبب القلق.
باعتبار أن الشرعية تنبع من القدرة على فرض سيادة (أو شريعة) الإله بقوة الدولة، فهذا يعني أن هناك سيادة من نوع آخر، سيادة مشتقة، ونعني الحق في فرض الشريعة الإلهية (وهو الحق الذي تدعيه وتحتكره الدولة الإسلاموية)؛ وهي سيادة تنبع من الشرعيّة. الشرعية هي القدرة على الفرض، والسيادة المشتقة هي الحق في ممارسة هذا الفرض. وبسبب ربط الإسلاموية للدين بالدولة، ومنحها السيادة المشتقة للسلطان، فإنها تضع السيادة الإلهية في خطر. فإذا اختار السلطان فرض تشريعات بشرية المصدر أو استبد في حكمه، ثم خرج عليه البعض ولم يستطيعوا إزالته من سدة الحكم، فإن الإله بحاجة إلى معاقبة هذا السلطان بنفسه وبتدخل مباشر بحيث يرى الجميع يد الله الضاربة (صاحب السيادة ومصدر الشرعية). فإن لم يفعل فإنه سيفقد شيئاً فشيئاً سيادته (أي احتكار التشريع) وستصبح السيادة المشتقة هي سيدة الموقف. إن ربط الدين بالدولة بالطريقة الإسلاموية يلغي تماماً الحاجة إلى يوم الحساب وبالتالي الحاجة إلى الإله نفسه، ويصبح الكفر بالدولة طريقاً سهلة للكفر بالإله. يبدو هنا أن علمانية الدولة ضرورة لبقاء الدين واستمراره في العصر الحديث (سنعود لهذه النقطة لاحقاً).
أما الأوامر الإلهية، مصدر التشريع وأساس السيادة، فإن النموذج الإسلاموي يفترض أنها معروفة وواضحة وضوحاً لا لبس فيه أو غموض. لكن هذه الأوامر في النهاية لا يمكن للإنسان معرفتها إلا من خلال النصوص المقدسة، التي تحتاج بدورها إلى فئة من العلماء المختصين الشارحين والمفسرين. وإذا أقررنا بأن عدد الأوامر الإلهية في النصوص المقدسة محدود ولا يشمل كل حاجات المجتمع البشري المتغير، فإن الحاجة إلى هؤلاء العلماء تزداد ليستنبطوا أحكاماً مناسبة للحالات الجديدة المحدثة التي لا تشملها القوانين الإلهية الصريحة. إن نقل الصفة الإلهية من النص المقدس إلى النص المستنبّط لحاجة محدثة يفترض قدرة المنطق المستخدم في الاستنباط على الوصول إلى النتيجة التي كان الإله نفسه سيصل إليها حتماً وبالضرورة لو طرِحت عليه تلك الحاجة المحدثة نفسها. إن ضعف المنطق يعرّض قداسة الأحكام المستنبَطة للنقصان؛ وإن استسلام العلماء المستنبطين لأهوائهم ينفي هذه القداسة نهائياً. فنعود عندها إلى معضلة السلطان نفسها ومحورية التزامه الذاتي وصحة اجتهاده في فهم الشريعة الإلهية. إن السيادة والشرعية في الدولة الإسلاموية أكثر هشاشة منها في الأنظمة الأخرى.
النمطان القومي والإسلاموي متقاربان في نواح كثيرة، رغم زعم الإسلاموية أن الرابطة الدينية الإسلامية أوسع وأقوى من الرابطة القومية، العربية أو غيرها. إن محاربة الإسلاموية للأيديولوجية القومية ليست بسبب صراع الإسلاموية مع الديكتاتوريات العربية ذات النزعات القومية غالباً، بل لأن الإسلاموية والقومية تحملان أفكاراً متشابهة، وبالتالي فهما تتنافسان على نفس الشريحة الاجتماعية من الأنصار والأتباع. ويمكن اعتبار الإسلاموية أيديولوجيا قومية دينية، فمفاهيم الدين والأمة الإسلامية ودار الإسلام في الأيديولوجيا الإسلاموية تقابل مفاهيم الثقافة والأمة القومية وأرض الأجداد في الأيديولوجيا القومية. شرعية الدولة القومية تنتج من حمايتها لأرض الأجداد وتراث الأمة (أعراف وعادات ولغة وثقافة)؛ وشرعية الدولة الإسلاموية تنتج من حمايتها لدار الأمة الإسلامية ودينها (باعتباره تراث الأمة) وتطبيقها للشريعة الإلهية (التي تعتبرها أساس الدين، لا بل متماهية معه). في اللغة العربية، تشترك الأيديولوجيتان في استخدام المصطلح نفسه للتعبير عن الجماعة، ونعني مصطلح الأمة، مما يسهل الانتقال من إحداهما إلى الأخرى، وهذا بالتحديد هو أساس الخلاف بينهما. لا بل إن تعريف الأمة من منطلق قومي يشابه في غموضه تعريف الأمة من منطلق إسلاموي: من هم الأعضاء؟ كيف يدخل الفرد في العضوية أو يخرج منها؟ ما حكم الفرد المنتمي إلى الأمة لكنه يعيش خارج دولتها؟ ما حكم الفرد الذي لا ينتمي إلى الأمة لكنه يعيش داخل دولتها؟ الدين الإسلامي والأمة الإسلامية حسب الإسلاموية لا يستطيعان الحياة دون الدولة الإسلامية (الدولة=الدين)، والثقافة القومية والأمة القومية لا تستطيعان الحياة دون الدولة القوية (الدولة=الأمة). ورغم ادعاء الإسلاموية لمبدأ أممي يتخطى حاجز القومية الإثنية، إلا أن الجماعات الإسلاموية التي نجحت في الوصول إلى الحكم، كما في إيران أو غزة أو باكستان أو السعودية، تدغدغان المشاعر القومية الضيقة لرعاياها من خلال المماهاة بين الدين والثقافة بحيث يصبح الدين عنواناً للتفوق الحضاري القومي. وقد رأينا مثل هذا الاستخدام للقومية في الدول التي تعتمد النمط الديمقراطي. إن أي فقدان للشرعية حسب الأيديولوجيا الأولى (الديمقراطية أو الإسلاموية) يمكن تعويضه من خلال الشرعية حسب الأيديولوجيا القومية.
هل الإسلاموية معيقة للديمقراطية؟ هل يمكن الجمع بين الدولة الإسلاموية والدولة الديمقراطية؟ الإسلاموية السلفية التي ترفض القوانين الوضعية وترفض إعطاء ممثلي الشعب (أو الأمة) حق التشريع لأن ذلك الحق هو لله وحده، هذه الإسلاموية ترفض الديمقراطية فكرةً وأدواتاً وممارسةً. لكن رأينا أن الإسلاموية الإخوانية (الأكثر انتشاراً والأقدم تاريخاً من السلفية كما نعرفها اليوم) لا تعادي النظام البرلماني ومبدأ الإقتراع في اختيار الممثلين ورأس السلطة التنفيذية، وترحب بالبيروقراطية ومؤسسات الدولة الحديثة. لكن هناك حدود لهذا القبول ومخاطر لهذا الترحيب.
أولاً، ترى الإسلاموية في تطبيق الشريعة الإسلامية (كقانون للدولة وبعنف الدولة) هدفها الأسمى (الدولة=الدين). لكنها تعترف أن عقبات كثيرة تعترض الوصول إلى هذا الهدف: هناك الغرب العلماني الذي يعادي الإسلاموية ويستطيع بقوته الاقتصادية والعسكرية أن يعيق وصولها إلى الحكم واستقرارها فيه. المفارقة في الأمر هي أن الغرب يرى في الأيديولوجيا الإسلاموية ردة فعل قومية محلية على طغيان الثقافة الغربية؛ وكذلك الإسلاموية تنظر إلى الغرب بمنظار قومي كقوة استعمارية تهدف إلى سرقة الأرض (دار الإسلام) والقضاء على الثقافة (أي الدين) واستغلال الموارد (ما أعطاه الله للأمة). وهناك أيضاً فكرة ممثلي الشعب، البرلمان، التي لاقت قبولاً واسعاً في كل بلدان العالم، من منطلق قومي حيث البرلمان يمثل الشعب، ومن منطلق مشاركة الشعب في اتخاذ القرارات التي تهمه. فكيف تزاوج الإسلاموية بين حاكمية الشعب (سيادته) من خلال البرلمان أي التشريع والحكم، وبين حاكمية الله (سيادته) من خلال الشريعة ودولة الإسلام التي تطبق شريعته؟ رغم تصريح الإسلاموية الإخوانية بقبول البرلمانية، إلا أنها تفرغها من محتواها بحيث يصبح البرلمان مجلس شورى السلطان (يقدم النصح فقط) وتصبح قدرة البرلمان على التشريع محدودة باستحالة معارضتها لحدود الله (الأحكام القرآنية التي فيها نص) وكذلك باعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأوحد للتشريع (أو المصدر الأساسي للتشريع). هذا المادة، التي جاء بها دستور عام 1950 في سوريا، تعني بأن أي تشريع صادر عن البرلمان يجب أن يحصل على دمغة «الإسلامية» من ممثلي الدين والقائمين عليه، أي من علماء الدين. مهما حاول الإسلامويون إخفاء هذه النقطة المحورية، فإن أية دولة يتصورونها لا بد أن تشتمل على نوع من أنواع ولاية الفقيه. ولا ينفي الإخوان المسلمون انبهارهم بالنموذج الإيراني في الحكم، والذي زاوج بمهارة بين البرلمانية (باعتبارها مجرد أداة تقنية في الحكم) وبين ولاية الفقيه (الذي يمارس الوصاية على البرلمان وينصحه في حال مخالفته لتعاليم الشريعة الإسلامية كما يراها الفقيه).
هذا النقاش يقودنا إلى الحديث عن موقف الإسلاموية من العلمانية، التي يعتبرها البعض أساساً من أسس الديمقراطية. لابد من الإعتراف بأن الإسلاموية لا تنظر بعين الارتياح إلى ابتعاد قانون البلاد عن الشريعة الإسلامية، لأن المماهاة بين القانون والشريعة من أهم أسس الإسلاموية، ولأن الدين كما تراه الإسلاموية لا يستقيم دون اضطلاع الدولة بتطبيق التشريع الإلهي. هذه المعضلة عادت وتعود بصياغات مختلفة: فهناك صياغة الحاكمية والسيادة (الحاكمية والسيادة لله والسلطان للأمة)، والصياغة الدستورية (القرآن دستورنا، أو نص الدستور على أن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع)، والصياغة القومية (الشعب هو الأمة ودين الأمة هو ثقافتها) والصياغة القانونية (رفض القوانين الوضعية لأنها من وضع البشر وبالتالي فهي تتغير مع تقلبات أهوائهم)، والصياغة العلمانية (الإسلام دين ودولة، لا يمكن عزل الدين عن الدولة). هناك فهمان رئيسيان للعلمانية الغربية، الفهم الفرنسي والفهم الأنكلوساكسوني؛ لكن تطبيق كل دولة غربية لأحد هذين الفهمين يختلف عن الأخرى مما يوحي بأن علمانية الدولة في الأنظمة الديمقراطية الغربية هي من نتاج تاريخ تلك الدولة، تماماً كما هي ديمقراطيتها (ليس هناك نموذج ديمقراطي واحد). منذ قيام الثورة الفرنسية والفكر التنويري الفرنسي مهووس بمعاداة الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها حليفاً للملكية والأرستقراطية. لكن القانون الفرنسي لم ينص على «فصل الدين عن الدولة» (ويعنون فصل الكنيسة الكاثوليكية عن أموال الدولة ومنع الدولة من أن يكون لها دين رسمي) إلا عام 1905 بعد أزمة سيطرة الكنيسة على التعليم الابتدائي، وفي أعقاب الدور التهييجي والعنصري الذي لعبته الكنيسة في قضية الضابط اليهودي درايفوس الذي اتهم زوراً بالعمالة لألمانيا (1894-1906). أما الدستور الفرنسي فلم يذكر صراحة أن الدولة الفرنسية «هي دولة علمانية (لائيكية)» إلا عام 1946. أما العلمانية الأنكلوساكسونية فتطلب من الدولة أن تعامل كل الأديان بالتساوي (وهذا غالباً ما كان يعني معاملة الكاثوليك والبروتستانت غير الأنجليكانيين بالتساوي مع البروتستانت الأنجليكانيين). ولا تزال ملكة بريطانيا رأس الكنيسة الأنجليكانية، ولا تزال كثير من دول أوروبا الشمالية تعترف بدين الملك كدين رسمي وتجبي ضرائب الكنيسة نيابة عنها، ولا يزال الخضوع للإله الأوحد جزءاً من قسم الولاء (غير الرسمي لكن المعمول به في كل مكان) في الولايات المتحدة. في كل الأحوال، لا يزال النقاش قائماً حول معنى «فصل الدين عن الدولة» في كل الدول الغربية والولايات المتحدة، خاصة فيما يخص أديان المهاجرين غير المسيحيين. وإذا افترضنا وجود أيديولوجيا ديمقراطية واحدة (وهذا غير صحيح باعتقادنا) عالمية وقابلة للتصدير من الغرب إلى العالم، فإن العلمانية ليست شرطاً من شروطها ما دامت قرارات البرلمان هي القوانين الوحيدة المعتبرة في البلاد (حتى وإن كانت قوانين ذات منشأ ديني).
أما الإٍسلاموية فلا تفهم من العلمانية (أياً كان شكلها) إلا فصل القائمين على الحكم عن أديانهم (وبالتالي عن أخلاقهم، مما يعني عدم كفاءتهم للمنصب الذي يشغلونه)، في أسوأ الأحوال، ورفض الدولة للشريعة الإسلامية كقانون (ودائماً الشريعة ككتلة واحدة وليست كأحكام منفردة)، في أحسن الأحوال. الدين لا يتجزأ، والشريعة ليست نصوصاً منفصلة عن بعضها البعض، ومناقشة البرلمان لأي حكم من أحكام الشريعة يعتبر إهانة لقدسيتها ومصدرها الإلهي (فقط لأن هناك احتمال، ولو بسيط، أن البرلمان سيرفض الإقرار بنص حكم الشريعة). في الحقيقة فإن الإسلاموية تخشى من العلمانية لأن الأخيرة، بمعنييها الفرنسي والأنكلوساكسوني، تشكل تهديداً للسيادة المشتقة كما وصفناها أعلاه. من الواضح أن الإسلاموية لا تعتقد بأن الإله سيطبق شريعته بنفسه، وأنها تعتقد بحاجة الإله إلى الدولة لتطبيق تلك الشريعة (التشريع لله والسلطان للأمة). وكما وضحنا فأن نقل القدسية من القرآن إلى القانون (أو نقل السيادة من الإله إلى الدولة) يعتمد على اجتهاد الفقهاء (استخدام منطق القرآن نفسه في استنباط الأحكام) وعلى ورع الحكام (استخدامهم لقوة الدولة في فرض الشريعة بوازع ذاتي). من الواضح أن هذا الإجتهاد وذلك الورع خاضعان تماماً للنفس البشرية (التي لا يثق بها الإسلامويون، من باب «ولا تكلنا لأنفسنا ولو طرفة عين»)، وبالتالي فإن الحفاظ على السيادة المشتقة للدولة لابد لها من جرعات مستمرة من الدعاية لإسباغ نوع من القدسية على الفقهاء (ولاية الفقيه) وعلى الحكام (السلطان). لا بد أن يستمر الشعب بالاعتقاد بالتأييد الإلهي للفقهاء والرضى الإلهي عن الحكام، وبالتالي فلابد من أن يظهر هؤلاء وأولئك بمظهر الورع والتقوى وطاعة الإله والخشية من عقابه. و هذا الإشهار للورع والتأييد الإلهي معروفان، فهما من أدوات الكهنوت الرئيسية والأساسية. فإما أن يكون الحكام من الفقهاء أو من القائمين على الشعائر الدينية أو أن يظهروا دائماً بصحبة بعضهم البعض في أماكن العبادة يقومون «بما يرضي الله» من شعائر وأركان دينية. ولذلك فإنه من المهم مثلاً لرئيس إسلاموي مثل الرئيس التركي أردوغان أن يظهر على شاشات التلفزيون يقرأ القرآن، وأن يظهر الرئيس المصري الراحل محمد مرسي يؤم وزراءه في صلاة الجماعة، وأن يظهر المجاهدون الإسلامويون في سوريا يصلون وأسلحتهم الروسية إلى جانبهم والقرآن بأيديهم، وأن يظهر السياسيون الإخوانيون وزبيبة الصلاة على رؤوسهم، وأن يستقبل رئيس الشيشان قاديروف شعر النبي محمد بخشوع. إن إشهار التدين (أو كما وصفه القرآن بدقة «رئاء الناس»، أي حتى يراه الناس) حاجة عملية أساسية للإسلامويين لن يستطيعوا البقاء في الحكم دونها مهما حاججوا عكس ذلك. إن اقتراب السياسيين الإسلامويين من مصاف الكهنوت (بالمضمون أو بالمظهر) ضرورة نظرية أساسية لاكتساب السيادة المشتقة وبالتالي الشرعية. العلمانية الغربية ليست من شروط الديمقراطية، ولا تشكل خطراً على «حاكمية الله» وإنما تشكل خطراً على شرعية الدولة الإسلاموية. ولذلك فإنه يمكن القول بأن هوس الإسلامويين بنقاش العلمانية لا يأتي بالضرورة، أو بالكلية، من هوس الغرب بمعاداتهم (وهذا هوس موجود)، وإنما من حاجة الإسلامويين الماسة إلى لبس ثياب الكهنوت. إن «ولاية الفقيه» حتمية طبيعية للإسلاموية حتى ولو أنكرها أتباعها.
ثانياً، ونعود إلى نقاش العلاقة بين الإسلاموية والديمقراطية، تفهم الإسلاموية الاقتراع في النمط الديمقراطي على أنه «ديكتاتورية الأغلبية»، أي أن الرأي هو دائماً ما تراه الأغلبية (مجرد 51% من الناخبين أو المقترعين). في حين ترى الديمقراطية أن الأغلبية مرتبطة بموضوع النقاش (أي أن الأغلبية هي أغلبية انتخابية تتغير بحسب الموضوع)، ترى الإسلاموية أن الأغلبية هي الأغلبية الطائفية. ولم لا، فإذا كان البرلمان يناقش القوانين التي تعبر في النهاية عن مصالح الشعب، فإن القوانين كلها موجودة في الشريعة والتي هي تماماً ما يريده الشعب (الشعب المفيد الذي يحقق الأغلبية الإنتخابية). الإفتراض الخفي هنا هو أن الأغلبية الطائفية هي نفسها الأغلبية الإنتخابية مهما تغير موضوع النقاش، لأن المسلم الحقيقي لا يستطيع أن يرفض تطبيق شريعة الإسلام باعتبار أن الشريعة هي الدين، والخروج عليها هو خروج من الدين ومن الأمة، وبالتالي هو خروج من المواطنة وحق الإقتراع. الإسلاموية تماهي عملياً بين الأمة بمفهومها القومي والديمقراطي وبين الأمة بمفهومها الديني. الأمة التي تمثلها الدولة (الشعب أو الأمة القومية) هي نفسها الأمة الدينية (أي الأغلبية المسلمة). وبالتالي فإن المواطنة (المفضية إلى حق الإقتراع) لا تشمل عملياً إلا المسلمين، لأنهم الشعب المفيد سياسياً، أي الأغلبية الإنتخابية.
إن محاربة الإسلاموية الشديدة لما يسمونه بالقوانين الوضعية جاءت، وهذه فكرة بحاجة إلى إثبات، من تجاربها السيئة مع الدول القومية التي نشأت بعد الاستقلال (الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية)؛ وهي أول تجارب في منطقة الشرق الأوسط للدولة الحديثة ذات التوجه التنموي وذات الوجود الكثيف في حياة المجتمع من خلال بيروقراطيتها المتضخمة أبداً ومدارسها العمومية وجيشها القائم على الخدمة الإلزامية ووسائل إعلامها واستخباراتها. وكلما ازدادت تلك الدولة تغوّلاً، كلما ازداد عداء الإسلامويين لكل ما يمت لها بصلة. المفارقة هي أن الإسلاموية تؤمن بالبيروقراطية الحديثة وبالتكنولوجيا الحديثة وبالإستخبارات الحديثة وبوسائل التواصل والإعلام الحديثة، وتستخدمها بكثرة، لكنها تختار أن تقف عند التشريع والقضاء فتردهما إلى الكتب القديمة. ويزداد عداء الإسلاموية للبرلمانية كلما توغلنا في أفكار السلفية الجديدة (غير سلفية المصلحين) وخاصة السلفية الجهادية. اليوم أيضاً، كثيرون من الإسلامويين فهموا خطورة هذه الأفكار الشمولية بعد أن رأوا تطبيقها ونتائجها في سوريا. فبدؤوا يفرّقون بين الشريعة والقانون، وبدؤوا يعطون أهمية للمؤسسة والإجراءات. لكن هذا التنازل البسيط للبشر والاعتراف بقدراتهم العقلية يأتي من باب «أنتم أعلم بأمور دنياكم» (بينما الإله أعلم بأمور أخراكم، وما الدنيا إلا طريق إلى الآخرة) وبشرط أن يتضمن القانون النصوص التشريعية القرآنية الصريحة (الإرث، الزواج والطلاق، المحرمات والحدود) دون أن يكون للبرلمان أية صلاحية في مناقشتها أو تغييرها. فإذا توقفت الإسلاموية عن محاربة النظام البرلماني كمصدر للقوانين، وقصرت فهمها للتشريع على النصوص القرآنية الواضحة، وقبلت بالقانون الوضعي من باب «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وقبلت بالنظام القضائي الحديث، وعزلت بين دور الفقهاء والمشايخ الديني وبين دورهم في مشاورة الدولة ، وتركت اعتمادها على إشهار التدين من أجل دعم شرعيتها، ووسعت فهمها للعدالة من السلطان إلى مؤسسات الدولة، فإنه يمكن الحديث عن ديمقراطية إسلاموية. إنه من الأنجع للإسلامويين على المدى البعيد أن يقتصروا على مرجعية أخلاقية وثقافية إسلامية في عملهم السياسي من أن يصروا على اعتبار الشريعة الإسلامية كتلة واحدة يجب على الدولة تطبيقها دون الحاجة إلى أية مشاركة شعبية «بشرية» في صنع القوانين أو الحاجة إلى أية رقابة شعبية مجتمعية على الحكومة الإسلاموية.
الإنتقال إلى الديمقراطية: أزمة الطرح أم أزمة الواقع؟
لقد وصلنا إلى العديد من النتائج باعتمادنا المشروع التحليلي المطروح: الديمقراطية كهدف ونمط أنسب للدولة، ومفهوما السيادة والشرعية والعلاقة بينهما كنموذج تمثيلي للدولة. يمكن تلخيص هذه النتائج باختصار: أولاً، الدولة واقع قائم بغض النظر عن مفاهيم الشرعية والسيادة؛ فسيادتها نابعة من احتكارها للعنف وشرعيتها مجرد أيديولوجيا تسمح للدولة بالاقتصاد في ممارسة العنف من أجل إخضاع الرعايا ودافعي الضرائب. تاريخياً، لم تقم الدولة لتحقيق سيادة الشعب أو الأمة أو الإله؛ فهذه ليست إلا أيديولوجيات لتبرير احتكار الدولة للعنف. أي أن النموذج التمثيلي المعتمد ليس إلا نموذجاً أيديولوجيا لا يعبر عن أي واقع قائم. ثانياً، الديمقراطية أيضاً أيديولوجيا تبرر تسلط الدولة، لكن نجاح الديمقراطية لم يكن في قدرتها التبريرية (فهذه القدرة تذوب أمام التحليل كما تذوب تبريرات الأيديولوجيات الأخرى) وإنما في أنماطها المؤسساتية المختلفة التي وصلت إليها تاريخياً في الدول الغربية. مقولة «الديمقراطية هي النمط الأمثل للدولة» ليس إلا استخداماً لمعايير العقلانية لتبرير وجود النمط الديمقراطي. وسنوضح لاحقاً أن اعتماد الديمقراطية كهدف يجب الوصول إليه أدى بالمشروع الحواري المطروح إلى أزمة حقيقية، فكما بيّنا أعلاه، لا يتلاءم النمطان القومي والإسلاموي للدولة مع النمط الديمقراطي، ولا يمكن في كثير من الأحوال الانتقال من هذين النمطين إلى الديمقراطية، أو على الأقل تصور هذا الإنتقال نظرياً. ثالثاً، لا تعطي الأيديولوجيات الثلاثة، الديمقراطية والقومية والإسلاموية، أية خطوات عملية للوصول إلى الهدف المعلن، أي تحقيق نمط الدولة الذي تقول به تلك الأيديولوجيات. والأسوأ من ذلك هو أن اعتبار الديمقراطية مناقضة للقومية والإسلاموية يضعنا في مأزق عملي حقيقي، فالديمقراطية نفسها لا تعطينا أي تصور لكيفية الانتقال إليها من الأنماط «الأكثر دونية». ولذلك، نرى ضرورة إعادة صياغة المشروع الحواري بطريقة تمكننا من وضع هدف ممكن وملائم وتعطينا القدرة على تصور خطوات عملية نحو هذا الهدف. وهذا ما سنقوم به فيما يلي من هذه المقالة. لكن لا بد أولاً من التوسع في فهم الأزمة التي نزعم أن المشروع الحواري يوصلنا إليها. وسنستخدم لتحقيق ذلك التقسيم الثلاثي الذي اعتمدناه في البداية: الإطار النظري لتحليل الدولة (النموذج التمثيلي)، الهدف الواجب تحقيقه (أو نمط الدولة الأنسب، مع تحفظات كثيرة على هذا الوصف سنبينها لاحقاً)، الوصفة العملية للفعل أو الأفعال التي ستحقق الهدف وتعالج العقبات.
الهدف (المعنى) أولاً أم الفهم أولاً
اعتبرت الفلسفات الإغريقية بعد السقراطية السياسة، أو فن ممارسة الدولة، الطريق للسعادة المجتمعية، أو هناء المجتمعات. فأكدت أن الإنسان كائن لا يعيش إلا ضمن الجماعة؛ وأن السياسة ليست إلا حوارات وصراعات واتفاقات الجماعة التي تنظم حياتها من خلال الدولة؛ وأن هذا التنظيم هو نفسه الهناء المذكور إذا كان يحقق كرامة الإنسان. بالطبع، بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة فإن هذه الكرامة كانت تنبع من الشرف والواجب؛ أي من مثاليات الجماعة بعد إعلاء هذه المثاليات إلى مصافي المطلقات ما فوق الطبيعية. أما اليوم، فكرامة الإنسان قد تنبع من الوفرة والعيشة المريحة للفرد أو للجماعة ككل. مهما كان تعريف الهناء المجتمعي، فإن الفلسفات القديمة والحديثة تعتبره هدف الدولة وسبب وجودها. وتضيف الأيديولوجيات السياسية إلى ذلك تعريفها الخاص لهناء المجتمع، وأيضاً مقولة «حتمية تحقق الهدف من الدولة من خلال نمطها وفقط من خلاله»، القومية ترى هناء المجتمع في الدولة القومية، والإسلاموية في النمط الإسلاموي، والديمقراطية في النمط الديمقراطي.
لكن السؤال الغائب دائماً هو: هل للدولة فعلاً هدف؟ هل تقوم المجتمعات البشرية بوعي وإدراك منها بإنشاء دولة تحكمها من أجل تحقيق هدف معين تليولوجي (سابق لوجود الدولة). ويمكننا هنا أن نبرر أسئلة مشابهة، هل لوجود الخلية هدف، هل لوجود الإنسان هدف، هل لوجود الكون هدف؟ لا أريد إيصال القارئ إلى العدمية، فمن المنطقي والممكن أن تصور هدفاً لكل هذه الكائنات، أن نؤمن به، وأن نسعى إلى تحقيقه، حتى ولم يكن لوجود سابق لوجود الكائنات نفسها. قبل أن توجد الخلية، لم تجتمع مكوناتها لتضع لنفسها هدفاً لا يتحقق إلا بوجود بخلق الخلية. ولم تتصور أعضاء الإنسان هدفاً يحتاج تحقيق إلى وجود الإنسان. ولا تصورت المجرات هدفاً يحتاج تحقيقه إلى وجود الكون. لكن متى وجدت الخلية، ولأي سبب كان، فإنها ستسعى إلى البقاء. كل الكائنات تسعى للبقاء، ولا يمكن البقاء إلا بقصر عمل الأعضاء على وظائف محددة تؤدي إلى البقاء. إذن قبل وجود الكائن لا يوجد هدف، لكن بعد وجود الكائن هناك هدف واحد لكل أعضائه هو بقاء ذلك الكائن كوحدة مستقلة. إن وظيفة الأعضاء ضمن الكائن هي مساهمة كل منها في الهدف الأعلى، أي بقاء الكائن. الغائية لا توجد إلا بعد وجود الكائن، وهذا ما يفسر النزوع الطبيعي للإنسان نحو الغائية. والدولة، ككل الكائنات ليس لها هدف يسبق وجودها؛ لكنها متى وجدت فلابد لها من هدف تؤمن به جميع عناصرها وتعمل من أجله. هذا الهدف يحدد وظيفة الأعضاء ويصبح معنى وجودها. إن وظيفة الأيديولوجيات السياسية، كعنصر أساسي من عناصر الدولة ككائن، هي صياغة معنى لوجود الدولة سابق لوجودها ومبرر له وضامن لاستمراره. إن وظيفة الأيديولوجيات السياسية أن تقول أن الأمة مثلاً، حسب الأيديولوجيا القومية، كائن ميتافيزيقي سابق للدولة، وأنه يحتاج إلى الدولة ليحقق وجوده الواقعي، وأن نمط الدولة القومية هو الأنسب لتحقيق هذا الهدف واستمراره. وكذلك تفعل الديمقراطية والإسلاموية، أو أية أيديولوجيا سياسية أخرى. إنها محاولات لإعطاء معنى للدولة، للواقع القائم والمفروض بالقوة.
بالنسبة لمشروعنا، فإن هذا يعني أن فهم الواقع يجب أن يكون سابقاً للأيديولوجيا (أي سابق للهدف والبحث عن معنى). وبالتالي تصبح أزمة الإنتقال إلى الديمقراطية أزمة طرح وليست أزمة واقع مستعصي ومنحرف. إن اتخاذ الديمقراطية كهدف فرض علينا النموذج التمثيلي، وهو هنا السيادة والشرعية، وفرض علينا نتائج التحليل. ولا ينبع هذا من الديمقراطية وحدها وبحد ذاتها، بل ينبع من جعل الهدف سابقاً للتحليل وموجهاً له. لا يمكن لمشروع حوار يحاول الخروج بنتائج نظرية وعملية مرضية (حول مسألة تغيير نمط الدولة) أن يبدأ بالهدف ويجعله أساساً للمقارنة. لا يمكن البدء بوضع هدف ثم إنتاج النموذج التمثيلي بناءاً على الهدف، فهذا جزء من تعريف الأيديولوجيا، إنها تبدأ بالهدف وتحلل الواقع على أساس البعد أو القرب من الهدف. إن اعتماد الهدف قبل التحليل يجعلنا نتحرك ضمن فضاء مفاهيمي غير قادر على تمثيل الواقع الموضوعي، إنه فضاء مفاهيمي غائي لا يرى الواقع إلا على أنه مسخ للهدف الأسمى.
النموذج التمثيلي: من الماهيات إلى المتغيرات
كأي موضوع نقاش فلسفي، أو مشروع معرفي، فإن المفاهيم المطروحة على ساحة النقاش تبدأ كتعاريف واضحة ومحددة؛ وكذلك تكون العلاقات بين هذه المفاهيم. ثم مع احتدام النقاش وتنوع وجهات النظر، تبدأ المفاهيم والعلاقات بالتضخم والتنوع ليتحول كل مفهوم إلى حزمة أفكار غائمة الحدود، لتتحول كل علاقة ثابتة الاتجاه والسببية والطبيعة إلى علاقة ديناميكية معقدة ومتغيرة قد تنعكس فيها الإتجاهات وتذوب السببية وتتعدد العوامل المكونة. المفاهيم الثابتة والعلاقات السببية لا تصمد أمام التحليل، وتتفكك بسرعة متحولة إلى مجموعة تناقضات ومفاهيم غير مفهومة.
بشكل عام، يمكن القول بأن السيادة تحيل إلى السلطة على المجتمع، والشرعية تحيل إلى قبول المجتمع بتلك السلطة والانصياع لها. لكن كل أيديولوجيا تصوغ هذه الإحالات بطريقتها الخاصة التي تؤدي في المحصل إلى اعتبار هذا النمط الدولة الذي تدعو إليه هو الأمثل. فإذا اعتبرنا الديمقراطية النمط الأنسب، أي اعتمدنا الأيديولوجيا الديمقراطية، فإن فهمنا للسيادة والشرعية سيؤدي بالضرورة إلى تناقض مع تصور الأيديولوجيات الأخرى لهذه المفهومين. إن وظيفة الأيديولوجيا أن تعادي الأيديولوجيات الأخرى وتتهمها بالبعد عن الواقع والفشل في الوصول إلى الوضع الأمثل (الهناء المجتمعي). حتى تتحرر مفاهيمنا التحليلية من سلطة الأيديولوجيا وغائيتها وحتميتها وجب علينا إخراجها من حيز الإطلاق والثبات إلى حيز التغيير المستمر، من حيز الماهيات إلى حيز المتغيرات.
المفهوم الذي نحاول تحديده بالتعريف ليس في الحقيقة إلا منتجاً من منتجات الواقع الديناميكي وأحد متغيراته. إنه متغير خاضع لتقلبات التفاوض والبيئة والحسابات المصلحية. لا يمكن تعريف السيادة لأنها متغيرة، وكذلك الشرعية. هذه المتغيرات غير خطية (أي علاقتها بالمتغيرات الأخرى وبالزمن غير تناسبية، يزداد أحدها بازدياد أو نقصان المتغيرات الأخرى) والعلاقات بينها غير سببية (أي أن السببية لا معنى لها إذا كانت الشرعية تؤثر في السيادة وكذلك السيادة تؤثر في الشرعية). أي لتحليل الدولة لا بد من نموذج تمثيلي ديناميكي يقوم على متغيرات وليس تعريفات، وعلى علاقات غير خطية وغير سببية.
من الفهم إلى الفعل
يقول ماركس أن الأيديولوجيا السياسية (وبالتالي الدولة) وعي زائف للواقع تصوغه النخب المسيطرة اقتصادياً لتبرر سيطرتها على الفئات التي تُخضِعها وتستغلها. هذا صحيح، لكن الماركسية أيضاً في تصورها للنمط الشيوعي للدولة لا تحررنا من الأيديولوجيا بل تنقلنا إلى أيديولوجيا أخرى تبرر وجود نمط آخر من الدولة. فإذا كان حال البشرية هكذا منذ الأزل وإلى الأزل، فلماذا نضيع الوقت في إثبات أيديولوجية تلك الأيديولوجيات، أي كونها وعياً زائفاً؟ في الحقيقة، فإن الأيديولوجيا، كأي نوع من أنواع المعرفة البشرية، تحمل قدرة تحليلية وقدرة تركيبية في الوقت نفسه (سنتحدث عن ذلك لاحقاً). أي أن الأيديولوجيا مفيدة في تفسير، أو تبرير، الدولة؛ وكذلك فهي مفيدة في بناء الدولة وإعطائها معنىً وهدفاً. لكنها تعجز أحياناً كثيرة على تصور طريق الإنتقال من نمط معين من الدولة إلى نمط آخر؛ أو لنقل الإنتقال من نمط غير ملائم إلى نمط أكثر ملائمة، أو من نمط دون الأنسب إلى النمط الأنسب (طبعاً الإطلاق بأل التعريف هو أحد وظائف الأيديولوجيا، إذ قد توجد عدة أنماط ملائمة في الوقت نفسه). تتوضح الصورة أكثر إذا أدخلنا مفهوم التطور بالإضافة إلى مفهوم الأيديولوجيا. الأخيرة تفسر الحاضر وتعطي تصوراً للمستقبل لكنها لا تعرف الطريق ولا تنجح في توقع الشكل الواقعي الحقيقي للمستقبل. الأيديولوجيا دائماً في صراع مع الواقع باعتبار أنه مخالف للمثل الأعلى (مما يعطي دفعاً لتصحيح المسار حسب الأيديولوجيا، أو على الأقل تقييم الواقع وانتقاده). ولذلك جاء مفهوم التطور والاصطفاء الطبيعي الدارويني بثورة فكرية لأنه أنقذنا من «نق الأيديولوجيا وتعذيبها للضمير» وأعطانا بعض الأدوات التي يمكن أن نستخدمها لفهم عملية التغير، أو الانتقال من نمط سياسي إلى آخر، تتعدى الإحساس الدائم بالذنب والتقصير الذي تفرضه علينا الأيديولوجيا. مفهوم التطور بالاصطفاء تبعاً لملاءمة الكائن للوسط المحيط أعادنا إلى أرض الواقع، فإذا أردنا طرح فهم لواقع ما وإذا أردنا أن يحمل هذا الفهم قدرة تحليلية أكثر من الأيديولوجيا فإنه علينا أن نركز على ذلك الواقع باعتباره «مقبولاً» و«قابلاً للفهم»، وليس مجرد انحراف مرضي عن المثال الأيديولوجي.
ورغم اعترافنا بأن الأيديولوجيا وعي زائف للواقع، إلا أننا لا ننبذها ولا نقلل من الحاجة إليها في تصور التغيير والتجييش له. ولسنا هنا بصدد إثبات عدم قدرة الإنسان على إنتاج معرفة موضوعية تعكس واقعاً، فمثل هذا النقاش لا يزال غير محسوم، وهو في النهاية نقاش سلبي لأنه يعطل قدرة الإنسان على الفعل، والفعل هو لب مشروعنا. فما هي إذن المعرفة، سواءً الموضوعية أو غير الموضوعية، التي يستطيع الإنسان استخدامها لإنتاج أفعال تعود بالفائدة على نفسه؟ الفائدة مشروع مستقبلي دائماً، وإن كان مبنياً على معطيات سابقة هي في الغالب معطيات أيديولوجية (مثل الهدف والمعنى). التحليل والفعل مرتبطان دائماً سواء اعترفنا بذلك أم أنكرناه؛ والمستقبل يقع دائماً في منطقة تقاطع وتوازن بين الموضوعية والأيديولوجيا؛ هذا هو التحدي. ولذلك، وإذا أردنا أن يحمل النموذج التمثيلي للواقع القائم قدرة تركيبية (قدرة على الفعل والبناء) أكثر من الأيديولوجيا، فإن اعتماد الهدف يجب أن يلي التحليل، لا أن يسبقه. المشروع الحواري المطروح يعتمد تسلسل «هدف، فهم، فعل»، أما المشروع البديل فسيعتمد تسلسل «فهم، هدف، فعل». كما يجب أن يكون الهدف ممكناً ومبنياً على فهم البيئة المحيطة. فإذا كان لابد للدولة من هدف (نمط) ومعنى فلا يجب أن يكونا بعيدين عن الواقع ومخالفين لمعطياته. وسنتابع في بقية المقالة اعتماد مفهوم الهناء المجتمعي، دون تحديد، فالتحديد يجب أن ينبع من فهم الواقع، كهدف ومعنى للدولة (إنه تعريف يجمع بين الفردي والجماعي دون إخضاع الفردي لمصلحة الجماعي أو تبسيط الجماعي واختزاله في مصالح الأفراد). فمثلاً، وبناءاً على هدف الدولة في تحقيق الهناء الإجتماعي، فإنه من غير الممكن لأية دولة حديثة أن تكون متعالية تماماً عن رعاياها، كأن تكون مسؤولة أمام الإله فقط وليس أمام الرعايا. المجتمعات الحديثة مجتمعات استهلاك ورفاهية ووفرة؛ وهذه الوفرة غير ممكنة دون إعادة توزيع الثروة من خلال الضريبة؛ ولا يمكن تبرير هذه الضريبة وعملية إعادة توزيعها إلا من خلال دولة الخدمات (معنى الدولة الحديثة)؛ ودولة الخدمات لا تتحقق إلا بمشاركة أوسع الشرائح الإجتماعية؛ وهذه المشاركة غير ممكنة دون مساءلة من الرعايا. وهذا يجري أيضاً على دولة الإحتكار والاستبداد بمثالها الأسدي، باعتبار أنها غير قابلة للمساءلة من الرعايا، وأنها تحتكر الثروة ولا تساهم في إعادة توزيعها.
إن تحدي أي مشروع فكري عن الدولة ليس في فصل الأيديولوجيا عمّا يمكن اعتباره موضوعياً، أو الإلتزام بالتحليل وترك الفعل للمختصين به، وإنما في معرفة العلاقة بين الأيديولوجيا والموضوعية، وبين التحليل والفعل، وتحقيق التوازن بينهما بما يساعد على تحقيق هدف الهناء المجتمعي (دون تحديد طبيعة هذا الهناء).