تقديم
ستحاول هذه الورقة الكشف عن التغيُّر في السلطة ضمن المجال العثماني، من خلال طرح العلاقة بين مفهومي السيادة والشرعية في عصر التنوير العثماني، القرن التاسع عشر، كما ولن تغفل النظر في المقدمات الأساسية ذات الصلة، لكون هذا العصر لا ينفكُّ عضويًا عمّا سبقه من أزمنة الإمبراطورية الطويلة، وقد سبق هذا العصر كثيرٌ من المحاولات السابقة لتكوين تنوير ما، ولكن الجهود في الدولة لم تتكاتف حتى مطلع القرن التاسع عشر، مع التأكيد على أن هذه المحاولات لمجاراة عصر التنوير الأوروبي قبل هذا القرن، يمكن أن تُقرأ من لحظة استفاقة المسلمين على إثر مغلوبية العثمانيين بتوقيع معاهدة كارلوفيتسا.ينظر ثلاثية المسلمون والحداثة لخالد زيادة، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ولمثل هذا الطرح بتكون وعي إصلاحي معيّن عند العثمانيين بعد تاريخ 1699، يُنظر: Yılmaz Özakpınar, Kültür Değişmeleri ve Batılaşma Meselesi, ötüken yayınevi, 5. Basım, 2015, s. 185.
لذلك، فإن هذه الورقة تبغي الكشف عن صدى هذين المصطلحين في مؤسسات الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. وباعتبار أنّ السلطة قد يُعبّر عنها من خلال السيادة والشرعية، فإنّ قراءة هذين المصطلحين، تعني الوصول إلى نوع من فهم مسار هذه السلطة، والتي يُعبر عنها بالإرادة السنيّة «السلطانية» İrade-yi Seniyye.
حاولت الدولة العثمانية الخروج من عباءة نظام الحكم القديم، متحركة نحو تأسيس النظام الجديد؛ Nizam-ı Cedid كما هو متعارف عليه في أدبيات التنظيمات العثمانية، والتي لا يَخفى تأثرها بالثورة الفرنسية التي تحرّكت لتحطيم ما يسمّى L’Ancien Régime، أي الثورة بتغيير الدولة السلطانية[fnيمكن مراجعة مدونات وجيه كوثراني للتفصيل في مثل هذا المفهوم على سبيل المثال؛ الفقيه والسلطان والذاكرة والتاريخ.]، التي تمثّل الحكم المونارشي؛ تلك الدولة المتمثلة بحاكمٍ أعلى، هو خليفةُ سائرِ المسلمين، ويليه في التراتبية، ولا يشترط في مصدرية الحكم «الشرعية»، من يُسمَّون بأهل الحلّ والعقد في أدبيات «السياسة الشرعية»، التي لا يمكن أن تمثّل فقهًا سياسيًا واضح المعالمتقييم حسن الترابي في الحديث عن كون «السياسة الشرعية» في التراث الإسلامي «أدبيات سلطانية» أكثر من كونها «أحكاماً فقهية سلطانية»، ويمكن التوسّع به في كلٍّ من: السياسة والحكم وفي الفقه السياسي.؛ وأهل الحل والعقد هم أولئك المؤثّرون بقوتهم من الطبقة الدينية والاقتصادية العسكرية، ومن ثمّ تأتي بعدهم أجهزة ومؤسسات الدولة التنفيذية المختلفة.
نحو مركزية الدولة
كان رجال الأعيان الذين برزوا في القرن الثامن عشر صدى وبقايا الثورات الجلالية، التي تنوعت في سبب انبثاقها وإقلاقها النظام الحاكم في القرن السادس عشر ومبتدأ السابع عشر. وإذا كان الأعيان هم أقل حدّيةً من الجلالية، ولكن كلا الطرفين كانا يشكّلان تهديدًا لـ «مركزية الدولة» وسيادتها، الرمز الأساسي الذي سعى السلطان سليم الثالث، أبو التنظيمات في القرن التاسع عشر، لإعادة تشكيله، ولكنّ محاولاته فشلت بعملية اغتياله في نهاية المطاف.
عايشت هذه الدولة التغيرات الأوروبية المتسارعة في ثورتها العلمية والصناعية دونما توازٍ في التغير، أي أن الدولة العثمانية كانت تشهد تأخرًا ملحوظًا، ويمكن الحديث عن الأثر الواضح الممتد لتفجّر الثورة الفرنسية على العثمانيين، وحتى يكون القول محددًا، على النخب الإدارية العثمانية بشكل أبرز، وهو الأثر الذي امتدّ إلى مقتبل القرن العشرين، مع نهاية الدولة، ولم ينته بنشوء الجمهورية التركية، وريثة الإمبراطورية بكل عللها وحسناتها وثقافتها العامّة.
إنّ معاصرة الدولة العثمانية عهدين من الزمان جعلها تعيش في حالة مفارقة، عهدين كبيرين، وقد لا تكون هذه الدولة ذات طبيعة متناقضة في هذا الحال، بقدر ما أصبحت مظاهر الدولة منبثقة عن دواخل أكثر عمقًا، من العمامة إلى الطربوش؛ بين البزة العسكرية الحديثة وتلك الإنكشارية القروسطية؛ بين العمارة القديمة والباروك، الأدب «الفرنجي» الأوروبي والعثماني الإسلامي، التوجهاتأنوّه إلى أنّه لا يمكن قراءة المصطلحات العثمانية التي استعملها العثمانيون عن العربية على أنّها تأتي بالمعنى المعجمي العربي نفسه، فهنا «التقليدجي» يعني مقلد الغرب وليس التقليدي، بينما استخدم العثمانيون كلمة «محافظة كار» بمعنى التقليديون أو الساعون إلى ما يسميه مؤرخون أتراك التوجّه الإرتجاعي İrtica أي «الرجعي المتخلف». الوضعانية «الملحدة» taklidçiler والتقليدية muhafazakârlar، وغيرها من «التناقضات». ولكن هل نقول إنها تشكّلات طبيعية؟ وهل يجوز اعتبار الثقافة العثمانية مفصولة عن غيرها من الثقافات؟ هذه المظاهر أخفت وراءها قضايا معقدة تستحق البحث، كان أكثرها لفتًا للانتباه الحديثُ عن الإرادة السياسية المترددة ومكانتها في العهد العثماني.
شرعية فعّالة بين إرادة السلطان ورجال الدولة
قبل ولوج الدولة في القرن التاسع عشر، كانت الأنظمة فيها آخذة نحو تغيّر ما، تغير قد لا يأخذنا نحو ابتداءه من نقطة ما، بل من شبكة معقدة من هنا وهناك. ولا يمكن في حقيقة الأمر حدّ أسباب تأخر هذا التغير بواحد أو اثنين، بل هنالك أسباب عامّة ليست موضوع النقاش في هذا الإطار، ولكن لا بد من ذكر أهمّ مصادرها، وهي وجود أكثر من مؤسسة [فِرَقٍ؟] تتنازع الحكم في الدولة العثمانية، المؤسسة الدينية İlmiyye والعسكرية Seyfiyye، مع بيروقراطية الدولة الحديثة السياسية الناشئة في القرن التاسع عشر، والتي تطورت عن الفرقة الثالثة؛ الكتّاب Kalemiyye، ويقابل ذلك عدم وعي كلٍّ من الفرقتين الأوليتين بمستجدات العصر.
ومن هذا الإطار يمكن الحديث عن وجود النمط الكلاسيكي في تنازع مقادير السلطة في الإدارة العثمانية، والذي يظهر بشكل واضح في القرن السادس عشر، الذي يتوسط بين نشوء الطور الإمبراطوري من الدولة بدخول العثمانيين مناطق المياه الدافئة، وبين ولوج الدولة في القرن السابع عشر، وامتداده لأبواب القرن التاسع عشر، مع التحولات الأوروبية المتسارعة، واكتشاف نوع هائل من التأخر في الدولة. كذا وتدوين إحدى أشهر السفارات لـ«يرمي سكيز محمد تشلبي»، والتي لا تعد أكثر من جولة [سياحية؟] سريعة في مقتبل القرن الثامن عشر، لم تستمر إلا لعدة أشهر، ولم تكن كافية وفق كثيرٍ من الباحثين الأتراك لتعطي العثمانيين آنذاك نظرة قريبة عميقة عن أوروبا ومجريات الأمور فيها. وفق ما يؤكّد عليه Osmanlı Müesseseleri Tarihi, Mehmet Ali Ünal.
عملية الكشف عن العيوب في الدولة في منتهى القرن الثامن عشر ومقتبل التاسع عشر، يمكن ملاحظتها في التقارير التي أمر بإجرائها السلطان سليم الثالث للكشف عن مواطن الضعف في الدولة، وهي مجموعة من المدونات أمر بها المقربين من رجال دولته؛ لتقديم معاينة عامّة تبين ما يمكن تداركه من موضوع تحديث الدولة على الأصعدة الدبلوماسية والعسكرية والإدارية والمالية، خاصّة بعد احتلال مصر والبنية المهزوزة للإنكشارية، وكذا توقيع معاهدات مع كلٍ من روسيا والنمسا وبريطانيا سببت قلقًا للداخل العثماني، لذلك يمكن اعتبار أن محاولة سليم الثالث للإصلاح كانت تنظيراً لعهد تنظيماتٍ قادم.
يتّضح كذلك من علاقة السلطان بالوزراء كان الترتيب الإداري للديوان (مطبخ الحكم) في العهد العثماني ما قبل ولوجه القرن التاسع عشر، رجوعًا إلى عهد الدولة الكلاسيكي yeni çağ tarihi، يتكون من السلطان ثم الوزير الأعظم (الصدر الأعظم)، ثم الوزراء وعددهم يصل إلى خمسة، ثم قضاة العسكر وعددهما اثنان، ثم الدفتردار (مسؤول المالية)، ثم النيشانجي، القائممقام المسؤول عن أوراق الدولة الرسمية ومكتوباتها والتوقيع عليها. حتى جاء سليم الثالث في مقتبل القرن التاسع عشر، وابتدع الوزراء والوزارات المختلفة حذوًا بالسنة الفرنسية، مغيرًا تراتيب الدولة ومبتدأً العصر الحديث yakın çağ tarihi. في القرن السادس عشر، بعد نيل العثمانيين الخلافة، أن السلطان كان مربوطًا بنوع من البيروقراطية لإسداء أي قرار يريده في الدولةهذا ما يشير إليه فاضل بيات في الدولة العثمانية في المجال العربي، وكذلك في مجموعة الفرمانات المترجمة في هذه الفترة تحت عنوان الأحكام السلطانية للمؤلف ذاته.. صحيحٌ أن إعلان الحرب وعزل بعض الوزراء لأخطاء فاحشة، وغيرها من القرارات المصيرية التي تعتبر قرارات «سيادية»، كانت تُتخذ بأوامر ومراسيم مباشرة، هي سيادية لأنها من ملامح الدولة الأولى، كإعلان الحرب وتقرير ما يؤدي إلى الخيانة العظمى، وكانت بالفعل تحتاج إلى سرعة التحرك قفزًا عن بيروقراطية الدولة؛ ولكن جلّ قرارات الدولة، في ذاك القرن على وجه التحديد، لم تكن تُتخذ بهذا الشكل، بل كان السلطان بحاجة إلى نوع من موافقة مجلس الوزراء، وإجراء العديد من المشاورات مع وزرائه، في إدارة الدولة على وجه التحديد.
مثلًا، حتى الآن لا يمكن الوصول إلى حكم جازم في معرفة سبب إعدام السلطان سليمان القانوني لوزيره المحبوب المقرّب، إبراهيم باشا، بل وحينما سأله وزيران في الدولة عن سبب قتله قام بعزلهما، وهنا يمكن أن نقرأ كيف كان هنا نوع من دائرة التصرّف المطلق للسلطان قبل العصر الحديثيمكن قراءة مثل هذه الأحداث والتصرفات المتكررة في مجموعة مخطوطات لمؤلفين مجهولين، عائدة لعهد سليمان القانوني تحت عنوان Tevarih-i Al-ı Osman.. أي أنّه كان يقوم بممارسة سيادته الخاصة، حينما أراد ذلك، وهو أحد أهم أشكال النظام القديم الذي حاولت حركة التنظيمات مبتدأ القرن التاسع عشر التخلص منه. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار أن هذه التنظيمات في القرن التاسع عشر قد حدّت من سلطة السلطان، إذ إننا نلحظ العهد المتأخّر للتنظيمات، عهد عبد الحميد الثاني، زمن إقرار القانون الأساسييمكن مراجعة مواد القانون الأساسي، وكذلك الهامش التالي.، حيث نكشف عدمَ وجودِ ضغطٍ معينٍ من جهة شعبية أو ممثلة للشعب في إقراره، بحيث أن هذا القانون تم إقراره من خلال ما يتعارف عليه بالإرادة السنيّة من السلطان، وليس هو بيان ثوري أو إعلان جمهوري İlân كما يُتصوّر.يمكن الرجوع إلى ترجمة خطاب السلطان عبد الحميد لمحمد عثمانلي، والنظر في لغته التي هي نوع من الخطاب النازل من عطف ومودة أبويّة من السلطان لشعبه، وليس بإرادة صاعدة من أدنى، ولهذا إشارات متعددة منها عدم وجود وعي عام= =بالمشروطية، والتي هي ليست ديموقراطية كما تُشبّه، بحيث لا تعدو كونها مونارشية مشروطة، وفق لغة النائني، العالم الشيعي الإصلاحي. رابط الخطاب مترجمًا في يوتيوب.
هذه السيادة كانت قد كُسرت بالفعل في عهد عثمان الثاني الذي تمّ اغتياله عام 1622 على يدّ قوات الانكشارية، وإن كان أخوه مراد الرابع قد جاء وعاقب هذه القوّات بتجبّر، تمامًا كما حصل في مقتبل القرن التاسع عشر، عندما جاء محمود الثاني بتجبّر على قتلة سليم الثالث. ولكن بعد قتل السلطان العثماني لأول مرّة على يد القوات الإنكشارية، نجد أن عدّاد الاجتراء على نهب الشرعية وكسر السيادة قد فُتح، فحصلت عملية خنق إبراهيم (1648) وقتل سليم الثالث (1808)، وكذلك المسألة العويصة المشتبه بها لقتل عبد العزيز (1876).
مستمدّات الشرعية
نٌقشت عبارة «السلطان ظل الله في الأرض» على أحد نواصي قصر توبكابي، القصر الذي أسماه السلطان الفاتح بالسراي الجديد Saray-ı Cedid، وهي جملةٌ مأخوذةٌ من أثر في التراث الإسلاميانظر\ي: قلائد العقيان للمفتي الحنبلي، واستخدامه هذا الأثر -مع الشكّ الحائم حوله- لنيل الشرعية، وثمة خلاف على صحة هذا الحديث، فيمكن أن يكون ضعيفًا وحسنًا من طرق مختلفة، ولكن الأهم هو ابداع وابتداع الحكّام في استثماره السياسي لنيل الشرعية في تطبيق أيّ سلوك سياسيّ مُراد. ، ويعبّر نقشها على قصر الإمبراطورية الوليدة عن بروز مُلك حاكم البريّن والبحرين، ملك العرب والعجم والفرنجة franks، الذي يستمدّ شرعيته الجديدة من تنفيذ أوامر الله.
لعل النظر في هكذا استدلالات يُفصح لنا شيئًا من فك عُقدِ اصطلاحاتنا، فالسيادة للإله وشرعه، ولكن السلطان له حكم نافذ بشرعية هذا الإله. كانت المصطلحات عُلوية الترتيب، فالأولوية لمن في الأعلى، ولم تكن دنيوية من أسفل؛ أي لم يكن الشعب هو المحدِّد أو صاحب الوزن في الشرعية، هذا في العهد العثماني الكلاسيكي، منذ الفاتح وحتى قرنين مستمرين بعده، ويبدو أن مثل هذه المفاهيم تسرّبت حتى القرن التاسع عشر، وأعاقت الجو الإصلاحي الذي كان ينشده السلطان أكثر من أي شخص آخر في ذاك القرن!
ومع ولوج عهد التنظيمات لا يمكن الاكتفاء بإطلاق لفظ التنظيمات على أفعال السلطان عبد المجيد الأول، لذلك فإن القرن التاسع عشر وفق الأدبيات الأكاديمية التركية هو قرن التنظيمات بالكامل، وفيه التنظيمات المبكرة (عهد سليم الثالث مثلًا) وتلك المتأخرة (عهد عبد الحميد الثاني).، بدأ السلاطين العثمانيون يغيّرون مكان إقامتهم، إلى قصر دولمه بهجة وسراي ييلدز على سبيل المثال، أي أنها خطوة رمزية قد تعني النقص في شرعية «ظل الله» عبر الخروج عن باحة قصر توبكابي، بدأت مع ولوج العثمانيين عصر تنويرهم المتأخر، وتواجد مد الوضعانية الذي معه تم «البدء بالنظر إلى الإمبراطورية بنوع من الإزدراء دوليًا، والتقليل من هيبة السلطان المرتبطة بها داخليًا، بحيث يمكن القول إنّها على أقل تقدير حافظت على سمعتها ولم تنتقص حتى منتهى القرن الثامن عشر» من مقابلة الكاتب مع رئيس قسم التاريخ في جامعة باموق قلعة في ولاية دنيزلي التركية، المتخصص في تاريخ الثقافة والمجتمع التركي والمؤسسات العثمانية؛ البروفيسور محمد علي أونال.، فما كان من محمود الثاني، «السلطان الراديكالي»، إلا بمواجهة هذه الموجة بالقوة، بحيث نجى من قتلة ابن عمله سليم الثالث، ومرّرَ مشروعه عليهم جبرًا.
الشرعية القانونية والعرفية
كذلك لا يمكن إغفال العادات التركية التي جلبها العثمانيون متأثرين من أسلافهم السلاجقة، ومن بدو التركمان في الأدبيات التركية السابقة لدخولهم الإسلام، في التأسيس لجعل القدر الإلهي سببًا في اختيار السلطان، وإعطاءه الشرعية لذلك. ذُكر في التراث السياسي التركي «يا بخت اولا، يا تخت اولا»، وهي عبارة تشي بنوع من ولوج هذه الثقافة ليس فقط عند إسلام الترك، بل وإبّان اختلاط ثقافتهم بالتراتيب الإدارية الفارسية، وهي تعني: إما يأخذك بختك للمقتل أو تصعد على تخت -عرش- الحكم.
مثل ذلك نجده في تشريع الفاتح لقتل الإخوة بقوله «وأولادلرمدن هر كيمه سلطنت ميّسر اولا، قارنداشلرى -نظام عالم ايجون- قتل اتمك مناسب در، بو أتام وددم قانونى در، وبنم داخى قانونمدر، بونى أكثر العلماء تجويز اتمشدر، انكْله عامل اولا لر»هنالك أكثر من صيغة لهذا القانون «المقولة»، وهذه واحدة منها.، أي «وإن تيسرت السلطنة لأحد من أبنائي، فإنه ومن أجل المصلحة العامة يصح له قتل إخوته، إن هذا قانون آبائي وأجدادي، وهو كذلك قانوني، ولقد أجاز [أكثر؟] العلماء ذلك، فليُعمل بموجبه حالًا». وهكذا فإن التيسير وترك الأمور للقدر والظروف هو ما يُفهم من هذا القانون، والحظّ السماوي kut لدى الشامان هو ذاته القدر الإلهي لدى مُسلميّ التركللمزيد من المعلومات عن قتل الإخوة وتشريع الفاتح وشرحه من أحد متخصصي بتاريخ القانون عند العثمانيين، يمكن النظر في هذه الترجمة لكاتب هذا المقال نفسه..
وضع السلطان الفاتح القانون، ولكن غير المتدارك لدى بعض الكُتّاب في هذا المجال هو أن هذا القانون ليس مفروضًا على من يأت من بعده، فكان يمكن مثلًا للسلطان بايزيد الثاني أن يغيّره، إلا أن قوة شخصية حفيد الفاتح، سليم الأول، خليفة العالم المستقبلي، جعلته يستعمله بشكل أساسي في مواجهة تهديد انقسام أبناء بايزيد، أي أنه استعمله كنوع من الغطاء القانوني kılıf. غير أن حالة الحرابة بين سليم وإخوته ليست مطابقة لحالة القانون المسنون، فمن الذي يستطيع الوقوف أمام كلمة فاتح القسطنطينية ومحقق حديث النبي محمد! ثم تلاه سلطان لا يقل قوّة عمّن سبقه، القانوني سليمان، الذي كان بيده التغيير، وهو لم يطبق قانون الفاتح في قتل مصطفى ولا ابنه بايزيد، ولكنه كان مواتيًا لحالة أحفاده، أبناء بايزيد، وطبعًا كانت إشارة شيخ الإسلام أبو السعود، صاحب تفسير القرآن المشهور عربيًا أكثر مما هو مشهور عند الأتراك، كافية لطمأنة القانوني بخصوص هذه العملية، لحماية الدولة والتضحية بالدماء الشريفة للسلالة.
ما أريد الإشارة إليه هنا هو أن أي سلطان قادم كان بإمكانه تغيير هذا القانون، فعندما نقول إنّ أحمد الأول (1617)، الذي واجه في عصره العديد من التحديات، منها ثورات الجلالية، وكذلك تغيرًا خطيرًا في سيادة الدولة المعنوية، إذ كان في عصره أوّل اعترافٍ عثمانيٍّ بمساواة السلطان العثماني بأباطرة أوروبا، وزوال استعلائه عليهم يمكن الكشف عن أحوال عهده في البيان الجيّد لـ Feridun Emecen في Osmanlı Sultanları II.، هو من «رفع» قانون القتل في وراثة العرش، وعلى ضعف الظروف في عهده، فإنه بالتأكيد كان بإمكان من هم أقوى منه أن يغيّروا هذا القانون، أي إننا أمام نوع من إرادة السلطان مرة أخرى، التي هي نافذةٌ وبشكل قوي. ولو كان السلطان أحمد الأول، الشاب الذي لم يتعدّ العشرين من عمره، قد فرض سطوته على العلماء المُقرين لأفعاله، وعلى العسكر الذين سيهددون ابنه عثمان الثاني من بعده، فهنا يمكن القول إن القانون هو قوة السلطان بالدرجة الأولى.
يجب التأكيد على أن السلطان أحمد الأول رفع القانون، ولم يقم بإلغائه، فكان كل سلطان قادم من الممكن أن يطبق القتل أو يرفعه. طلب عثمان الثاني تطبيق القانون لقتل أخيه الصغير محمد أثناء ذهابه لغزو بولونيا، من شيخ الإسلام أسعد أفندي، إلا أنّه لم يعطه الإذن، فما كان من عثمان إلا الذهاب لقاضي العسكر في منطقة إيالة الروم يلحظ في هذا المقال تعريبي للمصطلحات، فمثلًا لم أقل «روم إيلي» وقلت إيالة الروم، وهذا لغايات سهولة القراءة، ولكنني في المواد الضخمة أتجنب التعريب وأدوّن الكلمة بالعربية كما ترد في التركية والإنكليزية وغيرها من اللغات. (رتبة دينية أقل من شيخ الإسلام) كمال الدين أفندي، وأخذ الفتوى منه.
اعتمد محمد الفاتح على وجود مذاهب، أو أقوال في مذاهب سابقة، في إقرار قانونه، ثم كانت الفتاوى التي يستجدُ الحصول عليها من شيخ الإسلام أو من غيره حين اللزوم، لتثبيت الحالة وتطبيق هذا «القانون»، أو لنقل مقولة السلطان المعرّضة للتغيير مع مجيء كل سلطان جديد. وكما يتضح، فإن الإرادة في النهاية بيد السلطان، ولكنها محتاجة لفتوى دينية، ويمكن الحصول على هذه الفتوى في حال الطلب، بحيث لم يتم الحديث عن «قانون» بمعنى القانون إلا عند تطبيق القانون الأساسي في عام 1876، وغير ذلك لم يكن هنالك ما يعني كلمة قانون أكثر من كونه عرف وعادة töre، وهنا يتّضح معنى من معاني الدولة السلطانية، المتمثلة بإرادةٍ ذاتِ شرعيةٍ متغلبةٍ، وسيادة مفتتة بين مؤسسات [أحزاب؟] الدولة، والتي أراد السلطان سليم الثالث (1807) تغيير معالمها وتنظيمها، أي الحديث عن موجة القوننة الحقيقية Kanunlaştırma التي أراد البدء بإنفاذها، وجاء ابن عمّه محمود الثاني ليقيمها بعده.
أقنعة شرعية لسيادة واقعة
كذلك يمكن الحديث عن الأمانات المقدسة وآثار الرسول التي تعطي العديد من الإشارات والشرعية للحاكم، ومظاهر دينية أخرى كترميم القانوني لقبة الصخرة المروانيّة، والخوف من معاداة الشريعة في قوانينه التي أراد دفنها في عمامته الشاهانيّة -السلطانية- معه في الكفن.
كان المبدأ الذي سنّه المسلمون (من يُعرفون بمتكلمي أهل السنّة والجماعة) في الأدبيات السلطانية، المعروف بـ«فقه التغلّب»، هو الأساس «الخطير» الذي جيّر الخلافة لصالح غير قريش، ومع فتاوى مختلفة هنا وهناك، شرّعت خلافة سليم الأول، وهي فتاوى أمر واقع أكثر من كونها نابعة من تشريع ذاتي، فهو لم يكن محتاجاً لها ولا منتظراً نزولها من السماء حقيقة.

مع عدم نسيان أن مفهوم الخلافة من أصله يعني خلافة الإنسان للكون وفق القرآن، ومع اختلاف المختلفين حول نوع هذه الخلافة، إلا أن الإنسان في النهاية هو كائن سياسيّ، ولا بد له من فهم المصطلح الديني تحت مضمون السيطرة على الكون، ولا خلاف في هذا بين الإنسان القرشيّ والعجمي. فحين تكشَّفَ الفراغ في سلطان الخلافة العبّاسية، وكانت الظروف مواتية، عندها جاء «بادشاه» [سلطان] الخلافة العثمانية؛ جاء في مناح مواتٍ جدًا، مع جمع من الظروف أهمّها كون هذا الباشاه سنّيَ العقيدة، والظروف الأخرى القابلة لطرح فتوى نقل الخلافة، وثالثها الفراغ الإمبراطوري الكوني لأهل السنة، لكون سيادة الخليفة العباسي قد تعرّضت لنوع من الصدأ بحيث ابتلع المغول قلب الفريسة، ولم تستطع جهود قطّز «العظيمة» استكمال نصره في عين جالوت لتأسيس خلافة سنيّة كونية. ولم ينته هذا التآكل في السيادة بنقل مقامه إلى مصر ومحاولة اقتيات المماليك على العظام المتبقية من سيادة العباسيين في سبيل نيل الشرعية عبر وجود الخليفة في مصر. هنا، ومع هذه الدماء، كان المسلمون قد قبلوا «مبدئيًا» بالحجامة العثمانية لدمائهممن أجل التوسّع في طبائع استقبال أهل الشام ومصر للفتح العثماني بشكل أعمق، من الممكن مراجعة النقد الذي قدّمه خالد زيادة في الكاتب والسلطان..
وكون السلطة لشيخ الإسلام في خلع السلطان، جعلت من الشرعية، شرعيةً دينية، قد لا تكون كَنَسية، ولا يشترط بنا تشبيهها لا بما حصل في أوروبا، ولا بما حصل في الصين حتّى، ولكنها تحت شروط دينية في النهاية، سلطة شيخ الإسلام، وهيمنة السلطان على الحكم، واعتبار جيوش الانكشارية ووزراء الدولة أبناءَ السلطان وعبيده المطيعين، عبيد من نوع آخر، جيش يستعبد نفسه للسلطان ولكنه يسمح بقتله، كما حصل مع أكثر من سلطان؛ عبيدٌ كان بإمكان أحدهم أن ينال منصب رئيس الوزراء “الصدارة العظمى”، وأن يتحكّم بمناطق حساسة في الدولة مثلًا: (محمد باشا الصقلّي، إبراهيم باشا المقبول، كيديك أحمد باشا، ووزراء «الدولة داخل الدولة» من عائلة كوبرولي). كل هذه المعادلات المعقّدة هي التي كانت محلّ النزاع في مقتبل عملية التغريب، التي أراد منها العثمانيين ولوج ساحة العالم مرّة أخرى.
الشرعية المتغلبة بيد الأقوى في سبيل أي سيادة؟
من خلال النظر في حادثة خلع ثمّ قتل السلطان سليم الثالث الدرامية، والتي تكاتفت فيها ثلاثة شخصيات، شيخ الإسلام عطاء الله أفندي، والقائم بمقام الصدارة العظمى موسى باشا، و«العاصي» القائد في سلاح حفظ أمن المضيق مصطفى قاباقجي، وطبعًا من وراءهم الصدر الأعظم إسماعيل باشا، الذي أخفى معارضته للسلطان محرِّضًا الأعيان عليه، قائلًا لهم: «احذروا فإنّ السلطان يبيت لكم النيّة، وهو سيجزّ رؤوسكم بالسيف».
يضاف إلى ذلك انتشار دعايات في صفوف الجيش من قبيل: «نحن الإنكشارية، العبيد أبًا عن جد، لا نلبس لباس النظامات الجديدة»، وكذلك بين الوزراء: «أمان يا صاحب الشريعة أمان من هذا النظام الجديد»، وبين أئمة الجوامع مثل: «إن إلباس العسكر لملابس النظام الجديد يأتي على إيمانهم بالخلل». كل هذه المظاهر تنبيء عن خلل عام أكبر، وإن لم تكن سلطة الشعب قادرة على فعل شيء، لكون الوعي الديموقراطي لا يمكن أن يحسب له حساب إذ كان معدوماً، فإننا ما زلنا نتحدث عن أهم دواعي فشل السلطان سليم في إصلاحاته، وهي عدم وجود رجال الدولة الموافقين على خطواته، وكذلك لكونها الخطوة الأولى «شبه الناجحة» من نوعها في الدولة، والتي لا بد أن تلاقي هكذا معارضة لأسباب متعلقة بمصالح الحاشية، وكذلك الأسباب الدينية غير المنفكّة عن الأسباب الاجتماعية.
فوق كل هذه الأسباب، لا بدّ من التأكيد على إرادة السلطان النافذة، وضعف شخصية السلطان سليم الثالث بالمقارنة مع خلفه محمود الثاني، وهو ما يقودنا إلى استنتاج أن نظام الدولة السلطانية القروسطية كان ما يزال يشتغل في بنية الدولة، وأن كل شيء بيد السلطان، حتى أنم وجود سلطان قوي مثل محمود الثاني كان يعني مرور هذه الإصلاحات من فوق الجميع سواء كانوا عسكرًا أم شيوخًا، في حين أن غيابه سيؤدي إلى ما حصل مع سليم الثالث. وبالنظر إلى حالة عبد الحميد الثاني، فإنه أقرب إلى سليم في الشخصية، مع احتفاظه بسلطاته القوية، ووجود تطور في جهاز البيروقراطية بالتوازي مع قوّته، ما رجّح كفّتهم ومكّنهم من خلعه في نهاية المطاف، طبعًا بالاستفادة من «العرف» الذي يفيد بضرورة وجود فتوى من شيخ الإسلام، باعتبار أن الجانب الديني لم يتغير في الدولة العثمانية، أي أنها دولة خلافة، للمؤسسة الدينية عرف قديم فيها لم يتغيّر مع الزمان.
هذه المؤسسة، التي وإن كان لها تأثير روحي قوي على امتداد الدولة، إلا أنّها تفتقد لجهاز خاص بها، مما يعرّضها للاستغلال من قبل قوة السلطان أو قوى أخرى عسكرية أو مدنية، فلا يمكن إغفال وجود قوة السلطان بالتأثير عليها. ومع هذا التأثير السلطاني، الذي يمكن أن يزداد وينقص متأثرًا بتلك القوى، نجد أن ضعف السلطان يمكن أن يؤدي إلى استقطاب هذه القوّة الروحية لصالح قوى أخرى، هي البيروقراطية الحديثة ذات الخلفية العسكرية في عهد عبد الحميد الثاني، وهي مجموعة القوى العسكرية الكلاسيكية في عهد سليم الثالث.
نحو تقييم عام لعلاقة الشرعية بالسيادة عند العثمانيين
تُستمد الشرعية من ثقافة «العامّة» الشعبية بشكل أكبر من كونها مستمدة من مصدر قانوني، لذلك فقد يُعتبر الشرع الديني هو مصدر الشرعية، وقد يكون الوضع الدنيوي كذلك. قد يكون الحاكم المستبد في ثقافة شعب ما هو الشرعي، وغيره هو اللاشرعي. والحديث عن الدولة السلطانية، هو أمر متعلق بهذه القضية، فهنالك خليفة، خليفة لسائر المسلمين، وإن تعددت الخلافات، وهناك «أهل حل وعقد»، وإن لم يكونوا ممثِّلين ديمقراطيًا، وهنالك شورى، ولو كانت مُعلِمة، لا ملزمة، ولا قيمة لها عند هذا الخليفة. وهنا يمكن القول بأنّه لا تخفى مظاهر الاستبداد عند هذا الخليفة، ومع ذلك، يكون شرعيًا عند الشعب، لكونه يمثّل الشرع، دونما حاجتهم لتمثيل ديمقراطيّ، قد لا يكون متحققاً في وعي الشعب من أصله، لذلك قد ترتبط الشرعية بشكل كبير بثقافة الشعب ومدى وعيه، بينما نجد إن هذه المعادلة غير مقبولة في الثقافة العامة ما بعد الثورة الفرنسية.
يمكن القول إن الدين كمصدر عُلوي، أكثر من كونه بنية اجتماعية أو مؤسسة دينية، هو الذي كان يرفد إرادة السلطان بالشرعية، وكان ينالها فقط عند ظهور قوته الذاتية، هذا ما يتوجّب على السلطان فعله أمام أهم مؤسسة على مدار الدولة العثمانية، المؤسسة العسكرية، التي هي الأخرى كانت تستمد قوّتها من حماية الدين، ولكنها أيضًا كانت تعتمد على شرعية عرفية رسّختها أجيال عن أجيال، والتي هي مؤسسة العبيد kölelik sistemi. وهنا نجد أثر هذه الشرعية المتغلبة على بعضها في سيادة الدولة، فكلما نجد توازناً بين هذه القوى يتحقق الثبات في السيادة للدولة أمام الدول الأخرى، وكذلك في التخلص من عمليات عصيان تهدد مركزية الدولة لصالح سيادات قبلية أصغر.
العلاقة بين الشرعية والسيادة في الفقرة السابقة كان لها كذلك جانب قانوني، هو قانون عرفي أكثر من كونه قانوناً نظامياً، وبالطبع فإن الدين حاكم عليه. هنا نفهم، مرة أخرى، أن الفتاوى الدينية كانت تطلب من أصحاب القوى طلبًا، ولم تكن تفرض نفسها فرضاً. كان شيخ الإسلام يستطيع بفتواه خلع السلطان، وتذييل «قانون الفاتح» بفتوى لتطبيقه، ولكن إذا، وفقط إذا، كانت الإرادة السلطانية تطلب هذا. وبالمثل، مع ضعف السلطان، تأتي قوى العسكر، لدواعي مختلفة، تطلب خلع، ومرات قتل، السلطان، وهنا تتكون سيادة مؤسسية ضمن سيادة الدولة الكلية، بحيث يضطر السلطان للتفرغ لأحوال الداخل على حساب الخارج. وهكذا نفهم كيف أن السلطان قد تنزل مرتبته من حاكم للشرق والغرب إلى قاضٍ بين فرق متنازعة، وهو الحاصل لرتبته التي انخفضت عن سابقها في القرن السابع عشر.
قد لا تكون الشرعية الدينية هنا صلبة مادية متمثلة في مؤسسة ذات تسلط، بقدر ما هي عُلوية سائلة يمكن أن تتشكل وفق قالب القوى المتواجد في الدولة، ولا يعني هذا سهولة الحديث عن صلاح الشرعية المستمدة من الشعب، فكما يمكن استغلال الدين لصالح قوى عادلة أو ظالمة، فيمكن بالمقدار ذاته الحديث عن استغلال شرعية الشعب لصالح قوى مختلفة، وما يحكم في النهاية على وجود شرعية حقيقية هو محاكمة مستمرة حيّة للنظام القائم، وعدم تركه لتوازنات تؤدي إلى هلاك المجتمع.
سأقدم نصّين أخيرين، يمكن استنباط ملاحظات متعددة منهما، متعلقة بهذا الموضوع، وبشأن الدعايات التي هجمت بها الإنكشارية على السلطان سليم الثالث:
«انظروا لهذا السلطان! لقد اتفق مع الروس والإنكليز من أجل إزاحة الجيش الإنكشاري، لقد رست سفن الإنكليز في مضيقنا، وكل ذلك بسبب معاونة السلطان لهم، وبالطبع لن يلبث الروس إلا قليلًا من أجل أن نراهم في عاصمتنا، إستنبول، وحتى ذلك الوقت سترون كيف سيتم تحطيم عساكر الإنكشارية واستبدالهم بـ النظام الجديد»يمكن مراجعة المصادر الأساسية كالسجلات الإخبارية المتنوعة ومدونيّ الدولة في ذلك الزمان، لتجد العديد من هذه الدعايات مثل تاريخ جودت وتاريخ نوري باللغة العثمانية.. ثم قالوا في دعايتهم الموجّهة ضد السلطان: «شاه واقف كرك در أحوله.. وكلاء يه قاليرسه واي حاله!!»الترجمة الحرفية: «يجب أن يقف السلطان على رأس عمله، ولو يتركها للوزراء يا للخراب حينها».، أي «كفى! يجب أن ينتبه السلطان لأمور الدولة، إنّه غير مكترث، ولو تركها للوزراء يا ترى لأي مصير سيرمي الدولة له!».
هذا النص الدعائي الذي يوجهه الإنكشارية، بالدرجة الأولى، يوضّح بالفعل تدخل العسكر في شوؤن الدولة السياسية، ومعاهداتها، أي تقديم أمور الدولة وفق سيادتهم الخاصة وشرعيتهم الضيّقة، دون النظر إلى الحاصل مثلًا في مصر، وحسابات السلطان لما يقوم به نابليون مثلًا، أي تهديد سيادة الدولة الأكبر، والتي هي من وظيفة السلطان. هنا نرى استلاب شرعية السلطان وتفتت سيادته، وعدم وقوفه بالقوة لمثل هذه الأمور، يعني أن الشرعية الدينية التي هي بالدرجة الأساسية من مسؤولية الخليفة، خليفة المسلمين، قد تقلصت لصالح قوى الجيش، أي أنّها أصبحت متغلبة لصالحهم، ورمزيةُ رسو السفن الروسية والإنكليزية المستخدمة في هذا النص تدل على أنّ هذا السلطان يتعامل مع «الكفار» بحيث أنّه تعدّى على الشرعية «المتخيلة» للانكشارية، وفي ذيل تلك الدعاية يعتبرون أن السلطان ما عاد صاحب كفاءة، ووجب اليوم أفوله وخلعه.
كما ويلخّص السلطان سليم الثالث في أبيات شعرية له وضع الدولة العام آنذاك:
باع عالم اجره ظاهر ده صفا در سلطنت *** دقت ايتسه كْ معنوي قوغا يه جار در سلطنت
بو زمانكْ دولت ايله كيمسه مغرور اولماسين *** كام اليرسه عدل ايله اول دم بجا در سلطنت
كسب ايدر مى وصلتكْ بيكْ ييل ده بر عاشق آنكْ *** ميل ايدر كيم كورسه اما بيوفا در سلطنت
قيل تفكر اي گوكْل چرخكْ هله دورانكْى *** كه صفا ايسه ولو اكثر جفا در سلطنت
بو جهانكْ دولتنه ايلمه حرص وطمع *** بك ساكن إلهامي زيرا بيبقا در سلطنت
وترجمة هذه الأبيات:
تبدو هذه السلطنة ذات جلال وبهاء للناظر من جنة الكون *** دقق النظر! ففي باطنها تنادي الخراب والدمار!
لا ينبغي لأي من رجال دولة الدهر هذه أن يبدي الغرور *** فهي تقوى بالعدل الرفيع وحسن الإدارة.
هل كسب العاشق الوصال لعمره مرة في ألف سنة؟ *** قد يميل القلب! ولكن من يدققّ يجد أنها سلطنة لا وفاء لها!
تأمل لبرهة ماذا فعل دوران أفلاك القلب بها *** فإن الجفاء يملؤ صفاء هذه السلطنة!
فلا تجعل الحرص والطمع عنوانًا لدولة العالم *** وانتبه يا إلهامي اعتمد الشعراء من السلاطين العثمانيين مجموعة من الألقاب عند كتابة أشعارهم سمّيت بـ «المخلص» Mahlas، والسلطان سليم الثالث هنا كان لقبه إلهامي، والسلطان محمد الفاتح لقبه عوني وهكذا.[سليم الثالث] فإنها سلطنة زائلة!