كيف ستكون النتيجة النهائية للاتفاقات الروسية التركية بشأن إدلب؟ من الواضح أن الإجابة على هذا السؤال الرئيسي الذي يجول في بال أهالي إدلب، وكثير من السوريين، صعبةٌ للغاية، ربما حتى بالنسبة للطرفين اللذين وقّعا الاتفاق أصلاً.
لماذا أمرت أنقرة فصائل المعارضة التابعة لها بالتقدم في ريف حلب الشرقي انطلاقاً من مدينة الباب في معركة امتدت لساعتين قبل أيام؟ لماذا فتحت «هيئة تحرير الشام» معركة على جمعية الزهراء بضواحي حلب الغربية، بعد أن سقطت جبهات ريف إدلب الجنوبي من دون أيّة مقاومة تذكر من قبلها، لتقتصر المقاومة فيها على مقاتلين من أبناء معرة النعمان والقرى والبلدات المحيطة بها، تمت إبادتها تماماً نتيجة تفوق سلاح الطيران الروسي وغياب أي تسليح يتجاوز السلاح الخفيف، والمتوسط القليل أصلاً؟ ولماذا نشرت أنقرة جنودها في محيط سراقب، على الرغم من تقدم النظام قبل ذلك للسيطرة على الطريق الدولي دون مشاكل معها؟
انهيارُ الجبهات، وتراجعُ «الجبهة الوطنية للتحرير» التي أصبحت منذ فترة جزءاً من «الجيش الوطني» التابع لأنقرة، هي مؤشرات على وجود اتفاق بين روسيا وتركيا على تقاسم المناطق المتبقية تحت سيطرة المعارضة في إدلب، الاتفاق الذي قد يكون مشابهاً لخرائط أستانا المعلنة سابقاً، التي قسمت إدلب إلى ثلاث مناطق إيرانية وروسية وتركية؛ إلا أنّ الاشتباكات في محيط سراقب بين القوات التركية وقوات الأسد تفيد أيضاً بعدم وضوح الاتفاق تماماً.
على الرغم من أنّ العلاقة بين أنقرة وموسكو لا تقتصر على إدلب، إلّا أن المصالح المشتركة والنزاعات بين الطرفين في الشمال السوري كانت مفتاحاً لتحول علاقة الثنائي بعد سقوط مدينة حلب عام 2016. هذا التحول الذي يشمل اليوم تفاهمات حول ليبيا وسوريا، ويبدو أنه يتجه نحو الاستقرار على شكل ثابت، حتى بعد تثبيت التفاهمات بين تركيا والولايات المتحدة خلال معارك الجزيرة السورية، بعد أن كان تراجع العلاقات بين البلدين في عهد أوباما أحد أسباب انخراط أردوغان في علاقة استراتيجية مع بوتين.
التصريحات الغاضبة من الحكومة التركية خلال الأيام الماضية، بعد اشتباك قواتها مع قوات النظام قرب سراقب، جاءت دليلاً على رفض أنقرة استيلاء قوات النظام ومن ورائها موسكو على مدينة سراقب، التي تقع على عقدة مواصلات رئيسية تصل بين الطريقين الدوليين حلب-دمشق (M5) وحلب-اللاذقية (M4)، ما يضع القوة المسيطرة عليها في موقع يسمح لها بالتحكم بالحركة عليهما، ذلك بالإضافة إلى أن استيلاء النظام على المدينة واحتمالات تقدمه نحو مركز محافظة إدلب، سيمنع عودة آلاف المدنيين المهجرين إلى بيوتهم ويهدد بتهجير المزيد، ما يزيد الضغط على وضع النازحين المأساوي، وهو أمر سينعكس على تركيا بشكل مباشر.
كما أنّ استهداف تركيا لقوات النظام السوري بعد تعرض نقاطها للقصف المباشر، يأتي في إطار استعادة الهيبة التركية، وهو أمرٌ يفهمه بوتين بالتأكيد، ما قد يسمح بضربات تأديبية من أنقرة لقوات النظام من دون أي تدخل من موسكو، لتستعيد القوات التركية هيبتها في المنطقة بعد أن أصبحت نقاط المراقبة التابعة لها دون أي تأثير ميداني حقيقي طوال الأشهر الماضية.
مع ذلك، لا يبدو أن هذا الخلاف وتلك الاشتباكات قادرة على تغير طبيعة العلاقة مع موسكو، التي أصبحت تضمّ تفاهمات حول قضايا حيوية بالنسبة للبلدين، كما أن اتجاه طبيعة النظام في تركيا تدريجياً إلى شكل مشابه لما هو عليه الوضع في روسيا، سيجعل التحالف بين الطرفين أكثر قوّة، خاصةً وأنّ هذه العلاقة وهذا التحالف بدأ يسمح لهما بالتصرف كقوى مؤثرة في الإقليم، وصاحبة كلمة في النزاعات الدائرة فيه.
ليس في الإمكان توقع مآل الاتفاق الروسي-التركي على الوضع في إدلب، التي تشهد اليوم كارثة إنسانية هائلة نتيجة العمليات العسكرية والقصف المكثف الذي تنفذه الطائرات الروسية، لكن يبقى بالإمكان توقع شكل العلاقة بين الثنائي أردوغان وبوتين، اللذين ينظران إلى التحالف بينهما كأداة لتقوية موقف كل منهما في ملفات المنطقة، بعد ما يبدو أنه قناعة لدى الطرفين بأن الولايات المتحدة في طريقها للانسحاب منها، وأنّ وجودها مرتبط حالياً بالملف الإيراني فقط، ما يفسح هامشاً كبيراً للتدخل وتثبيت النفوذ.
إدلب بالنسبة لهما تفصيل فقط، وأداة لتثبيت النفوذ والهيبة «الإمبراطورية»، أما المصالح الحيوية التي تتمثل بالممرات المائية وخطوط الغاز وحقول النفط والغاز الطبيعي في المتوسط، فيبدو أنها لا تزال تقبع ضمن التفاهمات التقليدية بين البلدين، التي حافظت على وجودها جنباً إلى جنب مع التفاهمات التي فرضتها الأوضاع الجديدة في المنطقة.
على الرغم من تفاهة المخيال الإمبراطوري، إلا أنه مخيالٌ قاتلٌ في الحقيقة، ويشكل قتلُ الآلاف وتهجيرُ مئات الآلاف في إدلب منذ اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا خريف 2018 دليلاً على ذلك، وهو دليلٌ أيضاً على الانحدار الذي تسمح به تلك الأوهام حول استعادة السلطة المطلقة لقياصرة وسلاطين رحلوا منذ قرون، وشاهدٌ على كيفية تحوّل أفكار قد توحي بها مسلسلات تاريخية، من قبيل تلك التي يُنفق عليها بسخاء في الشرق الأوسط اليوم، إلى أداة تهييج قومي وتبرير لموت الناس على أرض الواقع.